الشاعر عبد القوى الأعلامى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالأحداثموسوعة الأعلامى الحرةأحدث الصورالتسجيلدخول

شاطر
 

  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
زهرة الفيوم
عضو لامع
عضو لامع
زهرة الفيوم

انثى
عدد الرسائل : 1043
 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 210
بلد الإقامة : الفيوم
احترام القوانين :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 111010
العمل :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Profes10
الحالة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 710
نقاط : 7382
ترشيحات : 28
الأوســــــــــمة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 222210

 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Empty
مُساهمةموضوع: تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى    تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى I_icon_minitime20/10/2012, 19:19

تبادل الأقنعة
(دراسة فى سيكولوجية النقد)

د. يحيى الرخاوى

الاهــداء
إلى أولادى وبناتى: محمد، منى، مى، مصطفى
أمِلاً أن يشرق، فى وعيهم، لهم، وللناس:
بعض ما وصلنى، من الناس، ومنهم.

مقدمة:
هذا العمل يتكون من مداخلة أساسية عن علاقة العلوم النفسية بالنقد الأدبى وهو يقدّم معارضة لفكرة أن العلوم النفسية وبالذات التحليل النفسى الكلاسيكى، أو الطب النفسى يمكن أن يكون مرجعا يقاس به أو عليه النص الأدبى نقدا، ففكرة التحليل النفسى للأدب، أو التفسير النفسى للأدب هى فكرة – مهما كانت مفيدة ومنتشرة - تحتاج إلى مراجعة. الأدب أسبق فى اكتشاف أغوار النفس من العلوم النفسية وخاصة فى صورتها الحديثة. الأوْلى أن نتكلم عن "الكشف الأدبى للنفس"، قبل التفسير النفسى للأدب، وحتى إذا تعارضا، وهو أمر وارد، فعلينا أن نحترم إبداع المبدع بقدر أكبر من الاعتداد بتنظير عالم النفس أو الطبيب النفسى، أو حتى الناقد النفسى. هذا هو ما تتناوله هذه المداخلة.
الفصل الأول يشمل مقدمة عن "إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى" وقد نشرت فى صورتها الأولى فى مجلة فصول (المجلد التاسع عدد 3، 4 سنة 1991) وحين رأيت أن أعيد نشرها مستقلة فضلت أن ألحق بها تطبيقين هما الفصلين الثانى والثالث نقداً لأعمال ديستويفسكى، آملا أن يظهر من خلال ذلك كيف نتعلم من قراءه بعض أعمال ديستويفسكى فى سيكولوجية الطفولة (نيتوتتشكا نزفانوفنا، وهامش من البطل الصغير)، ثم كيف سبق دستوفسكى إلى سبر غور أبعاد العلاقات البشرية (العلاقة بالموضوع/ بالآخر) سعيا إلى هارمونية البشر معا إلى الكون الأعظم (إيمانا)، وذلك فى الإخوة كارامازوف.
