ونجد في قصيدته الغزلية (هاتف) ؛ ملامح غزليات أبي ريشة لغةً ومضموناً، وإن لم يجتذبها نص معين؛ ومنها(21):
(القُرْصُ) دَارَ، وَصَوْتِي في تَهَدُّجِهِ * * * يَكَادُ في الأُذْنِ يُلْقِي وَجْدُهُ نَارَا
وَقَد رَأَيْتُكِ - رَغْمَ البَوْنِ - مُقْبِلَةً * * * وَالصَّبُّ أَنْفَذُ خَلْقِ اللهِ أَنْظَارَا
أَحْسَسْتُ مِنْ صَدْرِكِ الظَّمْآنِ وَقْدَتَهُ * * * كَأَنَّمَا جَمْرهُ في أَضْلُعِي ثَارَا
وَحَارَ قَوْلي، وَكَمْ في النَّفْسِ مِنْ فِكَرٍ * * * حَارَتْ، وَكَمْ مِنْ هَوى في القَلْبِ قَدْ حَارَا
كَتَبْتُ بِالمِرْوَدِ الغَالي الذِي لَثَمَتْ * * * شِفَاهُهُ عَيْنَكِ الخَضْرَاءَ تَكْرَارَا
... كَتَبْتُ وَالثَّغْرُ مُزْدَانٌ بِبَسْمَتِهِ * * * وَالقَلْبُ يَزْفُرُ في الأَضْلاعِ قِيثَارَا
كَتَبْتُ مِنْ هَاتِفِي أَرْقَامَهُ فَسَرَى * * * بَينَ الهَوَاتِفِ خَفْقُ القَلْبِ تَيَّارَا
ويبدو إعجاب الأميري بقصيدة (النَّهْرُ المُتَجَمِّد) لميخائيل نعيمة، في انطباع فكرتها الرئيسة وأسلوبها المتنوع الرشيق، وموسيقاها الملونة العذبة في أكثر من نص؛ مثل: قصيدة (ياليل)(22)، وأجزاء من قصيدة (في وحدتي) التي يقول في بعض مقاطعها(23):
في وِحْدَتِي انْتَبَهَ الشُّعو * * * رُ عَلَى اخْتِلاجَاتِ الحُشَاشَهْ
وَتَبَيَّنَتْ عَيْنَايَ فَوْ * * * قَ ( الرَّادِ ) في قَلَقٍ فَرَاشَهْ
وَإِذَا العُبُوسُ يَزُولُ عَنْ * * * نَفْسِي وَتَلْتَمِعُ البَشَاشَهْ
في وِحْدَتي أَبْصَرْتُهَا * * * تُلْقِي إِلى الرَّادِ الشِّفَاهْ
وَكَأَنَّهَا في نُورِهِ الـ * * * ـوَانِي تَرَى دَرْبَ النَّجَاهْ
أَوْ أَنَّهَا ظَمْأَى تَعُبُّ * * * خِلالَهُ رَاحَ الحَيَاهْ
في وِحْدَتِي ؛ حَتَّى الفَرَا * * * شَة خَلَّفَتْ خَدِّي وَطَارَتْ
وَرَمَتْ بِهَيْكَلِهَا عَلَى * * * بَلُّورِ نَافِذَتِي وَدَارَتْ
فَفَتَحْتُهَا حَتَّى تَطِيـ * * * ـرَ، وَلَسْتُ أَدْرِي أَيْنَ صَارَتْ
في وِحْدَتِي، عَادَ العُبُو * * * سُ إِلَيَّ وَانْتَكَأَتْ جِرَاحِي
هَذِي الفَرَاشَةُ قَدْ مَضَتْ * * * تَسْعَى مُرَفْرِفَةَ الجَنَاحِ
سَرَحَتْ كَمَا يَهْوَى الهَوَى * * * وَلَبِثْتُ مَغْلُولَ السَّرَاحِ
إن فكرتها تشير إلى فكرة قصيدة (النهر المتجمد) التي يقول فيها ميخائيل نعيمة(24):
يَا نَهْرُ هَلْ نَضَبَتْ مِيَا * * * هُكَ فَانْقَطَعْتَ عَنِ الخَرِيرْ
