القاهرة- "شم النسيم" أو "عيد الربيع" الذى يحتفل به -الاثنين القادم-العالم كله على اختلاف شعوبه وأديانه وعقائده ، بمختلف مسميات العيد من عيد الربيع الى عيد النيروز فى الشرق أو الايستر فى الغرب ، هو هدية مصر مهد الحضارات ومهبط الأديان الى مختلف شعوب العالم القديم والحديث ،وجميع مايرتبط بالاحتفال بعيد الربيع من عادات وتقاليد اجتماعية أو طقوس وعقائد ،ترجع جذورها الى أعماق تاريخ مصر .
وعيد الربيع أو شم النسيم هو أقدم احتفال شعبى عرفه التاريخ بداية من قدماء المصريين منذ أكثر من خمسة الآف سنة ، فجذوره فرعونية وامتد عبر العصور وأضيفت له طقوس ودخلته معتقدات أخرى .
شم النسيم عند الفراعنه
ولم يكن الاحتفال بعيد الربيع لدى قدماء المصريين مجرد احتفال ترفيهى يهتم فيه القدماء بالخروج الى الحدائق وتناول المأكولات المرتبطة بهذه المناسبة والتى يرمز كل منها الى اعتقاد معين لديهم ، بل هو احتفال دينى وروحى أيضا حيث كانوا يتصورون كما ورد فى بردياتهم المقدسة- أن ذلك اليوم هو أول الزمان أو بدء خلق الكون ،وأطلقوا عليه الكلمة الفرعونية "شمو" اى عيد الخلق أو بعث الحياة .
وتعرض الاسم للتحريف على مر العصور ،وأضيفت اليه كلمة "النسيم" لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو وطيب النسيم ، وما يصاحب الاحتفال بذلك العيد من الخروج الى الحدائق والمتنزهات والاستمتاع بجمال الطبيعة .
وتعود المصرى القديم ان يبدأ صباح هذا اليوم - كما جاء فى البرديات القديمة - اهداء زوجته زهرة من اللوتس ،وكان القدماء يطلقون على هذا اليوم عيد الربيع ..وترتبط أعياد المصريين دائما بالظواهر الفلكية وعلاقتها بالطبيعة ومظاهر الحياة التى يعيشونها وأيضا الحياة الأبدية بعد الموت .
وقد حدد موعد الاحتفال بعيد الربيع باليوم الذى يتساوى فيه الليل والنهار حيث كان عيد الربيع فى التقويم الفرعونى القديم يقع فى الاعتدال الربيعى أى عندما تعبر الشمس خط الاستواء ويقابل ذلك يوم 21 مارس فى التقويم الميلادى الحديث . كانت مظاهر الاحتفال -كما وردت فى اكثر من بردية من برديات العقيدة الفرعونية - تبدأ بليلة الرؤية عند سفح الهرم الاكبر حيث يجتمع الناس فى الساعة السادسة مساء فى احتفال رسمى امام الواجهة الشمالية للهرم حيث يظهر قرص الشمس قبل الغروب خلال دقائق معدودة وكأنه يجلس فوق قمة الهرم .
تظهر معجزة الرؤية عندما يشطر ضوء الشمس واجهة الهرم الاكبر الى شطرين ايذانا بموعد عيد الخلق وبداية العام الجديد حيث يقوم الاله رع بالمرور فى سماء مصر فى سفينته المقدسة وبقرصه المجنح ثم يرسو فوق قمة الهرم الاكبر .. ثم يصعد الى السفينة مرة اخرى وقت الغروب لتكمل مسيرتها فيصطبغ الأفق باللون الاحمر رمزا لدماء الحياة التى يبثها الاله من انفاسه الى الأرض ليبعث الحياة فى مخلوقاتها وكائناتها من جديد .
وورد ذكر ليلة الرؤيا التى تعلن مولد الزمان وبعث الحياة فى أكثر من بردية من برديات العقيدة الفرعونية .
وهذه الظاهرة الفلكية لفتت انتباه عالم الفلك البريطانى "ركتور" الذى كان يؤكد فى دراساته الطويلة أن مختلف علوم المعرفة عند الفراعنة كانت ترتكز على علم الفلك وأسراره وأن مايطلق عليه كلمة "سحر" من خوارق ومعجزات ،ماهى الا نظريات علمية بحتة ترتبط بالظواهر الفلكية التى اتخذوا منها مفتاحا لفك كثير من أسرار المعرفة المقدسة المرتبطة بعلوم الحياة .