بعد انتهائى من المراجعة قبيل النشر عثرت بين أوراقى لاحقا على ما يمكن أن يجيب عن التساؤل الذى يخطر على بال القارئ بعد قراءة المتن وهو السؤال الذى يقول: إذا كان ما يسمى النقد النفسى مقولا بالتشكيك هكذا، وكان المؤلف يمارس قراءته لنصوص متنوعة نقدا منشورا متداولاً معروضا للنقاش، فمن أى موقع يمارس هذا النقد إن لم يكن يمارسه من موقع تخصصه الأول (الطب النفسى)، أو من موقع النقد الأدبى الأكاديمى؟
فى تلك الأوراق، وجدت بعض الإجابة، فجعلتها ملحقا للفصل الأول، وهى شهادة المؤلف ناقدا ضمن شهادات النقاد، حين تفضلت مجلة فصول باعتباره كذلك، وعرضت عليه أسئلة محددة عن ممارساته النقدية بين نقاد ثقاة، وذلك فى عدد فصول، المجلد التاسع - عددا 3-4 فبراير 1991.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زهرة الفيوم
عضو لامع
عضو لامع
زهرة الفيوم

انثى
عدد الرسائل : 1043
 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 210
بلد الإقامة : الفيوم
احترام القوانين :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 111010
العمل :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Profes10
الحالة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 710
نقاط : 7382
ترشيحات : 28
الأوســــــــــمة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 222210

 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى    تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى I_icon_minitime20/10/2012, 19:29

الفصل الأول
إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى
- 1-
تنويعات ما يسمى النقد النفسى
يكاد‏ ‏يجمع‏ ‏النقاد‏ ‏والدارسون‏ ‏على ‏أن‏ ‏أحدا‏ ‏لم‏ ‏يدع‏ ‏وصاية‏ ‏لعلم‏ ‏النفس‏ ‏بخاصة‏، ‏والعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏بعامة‏، على ‏الإبداع‏ ‏الأدبى‏، ‏وخلاصة‏ ‏ما‏ ‏اتفقت‏ ‏الغالبية‏ ‏عليه‏ هو".. ‏أن‏ ‏الأدب‏ ‏وعلم‏ ‏النفس‏ ‏منهجان‏ ‏متوازيان‏ ‏فى‏ارتياد‏ ‏الحقائق‏ (‏التى ‏تمثل‏ ‏هذه‏ ‏الحياة‏، ‏والتى ‏تشكل‏ ‏علاقة‏ ‏الإنسان‏ ‏بها‏).. ‏وليسا‏ ‏متداخلين‏"، ".. ‏وأن‏ ‏الميدان‏ ‏الصحيح‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تستغل‏ ‏فيه‏ ‏نتائج‏ ‏الدراسات‏ ‏النفسية‏، ‏هو‏ ‏ميدان‏ ‏النقد‏ ‏الأدبى"[1] ‏و‏ "‏أن‏ ‏الكاتب‏ ‏المبدع‏ ‏يعبر‏، ‏والعلم‏ ‏يفسر‏... ‏إن‏ ‏الإبداع‏ ‏يسبق‏ ‏الكشف‏ ‏العلمى ‏بزمان‏"[2]، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏توصية‏ ‏مناسبة‏ ‏بنسيان‏ ‏حقائق‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ (‏علم‏ ‏النفس‏) ‏تبدو‏ ‏لازمة‏ "... ‏لتحقيق‏ ‏الشرط‏ ‏الأول‏ ‏للخلق‏ ‏الأدبى"[3]. ‏وهكذا‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏الأدب‏ ‏فى ‏مستواه‏ ‏الإبداعى ‏الأول‏ ‏قد‏ ‏تخلص‏ ‏‏ ‏من‏ ‏أية ‏وصاية‏ ‏علمنفسية‏. ‏لكن‏ ‏الإشكالية‏ ‏بقيت‏ ‏دون‏ ‏حسم فى مجال ‏الإبداع‏ ‏الأدبى ‏على ‏مستوى ‏النقد‏، ‏على ‏أساس‏ ‏أن‏ ‏العملية‏ ‏النقدية‏ ‏أقل‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏تلقائية‏ ‏الإبداع‏، ‏وأنها‏ ‏أكثر‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏تعدد‏ ‏مصادر‏ ‏المعرفة‏، ‏ومن‏ ‏بينها‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏. ‏قد‏ ‏يصح‏ ‏هذا‏ ‏الظن‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏دائما‏ ‏ولا‏ ‏بنفس‏ ‏الدرجة‏ ‏مع‏ ‏تعدد‏ ‏مناهج‏ ‏النقد‏: ‏وما‏ ‏زال‏ ‏الخوف‏ ‏واجبا‏ ‏من‏ ‏تدخل‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ‏تدخلا‏ ‏معطلا‏ ‏أو‏ ‏مشوها‏، ‏خصوصا‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏بجرعة‏ ‏غير‏ ‏محسوبة‏، ‏أو‏ ‏غير‏ ‏مناسبة‏. ‏
ولكن‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الإبداع‏ ‏الأدبى ‏يسبق‏ ‏إلى ‏معرفة‏ ‏للنفس‏ ‏أبعد‏ ‏وأعمق‏ ‏من‏ ‏تلك‏ ‏المعارف‏ ‏المتضمنة‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏العلوم‏ (‏النفسية‏) ‏بشهادة‏ ‏أهلها‏[4]، ‏فأى ‏دور‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تلعبه‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏النقد‏ ‏الأدبى؟‏ ‏
الإجابة‏ ‏ليست‏ ‏سهلة‏، ‏ولكن‏ ‏المحاولة‏ ‏لازمة‏، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏مهمة‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏.‏ ‏ينبغى علينا ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏نفرق‏ ‏بين‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏، ‏والمشتغلين‏ ‏بها‏: ‏فقد‏ ‏يكون‏‏ ‏ثم مجال‏ ‏لمعطيات‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏تسهم‏ ‏به ‏فى ‏النقد‏ ‏الأدبي‏، ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى - ‏بشكل‏ ‏تلقائى - ‏أن‏ ‏المشتغلين‏ ‏بهذه‏ ‏العلوم‏ هم‏ ‏القادرون‏ ‏أساسا‏ ‏على ‏القيام‏ ‏بهذا‏ ‏الدور‏: ‏فلا‏ ‏يخفى ‏أن‏ ‏أغلب‏ ‏من‏ ‏تناول‏ ‏منهم‏ - ‏بنجاح‏ - ‏موضوع‏ ‏النقد‏ ‏الأدبى ‏كان‏ ‏له‏ ‏دور‏ ‏شخصى ‏مواز‏ ‏فى ‏تذوق‏ ‏الأدب‏، ‏وربما‏ ‏فى ‏الإسهام‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏الأدبى ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏. ‏بدءا‏ ‏من‏ ‏فرويد‏، ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نؤكد‏ ‏أن‏ ‏جماع‏ ‏معرفته‏ ‏العلمية‏، ‏مع‏ ‏قدرته‏ ‏الأدبية‏، ‏هو‏ ‏الذى ‏مكنه‏ ‏من‏ ‏خوض‏ ‏هذا‏ ‏المجال‏ ‏المتميز‏، ‏صائغا‏ ‏رؤيته‏ ‏المبدعة‏ ‏بأبجديته‏ ‏المعرفية‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏تكامل‏ ‏مناسب‏. ‏كذلك‏ ‏فإن‏ ‏شاعرية‏ ‏يونج‏ ‏ورؤيته‏ ‏ورآه‏ ‏هى ‏التى ‏سمحت‏ ‏بالفتوى ‏المضيئة‏ ‏والإسهام‏ ‏النقدى ‏الرحب‏ ‏اللذين‏ ‏تميز‏ ‏بهما‏. ‏وليس‏ ‏هناك‏ ‏مشتغل‏ ‏بالعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏يدعى ‏لنفسه‏ - ‏دون‏ ‏استعداد‏ ‏مناسب‏ ‏أو‏ ‏إعداد‏ ‏منظم‏ - ‏حق‏ ‏النقد‏ ‏الأدبى ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ "‏عالم‏" ‏فذ‏ ‏فى ‏مجاله‏. ‏وحتى ‏شهادته‏ ‏لناقد‏ "‏نفسى" ‏هى ‏رأى ‏لا‏ ‏ينبغى ‏الاعتماد‏ ‏عليه‏ (‏هكذا‏)، ‏لأنها‏ ‏ليست‏ ‏شهادة‏ ‏فى ‏فرعه‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏بمثابة‏ "‏نقد‏ ‏النقد‏": ‏وهى عملية‏ ‏أكثر‏ ‏تصعيدا‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏ألزم‏ ‏إبداعا‏. ‏ثم‏ ‏إن‏ "‏الإعداد‏ ‏المنظم‏" ‏أيضا‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يفيد‏ ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يعطى ‏حق‏ ‏النقد‏ ‏المبدع‏ ‏للمجتهد‏ ‏فيه‏، ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يفيد‏ ‏فى ‏حذق‏ ‏تطبيق‏ ‏منهج‏ ‏بذاته‏ (‏سلوكى ‏فى ‏العادة‏) ‏فى ‏دراسة‏ ‏نص‏ ‏من‏ ‏بعد‏ ‏معين‏ (‏وهذا‏ ‏ليس‏ ‏نقدا‏ ‏فى ‏ذاته‏). ‏
هكذا‏ ‏نجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏دائرى ‏محير‏: ‏فالعالم‏ ‏فى ‏الدراسات‏ ‏النفسية‏ (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسي‏) ‏ليس‏ ‏مؤهلا‏ ‏للنقد‏ ‏النفسى" ‏والناقد‏ ‏الأدبى ‏ليس‏ ‏عالما‏ ‏فى ‏النفس‏ (‏وإن‏ ‏كان‏ ‏عارفا‏ ‏بالنفس‏). ‏وهذا‏ ‏الموقف‏ ‏المحير‏ ‏ذاته‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يلزمنا‏ "‏بحوار‏ ‏ما‏" ‏بين‏ ‏النشاطين‏، ‏لعلنا‏ ‏نجد‏ ‏مخرجا‏ (‏أو‏ ‏مهربا‏) ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المأزق‏ ‏أو‏ ‏به‏. ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏سأحاوله‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المقدمة‏.‏
- 2-
إذا‏ ‏عدنا‏ ‏نقول‏: ‏إن‏ ‏الأدباء‏ "‏النقاد‏" ‏من‏ "‏هواة‏" ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏هم‏ ‏الأقدر‏ ‏على ‏القيام‏ ‏بهذا‏ ‏الدور‏ ‏الخاص‏، ‏لكان‏ ‏أوجب‏ ‏الواجب‏ ‏أن‏ ‏يقدم‏ ‏لهم‏ ‏المختصون‏ ‏الزاد‏ ‏المناسب‏ ‏الذى ‏يعينهم‏ ‏فى ‏أداء‏ ‏مهمتهم‏ ‏الصعبة‏. ‏وأول‏ ‏هذا‏ ‏الزاد‏ ‏هو‏ ‏وجوب‏ ‏مراجعة‏ ‏ما‏ ‏شاع‏ ‏بين‏ ‏العامة‏ ‏والمختصين‏ ‏حول‏ ‏ماهية‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏مجالا‏ ‏ومنهجا‏. ‏وبغير‏ ‏ذلك‏ ‏فلا‏ ‏أمل‏ ‏فى درجة‏ ‏مطمئنة‏ ‏من‏ ‏التواصل‏ ‏لتبادل‏ ‏المعارف‏ ‏ومواجهة‏ ‏المسئولية‏. ‏وقد‏ ‏تحمل‏ ‏هذه‏ "‏المراجعة‏" ‏قدرا‏ ‏من‏ ‏المفاجأة‏ ‏لا‏ ‏يتوقعه‏ ‏القارئ‏ ‏ولا‏ ‏حتى ‏الأديب‏ ‏المجتهد‏: ‏وقد‏ ‏يختلف‏ ‏حولها‏ ‏المختصون‏ ‏أشد‏ ‏الاختلاف‏: ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الاختلاف‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏هو‏ ‏الحقل‏ ‏الرائع‏ ‏المتعدد‏ ‏الثمار‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏للأدباء‏ ‏النقاد‏ ‏بانتقاء‏ ‏ما‏ ‏يساعدهم‏ ‏فى ‏مهمتهم‏ ‏التى ‏تتخطى ‏بالضرورة‏ ‏مرحلة‏ ‏الهواية‏ ‏إلى ‏ريادة‏ ‏متميزة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تضيف‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏العلوم‏ (‏النفسية‏) ‏ذاتها‏ ‏ما‏ ‏هى ‏فى ‏أشد‏ ‏الحاجة‏ ‏إليه‏ - ‏وذلك‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏إسهام‏ ‏نقدى ‏إبداعى ‏متجدد‏.‏
‏* * * ‏
بداية‏: ‏تعبير‏ "‏علم‏ ‏النفس‏" ‏يكاد‏ ‏يوحى ‏للجميع‏ ‏بأننا‏ ‏اتفقنا‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ "‏علم‏" ‏وما‏ ‏هو‏ "‏نفس‏"، ‏ومن‏ ‏ثم‏: ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏نفس‏، ‏من‏ ‏كثرة‏ ‏ما‏ ‏اقترن‏ ‏اللفظان‏ ‏أحدهما‏ ‏بالآخر‏ (‏علم‏/ ‏نفس‏). ‏غير‏ ‏أن‏ ‏حقيقة‏ ‏الأمر‏ ‏تعلن‏ ‏العكس‏ ‏تماما‏[5]: ‏فالأغلبية‏ ‏تستعمل‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏بلا‏ ‏تحديد‏ ‏جيد‏ ‏حتى ‏إننا‏ ‏لنكاد‏ ‏نتحاور‏ ‏كما‏ ‏يتحاور‏ ‏الصم‏. ‏
واقع‏ ‏المرحلة‏ ‏المعرفية‏ ‏الحالية‏ ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏ما‏ ‏هو‏ "‏نفس‏" ‏مازال‏ ‏أمرا‏ ‏غامضا‏: ‏فهو‏ ‏ليس‏ ‏مرادفا‏ ‏للروح‏ (‏من‏ ‏أى ‏منطلق‏ ‏ميتافيزيقي‏)، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏محدد‏ ‏بسلوك‏ ‏ظاهر‏ (‏تحت‏ ‏أى ‏دعاوى ‏منهجية‏)، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏مظهر‏ ‏لنشاط‏ ‏عصبى ‏جزئى (‏مع‏ ‏أى ‏تدعيم‏ ‏معملى ‏أو‏ "‏قياس‏" ‏فسيولوجي‏). ‏كذلك‏ ‏فإن‏ ‏النفس‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏بعض‏ ‏مظاهر‏ ‏نشاطها‏: ‏حيث‏ ‏اعتاد‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الناس‏ - ‏من‏ ‏بين‏ ‏العامة‏ ‏والخاصة‏ - ‏أن‏ ‏يطلقوا‏ ‏ما‏ ‏هو‏ "‏نفسى" ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏انفعالى ‏أو‏ ‏وجدانى ‏أو‏ ‏حتى ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏الشخصية‏ ‏الظاهرة‏ (‏أو‏ "‏القناع‏"). ‏فإذا‏ ‏هربنا‏ ‏إلى (‏أو‏ "‏فى"..) ‏تعريف‏ ‏غامض‏ - ‏برغم‏ ‏صحته‏ - ‏وقلنا‏ ‏إن‏ ‏النفس‏ ‏هى ‏النشاط‏ ‏الكلى ‏للمخ‏ ‏البشرى[6]، ‏لم‏ ‏ينفعنا‏ ‏شيئا‏، ‏وإن‏ ‏نفى - ‏ظاهريا‏، ‏ومن‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏ - ‏الاختزال‏ ‏التجزيئي‏. ‏على أن‏‏ ‏هذا‏ "‏النشاط‏ ‏الكلى" إنما ‏يشير‏ ‏أساسا‏ ‏إلى ‏عمليات‏ ‏التناول‏ ‏والتكامل‏ ‏والتآلف‏ ‏بين‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى (‏بما‏ ‏تشمل‏ ‏من‏ ‏سلوك‏ ‏ظاهر‏ ‏وكامن‏)، ‏وما‏ ‏يقابله‏ ‏من‏ ‏مستويات‏ ‏تنظيمية‏ ‏تركيبية‏ ‏حيوية‏ ‏مخية‏، وهو ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يقربنا‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏مفهوم‏ ‏النفس‏ ‏كما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتفق‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏أنه‏ ‏ينماول "‏مستويات‏ ‏الوعى ‏ونتاجها‏ ‏معا"‏. ‏إذن‏: ‏فما‏ ‏النفس‏ (‏عند‏ ‏الإنسان‏) ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يرادف‏ ‏ما‏ ‏يتميز‏ ‏به‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏إنسان‏، ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏نشطا‏ ‏ذهنيا وجسديا‏ ‏على ‏مختلف‏ ‏المستويات‏ ("‏معا‏"،.. ‏و‏ "‏بالتناوب‏"). ‏و‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏يتسع‏ ‏الأفق‏ ‏إلى ‏رحابة‏ ‏مزعجة‏، ‏حيث‏ ‏يشمل‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏الإنسانى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يندرج‏ ‏تحت‏ ‏المعرفة‏ ‏والوعى ‏بكل‏ ‏مستوياته ‏واحتمالاته‏ ‏واتجاهاته‏ ‏ودوافعه‏ ‏وتكثيفاته‏ ‏وولافاته‏[7]. ‏
ومع‏ ‏ذلك‏ (‏و‏لذلك‏) ‏فلا‏‏بد‏ ‏من‏ ‏تخصيص‏، ‏فهل‏ ‏هو‏ ‏ممكن؟‏ ‏
نرجىء‏ ‏الجواب‏ ‏عمدا‏ ‏ثم‏ ‏نخطو‏ ‏إلى ‏منطقة‏ ‏أخرى‏، ‏حيث‏ ‏نبحث‏ ‏كيف‏ ‏اتصف‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏المعرفى (‏العلوم‏ ‏النفسية‏) ‏بعلميته‏، ذلك‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالعلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏بعامة‏، ‏والعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏بخاصة‏، ‏يثير‏ ‏إشكالية‏ ‏لم‏ ‏تُحل ‏بعد‏. ‏‏‏أدى ‏ذلك‏ ‏إلى ‏إثارة‏ ‏قضايا‏ ‏لم‏ ‏يقتصر‏ ‏أثرها‏ ‏على ‏مدى ‏موضوعية‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏[8] (‏بالمعنى ‏التقليدى ‏المطبق‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏الطبيعية‏)، ‏بل‏ ‏امتد‏ ‏حتى ‏هدد‏ ‏بقاءها‏ ‏فى ‏حظيرة‏ ‏العلوم‏ ‏أصلا‏. ‏على ‏أننا‏ ‏إذا‏ ‏رضينا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ "‏العلم‏" ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى "‏مجموعة‏ ‏منظمة‏ ‏من‏ ‏المعارف‏" ‏فإننا‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏بالنسبة‏ ‏للعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏أننا‏ ‏أمام‏ ‏علم‏ "‏ما‏": ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏ارتأينا‏ ‏أن‏ ‏العلم‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يخضع‏ ‏لمنهج‏ ‏بذاته‏ (‏تجريبى ‏وقابل‏ ‏للإعادة‏ ‏غالبا‏)، ‏فإن‏ ‏الحلقة‏ ‏تضيق‏ ‏حتى ‏تكاد‏ ‏تستبعد‏ ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏من‏ ‏حظيرة‏ ‏العلوم‏ ‏أصلا‏ (‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏علم‏ ‏السلوك‏: ‏أنظر‏ ‏بعد‏). ‏