أَمْ قَدْ هَرِمْتَ وَخَارَ عَزْ * * * مُكَ فَانْثَنَيْتَ عَنِ المَسِيرْ
بِالأَمْسِ كُنْتَ مُرَنِّماً * * * بَيْنَ الحَدَائِقِ وَالزُّهُورْ
تَتْلُو عَلَى الدُّنْيَا وَمَا * * * فِيهَا أَحَادِيثَ الدُّهُورْ
بِالأَمْسِ كُنْتَ تَسِيرُ لا * * * تَخْشَى المَوَانِعَ في الطَّرِيقْ
وَاليَوْمَ قَدْ هَبَطَتْ عَلَيْـ * * * ـكَ سَكِينَةُ اللَّحْدِ العَمِيقْ
… لَكِنْ سَيَنْصَرِفُ الشِّتَا * * * وَتَعُودُ أَيَّامُ الرَّبِيعْ
فَتَفُكُّ جِسْمَكَ مِنْ عِقَا * * * لٍ مَكَّنَتْهُ يَدُ الصَّقِيعْ
... يَا نَهْرُ ذَا قَلْبي أَرَا * * * هُ كَمَا أَرَاكَ مُكَبَّلا
وَالفَرْقُ أَنَّكَ سَوْفَ تَنْـ * * * ـشَطُ مِنْ عِقَالِكَ وَهْوَ .. لا
ففي كل قصيدة من القصيدتين يجري شاعرها موازنة بين الذات وجزء من الطبيعة، بين الذات المحصورة في دوائر القلق المحكمة، والجزء الطليق من الطبيعة؛ الذي عرضت له عوارض حبسته عن الحرية والانطلاق، ولكنه انفتل عند الأميري من عُقُلِه، وظل موعوداً بالانفتال عند ميخائيل، بينما ظل الشاعران مكبلين بالقيود التي لا يرجوان لها فكاكا .
وملمح آخر: هو اللفتات الجمالية العميقة عند نعيمة، واللفتات الإنسانية الرفيعة عند الأميري، التي دعته أن يفتح نافذته ليطلق سراح فراشته، وكأنه لا يريد لها أن تعاني ما يعانيه من الأسر النفسي . وتلك من نواحي التجديد التي تحسب للأميري .
وقصيدة (غفوة صاحية) التي كتبها عام 1380هـ (1960م)، والتي منها قوله(25):
سَأَسْمُو عَلَى زَيْفِ هَذِي الحَيَاةِ * * * إِلى مَعْرِجِ العُزْلَةِ النَّائِيَهْ
وَأَهْجُرُ ضَوْضَاءَ لا تَنْتَهِي * * * تُثِيرُ وَتُحْرِقُ أَعْصَابِيَهْ
إِلى مُبْهَمَاتِ الظَّلامِ العَمِيـقِ * * * إِلى حَيْرَةِ اللَّيْلَةِ السَّاجِيَهْ
إِلى مَنْبَعِ الصَّفْوِ خَلْفَ السَّمَاءِ * * * إِلى مَرْتَعِ الأَمْنِ وَالعَافِيَهْ
أَزِيدُ فُتُورِي وَأُطْفِي لَظَى * * * شُعُورِي، وَأَكْبِتُ أَشْعَارِيَهْ
… وَإِذْ ذَاكَ بَعْدَ الهُدَى وَالهُدُوءِ * * * وَغَوْصِي عَلَى لا نِهَايَاتِيَهْ
سَأَرْجِعُ كَالفَجْرِ بَعْدَ الفَنَاء الـ * * * ـمُولِّدِ، وَالغَفْوَةِ الصَّاحِيَهْ
… وَيُطْلِقُني قُدْرَةً في الوُجُود * * * تُؤَدِّي رِسَالَةَ إِيمَانِيَهْ
... رِسَالَةَ مَجْدٍ إِلى اللهِ يَرْقى * * * تُحَقِّقُهُ أُمَّةٌ هَادِيَهْ
