الذهب أم الدولار
ارقام /الشرق القطرية
سعيد هلال الشريفي
يرجع العديد من المؤرخين الأوروبيين, وفي مقدمتهم البروفسور فيرديناند ليبس, من جامعة سانت غال, مآسي البشرية في العصر الراهن إلى حدثين عظيمين غيرا مجرى الحياة السائدة على سطح هذا الكوكب, بعد أن أشاعا فيها كل هذا الكم من الكوارث, نظرا لوثوق ارتباط هذه المآسي بأزمات سياسية عاصفة, وحروب مدمرة, وانهيارات مالية عاتية, وأزمات اقتصادية خانقة, وفقر مدقع في مساحات واسعة من العالم, وتصاعد مضطرد في المشاعر العنصرية ووتيرة الإرهاب, وهجرة الأدمغة نحو المناطق الأكثر جذبا واستقرارا.
الحدث الأول والأهم الذي اتسم به القرن الماضي, كان في إقدام الولايات المتحدة, كقوة عظمى صاعدة, على إنشاء النظام المالي الفدرالي الاحتياطي عام 1913 .
أما الحدث الثاني, والذي أتى كنتيجة طبيعية لما سبقه, فهو نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914, وسقوط الذهب كمعيار عالمي وحيد للعملات الرئيسة, ودخول البشرية منذ ذلك التاريخ في حمى الصراع على الثروة والنفوذ من دون أي معيار قيمة, وحتى من دون أية منظومة أخلاقية تستنير بها الأمم في علاقاتها الدولية.
لقد أثبت التاريخ, بما لا يرقى إليه الشك, إن ثمة علاقة وثيقة بين النظام المالي العالمي السائد, ومسائل السلم والحرب على سطح هذا الكوكب. تماما كما أثبت التاريخ الاقتصادي أيضا أن أسواق المال لا يضبطها إلا الذهب كمعيار قيمة, لأنه السلعة الوحيدة القادرة على لعب دور"كفة الميزان" بين تدفق المنتجات والسلع في الأسواق العالمية, وحركة السيولة النقدية في مختلف بقاع العالم, نظرا لمقدرته الفذة على لعب دور البديل بين المال والسلع في أية لحظة, وفي كل مكان من العالم.
وقد أثبت القرن التاسع عشر صحة هذه الفرضيات, الذي شهد طيلة سنواته المائة ازدهارا اقتصاديا وثباتا في أسعار صرف العملات الرئيسية من دون أية هزات, لأنه كان يعتمد الذهب كمعيار أوحد له.
تأتي أهمية نزوع البشرية منذ القدم إلى اعتماد الذهب كمعيار عالمي, من كونه قابلا لتوافق عالمي على سعر ثابت له, بشكل يسمح لكل عملة أن تجري توازنا بين كتلتها النقدية المصكوكة, واحتياطيها من الذهب. وهكذا ظلت العملات الرئيسية, طيلة القرن التاسع عشر, تحظى بتغطية متوازنة لما يعادلها من الذهب, الذي لم يكن يخضع لأية قيود عالمية في حركته عبر الحدود.
لقد حددت جميع الدول الكبرى في القرن التاسع عشر سعرا ثابتا لعملاتها, وعمرا زمنيا في مقابل الذهب, ينتهي بمجملها, باستثناء سويسرا, عام 1914.
من هنا نفهم الدوافع الحقيقية, بين إنشاء النظام المالي الفدرالي الاحتياطي عام 1913, وافتعال الأزمة التي أدت إلى نشوب الحرب العالمية الأولى بعد أقل من سنة على تأسيسه, بهدف وأد الذهب كقيمة معيارية للنشاط الإنساني, وثروات الأفراد والدول, تمهيدا لاستبدالها بالعملة الورقية الأمريكية, التي أتت اتفاقية بريتون وودز عام 1944 في نهاية الحرب العالمية الثانية, لتقره كنقد معياري لنظام مالي عالمي بديل, ودخول البشرية منذ ذلك التاريخ في نفق الحقبة الأمريكية بلا منازع.
لقد تم استبدال الذهب كمعيار عالمي بالورقة النقدية الخضراء, التي تدعي أنها مغطاة باقتصاد عملاق, مركزه في الولايات المتحدة, لكنه متشابك, من خلال الشركات والبنوك العابرة للقارات, مع جميع بلدان العالم.
نحن نعلم من التاريخ أن الإمبراطورية البيزنطية التي دامت 800 سنة, ظلت مزدهرة اقتصاديا إلى حين زوالها, بفضل اعتمادها على الذهب كمعيار ثابت لعملتها التي كانت متداولة في الأسواق العالمية, من بريطانيا مرورا بدول بحر البلطيق, وصولا إلى أثيوبيا. وكذلك كان الدينار العربي طيلة الخلافتين, الأموية والعباسية. وقد ظل متداولا لقرون عديدة, حتى في بلدان لا تقع تحت السيطرة العربية, نظرا لاستقرار سعر صرفه أمام الذهب في الأسواق التجارية العالمية.
لقد قضت الليبرالية الاقتصادية الأمريكية منذ صعودها كإمبراطورية جديدة على كل المعايير الآمنة, التي كانت تكفل الحق بالثروة لأي فرد, ولأي دولة في العالم.
ففي إسقاطها للذهب كمعيار للقيمة, واستبداله بشركات التأمين التابعة لها, والبورصات العالمية التي تدار من قبلها, أحكمت النخبة المالية الصناعية على مقدرات العالم وثرواتهم, التي لم تعد تأخذ قيمتها بما يعادلها من الذهب, بل من كتلة ورقية خضراء, تخضع لأسعار صرف متذبذبة. وهي معرضة للانهيار في أية لحطة, هي والأسواق التي تتداولها, والاقتصاد الوهمي الذي يغطيها.
إنها أكبر عملية قرصنة شهدها التاريخ منذ عام 1914, ولا تزال تجري فصولها, والعالم لا يتعظ, ويستمر بالتعامل بهذه العملة الورقية, التي تسرق جهد الملايين من البشر والدول كل يوم, في أسعار صرف, تدار على شاشات الكمبيوتر, بالريموت كونترول, من قبل وحوش المال في نيويورك.