وزائرتي كأن بها حياءً ** فليس تزور إلا في الظلامِ
في جملة نقول إن باكثير تعامل مع الحمى من الخارج بعكس المتنبي الذي تعامل معها من الداخل.
ميدل ايست اونلاين
كتب ـ أحمد فضل شبلول
قليل من الشعراء هم الذين يكتبون عن لحظات الفرح والمرح والسعادة والسرور التي تمر بهم في حياتهم، وكثيرون من الشعراء هم الذين يلجأون إلى أقلامهم في حالات الهم والحزن والألم والأسى والمرض والاحتياج والعوز، لذا فقد كثرت قصائد الحزن والألم والوحدة والغربة والمرض والعلة في الشعر العربي على امتداد عصوره المختلفة.
وانتقلت هذه العدوى إلى أغانينا المعاصرة فأصبحت أغاني الهجر والسهر والأرق والفراق والقسوة والخوف والدموع والأنين والنيران والأحزان .. الخ، هي السمة الغالبة على أغانينا.
ويبدو أن الإنسان العربي جُبِلَ على التغني بحزنه والكتابة عنه وإشهاره في وجوه الآخرين، أما لحظات الفرح والسعادة فإنه في الغالب يمارسها عن طريق المعايشة، ولا يلجأ، في معظم الأحيان، إلى قلمه للتعبير عنها. ولو كان الشاعر العربي يسجل لحظات فرحه مثلما يسجل لحظات حزنه ومرضه وخوفه لوصل إلينا كم لا بأس به من القصائد التي ترصد حالة الإنسان في مواجهة الخبر السعيد، أو ترصد أحاسيسه الدفينة التي تنطلق من إسارها لحظة السعادة والسرور والبهجة والانطلاق والحبور.
ويبدو أن لحظات الفرح والسعادة يغلب عليها الطابع الجماعي، فأغاني وقصائد الأفراح على سبيل المثال تعد أغاني وقصائد جماعية، أو أنها تغنى وتنشد في وجود مجموعة من البشر يحتفلون بمناسبة سعيدة أو سارة، أما أغاني وقصائد الحزن والمرض والأسى والألم، فإنها، في الغالب، أغان وقصائد فردية يكتوي بنارها الشاعر، ثم يسكبها على الورق خوفا من أن تحرقه، وتأتي على البقية الباقية من حياته الحزينة.
ويبدو أن مرض الحمى يعد من أكثر الأمراض التي يصاب بها الشعراء. إنهم بالتأكيد يصابون ـ مثل جميع الناس ـ بأمراض أخرى كذلك، ولكنهم أمام الحمى يجيدون التعبير عنها والكتابة فيها.
وقد كتب الشاعر الراحل علي أحمد باكثير (1907 ـ 1969) عدة قصائد ومقطوعات عن الحمى منها: "في حال مرض"، "تضرع على فراش الألم"، "ألمت بي الحمى"، "دعيني أيها الحمى"، "الروح الحنون" (1) وقد وقعت جميعها في 86 بيتا. وجاءت القصائد الثلاث الأولى من البسيط، والقصيدتان الأخريان من الوافر، فضلا عن قصيدة أخوانية كتبها عمر بن محمد باكثير (ابن عم الشاعر) بعنوان "أتحسدك البواعث والخطوب" وردت في ديوان "أزهار الربى في شعر الصبا" ص 146 وكانت بمناسبة مرض الشاعر بالحمى.
وكما نعرف فإن لأبي الطيب قصيدة شهيرة عن الحمى (2) وقعت في 42 بيتا وجاءت من بحر الوافر، يقول مطلعها:
ملومكما يجل عن الملام ** ووقع فعاله فوق الكلام
وتهدف هذه القراءة إلى إجراء مقارنة أو موازنة أدبية بين حمى المتنبي وحمى باكثير.
* الحمي من الناحية الطبية
والحمى (3) ارتفاع في درجة حرارة الجسم عن حدها الطبيعي، وهي في الصباح أو في النهار تكون أقل منها في المساء أو الليل، وارتفاع درجة الحرارة في الأمراض المعدية إجراء وقائي يتخذه الجسم ضد الجراثيم المغيرة التي لا تعيش ولا تتكاثر في درجة حرارة عالية. كما أن سرعة سريان الدم الناتج عن ارتفاع الحرارة تساعد في القضاء على هذه الجراثيم، والحمي أنواع منها: حمى الملاريا، والحمى الصفراء، والحمى القرمزية، والحمى الروماتيزمية، والحمى الفحمية، والحمى المالطية، وحمى النفاس (وهي التي تصيب النفساء من عدوى أثناء ودلاتها). بالإضافة إلى حمى الأرانب، وحمى الألبان، وحمى تكساس، وحمى الدريس، وحمى القراد، وحمى المتموجة، وحمى المنطقة .. وغيرها.
وشعراؤنا في قصائدهم عن الحمى لم يحددوا ـ بطبيعة الحال ـ نوع الحمى التي أصيبوا بها، ولكنها حمَّى .. وكفى. ولئن كان تاريخ الإصابة بالحمى ـ وغيرها من الأمراض ـ مهما في التأريخ لحياة الشاعر، فإنه من الناحية الفنية قد لا يكون له أهمية تذكر سوى معرفة تطور الشاعر الفني.