هذه القصيدة تشير بوضوح إلى جزء من قصيدة محمود حسن إسماعيل الموسومة بـ (راهبة الضحى)؛ التي كتبها عام 1934م، وهو يخاطب فراشة(26):
تَعَالَيْ نَطِرْ في سَمَاءِ الخَيَالِ * * * وَنَهْفُ بِجَنَّتِهِ النَّائِيَهْ
بَعِيداً عَنِ الكَوْنِ حَيْثُ المُنَى * * * تَرِفُّ بِأَظْلالِهِ هَانِيَهْ
وَحَيْثُ الشَّذَا مِنْ أَزَاهِيرِهِ * * * أَفَاوِيحَ مِنْ حُلُمٍ طَافِيَهْ
وَنَبْرُ الصَّدَى مِنْ مَطَارِيبِهِ * * * طُيُوفٌ عَلَى أَيْكَةٍ شَادِيَهْ
... هُنَالِكَ لا أَدْمُعٌ ثَرَّةٌ * * * تَهَاوَى، وَلا مُهْجَةٌ شَاكِيَهْ
وَلا عَالَمٌ بِالأَذَى صَاخِبٌ * * * وَدُنَيَا بِأَشْبَاحِهَا زَارِيَهْ
وَلا زَهْرَةٌ تَنْتَشَي في الصَّبَاحِ * * * بِكَأْسِ النَّدَى الحُلْوَةِ الصَّافِيَهْ
وَيَأْتِي المَسَاءُ بِأَنْوَائِهِ * * * فَتَسْقِي أَعَاصِيرَهُ السَّافِيَهْ
رَبِيعُ حَيَاةِ الهَوَى كُلِّهَا * * * بِأَفْيَائِهَا البَرَّةِ السَّاجِيَهْ
فَهَيَّا نُهَلِّلُ في ظِلِّهَا * * * فَنَطْفُو بِغُدْرَانِهَا الجَارِيَهْ
وَنَسْبَحُ في جَوِّهَا كَالخَيَال * * * يُرَفْرِفُ في مُهْجَةٍ غَافِيَهْ
وَنَنْسَى الدُّنَى وَأَهَاوِيلَهَا * * * وَآلامَهَا المُرَّةَ العَاتِيَهْ
ومع التأثر الكبير والاحتذاء الواضح من الشاعر بهذه القصيدة الوجدانية الحالمة، فإنه حرص على ثبات هويته الإسلامية ورؤيته الخاصة . فإن محمود حسن إسماعيل أراد الهروب من العالم ولم ينو العودة ؛ لأنه لا يملك الإحساس ـ في هذه التجربة على الأقل ـ الذي يملكه الأميري بالرسالة التي في عنقه. وهو ما حدا بالدكتور وليد محمود علي، إلى التفريق بين اغتراب الأميري وعزلته؛ واغتراب غيره من شعراء الرومانسية وعزلتهم ؛ فالأميري بناهما على أصل فكري، بينما كانت الغربة والعزلة عند أولئك الشعراء عاطفة أكثر منهما فلسفة(27).
وأشير إلى دقة الأميري في تغيير كلمة في بيته :
سَأَرْجِعُ كَالفَجْرِ بَعْدَ الفَنَاءِ الـ * * * ـمُوَلِّدِ، وَالغَفْوَةِ الصَّاحِيَهْ
فإنه حين نشرها في المجلة، كتب (والنومة)(28)، وحين نشرها في الديوان غيرها إلى (غفوة) كما هي عند محمود حسن إسماعيل، والدقة تكمن في التفاته إلى الفرق بين الغفوة التي تعني النعاس؛ وهو فترة في الحواس(29)، وبين النومة ؛ التي قد تعني ـ إلى جانب النعاس ـ الاستغراق في النوم، إذ لا يرغب الأميري في استمرار العزلة، واستغراقه فيها، وإنما هي غفوة يرتاح بها، ويعيد بناء نفسه ثم ينطلق من جديد .
