الأدب المهموس د. عبده السيد فراج

الأدب المهموس هو الأدب الذي يحاول فيه الشاعر أن يعبر عما يلج في نفسه بصدق وإخلاص متخذاً من الطبيعة والأساطير وأحداث التاريخ مجالاً يبث من خلاله مشاعره ومعتقداته الفنية والأدبية وممن انتصروا لهذا اللون من الأدب شعراء المهجر -خاصة- جبران خليل جبران.
وقد احتفى الدكتور محمد مندور بهذا اللون من الأدب احتفاءً بالغاً، وأسرف في تقديره إسرافاً زائداً، وقد تمثل هذا التقدير في دعوته إليه وتقعيده لأصوله، وقضاياه تقعيداً منهجياً، وذلك حين فرق بين الهمس والضعف، وعده من مظاهر قوة الشاعر، ورأى أن "الشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجاً من أعماق نفسه في نغمات حارة، ولكنه غير الخطابة التي تغلب على شعرنا فتفسده، إذ تبعد به عن النفس وعن الصدق، وعن الدنو من القلوب"(1).
وفرق د. مندور بين الهمس والارتجال حين قال: "الهمس ليس معناه الارتجال فيتغنى الطبع في غير جهد ولا إحكام صناعة، إنما هو إحساس بتأثير عناصر اللغة، واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد، وهذا في الغالب لا يكون من الشاعر عن وعي بما يفعل، وإنما هي غريزته المستنيرة ما تزال به. حتى يقع على ما يريد(2).
كذلك ميز بين الهمس والانكفاء على الذات فقال: "الهمس ليس معناه قصر الأدب أو لشعر على المشاعر الشخصية. فالأديب الإنساني يحدثك عن أي شيء يهمس به فيثير فؤادك. ولو كان موضوع حديثه ملابسات لا تمت إليك بسبب(3) وقد دار احتفاء الدكتور محمد مندور بالشعر المهموس حول الموسيقى الآسرة الهامسة للقلوب والتي تتجاوب مع النفس واستشهد بقصيدة لميخائيل نعيمة والتي يقول فيها: أخي؟ إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله فلا تهزج لم شادوا، ولا تشمت بمن دانا بل اركع صامتاً مثلي بقلب خاشع دام لنبكي حظ موتانا(4).
وقد علق الدكتور مندور على هذا الجزء من القصيدة بقوله: "نفس مرسل وموسيقى متصلة، فالمقطوعة وحدة تمهد لخاتمتها، وفي هذا ما يشبع النفس، ألا ترى كيف يعدك للصورة التي يدعوك إلى مشاركته فيها، إذا ضج الغربي بأعماله، وقدس موتاه، وعظم أبطاله فلا تهزج للمنتصر، ولا تشمت بالمنهزم، لأنه لا فضل لك في هذا ولا ذاك، وما أنت بشيء، وأنت أحق بأن تحزن وأجدر بأن يخشع قلبك فتركع صامتاً لتبكي موتاك، أية ألفة في الجو، وأية قوة في إعداده(5).
وبعد تسجيل انطباعه عن هذا المقطع من القصيدة نراه يعمد إلى إبراز ما توحي به كلمات القصيدة من معان صادرة عما تحمل الألفاظ من احساسات دقيقة صادقة قريبة من النفوس، وأليفة غليها فيقول: "أخي" فأنا إذا شريكه في الإنسانية، وأنا قريب منه، وهو قريب مني، ومتى قربت استطاع أن يهمس لأنني سأسمعه، وسيشجيني صوته الرقيق القوي المباشر وهو ينقل إلى قوة إحساسه بفضل قدرته على اختيار اللفظ الذي يستنفذ الإحساس "إن ضج غربي بأعماله" والضجيج لفظ بالغ القوة لجرس حروفه، وقوة إيحائه وهو يضج "بأعماله" لا "بالمبالغة الكاذبة" الغربي يقدس ذكر من ماتوا وهذه ألفاظ لينة جميلة مؤثرة غنية فيها قدسية الدين، فيها نبل الوفاء، بها جلال الموت، مشاعر شتى تجتمع إلى النفس ثورة رائعة وهو "يعظم بطش أبطاله" أية قوة في تتابع هذه الحروف المطبقة "ظاء" ثم "طاء" و "طاء" أعد هذه الجملة على سمعك ثم أنصت إلى قوتها التي تملأ فمك كما تملأ الأذن(6).
ومن أدباء المهجر الذين استشهد بشعرهم الدكتور مندور "نسييب عريضة" وقد وقع اختياره على قصيدة "يا نفس" ومطلعها:
يا نفس مالك والأنين؟ تتألمين وتؤلمين
عذبت قلبي بالحنين وكتمته ما تقصدين
علق الدكتور مندور على هذا الجزء بقوله: "وها نحن منذ المقطوعة الأولى في جو شعري وننظر في السؤال "يا نفس مالك والأنين؟ فلا تدري أهو عتاب أم لوم أو شقة وهي تتألم وتؤلم على نحو لا نعلمه، ولكننا نحس بصدق نفس الشاعر، وهي تعذب القلب بالحنين وكتمه ما تقصد حنين إلى المجهول، ومن عجب أن تكتم النفس ما تجهل، ثم هل هي غير القلب -وهل تعارضه؟ أسئلة لا محل لإلقائها وما يجوز أن نبحث لها عن حلول توضحها، و‘لا ضاع جمال الشعر، حالة نفسية غامضة لا نستطيع إدراكها بعقولنا لأنها أعمق من أن تجتلي وأغنى من أن تتنشر(7) "ولنسيب عريضة" قصيدة يهدهد فيها الشاعر "طفلة" ويقول:
ظلام الليل قد جنا وبوق الهم قد رنا
فنم يا طفل لا يهنا غني بات شبعانا
قتام اليأس غطانا فنم لا عين ترعانا
إذا ما صبحنا حانا حسبنا الصبح أكفانا
ألا ياهم يكفينا لقد جفت مآقينا
لو أن الدمع يغذونا أكلنا بعض بلوانا(
ومن منطق إعجاب الدكتور مندور بهذا اللون من الشعر نراه أسيراً له مبدياً تأثره به ويقول: "أنصت فتجيش النفس كهذا البحر الذي تتلاطم أمواجه، ومن عجيب أن تثرينا تلك الموسيقى الهادئة المطردة التي لم يدرك الطفل سواها وقد رنحته "الترنيمة" فنام ولكنها قدرة الشاعر كقدرة الطبيعة.. إنني أخشى أن يكون التناقض كامناً في الحياة. والوجود، ثم أي قوة في نفس الشاعر؟ نعم لا يهمنا غني بات شبعاناً "عندما يبيت طفل جائعاً" دعاء بالنقمة ولكن كم فيه من إنسانية، دعاء قوي لا يدفع أو يرد السيل إلى منابعه"(9).
