وأهم ما يلاحظ هنا هو أن هذا التصور للأدب باعتباره نصوصا متداخلة ينفتح
بعضها على بعض ولا يجد النص منها حدودا تمنعه من تجاوز ذاته بدلا من التصور القائم
على وجود نص مستقل أو كتاب مغلق يناقض تعريف الأدب الذي جاء به النقد الجديد
باعتباره عملا يتمتع بالوحدة العضوية. وتستند النظرية كذلك إلى ما يطلق عليه "خبرة
القارئ" أو تجربة قراءته للنص وهو مرتكز يؤدي آخر الأمر إلى التصالح بين المعاني
وتوحيد القوى المتصارعة وإحالة النص والقارئ جميعا في آخر المطاف إلى العالم
الخارجي، ومن ثم يقول التفكيكيون - والكلام لجيفري هارتمان- إن الحقيقة الشعرية
كانت تستمد حياتها في نظر النقد الجديد من العالم الخارجي باعتباره حقيقة فوق
الواقع اللغوي أي متعالية عليه (17).
ويرى التفكيكيون أن المزية الأولى للأدب
ترجع إلى أنه خيال أو كذب، فالشعر يحتفل بحريته من الإحالة وهو واع بأن إبداعاته
ذات أساس تخيلي، ولذا فإنه لا يعاني مثلما تعاني النصوص الأخرى من مشكلة الإحالة
إلى خارج النص وهو ما يلخصه أحد شراح النظرية - فيرنون جراس - بقوله: "ترجع أهمية
الأدب في ظل التفكيكية / التقويضية إلى طاقته على توسيع حدوده بهدم أطر الواقع
المتعارف عليها، ومن ثم فهو يميط اللثام عن طبيعتها التاريخية العابرة، فالنصوص
الأدبية العظيمة دائما تفكك معانيها الظاهرة سواء كان مؤلفوها على وعي بذلك أم لا
من خلال ما تقدمه مما يستعصي على الحسم. والأدب أقدر فنون القول على الكشف عن
العملية اللغوية التي تمكن الإنسان بها من إدراك عالمه مؤقتا وهو إدراك لا يمكن أن
يصبح نهائيا أبدا" (18).
لا شيء خارج النص:
تشكل هذه العبارة أساسا من أهم
أسس النظرية التفكيكية / التقويضية وقد عبر دريدا عن ذلك بقوله: "لا يوجد شيء خارج
النص" ومعنى ذلك رفض التاريخ الأدبي التقليدي ودراسات تقسيم العصور ورصد المصادر
لأنها تبحث في مؤثرات غير لغوية وتبعد بالناقد عن عمل الاختلافات اللغوية. ويعتبر
التفكيكيون أن الغوص في الدلالات وتفاعلاتها واختلافاتها المتواصلة تعد معادلا
للكتابة، فمن حق كل عصر أن يعيد تفسير الماضي ويقدم تفسيره الذي يرسم طريق
المستقبل، فالتفسيرات أو القرارات الخاطئة المنحازة هي السبيل الوحيد لوضع أي تاريخ
أدبي بالمعنى التفكيكي. وقد طبق جيفري هارتمان هذه القناعة على أعمال لودذوورث قتلت
بحثا فانطلق بحدود تفسيراته لشعره وكتب مقالات مستوحاة من النص دون أن تتقيد به
تحفل بالتوريات اللفظية بأشكالها المختلفة وإحالات الألفاظ والتعابير إلى أعمال
سواه ومن ثم احتمالات التناص مظهرا في ذلك براعة يحسده عليها الشباب ولا يوافقه
عليها الشيوخ لهدم المعاني التي ألفتها الأجيال على مدى قرنين من الزمان
(19).
وحسب الدكتور محمد عناني فإن المذهب يشهد في التسعينات تحولا عجيبا يسمى
"استخدام المصطلح دون مضمونه"، فالنقاد التفكيكيون أصبحوا يسخرون من القول بأن للغة
وظيفة عقلانية أو معرفية وقد أجروا تعديلات غريبة على مفهوم العلاقة بين اللغة
والواقع أو الحقيقة فبدأوا يرصدون حركة اللغة من الخارج عن طريق رصدها في تلافيف
النص أو النص الباطن مثل الرغبات الجنسية (فرويد) أو المادية الماركسية أو ما وصفه
نيتشة بالنزوع إلى التسلط وإرادة القوة. منهم من يقول إن هذه الرغبات غير العقلانية
تساهم في عملية الدلالة على المعنى أكثر مما تساهم فيه المعرفة العقلية، وإن كان
الدكتور عناني يصف هذه الاتجاهات الجديدة بأنها تنتفع بالتفكيكية / التقويضية دون
أن تكون تفكيكية / تقويضية (20).