لذلك قام عالم الفلك البريطانى بدراسة دورة الشمس فى الافق فى يوم 21مارس وتحديد مرورها فوق قمة الهرم وقت الغروب ،وفى عام 1930 قام بالتقاط عدة صور خلال عشرين دقيقة ابتدأ من الساعة السادسة مساء يوم 21 مارس وذلك بالتحليق باحدى الطائرات فوق قمة الهرم وظهر قرص الشمس للعيان ،وكأنه يتربع فوق قمة الهرم وظهر ضوء الشمس وكأنه يشطر واجهة الهرم الى شطرين .
وفى عام 1934 قام العالم الفرنسى "اندريه بوشان" بمحاولة مماثلة باستعمال الأشعة تحت الحمراء ،حيث نجح فى التقاط عدة لقطات سريعة استغرقت ثلاث دقائق أمكن بواسطتها تسجيل تلك الظاهرة المثيرة التى فسرت حقيقة أسطورة الرؤيا وانشطار الهرم ليلة عيد الربيع ،الذى أصبح يأتى متأخرا عن موعده بضعة أيام نتيجة للتغير الحسابى الذى حدث فى السنة الشمسية خلال الآف السنين ،وهذا جعل علماء الفلك يؤكدون ان مختلف علوم المعرفة عند الفراعنة ترتكز على علم الفلك .
ويرجح المؤرخون احتفال قدماء المصريين بعيد شم النسيم رسميا الى عام 2700 ق.م .
وكان للفراعنة أعياد كثيرة منها أعياد الزراعة التى تتصل بمواسمها ،والتى ارتبط بها تقويمهم الى حد كبير ،حيث لسنتهم الشمسية التى حددوها بأثنى عشر شهرا ثلاثة فصول ،كل منها أربعة أشهر وهى فصل الفيضان ثم فصل البذر،ثم فصل الحصاد .
ومن هذه الاعياد "عيد النيروز" الذى كان أول سنتهم الفلكية بشهورها وأسمائها القبطية المعروفة الآن وكذلك العيد الذى سمى فى العصر القبطى بـ"شم النسيم" وكانوا يحتفلون به فى الاعتدال الربيعى عقب عواصف الشتاء وقبل هبوب الخماسين ،وكانوا يعتقدون أن الخليقة خلقت فيه وبدأاحتفالهم عام 2700ق.م وذلك يوم 27 برمودة ،الذى مات فيه الاله "ست" اله الشر وانتصرعليه اله الخير .
شم النسيم فى اليهودية والمسيحية
نقل اليهود عن المصريين عيد شم النسيم عندما خرجوا من مصر فى عهد النبى موسى عليه السلام واتفق يوم خروجهم مع موعد احتفال المصريين بعيدهم وأشارت كثير من المراجع التاريخية الى أن اليهود اختاروا ذلك اليوم بالذات للخروج من مصر وقت انشغال المصريين بأعيادهم ليتمكنوا من الهرب مع ما سلبوه من ذهب المصريين وثرواتهم .
ويذكر د.سيد كريم - استاذ التاريخ الفرعونى وصاحب العديد من الدراسات العلمية فى هذا المجال -فى دراسة له ان اليهود احتفلوا بالعيد بعد خروجهم واطلقوا عليه اسم "عيد الفصح" وافصح كلمة عبرية معناها الخروج او العبور ،كما اعتبروا ذلك اليوم "يوم بدء الخلق عند المصريين" رأسا لسنتهم الدينية العبرية تيمنا بنجاتهم او بدء حياتهم الجديدة
احتفل اليهود بشم النسيم بعد خروجهم واطلقوا عليه اسم "عيد الفصح" وافصح كلمة عبرية معناها الخروج او العبور |
ثم انتقل عيد الفصح بعد ذلك الى المسيحية لموافقته مع موعد عيد القيامة - والذى يأتى دائما يوم الاحد -مصادفة ..ولما دخلت المسيحية مصر اصبح عيدهم يلازم عيد المصريين القدماء "عيد الربيع" ويقع دائما يوم الاثنين اى اليوم التالى لعيد القيامة .
واحتفال قدماءالمصريين بعيد شم النسيم يشمل الناحية الدينية والشعبية حيث كانت تجرى احتفالات دينية فى ليلة الرؤية ثم يتحول الاحتفال مع شروق الشمس الى عيد شعبى تشترك فيه جميع طوائف الشعب وكان فرعون وكبار رجال الدولة يشاركون الشعب أفراحه..ثم يخرج الناس جماعات الى الحدائق والحقول ليكونوا فى استقبال الشمس عند شروقها وقد اعتادوا ان يحملوا معهم طعامهم وشرابهم لقضاء يومهم فى الاحتفال بالعيد .