ومن خلال هذه الأبيات وغيرها بدا لنا الدكتور محمد مندور متحمساً لهذا اللون مشيداً به، داعياً الشعراء لأن ينسجوا على منواله ويشايعوا موكبه، ولم يضن علينا بيان سر إعجابه حين قال: "هو أدب يصاغ من الحياة، وكأنه قطع منها، فيه ما في الحياة من تفاهة وبيل، فيه ما فيها من عظمة وحقارة فيه ما فيها من ضوء وظلام، أدب حياة، والحياة شيء أليف، شيء قريب مني ومنك تلقاها فتتعرف إليها للحظتك، وتستمع إلى سرها فتصدقه، لأن قلبك قد أحس في غموض بذلك السر وجاء الشاعر يهمس إليك فيبصرك بمكانه لهذا تهتز مشاعرك(10).
وأرى أن الدكتور محمد مندور قد وفق إلى حد بعيد في اختيار هذه القصائد وبخاصة "لميخائيل نعيمة" إذ من خلال شعره يتضح أنه كان يصدر عن إيمان عميق بعالم الروح ذلك إنه انعتق من المادية انعتاقاً بادياً ولذلك لا نبعد عن الحقيقة حين نقول إن ديوانه "همس الجفون": "يشك حياة نفسية تامة، وهي حياة نفس مطمئنة هادئة كالبحر الساجي، فلا رياح ولا عواصف، بل تقبل للحياة بما فيها من خير وشر، وازدراء للعقل، وشكوكه وأوهامه، وإيمان بالقلب وما يدريك من أسرار الوجود وألغازه"(11).
وإذا كنا قد شهدنا للدكتور محمد مندور بالتوفيق في اختيار القصائد فهذا لا يعني أن هذا اللون من الشعر هو اللون الوحيد الذي يمكن أن يطغى على سواه، إذ إن الألوان الشعرية كثيرة، وشعر الهمس: "إن صلح في النواحي الأخرى مثل الوصفية والوطنية والاجتماعية والأسلوب الموحي الذي يطرحه الدكتور مندور ليس هو الأسلوب الفني الشعري الوحيد.. وإن الموسيقى الآسرة التي -يهتف بها الدكتور مندور ليست هي الموسيقى الوحيدة التي يلون بها الشعر، وهذه الموسيقى لا تصلح في نواحي كثيرة مثل الحماسة، والفخر والإعجاب وما إليها، كما أن النغمات تختلف بين الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، وليست العبرة بالهمس أو بالجهر إنما العبرة بالتناسب في أجزاء الصوت وفي تجاوب النغم مع القلب أو الفكر أو هما معاً"(12).
وهذه نظرة موضوعية تقر الأمور في نصابها إذ أن الموسيقى الشعرية تختلف من موضوع لآخر اختلافاً واضحاً، وهذا ما حدا بالعقاد أن يرد على وجهة نظر الدكتور مندور قائلاً: "شعرنا ليس بشعر، لأن "الهمس" هو الذي يرتضيه شيخ النقاد، وقد نسى مع ذلك أن "الهمس" آخر أساليب التعبير عن ضوضاء الصناعة، وثورات الاجتماع"(13).
وواضح ما في هذه النبرة من تهكم على الدكتور مندور، إذ أن العقاد لم يكن يعجبه تسميه الدكتور مندور "بشيخ النقاد" ولا يعني ذلك إننا نشكك في قدرة الدكتور محمد مندور في تذوقه للشعر وحكمه عليه يناءً على هذا التذوق، وقد كشف الناقد الكبير "سيد قطب" عن سر تفضيل الدكتور مندور لهذا اللون من الشعر وعلل تعليلاً هو أقرب إلى القبول حين قال: "إن الدكتور مندور حين ذهب إلى أوروبا كان يحمل بعض أدبهم، وبعد عودته إلى مصر لم ينفسح له الوقت ليقرأ الشعراء والأدباء المصريين المحدثين وقد كان يحسب الشعر المصري هو ذلك الذي تنشره "الأهرام" في بعض "المناسبات" فاصدر حكماً جازماً سريعاً"(14).
كما نرى الدكتور محمد النويهي يقف موقفاً معتدلاً من هذا الأدب مبرزاً قيمته وجدته في الأدب العربي، ومشيراً إلى ندرته بين الشعر الخطابي الكاذب الملئ بالضجيج الرخيص، مؤكداً في الوقت نفسه على أ، قيمته في رفد العقل بالثقافة محدودة وليست بالكبيرة"(15).
وعلى كل فإن الهمس ليس إلا حالة واحدة من حالات النفس ولا يستطيع أحد أن يقول إنها أصدق من الجأر والجهر ذلك أن: بغام الظباء ليس آصل في الحياة من زئير الآساد، وأن خرير الجداول يس أعمق في النفس من هدير الشلالات، ووسوسة النسيم ليست أوقع في الحس من زمجرة العاصفة"(16).
الهوامش
(1)في الميزان الجديد -د. محمد مندور- دار نهضة مصر للطباعة والنشر ص65.
(2)السابق ص65.
(3)السابق ص65.
(4)ديوان "همس الجفون" ميخائيل نعيمة -الطبعة السادسة- بيروت عام 1974م ص14.
(5)في الميزان الجديد د.محمد مندور ص66.
(6)السابق ص
(7)السابق ص72و71.
(بلاغة العرب في القرن العشرين -جمع محي الدين رضا- المطبعة الرحمانية عام 1339هـ ص164.
(9)في الميزان الجديد ص83.
(10)السابق ص86.
(11)دراسات في الشعر العربي المعاصر. د.شوقي ضيف، دار المعارف الطبعة السابعة ص228.
(12)الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث، د. مصطفى عبداللطيف السحرتي ص29 مكتبة الأنجلو عام 1948م.
(13)اليوميات جـ2 ص417 الطبعة الثالثة عام 1964م.
(14)الرسالة السنة الحادية عشرة ع518-7/6/1943 ص453.
(15)ثقافة الناقد الأدبي -د. محيي النويهي ص395 الطبعة الأولى عام 1949م.
(16)الرسالة ع520 السنة الحادية عشرة 21/6/1943 "للأستاذ سيد قطب".