منتقدو التفكيكية / التقويضيةمن بين ردود
الأفعال التي أثارتها النظرية انتقادات عديدة لعل أهمها في نظر ميجان الرويلي وسعد
البازعي أنها رغم قدرتها التقويضية على زعزعة المسلمات التقليدية الميتافيزيقية
الغربية تصل في النهاية إلى "عماية محيرة"، فدريدا لم يقدم بديلا عن مسلمات
الميتافيزيقا الغربية بعد أن قوضها. بل إن البديل نفسه كما يرى دريدا نفسه سيتسم
بسمات الميتافيزيقا لا محالة، لذا اكتفى دريدا بالتقويض. ويذهب الرويلي والبازعي
ويشاركهما في ذلك عبد الوهاب المسيري إلى أن التفكيكية / التقويضية تدين بمنهجها
لممارسات التفسير التوراتي اليهودي وأساليبه. فكل ما فعله دريدا هو نقل الممارسات
التأويلية للنصوص المقدسة اليهودية وتطبيقها على الخطاب الفلسفي مرسيا بذلك دعائم
ما ورائية لاهوتية مألوفة لتحل محل الميتافيزيقا الغربية، أما المسيري فيرد الأفكار
الرئيسة في نظرية دريدا إلى أصولها اليهودية، ففي مداخل: الأثر، تناثر المعنى،
الهوة، الكتابة الكبرى والأصلية، التمركز حول المنطوق، من موسوعته يورد تأصيلا
فكريا تاريخيا لهذا الأثر الواضح ليهودية دريدا وللفكر اليهودي في نظريته النقدية
(21).
وقد نقل الدكتور عبد العزيز حمودة في "المرايا المحدبة" نماذج عديدة من
النقد الذي وجه للتفكيكية / التقويضية في الغرب، فمثلا ليتش يقول في تمهيده لدراسته
عن التفكيكية / التقويضية إنها باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرب كل شيء في
التقاليد تقريبا وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلاقة واللغة والنص والسياق
والمؤلف والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير وأشكال الكتابة النقدية، وفي هذا
المشروع فإن الواقع ينهار ليخرج شيء فظيع (22).
أما جون إليس وهو أحد أشهر
منتقدي التفكيكية فيقول: "هناك وسيلة يلجأ إليها التفكيك / التقويض للحفاظ على
صلاحيته: تتم صياغة الموضوعات في مصطلح جديد وغريب وهو ما يجعل المواقف المألوفة
تبدو غير مألوفة، ومن ثم تبدو الدراسات المتصلة غير متصلة. إن الهجوم على نظرية
إحالة المعنى يترجم إلى هجوم على ميتافيزيقا الحضور برغم أن الاثنين يعبران عن
الرأي الساذج القائل بالعلاقة بين الكلمات والأشياء، لكن المصطلحات تجعل الموضوع
يبدو مختلفا" (23).
< وفي النهاية:
لا شك في أن هذه الورقة المختصرة غير
مناسبة نظرية التفكيك وإن كانت قد عرضت أهم ملامحها ومرت على أهم الانتقادات
الموجهة لها. وقد يكون في ترجمة مثل هذه النظريات النقدية إفادة عظيمة لدرس تاريخ
الآداب والفلسفات الغربية، فهي نشاط فكري بشري ينبغي ألا نكون غافلين عن الإحاطة
به، أما التغافل عمدا عن موقف النظرية من الغيب والإنسان والمنظومات القيمية
الراسخة في حضارتنا فهو خطر عظيم يهدد أول ما يهدد الأدب العربي الذي يبلغ عمره
الآن أكثر من سبعة عشر قرنا حافلة بالعطاء الثري تحت ظل منظومة قيمية عربية إسلامية
ينبغي أن تكون حاضرة عندما نتفاعل مع أية نظرية وافدة.
هوامش :
1- محمد
عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة ومعجم إنجليزي/ عربي، الشركة
المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة الثانية، سنة 1997، ص 131.
