تحظى القصة القصيرة بجماهيرية لا يتمتع بها معظم أنواع الإبداع الأخرى . فرغم انتشار أنواع بديلة من الدراما كالفيلم والمسلسل التلفزيوني ظلت تتراكم نوعيا وكيفيا وتنجز مشاريعها الخاصة نحو بلوغ أفضل طرق الكتابة في حركة دؤوب لا تعرف التوقف . وربما عاد ذلك إلى أن القصة القصيرة توفر للقارئ عنصراً مهما في العمل الفني وهو عنصر ( المتعة ) . أي أن القارئ في ذات الوقت الذي يتلقى فيه الخبر يتفاعل معه لا باعتباره حدثا بل كلعبة يشترك هو والقاص في لعبها . وهذا يميز القصة عن الشعر مثلاً . فالأخير يكاد يكون نخبويا من حيث الشروط التي يفرضها على مستمعه وقارئه وأولها أن يكون ملما بالنوع الموسيقي الذي يجب أن يتوفر في الشعر . وربما لأن الشعر هو شيء يتوسل الأسطورة واللغة الموازية في حين أن القصة تعتمد في بث رسالتها على إمتاع القارئ وجذب انتباهه إلى غرابة الخبر أو واقعيته الخافية وكيفية تحويله من الذاتي إلى الجماعي . علاوة على أن القصة بمعنى شمولي تدخل في نسيج حياة الإنسان اليومية . فأنت عندما تتسامر مع أصدقاء إنما تروي لهم قصة وحين تشكو إلى الطبيب فأنت تروي قصة . وحين تتحدث عن واقعة فأنت تتخطى موقع ( المخبر ) إلى موقع ( الراوي ) لأنك تضفي على الواقعة أسلوبك الخاص الذي يختلف عن أي أحد يروي نفس الواقعة .
وقد شهد فن القصة جيلاً بعد جيل نقلات نوعية كبرى فبعد أن كان النقاد يحكمون على القصة من خلال ثلاثة لأقانيم هي : البداية، العقدة، النهاية . شهد هذا الفن تخلياً مستمرا عن هذه الشروط . وسنعود لذلك فيما بعد . إذ يهمني الإشارة إلى كتابنا المقدس القرآن الكريم قد بث رسالته العظيمة من خلال القصة إذ يقول تعالى ( إنا نقص عليك أحسن القصص ) . ومنها قصة سيدنا يوسف عليه السلام وسيدتنا مريم وهي كلها تمثل أهمية القصة من حيث هي ( خبر ) يحمل في ثناياه رسالة أو هدفاً .
تتميز القصة عن باقي الفنون بكونها ذات جذور في كل الحضارات قبل أن تصل إليها يد الإنسان فتتفنن في تطويرها من مرحلة الخبر / الحكاية إلى مرحلة خلق هذا الخبر وإعادة صياغته بما يتفق مع فكر وتوجه ورسالة كاتبها ومع حال الشعب الذي يستهلكها كمنتج إبداعي مؤسس على اللغة والعادات والفلكلور الإنساني لكل حضارة وترجمة الوعي الجمعي للناس إلى إبداع يحرضه على التجسد عبر أعمال وأشكال ومعادلات موضوعية . ولا تختلف القصة من حيث هي : إنتاج إنساني عن باقي الفنون الأخرى في خضوعها للشروط الموضوعية التي تدخل في نسيج الفن فتؤهله إلى أن يكون إحدى مصادر ثقافة المجتمع وقيمه وتقاليده . ولكنها تتميز بكونها لا تحتمل أن تكون مادة لبث الشعارات السياسية كما يحدث في الشعر مثلا حتى ولو كان شعرا جيدا ! فهي فن هادئ . يركز على المشهد والحوار أصلا ثم يعود حين يمر عليه زمن ما إلى موقع التاريخ الغير رسمي أو غير عمومي ! ونخطي حينما نطلب من القاص أن يعطينا مبررات أو مذكرات تفسيرية لكتابته فهذا أولا يتنافى مع أصول التعامل مع الإبداع بعامة . ثم إن القاص لا يزعم أنه يحيط علما بكل شيء ولكنه يخلق نصا بديلا للنص المعاش اليومي إذ ما اعتبرنا الواقع نصا وهو اعتبار قريب من الحقيقة فحركتنا اليومية وما يجري من أحداث فيها تشبه النص الفني من ناحية أنها تمتلئ بالمفاجآت والمواقف التي تبدو كما لو كانت غرائبية . ولكنها تفترق مع النص الفني في كيفية تعامل اللغة القصصية معها فما ينسى الشخص العادي من ملاحظات صغيرة ولكنها هامة هو ما يشكل مادة القاص وخامته . أي باختصار : فإن القصة هي كتابة المرآة المختفية بين ركام الوقت .