د. عبده السيد فراج

أستاذة عبير موضوع مفيد بارك الله فيك

أستاذة عبير سمعت فيما سلف عن الأدب المهموس ولكن دون تفسير للمعنى وها قد عرفت ماهيته وفيما يعنى مشكورة أختنا

عبير عبد القوي
بارك الله فيك وفيما
تطرحين من درر في
سائر القضايا الأدبية
والفنية والأنسياب
وكل ما يثري المسيرة
الثقافية العربية وينحو بها
إلى ما يجب أن تكون فيه من
صحة وازدهار ، والنقد الأدبي
المبني على حسن التصور يمنح
النص الأدبي قيمة مضافة ويوصل
المتلقي إلى مكامن الضعف والقوة
ويوضح له ما غـاب عنه أو تباعــد
عن وعيه ، تقبلي مروري وتحياتي .

الأخت الفاضله

أ/ عبير

دائما اتعلم من متصفحك الراقي الكثير والكثير

ودائما في رسالتك التثقيفيه كل النور والمعرفه

بارك الله فيك وفي جهودك الطيبه

خالص الشكر والتقدير

شكرا استاذتنا عبير موضوع قيم فى انتظار القادم

» ذرية السيد الشريف عيسى بن السيد محمد ابو جعافره الحسيني
» الحربيابي من ذرية السيد عيسى بن السيد محمد أبوجعافر
» أطباء قتلة ! بقلم / فراج إسماعيل
» استشهاد اللواء نبيل فراج مساعد مدير أمن الجيزة في عملية «تطهير كرداسة»
» سيرة "عم عبده العربجي