2- ميجان
الرويلي (دكتور) وسعد البازعي (دكتور)، دليل الناقد الأدبي، دون ناشر، 1415 هـ، ص
49 - 50 .
3- محمد عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة، سبق ذكره، ص 132
.
4- محمد عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة، سبق ذكره، ص 133 .
5-
رامان سلون، ترجمة جابر عصفور (دكتور)، النظريات الأدبية المعاصرة، الهيئة العامة
لقصور الثقافة، مصر، سلسلة آفاق الترجمة، سنة 1995، ص 163 - 164 .
6- ميجان
الرويلي (دكتور) وسعد البازعي (دكتور)، دليل الناقد الأدبي، دون ناشر، 1415 هـ، ص
50 .
7- ميجان الرويلي (دكتور) وسعد البازعي (دكتور)، دليل الناقد الأدبي، دون
ناشر، 1415 هـ، ص 54 .
8- محمد عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة:
دراسة ومعجم إنجليزي/ عربي، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة
الثانية، سنة 1997، ص 135 - 136 .
9- ميجان الرويلي (دكتور) وسعد البازعي
(دكتور)، دليل الناقد الأدبي، دون ناشر، 1415 هـ، ص 55 .
10- محمد عناني
(دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة ومعجم إنجليزي/ عربي، الشركة المصرية
العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة الثانية، سنة 1997، ص 137 - 138 .
11- محمد
عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة ومعجم إنجليزي/ عربي، الشركة
المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة الثانية، سنة 1997، ص 138 .
12- ميجان
الرويلي (دكتور) وسعد البازعي (دكتور)، دليل الناقد الأدبي، دون ناشر، 1415 هـ، ص
60 .
13- عبد الوهاب المسيري (دكتور)، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية -
نموذج تفسيري جديد، دار الشروق، مصر، الطبعة الأولى، 1999، المجلد الخامس، ص 426
.
14- عبد الوهاب المسيري (دكتور)، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - نموذج
تفسيري جديد، دار الشروق، مصر، الطبعة الأولى، 1999، المجلد الخامس، ص 437 .
15-
ميجان الرويلي (دكتور) وسعد البازعي (دكتور)، دليل الناقد الأدبي، دون ناشر، 1415
هـ، ص 66 .
16- محمد عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة ومعجم
إنجليزي/ عربي، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة الثانية، سنة
1997، ص 143 - 144 .
17- محمد عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة
ومعجم إنجليزي/ عربي، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة الثانية،
سنة 1997، ص 145 - 146 .
18- محمد عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة:
دراسة ومعجم إنجليزي/ عربي، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة
الثانية، سنة 1997، ص 147 .
19- محمد عناني (دكتور)، المصطلحات الأدبية الحديثة:
دراسة ومعجم إنجليزي/ عربي، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان، الطبعة
الثانية، سنة 1997، ص 148 .
02- ميجان الرويلي (دكتور) وسعد البازعي (دكتور)،
دليل الناقد الأدبي، دون ناشر، 1415 هـ، ص 54 .
21- ميجان الرويلي (دكتور) وسعد
البازعي (دكتور)، دليل الناقد الأدبي، دون ناشر، 1415 هـ، ص 54 - عبد الوهاب
المسيري (دكتور)، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - نموذج تفسيري جديد، دار
الشروق، مصر، الطبعة الأولى، 1999، المجلد الخامس، ص 420 إلى 440 .
22- عبد
العزيز حمودة (دكتور)، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم
المعرفة، رقم 232، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1998، ص 291 -
292 .
23- عبد العزيز حمودة (دكتور)، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك،
سلسلة عالم المعرفة، رقم 232، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،
1998، ص 296 .
> قدمت هذه الورقة في الورشة النـقدية التي نظمتها "دائرة
الثقافة والإعلام" بحكومة الشارقة - دولة الإمارات العربية المتحدة - إبريل 2000
للفائزين بجوائز الدورة الثانية من "جائزة الشارقة للإبداع العربي". وقد فاز كاتب
الورقة بالمركز الثاني في مجال المسرح. ونشرت في مجلة "الآطام" السعودية (إصدارة
دورية تعنى بالإبداع والدراسات الأدبية تصدر عن نادي المدينة المنورة الأدبي) -
العدد الثامن - شعبان 1421 - نوفمبر 2000 - الصفحات: 47 - 58 .