ضياع الفرصة منذ السبعينياتنظام الرئيس نميرى قد استخدم اتفاق أديس أبابا إعلاميا كمشروع لوحدة السودان الوطنية وذلك لحل مشاكله السياسية وأزمة تحالفاته فى السلطة، وصراعاته مع الشيوعيين تارة ومع حزب الأمة تارة أخرى، ومع ذلك فإن بنية المشروع كانت تسمح بكثير من التقدم فى اتجاه التوحد، ونسبة ترضية عالية للجنوبيين. لكن الأمور لم تمض على هذا النحو، إذ بدأ "التحرش" بالمشروع بمجرد انتهاء المرحلة الانتقالية 72-1973 لكسر "القوة التفاوضية "التى مثلها اتفاق أديس أبابا مع الجنوبيين، ولنوجز هنا ملامح الاختراقات كما صورتها كتابات جنوبية وأيدها الواقع إلى حد كبير حول عدم استمرار توافق الشمال مع الحل الجديد للمسألة السودانية:
1- لم يتح للجنوبيين اختيار ممثلهم على رأس المجلس الإقليمى للحكم الذاتى المقترح، وإنما اختاره النميرى دائما عبر عضوية الاتحاد الاشتراكى ، كتنظيم شمولى يغيب تنظيمات الجنوبيين السياسية. وإن كان رئيس الإقليم جنوبيا دائما إلا أنه مرشح السلطة الشمالية دائما أيضا (ألير- لاجو..إلخ). ويمكن الرجوع لاستعراض "بونا مالوال" لهذه التطورات فى وثيقته عن "التحدى الثانى فى السودان".
2- بينما توقع الجنوبيون نهوضا تنمويا تبشر به "ثورة مايو" كل السودان فى ظل استقرار الحكم عموماً، وحل "مشكلة الجنوب" خصوصاً، فإن برامجها الاقتصادية التنموية التى أتيح تنفيذها تضمنت مزيدا من الإفقار فى الجنوب. وترصد وثيقة المجموعة البرلمانية الجنوبية (أم درمان- 1980)، حالات التدهور أو نقل المشروعات فى قطاعات كانت توفر العمالة أو إمدادات التموين السهلة لأبناء الجنوب مشيرة لمشروع سكر مونجولا، وسكر ملويت، وتعبئة الفواكه فى "واو"، ومشروع أسمنت "كابيوتا" بينما انشئت مشروعات فى الشمال لنفس القطاعات مثل مشروع سكر كنان، ومشروعات أبو نعامة وعساليا وفواكة كريمة.. إلخ بل ودخل الجدل حول قناة جونجلى فى هذه الدائرة أحيانا بإثارة مشاعر الدينكا حول ثروتهم الحيوانية وأثر القناة على حركة هذه الثروة ووحدة أبناء الدينكا الاقتصادية. وفى هذا الجو اكتشف البترول فى منطقة "بنيتو" شمال الإقليم أواخر السبعينيات)، ليثير قضية البترول وموقعه من "الوفاق السودانى" مبكرا، ويهمنا فى إطاره الاقتصادى هنا الإشارة إلى مسارعة الحكومة المركزية بنشر الآمال حول كمياته التى ستمد لها الأنابيب حتى بورسودان - وهذا منطقى - كما نثرت الآمال حول تنقيته فى السودان وليس بيعه خاما، ومن ثم إقامة المصفاة الرئيسية فى "كوستى" - وشمالا- وليس فى منطقة إنتاجه بالجنوب! ورغم أن المصفاة لم تقم رغبة من النظام فى الربح السريع من بيع الخام أو وفق خطة المستثمر من الأجانب- فإن القضية أثارت الكثير من الشجن الذى أصبح قاعدة قضية اقتسام الثروة بعد ذلك.