ووجد عن الأميري نوع من الشعر التأملي الفلسفي، الذي تكثر فيه التساؤلات الظامئة، وهو فيما يبدو متأثر فيه بشعراء المهجر وجماعة أبوللو(30)، ومن ذلك قصائده (ذرة) و(شعاع) و(معمى) و(اللانهاية) و(مع الوجود) و(مدى)(31) و(قلب كبير) ؛ التي يقول فيها(32):
إِلهِيَ كَمْ ذَا اهْتَدَتْ مِنْ عُقُولٍ * * * بِفِطْرَتِهَا دُونَ بَحْثٍ حَفِيّ
وَكَمْ مِنْ عُقُولٍ غَذَتْهَا العُلُومُ * * * نَأَتْ عَنْ هُدَاهَا لِسِرٍّ خَفِيّ
وَأَمَّا أَنَا فَرَهِينُ الحُدُودِ * * * وَخَلْفَ حُدُودِيَ مُسْتَهْدَفي
تَحَيَّرْتُ بَيْنَ دُرُوبِ الحَيَاةِ * * * وَلَمْ أَدْرِ أَيَّ خُطاً أَقْتَفِي
وَمَا أَنَا بِالمُسْتَسِيغِ القُعُودَ * * * وَلا أَنَا بِالشَّارِدِ المُسْرِفِ
وَبِي ظَمَأٌ حَائِرٌ ثَائِرٌ * * * أَرُوحُ وَأَغْدُو وًلا أَشْتَفِي
إِذَا عَزَّ في كَوْنِيَ المُسْعِفُونَ * * * فَإِنَّكَ يَا خَالِقِي مُسْعِفِي
فإن هذا النص وأمثاله يشير إلى أثر قصيدة الطلاسم على الأميري، وإن كان تأثراً متحفظاً؛ إذ لم يسر الأميري خلف أبي ماضي في ضياعه وتيهه الذي انتهى إليه، بل اعتصم بالله فوهبه السكينة والطمأنينة، ويقين الإيمان، وعاد من تساؤلاته أكثر قرباً من الله . وهو ما يدل على أن الأميري ـ في تأثره ـ يحتفظ دائماً بملامح شخصيته الشعرية .
وهكذا نجد أن الشاعر جمع بين التأثر بشعر القدماء والتأثر بشعر المحدثين، وكان ـ مع أكثر القصائد تأثيراً وتفاعلاً ـ ممسكا بزمام شاعريته، محتفظاً بشخصيته الخاصة وأصالته .
الهوامش :
1. مقابلة، الشرق، السنة : 9، العدد : 404، 5/5/1407هـ، ص : 33 .
2. مقابلة . العلم، السنة : 20، العدد : 5706، 19/7/1385هـ .
3. مقابلة . ؟ . السنة : 8، العدد : 379، الجمعة 6/11/1412هـ .
4. مقابلة، حوار محمد قرآنيا . الفيصل، العدد : 18، ذو الحجة 1398هـ .
5. الأدب المقارن للدكتور محمد غنيمي هلال، ص: 23.
6. الأسس الفنية للإبداع الفني في الشعر خاصة للدكتور مصطفى سويف : 176 .
7. ديوان أذان القرآن : 84 .
8. ديوان أبي فراس الحمداني : 161-162 .
9. ديوان أمي : 182-183 .
10. انظر : شعراء سورية لأحمد الجندي : 15 .
11. مجنون ليلى لأحمد شوقي ؟، 1400هـ ( 1980 )، ص : 119 .
12. ديوان غُربة وغَرب ( مخطوط ) .
13. ديوان إبراهيم ناجي : 132-133 .
14. راجع : ديوان ألوان طيف : 420 .
15. راجع : ديوان غزل طهور ( مخطوط ) .
16. راجع : ديوان إبراهيم طوقان : 106 .
17. راجع : ديوان ألوان طيف : 186-190 .
18. راجع : ديوان العقاد : 1/226 .
19. ديوان ألوان طيف : 324 .
20. ديوان إبراهيم ناجي : 13 .
21. ديوان ألوان طيف : 237-238.
22. راجع : ديوان ألوان طيف : 192-197 .
23. ديوان مع الله : 161-167 .
24. ديوان همس الجفون، مؤسسة نوفل ببيروت، ط : 5، 1988م : 10-13 .
25. ديوان ألوان طيف : 256-259 .
26. الأعمال الكاملة للشاعر محمود حسن إسماعيل .
27. HE WORKS OF UMAR BAHA, AL-DIN AL- Mahmood Ali, P. 131 , 257 AMIRI:.by Walid
28. نومة صاحية، عمر الأميري . مجلة الأفق الجديد، العدد : 5 . 23/6/1381هـ.
29. انظر : القاموس المحيط للفيروزآبادي ؛ مادتي : غ ف و، و : ن ع س .
30. انظر : النزعات الشعرية عند جماعة أبوللو لأحمد بن عبد الله اليحيى، ص : 72-73 .
31. راجع : ديوان مع الله : 56، 57، 83، 86، 104-108.
32. المصدر السابق : 130-131 . نشر بتاريخ 03-02-2007