أحياناً يسألني سائل : كيف أكتب قصة قصيرة ؟ !
والحقيقة أنني لا أجد إجابة على هذا السؤال .
ففعل الكتابة بحد ذاته هو تجاوز للقواعد . أي أنه فعل شخصي . ليس عملية ميكانيكية . الكتابة هي : رد فعلك تجاه الأحداث والأشياء . مثلها مثل الحلم الذي لا يزال الناس يحتارون في تفسير آليته . ففي حين يرى علماء كـ ( فرويد ) وتلاميذه أنه صراع قائم على آلية الجنس . يرى آخرون أنه نوع من ( النبوءة ) وفي نظري فكلا التفسير غير كاف لتفسير وقوع الحلم بهذا الشكل الذي نراه فيه : مزيجاً من تاريخنا الشخصي وهمومنا وتفكيرنا قبل النوم بمسألة ما وكل هذا يتم برؤية تشبه الواقع بل وتتفوق عليه . فأن تكتب إذن : هو أن تتعلم كيف تمزج خبرات الماضي مع أحداث الراهن مع رؤياك للمستقبل . وبالطبع تبدو هذه النصيحة غير علمية وخاصة بالنسبة إلى النقاد الكلاسيكيين والراغبين في كتابة تمتلك شروط الإنشاء الجيد . مع أن أحدا لا يمكنه إغفال الإنشاء كعنصر هام في الكتابة . أية كتابة . فعادة يصدمك بعض النقاد بأن عملك إنشائي وهذا كلام مجاني مهما لبس من لباس العلم . فلا يمكن أن نتصور أن شخصاً يعجز عن كتابة رسالة شخصية بسبب ضعفه في التعبير والإملاء قادراً على إنتاج كتابة إبداعية . وإن كان لنا من تحفظ على الإنشاء فهو تجاه بعض الذين يكتبون خواطر أو مشاعر تحت مسمى القصة . فالقصة في ذات الوقت الذي تتوسل فيه أرقى أشكال اللغة بلاغيا لا تحصر مشروعها ضمن كتابة جنس أدبي ليس فيه قصة ولا خبر ولا حتى إغواء الكتابة .
كيف تكتب ؟!
علينا أن ندرك أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي معرفة ذاتك كشخص يملك خصوصيته . بمعنى أن ثمة قصة لدى كل أحد منا . لا يستطيع أن يرويها كتابة أو عبر نوع اتصالي آخر إلا هو . وإذا بدا أن العبارات السابقة غامضة فأنني أبادر إلى توضيح ما أقصده بالخصوصية . وهو : أن الشخص الذي يكتب عليه أن يدرك أنه بصدد عمل شخصي أو ذاتي يستحيل على غيره أن يفعله وهو ما يمكن أن نسميه بالتفرد . والتفرد الذي أعنيه هنا ليس تلك الكلمة التي تقال في معرض المديح . ولكن المعنى القاموسي لها وأقرب ما يكون له هو الاختلاف عن بقية الناس في تاريخك الشخصي واستعمالك للكلمات والتعابير وطريقتك في رواية الحدث التي لا تشابه مع طرق آخرين لأنها تمثل طريقتك في التعامل مع ما ترويه بمعجمك الخاص .
أن القصة القصيرة فن مراوغ أيضاً . فقد يظن البعض أنها أسهل مطية حين يكون الشعر مثلا كجنس مكرس في الذاكرة الجماعية يتطلب شروطاً يسهل حتى على غير المشتغلين بالفن تمييزها . وهذا بالذات يعيدنا إلى الحديث عن الكتابة ككل .