3- اعتبر الكثيرون أن الشمال الذى استمتع بوحدته- الدينية والثقافية على الأقل- لم يسترح لاحتمال توحد الجنوبيين أيضا تمهيدا للتكامل أو الاندماج الاجتماعى المتوقع مع "توقيع اتفاق أديس أبابا" ويربط "بونا مالوال" بين بناء النميرى لتحالفه مع الإخوان المسلمين وجبهة الميثاق بقيادة حسن الترابى أواخر السبعينيات، بل ومع الصادق المهدى نفسه فى تلك الفترة، وبين انتكاسة تحالفه مع الجنوبيين فى إطار اتفاق أديس أبابا. ويرصد "بونا" مع غيره عددا من الظواهر الخطيرة على عملية التوافق الجديدة، من ذلك وضع "جوزيف لاجو" زعيم الإنيانيا السابق فى مواجهة "آبيل ألير" الوسطى الدينكاوى المتفاهم، بل وإثارة قاعدتهما القبلية بإتاحة فرصة الصراع بين أبناء المديرية الاستوائية "البارى" (أقصى الجنوب) ضد الدينكا فى المجلس التشريعى الإقليمى الجنوبى. وطرح مشروع "اللامركزية" لتفعيل هذا الصراع فى الجنوب ومن ثم إصدار قانون الحكم الإقليمى 1980 والحكم المحلى 1981 من جانب واحد فى الشمال لتقسيم الإقليم الجنوبى حتى لا يبقى وحدة ذات ثقل أمام الشماليين. ويستطيع القارئ أن يقرأ وقائع الصراع فى هذا المجال، ومحتوياته الاجتماعية والاقتصادية فيما ذكرته مجموعات البرلمانيين الجنوبيين ومقابلها مذكرة "جوزيف لاجو" نفسه عن الموقف من "اللامركزية" ووضع أقلية "الاستوائية"- 32 نائبا، ضد أغلبية أبناء الدينكا–83 نائبا. واللافت فى هذه المذكرات هو حديث "لاجو" زعيم أنيانيا الانفصالية السابق عن التوافق مع مبادئ الاتحاد الاشتراكى وتحقيق الديمقراطية فى الجنوب عن طريق "تفكيك" الإقليم، مقابل حماس أبناء "الدينكا" مثل بونا مالوال وآبل ألير عن ضرورة وحدة الإقليم فى مواجهة انتهاكات الشماليين للاتفاق.
4- ثم تجئ الواقعة الكبرى مرتبطة بموضوع البترول واللامركزية معا، فى مشروعات بقرارات قدمها المدعى العام حسن الترابى للرئيس نميرى بإعادة تحديد حدود "الإقليم الجنوبى" وحل مؤسسات الجنوب المركزية، تمهيدا لمشروع التعريب والأسلمة فى رأى الجنوبيين. وقد حل النميرى الحكومة الإقليمية والمجلس التشريعى فعلا وأعاد تشكيلهما وفق التقسيم الجديد للإقليم عام 1980 بما اعتبر تصفية نهائية لاتفاق أديس أبابا. ثم نشرت خرائط جديدة بحدود جديدة للإقليم تضم منطقة "بنتيو" الغنية بالبترول إلى الأقاليم الشمالية، مما أصبح موضع الصراع الدامى حتى الآن.
أعتقد أن كافة هذه العناصر يمكن أن تكون كافية لضرب "بنية الثقة" بمقتل بينما كانت عناصر الاتفاق فى أديس ابابا موحية بغير ذلك. والذين يقرأون كافة الأدبيات الجنوبية حتى وقت من التسعينيات لا يشعرون تلقائيا بالانهيار النهائى للثقة أو الفرصة التى أتاحتها أجواء السبعينيات فى ظل اتفاق أديس أبابا والممارسات الوحدوية التى سلم بها الوحدويون والمتطرفون بإمكان التوافق. ولذا لا يعتبر إعلان نميرى لقوانين تطبيق الشريعة أو ما سمى بقوانين سبتمبر 1983 هو المثير الأكبر فى "المسألة الجنوبية" كما يصورها البعض أو تجرى به الإعلاميات، وإنما أصبح "تطبيق الشريعة" عنوانا على القرار النهائى فى الشمال بالانفراد بالسلطة والتشريع تتويجا لما قدمناه من إجراءات استفزازية أخرى. ومعنى ذلك التصميم على إقصاء الجنوبيين الذين عادوا بدورهم للتفكير فى استرجاع حضورهم السياسى بالقوة المسلحة داخل الساحة السودانية أو خارجها.