وفى العصر الاسلامى -خاصة فترة الحكم الفاطمى اتخذ الاحتفال شكلا اخر حيث يخرج موكب الخليفة ومعه كبار رجال الدولة ويتولى تنظيم هذا الأحتفال داعى الدعاة الفاطمى بمعاونة اثنى عشر نقيبا .
وعيد الربيع الحقيقى ثابت فى موعده كل عام ،لارتباطه بالتقويم الشمسى ،أما عيد شم النسيم فان موعده يتغير كل عام لاعتماده مع التقويم الشمسى على الدورة القمرية ،وهو مرتبط بالأعياد الدينية غير الاسلامية ،ولهذه الصفة الدينية زادت فيه طقوس ومظاهر على ماكان معهودا أيام الفراعنة وغيرهم ،ومن هنا حرص الناس فيه على أكل البيض والأسماك المملحة ،وذلك ناشىء من تحريمها عليهم فى الصوم الذى يمسكون فيه عن كل ما فيه روح أو ناشىء منه .
اطعمة شم النسيم الخاصة
ولشم النسيم أطعمته التقليدية الخاصة وما ارتبط بها من عادات وتقاليد وأصبحت جزء من الاحتفال بالعيد نفسه والتى انتقلت من المصريين القدماء عبر العصور لتفرض نفسها على أعياد الربيع فى أنحاء العالم القديم والحديث حيث تشمل قائمة الأطعمة المميزة لمائدة شم النسيم - البيض والفسيخ والبصل والخس والملانة .
والبيض بدأ ظهوره على مائدة اعياد الربيع مع بداية احتفال المصريين بعيد شم النسيم وهو عند المصريين القدماء يرمز الى خلق الحياة بخروج الحياة من البيض وكانوا ينقشون عليه الدعوات والأمنيات بألوان مستخلصة من الطبيعة، ويجمعونه فى سلال من زعف النخيل الأخضر ويتركونه فى شرفات المنازل او يتم تعليقها على فروع الاشجار بالحدائق حتى يتلقى بركات نور الاله عند شروقه فيحقق دعواتهم .
وقد أخذ العالم عن مصر القديمة أكل البيض فى شم النسيم فصار البيض الملون هو رمز عيد الفصح الذى يتزامن مع شم النسيم ..وقد اشتهر عن الملكة مارى ملكة اسكتلندا انها كانت ترسل الى اصدقائها فى عيد الفصح البيض المصنوع من الحلوى .
اما الملكة فكتوريا فكانت ترسل لاصدقائها بيضا حقيقيا مسلوقا وملونا ومنقوشا عليه بعض الاقوال المأثورة التى كانت تهواها . وقيل أن أشهر أنواع البيض بيضة هنرى الثانى التى بعث بها الى "ديانادى بواتييه" وكانت علبة صدف على شكل بيضة بها عقد من اللؤلؤ الثمين ،كما بعث لويس الرابع عشر للآنسة "دى لا فاليير" علبة بشكل بيضة ضمنها قطعة خشب من الصلب عليه المسيح ..ولويس الخامس عشر أهدى خطيبته "مدام دى بارى" بيضة حقيقية من بيض الدجاج مكسوة بطبقة رقيقة من الذهب.
اما البصل فظهر ضمن اطعمة العيد التقليدية ايام الاسرة السادسة وارتبط ظهوره -كما ورد فى احدى برديات اساطير منف القديمة التى تروى ان أحد ملوك الفراعنة كان له طفل وحيد أصيب بمرض غامض أقعده عن الحركة لعدة سنوات وعجز الأطباء والكهنة فى معبد منف فى علاجه.
ولجأ الفرعون الى الكاهن الاكبر لمعبد "اون" معبد اله الشمس والذى أرجع سبب مرض الابن الى سيطرة الأرواح الشريرة عليه وأمر بوضع ثمرة ناضجة من البصل تحت رأس االامير بعد ان قرأ عليها بعض التعاويذ ..كما علق على السرير وأبواب الغرف بالقصر أعواد البصل الاخضر لطرد الارواح الشريرة ،وعند شروق الشمس قام بشق ثمرة البصل ووضع عصيرها فى أنف الأمير الذى شفى تدريجيا من مرضه ..ومنذ ذلك الوقت اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة .
اما الخس فهو من النباتات المفضلة التى تعلن عن حلول الربيع باكتمال نموها وعرف ابتدأ من الاسرة الرابعة حيث ظهرت صوره فى سلال القرابين بورقه الأخضر الطويل ..أما الاسماك المملحة فتعنى الخير والرزق والملح يقى من الميكروبات .
وعشق المصريون القدماء الزهور حتى انهم أتخذوا من زهرة اللوتس رمزا للحضارة المصرية وهى رمز للحضارة والحب والجمال ويتبادلها أفراد الأسرة منذ الآف السنين
منقول