ما‏ ‏دام‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏ ‏فإننا‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نراجع‏ ‏الاستعمالات‏ ‏المختلفة‏ ‏لصفة‏ "‏النفسى" ‏التى ‏يستعملها‏ ‏المشتغلون‏ ‏بما‏ ‏يسمى "‏المنهج‏ ‏النفسى ‏للنقد‏ ‏الأدبى". ‏فهناك‏ ‏من‏ ‏قّدر‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يتعلق‏ "‏بالنفس‏"، ‏أو‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏ (‏ما‏ ‏يندرج‏ ‏تحت‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏العام‏) ‏أو‏ ‏ما‏ ‏يؤثر‏ ‏فى ‏نفسية‏ ‏الأديب‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏صميم‏ ‏هذا‏ ‏التخصص‏. ‏وقد‏ ‏تضيق‏ ‏الحلقة‏ ‏وتتحدد‏ ‏حتى ‏تقتصر‏ ‏على ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏بعامة‏ ‏وما‏ ‏يرتبط‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏معارف‏[9]. ‏وقد‏ ‏تزاد‏ ‏الحلقة‏ ‏ضيقا‏ ‏لتقتصر‏ ‏غالبا‏ ‏على ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏الكلاسى ‏أو‏ ‏الفرويدى ‏بخاصة‏[10]. ‏على ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏محاولات‏ ‏قد‏ ‏تواترت‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏التعريف‏ ‏والتحديد‏ ‏دون‏ ‏اتفاق‏ ‏كاف‏. ‏ومن‏ ‏ذلك‏ ‏محاولة‏ ‏قميحة‏[11] ‏أن‏ ‏يطلق‏ ‏تعبير‏ " ‏المنهج‏ ‏النفسى ‏فى ‏النقد‏" ‏بشكل‏ ‏عام‏ ‏على ‏عدة‏ ‏ألوان‏ ‏من‏ ‏النشاط‏ ‏المعرفى ‏الإبداعي‏، ‏تتعلق‏ ‏بدراسة‏ (‏أ‏) ‏كيفية‏ ‏الإبداع‏ ‏أو‏ (‏ب‏) ‏دلالة‏ ‏العمل‏ ‏الأدبى ‏على ‏نفسية‏ ‏صاحبه‏ ‏أو‏ (‏ج‏) ‏كيفية‏ ‏تأثر‏ ‏المتلقى ‏للعمل‏ ‏الأدبى ‏ومطالعاته‏. ‏
‏ ‏هكذا‏ ‏تمتد‏ ‏المساحة‏ ‏لتشمل‏ ‏دراسات‏ ‏الإبداع‏ ‏السلوكية‏ ‏من‏ ‏جانب‏، ‏وفلسفة‏ ‏الجمال‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏آخر‏. ‏
وفى ‏محاولة‏ ‏تحديد‏ ‏أخرى: ‏ميز‏ ‏عز‏ ‏الدين‏ ‏إسماعيل‏ ‏بين‏ ‏التفسير‏ ‏النفسى ‏والتفسير‏ ‏التحليلى[12] ‏على ‏أساس‏ ‏أن‏ ‏التفسير‏ ‏النفسى ‏مهتم‏ ‏أساسا‏ ‏بتشخيص‏ (‏أو‏ ‏تصنيف‏) ‏حالة‏ ‏بطل‏ ‏أو‏ ‏مبدع‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏علم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏أو‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏أو‏ ‏حتى ‏علم‏ ‏الطباع‏: ‏أما‏ ‏التفسير‏ ‏التحليلى[13] ‏فقد‏ ‏استعمله‏ ‏الناقد‏ ‏وهو‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏ترجيح‏ ‏جانب‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى (‏الفرويدى ‏حسب‏ ‏ما‏ ‏استوعبه‏) ‏عما‏ ‏سواه‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏التطبيق‏ ‏تجاوز‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏إلى ‏آفاق‏ ‏أرحب‏‏. ‏