رؤية جديدة للحركة الشعبية من أجل "سودان جديد"لم يكن تمرد حامية "بور" فى 16 مايو 1983 مجرد تمرد عسكرى شبيه بذلك الذى حدث فى حامية توريت عام 1955. كان تمرد توريت مقدمة لحركة انفصالية عرفت بحركة "أنيانيا-1" وبدا تمرد "بور" عقب التشكيل الجديد لأقاليم السودان وكأنه "أنيانيا-2" أو هكذا أعلنت بعض أطرافه، لكن ذلك لم يكن جوهر الحركة وإن ظل سوء الفهم أو التفهم قابعا فى وسائل الإعلام العربية خاصة، فضلا عن بعض من رأوا استثمار ذلك لأغراض أو سياسات معينة، أحدثها المواقف الأوربية والأمريكية فى السنوات الأخيرة. ومن يقرأ أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM منذ أوائل 1984 وحتى وثيقة الرؤية والبرنامج 1998 لابد أن يلمس بالعين المجردة أن تحليل الحركة الجديدة للمجتمع السودانى وشعارها عن "السودان الجديد" لم يتعرض لكلمة "الانفصال" مرة واحدة، وهو يتحدث عن "سودان موحد ديمقراطى علماني".
قد يتطلب الأمر مساحة أوسع لاستعراض مسار حركة "التمرد الكبير" والجذرى الذى عاد ينطلق من "الجنوب" ، وإن لم يكن التمرد الوحيد حتى خلال مرحلة الاستقرار فيما بين 1972/1983، عن نتيجة تصرفات السلطة الطبقية أو النخبوية فى المركز الشمالى- الخرطوم. لقد أدى سلوك "السلطة المايوية" أو النميرية، وعدم التزامها بوعودها كمشروع تنموى، فضلا عن أن يكون وحدويا إلى تحريك عوامل التفتيت، والتجاهل، والإقصاء فى الجنوب مع تغيير تحالفات النميرى وتركيزها على البرنامج الإسلامى وممثليه فى الشمال وخاصة مع النائب العام حسن الترابى فى السنوات الأخيرة لفترة اتفاق أديس أبابا. وتروى وثائق الحركة الشعبية أن التمرد فى إطار مفاهيم "أنيانيا-2" الانفصالية هو الذى حدث فى أكوبو 1975، وفى واو "1976 على سبيل المثال، هو الذى جعل "جرنق" وجماعة الحركة الشعبية لتحرير السودان SPLM يرون أن ذلك ليس الطريق المناسب، وأن قيام "حركة طليعية" لتحرير كل الشعب السودانى منطلقة من الجنوب" هو الحل الصحيح، لأن الحركة الأولى 1955 كانت فى تقديرهم حركة رجعية، وتعتبر "أنيانيا-2" امتدادًا لها حتى وقعت اتفاق 1972 ولذلك فليس صدفة قيام حركة تحرير الشعب السودانى بتصفية جناح "أنيانيا-2" الذى شارك نسبيا فى تأسيسها خلال عام التأسيس الأول بقيادة "جون جرنق".. وهو ما يسميه البعض انفراد "جرنق" بالسلطة منذ بداية الحركة.
يلفت النظر أيضا أن عناصر قيادته من جبال النوبة جنوب غرب السودان قد رفدت الحركة بقوتها منذ انضمام قيادة مثقفة شابة مثل محمد هارون كافى إلى الحركة فيما بين 1986/1996 مثلما دعمها من أبناء الغرب أيضا "منصور خالد" "ودريج" ومن أقاليم شمالية مختلفة" "ياسر عرمان" و"تيسير محمد على" و"محمد عمر بشير" وغيرهم؛ معبرين جميعاً عن اتجاه عام لخلق حركة رفض "سودانية" ديمقراطية واحدة فى ظل تنوع ملحوظ.