* تاريخ الإصابة بالحمى
أصيب المتنبي بالحمى، وهو يعرض بالرحيل عن مصر، في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة (348 هـ) أي وعمره خمسة وأربعون عاما، وقبل وفاته بست سنوات، أما باكثير فيبدو أنه أصيب بالحمى في حياته أكثر من مرة، ولكن التاريخ المثبت على قصائده التي قالها عن الحمى في ديوان "أزهار الربى" هو 28 من ذي القعدة سنة 1344 هـ (الموافق 8 يونيو 1926) وكان في ذلك الوقت موجودا في سيؤون بحضر موت، وكان عمره لم يتعد تسعة عشر عاما (4) بنص البيت الذي يقول فيه بقصيدة "دعيني أيها الحمى":
أكاد ولم أجز تسعا وعشرا ** من الأعوام من هم أشيبُ
* حمي المتنبي
وقعت قصيدة المتنبي عن الحمى في اثنين وأربعين بيتا، إلا أننا نستطيع القول إن البداية الحقيقية للحديث عن المرض تبدأ من البيت السابع عشر حين يقول:
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ** تخب بي المطي ولا أمامي
وملَّني الفراش وكان جنبي ** يمل لقاءه في كل عامِ
قليل عائدي سقم فؤادي ** كثير حاسدي صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام ** شديد السكر من غير المدامِ
وزائرتي كأن بها حياءً ** فليس تزور إلا في الظلامِ
أما الأبيات السابقة على هذه الأبيات، فهي استعراض لمتاعبه بعامة في مصر وملوله من حياة الدعة والراحة (أتعب بالإناخة والمقام) وأنه لم يخلق إلا للسيف والقتام والسفر والتجوال، وأنه خبر الناس والحياة، فلم يجد في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام، لذا يأتي هذا الجزء السابق لحديثه عن الحمى، محملا بالكثير من التأملات والأحكام والحكم مثل:
يحب العاقلون على التصافي ** وحب الجاهلين على الوسامِ
أو ..
ومن يجد الطريق إلى المعالي ** فلا يذر المطي بلا سنامِ
ولم أر في عيوب الناس شيئا ** كنقص القادرين على التمامِ
ولم تخل هذه الأبيات من إشارات جانبية إلى كافور الأخشيدي الذي تسبب في كراهيته في الإقامة بمصر، وجلب عليه الأسى والمرض مثل:
فلما صار ود الناس خبا ** جزيت على ابتسام بابتسامِ
وصرت أشك فيمن أصطفيه ** لعلمي أنه بعض الأنامِ
ويحكي المتنبي أنه قال "كنت إذا دخلت على كافور وأنشده يضحك إليَّ ويبش في وجهي حتى أنشدته هذين البيتين، فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا فعجبت من فطنته وذكائه." (5)
وهذا اعتراف صريح من المتنبي بأنه كان يقصد كافور بالفعل عند كتابة أو إنشاد هذين البيتين، وإلا لما قال فعجبت من فطنته وذكائه.
ثم تبدأ أبيات الحمى في الظهور في فضاء القصيدة.
ويبدو أن معاناة المتنبي من كافور ومن إقامته في مصر، كانت أعتى وأسوأ من معاناته من الحمى، لذا فقد تقدمت هذه الأبيات الستة عشر على أبيات الحمى، وتحدث الشاعر، من خلالها، عن نفسه، وعن سجاياه وطبائعه التي لم يجد لها أرضا صالحة في مصر بسبب ما وجده عند كافور، ثم يبدأ بعد ذلك في الحديث عن الحمى التي هي ضد طبيعته حيث لم يعرف المبيت في الفراش كثيرا، والحمى تجبره على ذلك، وكان البيت السابع عشر:
أقمت بمصر فلا ورائي ** تخب بي المطي ولا أمامي
هو الفيصل بين الحديث عما لاقاه من عنت وصدود في مصر بعامة، ومعاملة كافور السيئة له، وبين الحديث عن الحمى الذي ألم به، وهو يستعد للرحيل عن مصر فاضطر للجلوس والبقاء بين نارين: نار كافور، ونار الحمى.
* حمي باكثير
أما الحال عند باكثير فهو جد مختلف، فالشاعر يعيش في وطنه، وعلى أرضه وبين أهله وناسه، وإن كنا سنرى فيما بعد أنه يضيق بذلك كله، ويحس أنه يعيش في غربة كالتي يعيش فيها المتنبي.
يقول باكثير في "دعيني أيها الحمى":
أرى حولي أناسا ليس فيهم ** شعورٌ لا ولا لهمُ قلوبُ
يرون المال أنفس كل شيء ** وفي الإحسان ليس لهم نصيبُ
أيضا لا يوجد كافور عند باكثير، وإن كان وصفه السابق للناس من حوله يعني أن كلهم كافور، ولكن على أية حال لا يوجد الحاكم الذي ينغص عليه حياته، ويجعله يفكر في الرحيل أو الهرب من البلد الذي يعيش فيه، لذا فإن باكثير يكتب عن الحمى مباشرة وانعكاساتها على حياته بعامة فيقول في أول مقطوعة يكتبها عن هذا المرض، وهي بعنوان "في حال مرض":
أصبحت لا أستطيع العير أركبه ** وقد أكون وعاتي الخيل مركوبي
وأصبح المشي مطلوبي وكنت وما ** قوى المدافع إلا دون مطلوبي
كأنما مسني عما بليت به ** سقم (ابن متى) تلاه ضرُّ (أيوبِ)
ونلاحظ في هذا البيت كيفية التوظيف القرآني عند باكثير، حيث (سقم ابن متى) ولعله يقصد به (نبي الله يونس الذي ابتلعه الحوت، والمذكورة قصته في القرآن الكريم، وربما يكون ذلك إشارة إلى قوله تعالى {فنبذناه بالعراء وهو سقيم} الآية 145 الصافات). (6).
أما ضر أيوب فيقصد به ما أصاب أيوب من أمراض وعلل (هرب على أثرها الصديق وجانبه الرفيق وعافه الجليس وأوحش منه الأنيس ورغب عنه أهل قريته، ورفضه خلق الله غير امرأته الرؤوم). (7).