هل يمكننا اعتبار الكتابة مؤسسة كما يقول ( رولان بارت ) . أي أننا حينما نكتب ننتمي بالضرورة إلى مؤسسة الكتابة بحيث يصبح موضوعنا الرئيسي هو : كيف، ومتى : نكتب . لنعد إلى القصة . وبالتحديد إلى التراث العربي . لنسأل : هل عرف العرب هذا الفن ؟ قبل غيرهم ؟ أم بعدهم ؟ وجملة أسئلة أخرى . إننا نعرف ( ألف ليلة وليلة ) . وهي وحدها عمل قصصي ضخم . يمتزج فيه السحر والخرافة والحب وحكايات التجار والولاة والحرفيين والقيان والغلمان و الشعر والفلسفة والأخبار بشكل لا يمكن كتابته مرة أخرى . مع أنني أميل ككثير من المهتمين إلى اعتبار هذا السفر الضخم واحدا من أهم الإبداعات القصصية العالمية .
كنت لا أود الخوض في تفاصيل هي أقرب للشأن الأكاديمي . فأنا كاتب قصة ولست ناقداً . يهمني بالدرجة الأولى أن أنقل إليكم ما أستطيع من تجربتي الفنية ورؤاي فيما يتعلق بهذا الفن . ولكنني سأقتطف لكم شيئاً من كتاب القاص العربي الكبير يحي حقي الذي أسماه ( أنشودة للبساطة .. مقالات في فن القصة ) فهو يقول عن موقف بعض النقاد من أن القصة ليست فنا عربيا ( ومن بين ما يقوله بعض النقاد لهؤلاء الشباب أن فن القصة عندنا مستورد من أوربا وأن العرب لم يعرفوا القصة . كل ما ورد في أدبهم إن هو إلا نوع من الحكايات والنوادر والملح لا يرقى إلى مقام القصة كما يعرفها العالم المتمدين ) ويرد يحيى حقي على ذلك بقوله ( ولا تأخذني نخوة عندئذ فأتصور أن تجريد أدب العرب من فن القصة ومن فن المسرح أيضاً تهمة بشعة لا بد من ردها دفاعا عن العرض والشرف ولو بالتمحك والتعلل بحجج واهية . يكفي العرب فخرا ديوان شعرهم العظيم . إن فن الشعر عندهم بلع بقية الفنون في جوفه فهو الموسيقى وهو التصوير وهو النحت ) . وهكذا ترون كيف تعامل قاص كبير على مستوى العالم مع هؤلاء الذين لا زالوا يرون في الغرب محتكراً لبعض أنواع التعبير الأدبي . متناسين أن تراكم الخبرة والتجربة العربية في هذا الفن بالذات قد أثمرت إبداعات عربية تفوقت على نظيرتها في أوربا ولست بصدد ذكر أسماء لأن أمنيتي أن يكون الحضور مركزين على معنى القصة الذي أرى أنه لابد من الوصول إليه . حتى يزول الالتباس لديكم بين ما ينشر أحياناً باسم القصة فيما هو لا يعدو أن يكون خواطر شعرية غير ناضجة . القصة بعيدة عن الشعر إلا في حالات شديدة الحساسية . وحتى الشعراء الذين كتبوا قصصاً أو روايات لا تلمس روح الشاعر وتعامله مع اللغة فيها لأنهم يعون أن القصة هي خبر أو كما يسمى في تراثنا العربي حكاية أو طرفة أو نادرة . فكتاب البخلاء للجاحظ مليء بالقصص التي وإن حاول إيهامنا بأنها حقيقة إلا يحيى حقي فهو يقول عن القصة بما هي أحداث ( إنما تؤخذ الأشياء لدلالتها العامة المتخلصة من قيود الزمان والظروف العارضة بل وحتى من خصائص اللغة وهي آخر قيد وأصعب قيد ينكسر . حينئذ تتوجه برسالتها إلى جميع الناس حينما وأينما أتوا من شهدها ومن لم يشهدها يستوون في فهمها والإحساس بها . حينئذ يكون لها جدواها ويكتب لها الصدق والبقاء ودوام الأثر ) ويقول في عبارة أرى أنها بالغة الأهمية ( وقد بدأت الفقرة السابقة بكلمة قول بدلا من كلمة مبدأ . فليس في الفن قواعد ثابتة صلبة كالحديد إنه زئبق كطبع الإنسان )
هكذا إذن ؟ ! لقد تذكرت هذا القول الشفاف وأنا أقرأ دراسة عنوانها ( كتابة القصة القصيرة من تأليف ( ولسن ثورنلي )