وإذا تفهمنا الفلسفة الجديدة "للطليعة الثورية" التى انطلقت من مفهوم الزحف من أنحاء السودان لجماهير شعبية منظمة إلى "الشمال" من أجل "سودان جديد" لكل السودانيين وفق رؤية الحركة -على الطريقة الماوية- أو النموذج الأوغندى والأثيوبى والكونفولى؛ ومهما كان الرأى فى هذا التوجه؛ إلا أننا يمكن أن نقارن ذلك بالضرورة مع تحرك "جحافل الأنصار" المهدية وراء بيت المهدى أو "حزب الأمة" من مناطق نفوذهم التقليدية فى غرب السودان إلى قلب الخرطوم فى عمليات تدمير واسعة لمحاولة إسقاط نميرى عامى 1976/1977، ومع ذلك لم تحسب هذه كحركة تمرد "شريرة" تمتد أصولها إلى أحداث الجزيرة "أبا "أيضا، والتى شهدت طلعات الطيران على المنطقة عام 1971 حماية للنظام. وكان التقييم الصحيح يقتضى دراسة موضوعية حول "حالة التمرد" ضد نظام إقصائى، سواء بدعوى الشرعية الحزبية أو الطائفية على يد المهدية، أو بدعوى التحرير الشامل من القهر والاستغلال والإقصاء على يد "الطليعة الجنوبية"، وفى الحالتين ارتبط "التمرد" باتهام الخرطوم عام 1976/1977 لدولة عربية بدعم التمرد، كما كان اتهام المتمردين "الجنوبيين" لدولة عربية أخرى بدعم الحكم الديكتاتورى فى الخرطوم، ولكل ذلك دلالته!.
سوف أترك قراءة أدبيات الأنصار و(حزب الأمة- الصادق المهدى)، أو الجبهة الإسلامية (حسن الترابي) حول حركة الجنوبيين لبحوث أخرى، ولكن دعونا هنا نقرأ بعض أدبيات "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وأحاديث قادتها وخاصة "جون جرنق" حول توجهها العام على الأقل، انطلاقا من ميثاقها أو "المانيفستو" عام 83 والبيان التأسيسى عام 1984 وحتى الرؤية والبرنامج 1998، والتى أكدتها بيانات زيارة جرنق لها فى القاهرة أثناء زيارتها 1998 أيضا.
كان من المتوقع أن تكون البيانات الأولى الناتجة من الواقع الاقتصادى والسياسى فى الجنوب ذات طابع انفصالى أو شبه انفصالى أكثر من تلك التى تصدر بعد سلسلة طويلة من المفاوضات فى عواصم العالم المختلفة بين "الجنوبيين" وحكومة الخرطوم الشمالية. لكن ذلك لم يحدث، مع حرص واضح على التعبير الدقيق عن قضية الشعب السودانى ككل إزاء تحليل معين لطبيعة السلطة القهرية فى الشمال. ولست هنا بصدد الحكم على النوايا، ولا بصدد تقييم مصداقية الحركة بقدر ما لابد من احترام مسار فكرى يقارب عمره الآن العشرين عاما، كما تحترم تحالفاتها المطردة- كسلوك سياسى- والتى لم تكشف عن عكس هذا الاتجاه، ويبقى على المعترضين على الأخذ بهذا التحليل أن يعاودوا النظر فى انحيازهم لنوع الاتجاه الذى حكم الخرطوم بين فترة وأخرى، بل وانحيازهم لطبيعة الهيمنة الاجتماعية والثقافية السائدة والمتحكمة عبر مركزية الخرطوم.
منذ الإعلان الصادر عن الحركة فى مارس 1984، بدت ملامح الفكرة الحاكمة لحركة تحرير الشعب السودانى رغم تصاعد إجراءات التفتيت والإقصاء من قبل الخرطوم.
ولنعرض لبعض النقاط الهامة هنا فقط حيث النصوص متوفرة فى أكثر من موقع:
- يعبر الإعلان عن أن التاريخ السودانى الطويل، تاريخ مقاومة ضد القهر الداخلى والخارجى على السواء، مشيرا إلى القهر التركى والمصرى والإنجليزى من جهة والنخب الحاكمة فى الخرطوم ويسميها العصبة “clique” من جهة أخرى معتمدة دائما على استغلال التعدد العنصرى والدينى والعرقى لتطبيق سياسة التفرقة بين السودانيين، والتقسيم بين شماليين وجنوبيين، بل وتقسيم الشماليين أنفسهم إلى غربيين وشرقيين، "وحلفاويين" و"أولاد البلد" ممن يتحكمون فى السلطة السياسية بالخرطوم. كما تم تسييس تقسيمات الجنوب الى "وحدة الدينكا" "والاستوائية الكبرى" والمتحدثين بلغة بارى ووحدة اللو، هذا فضلا عن تقسيم آخر إلى مسلمين ومسيحيين، وإلى عرب وأفارقة. ولن يعدم القاهرون وسيلة فى المستقبل لاستبدال التقسيمات القديمة بغيرها.
وتتهم هذه النصوص الأولى الرجعيين من الانفصاليين، والمتعصبين (يقصد فى الجنوب والشمال) بتهديد وحدة الشعب السودانى، ولذا فإن قيام "الحركة الشعبية لتحرير السودان" وجيشها كحركة طليعية هو الرد المسلح على كل مشروعات التقسيم والتفتيت والإضعاف للشعب السودانى؛ لأن الحركة تعتقد اعتقادا جازما فى وحدة الشعب السودانى، ولا يمكن أن يخضع نضالها للاعتبارات العنصرية أو الدينية بأى حال، وتضع فى أولى مخططاتها تنمية مختلف القوميات.
- يعالج بيان الحركة منذ عام 1984 مسألة تقسيم الجنوب ومخاطره بهدف حرمانه من قوة وحدته، ومن ثرواته وذلك، بضم مناطق البترول إلى المحافظات الشمالية، ومن هنا جاءت خطة الحركة "لتعطيل عمل شركة شيفرون ومشروع قناة جونجلى، لكن جميع المشاكل التى تثيرها الحركة- فى تقدير جرنق - يمكن حلها فى إطار السودان الموحد ونظام اشتراكى يوفر الحقوق الديمقراطية والإنسانية لكل القوميات كما يوفر الحريات الدينية وحرية المعتقدات، وهذا ما سيكفله الكفاح المسلح طويل المدى منطلقًا من الجنوب، لأن الكفاح السلمى قد ووجه دائما بالقهر العنيف.
- يدرك "جون جرنق" مبكرا أنه سيتهم- وخاصة من قبل النميرى- بأن الحركة شيوعية نتيجة طبيعة نصوصها الأولى ويعتبر ذلك خلطا بين الشيوعية والاشتراكية التى ينادى بها، كما يرد بأن الاتحاد الاشتراكى الذى يحتكر به النميرى السلطة يمكن أن يتهم بذلك، وإن كان نميرى يقصد باتهامهم الإشارة لعلاقتهم بالدول الاشتراكية وليبيا بينما كان النميرى نفسه يستغل الاشتراكية تضليلاً لهذا الغرض، كما يستغل انتهازيته (عام 1983) .. للاتجاه نحو واشنطن. وكان النميرى نفسه هو الذى وصف "أنيانيا-1") من قبل بأنها إمبريالية، ثم اتفق معها عام 1972 وكل ذلك يدخل فى باب الدعاية الرخيصة.
كيف تحدثت الحركة الشعبية بعد خمسة عشر عاما من تأسيسها؟ أى عام 1998؟نشرت الحركة وثيقة جديدة فى مارس 1998 بعنوان "الرؤية والبرنامج" Vision and programme تبلورت فيها كثير من النقاط التى أثارتها وقائع الزمن الذى عبرته وصارت صاحبة القوة التفاوضية الملحوظة والعلاقات المتعددة داخليا وخارجيا كما صارت أمام حكم أكثر تحديا، وأكثر أيديولوجية فى الشمال.
وكان يمكن أن يكون خطاب الحركة الشعبية أكثر انفصالية بعد فشل عديد من المحاولات للتفاهم خلال خمسة عشر عاما من وجهة نظرها على الأقل- لكن "الخطاب" - وليس مجرد البيان الرئيسى الذى نشير إليه- ظل خاليا من أى روح انفصالية وإن كان أصبح مشحونا بالتحفظات والتلميحات إلى الحق فى اتخاذ "قرار آخر" فى إطار "حق تقرير المصير". ومن سوء حظ المتحيزين ضد خطاب الحركة الشعبية أن مبدأ "حق تقرير المصير" تقرر على موائد التفاوض المريب بين بعض العناصر المنشقة عن الحركة وحكومة الإنقاذ الإسلامية فى الخرطوم منذ 1992، بل وكانت معظم هذه العناصر من أصول الأنيانيا-1- أو-2، وقبلتهم فقط نكاية فى "جوزيف جرنق" أو لإنقاذ دبلوماسية الحكم وليس لإنقاذ البلاد من الصراع المسلح. وقد دخل المصطلح نصوص المفاوضات الرسمية لأول مرة منذ اجتماع لام أكول وممثل الحكومة د. على الحاج فى فرانكفورت 1993 حسب رواية منصور خالد، وتبع ذلك طرحه فى مفاوضات الحركة مع ممثل الحكومة فى "أبوجا" ونيروبى.. حتى ماشاكوس 2002. ونحن نورد هنا هذه الحقائق للذين يعتبرون الحركة الشعبية، مجرد حركة انفصالية مدمرة للسودان حتى لو لم تذكر الانفصال وألمحت له بحق تقرير المصير. وقبل أن نعود لنصوص "الحركة" الحديثة (1998) فإننا نحيل القارئ إلى نصوص إعلان "كوكادام" ربيع 1986، ومبادرة السلام السودانية نوفمبر 1988 (منصور خالد 2000) "والإعلان" كان مع ممثلين الصادق المهدى الذين شكلوا أغلبية بين الأحزاب والهيئات الموقعة، أما "المبادرة" فكانت على يد السيد محمد عثمان الميرغنى شخصيا والذى كان حزبه "الوطنى الاتحادى" يشارك فى الحكم فى ذلك الوقت، ودون الدخول فى تفاصيل هذين الاتفاقين اللذين كانا كفيلين بحل الأزمة التاريخية فى السودان لولا مقاومة قوى شمالية طائفية أو إسلاموية لوضعهما موضع التحقيق لدرجة مطالبة الترابى كوزير خارجية للصادق باستمرار القتال مقابل نصح وزير الدفاع وقتئذ بقبول الحل السياسى الوارد فى اتفاق كوكادام (وفق رواية منصور خالد أيضا) أما اتفاق السلام الذى جاء به الميرغنى فكان مرشحاً بالطبع للفشل حيث رئيس الوزراء وقتئذ هو الصادق المهدى! لكن الجدير بالانتباه هنا هو أن الاتفاقين اللذين أقرتهما مجمل القوى السياسية مع الحركة الشعبية لم يوردا أبدا أية إشارة للانفصال أو حق تقرير المصير، بل أشار اتفاق "كوكادام" إلى "السودان الجديد" اتفاقا مع لغة الحركة، كما رفض طرفاه تسميه المشكلة بجنوب السودان مؤكدين أنها "مشاكل للسودان"، ومشيرين أيضا إلى دساتير السودان 56/ 1964- وداعين لإقامة حكومة وحدة وطنية ومؤتمر دستورى.. إلخ. أما "مبادرة السلام السودانية" فجاءت أكثر تقدما لتؤكد على "وحدة البلاد" وأن "المشاكل قومية الأصل" كما تنص على عقد المؤتمر الدستورى (على مستوى قومى)، وإلغاء قوانين سبتمبر الخ. وكان مقررا مناقشة الخطوات التنفيذية للاتفاقية قبل أن يقع انقلاب الجبهة الإسلامية 1989 بعدة أيام فتتوقف كل ذلك لترفع راية "الحرب الجهادية" فى الجنوب.
وفيما بين رفض الانقلاب الجديد لوثائق 86/1988، وبين الوثائق الجديدة للحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1998، مرت مياه كثيرة فى ظل الاقتتال والعنف المتبادل. ولم يكن الموقف طوال هذه الفترة يسيرًا على كلا الجانبين، فالحرب مرهقة ومكلفة على الشماليين والجنوبيين والحل العسكرى يضطرد فى استحالته بينما لايبدو الحل السياسى يسيرا على الطرح من قبل أيديولوجية إسلاموية متصاعدة فى الشمال، راغبة فى الانتشار لأبعد من حدود الشمال والجنوب على السواء. أما فى الجنوب فقد عانت قيادة "جون جرنق" بدورها كثيرا من متاعب الانشقاق منذ خرج عليه "رياك مشار" فيما عُرف بمحاولة انقلاب مدينة "الناصر" جنوب شرق السودان، قرب منافذه على الحدود مع أثيوبيا (إعلان ناصر – أغسطس 1991) بقيادات قوية من أبناء "الشلوك" والنوير: "مشار لام أكول".
ويذكر شهود هذه التطورات فى الجنوب أنها كانت ضمن محاولات تحويل الحركة الشعبية عن اتجاهها العسكرى وفرض مبادىء التحرير الوطنى السياسى، (ومعنى ذلك ضمنا أن تكون أكثر ميلا للانفصال) إلى جانب كونها محاولة لمقرطة الحركة ضد انفراد جون جرنق بالقرار والقيادة (وبمعنى ضمنى آخر لتوازن نفوذ أبناء الدينكا، مع حضور مناسب للشلك والنوير وبقية الأقاليم وخاصة فى الاستوائية...). قد تكون الحركة الشعبية قد عادت للتوحد والتماسك بعد ذلك منذ إعلان "لافون" (أبريل 1995) للتوحيد مقابل إعلان "أبوكو" للانشقاق (أبريل 1994)، وهذا ما يشهد به أحد القيادات العائدة إلى الحركة مثل P.A. Nyaba عضو اللجنة التنفيذية الحالية فى كتاب له نشر عام 1997- 2000.
لكن اللافت هنا أن حكومة الخرطوم بدلا من أن تستفيد من الموقف لدفع تيار الوحدة من أجل حل قومى أو اجتماعى راحت تدعم الانشقاقات من أجل تدمير "جرنق" بأى ثمن وفق فكرة ثابتة عن انفصالية، وهو الذى قام فى ظرفين مختلفين بتصفية الانفصاليين ممثلين فى "أنيانيا- 2 "مرة أوائل الثمانينيات، والانشقاقيين الانفصاليين مرة أخرى أوائل التسعينيات وذلك لما بدا أنه يملك مشروعا "للسودان جديد" جعل مطلبه الأساسى هو عقد "مؤتمر دستورى قومى" منذ واجه انتفاضة 1985 وحتى وثائق "كوكا دام" و"المبادرة". لكن يبدو أن "صراع الجنرالات" هو الذى حكم موقف الرئيس "عمر البشير" بل وحكم "الجهاديين" بقيادة "الترابى"؛ وكأنه عسكرى أكثر منه أيديولوجى. وقد جعل ذلك السلطة فى الخرطوم أكثر حركة فى اتجاه دعم الانشقاقيين إلى درجة التسليم بمقولاتهم عن "حق تقرير المصير" فى إطارهم الانفصالى ذاك فيما عرف من اتفاقيات تمت مرة مع "رياك مشار" وأخرى مع "لام أكول" وفى عواصم أفريقية مثل نيروبى وأبوجا.. إلخ مما بدا مثيرا للدهشة على المستوى العربى خاصة دون أن يتحرك "الرأى العام" للتعبير عن دهشته مثلما يعبر عن سخطه إزاء أى "انحراف" من طرف جون جرنق! وقد لفت نظرى مؤخراً – على سبيل المثال – تقييم مفكر سودانى أحترم آراءه مثل عبد الله على إبراهيم فى دراسة له بعنوان "حول البئر المعطلة والقصر المشيد فى السياسة السودانية" (المراجع).لا ينظر فيها "لجون جرنق" إلا من زاوية التسلط والفردية والشخصنة مقابل رفق ظاهر بأصحاب القصر فى الخرطوم!