وفى ‏محاولة‏ ‏مختلفة: ‏اقترح‏ ‏ناقد‏ ‏آخر‏[14] ‏التفرقة‏ ‏بين‏ ‏المنهج‏ ‏النفسي‏، ‏والمنهج‏ ‏النفسانى‏: ‏حيث‏ ‏خص‏ ‏المنهج‏ ‏النفسى ‏بوزن‏ ‏مدى ‏نجاح‏ ‏البواعث‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏إفراغ‏ ‏النشاط‏ ‏أو‏ ‏التعبير‏ ‏عنه‏ ‏بأى ‏صورة‏ ‏حقيقية‏ ‏أو‏ ‏مجازية‏: ‏وعلى ‏قدر‏ ‏ماتمتليء‏ ‏الصورة‏ ‏بهذا‏ ‏الباعث‏ ‏يكون‏ ‏حظ‏ ‏التعبير‏ ‏من‏ ‏الحق‏ ‏والجمال‏ ‏والقوة‏. ‏أما‏ ‏المنهج‏ ‏النفسانى ‏فهو‏ ‏الذى ‏يحاول‏ ‏فهم‏ ‏أسرار‏ ‏الأدب‏ ‏والنقد‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏نظريات‏ "‏علم‏ ‏النفس‏". ‏ورغم‏ ‏أن‏ ‏التفرقة‏ ‏واضحة‏ ‏بين‏ ‏النوعين‏ ‏فإن‏ ‏التسمية‏ ‏غير‏ ‏دالة‏ ‏عليها‏. ‏أما‏ ‏المحاولة‏ ‏ذاتها‏ ‏فهى ‏جديرة‏ ‏بأن‏ ‏تنبهنا‏ ‏إلى ‏مخاطر‏ ‏الخلط‏ ‏ونحن‏ ‏ننسب‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏نفسى ‏بالمعنى ‏الشائع‏ ‏وبالمعنى ‏الأكاديمي‏. ‏
وقد‏ ‏أوضح‏ ‏سمير‏ ‏سرحان‏[15] - ‏مواكبة‏ ‏لتمييز‏ ‏يونج‏ ‏بين‏ ‏الأدب‏ ‏النفسى ‏وأدب‏ ‏الرؤى - ‏إن‏ ‏أدب‏ ‏الرؤى ‏هو‏ ‏الذى ‏يتطلب‏ ‏خدمات‏ ‏عالم‏ ‏النفس‏.... (‏حتي‏) ‏يستطيع‏... ‏أن‏ ‏يبين‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ "‏عالم‏ ‏المخاوف‏ ‏الليلية‏، ‏والمناطق‏ ‏المظلمة‏ ‏فى ‏العقل‏" ‏ليس‏ ‏غريبا‏ ‏عنا‏ ‏تماما‏.. ‏
أما‏ ‏النوع‏ ‏الأول‏ ‏الذى ".. ‏لا‏ ‏يتجاوز‏ ‏فى ‏نشاطه‏ ‏حدود‏ ‏الوضوح‏ ‏والفهم‏ ‏النفسى" ‏فهو‏.. "‏الذى ‏يتطلب‏ ‏مجرد‏ ‏الأدوات‏ ‏التقليدية‏ ‏للنقد‏ ‏الأدبى". ‏وفى ‏هذا‏ ‏الرأى ‏حُـسن‏ ‏ظن‏ ‏بعالم‏ ‏النفس‏‏، ‏يتضمن‏ ‏استعمالا‏ ‏متجاوزا‏ ‏للكلمة‏، ‏حيث‏ ‏إن‏ ‏اليونجيين‏ "‏المبدعين‏" ‏وأمثالهم‏ ‏هم‏ ‏وحدهم‏ ‏الذين‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقوموا‏ - ‏جزئيا‏ ‏وباجتهاد‏ ‏شخصى - ‏بهذه‏ ‏المهمة‏ ‏على ‏هذا‏ ‏المستوى (‏مستوى ‏أدب‏ ‏الرؤيا‏). ‏
هكذا‏.. ‏نجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏أمام‏ ‏استعمالات‏ ‏شديدة‏ ‏التنوع‏ ‏لدرجة‏ ‏التناقض‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏نفسي‏، ‏أو‏ ‏علم‏ ‏نفسي‏، ‏أو‏ ‏أدب‏ ‏نفسي‏، ‏أو‏ ‏تحليل‏ ‏نفسي‏. ‏وليس‏ ‏على ‏الناقد‏ ‏المجتهد‏ ‏لوم‏ ‏فى ‏إجتهاده المستقل‏، ‏خاصة‏ ‏أن‏ "‏من‏ ‏يهمه‏ ‏الأمر‏" ‏من‏ ‏المشتغلين‏ ‏بالعلوم‏ ‏النفسية‏ ‏لم‏ ‏يتفقوا‏ ‏فيما‏ ‏بينهم‏ ‏على ‏معجم‏ ‏علومهم‏ ‏وأبعادها‏. ‏
‏آن‏ ‏الأوان‏ - ‏إن‏ ‏كان‏ ‏للمنهج‏ ‏النفسى ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏أو‏ ‏يتطور‏ - ‏أن‏ ‏تبذل‏ ‏المحاولات‏ ‏فى ‏إتجاه‏ ‏التوضيح‏ ‏والتجديد‏ ‏لكل‏ ‏نشاط‏ ‏معرفى ‏يقال‏ ‏عنه‏ "‏نفسى"، ‏دون‏ ‏أى ‏إلزام‏ ‏بالتماثل‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏بالاتفاق‏. ‏وبهذا‏ ‏سوف‏ ‏يجد‏ ‏أهل‏ ‏الأدب‏ - ‏على ‏المستوى ‏النقدى ‏خاصة‏ - ‏ما‏ ‏ينتقون‏ ‏منه‏ ‏فيلتزمون‏ ‏به‏. ‏وبهذا‏ ‏وحده‏ ‏يمكن‏ ‏التواصل‏ ‏فالتقدم‏: ‏علما‏ ‏بأن‏ ‏الاختلاف‏ ‏نفسه‏ ‏هو‏ ‏مطلب‏ ‏الناقد‏ ‏المبدع‏، ‏لأنه‏ ‏يعلن‏ ‏أن‏ ‏الظاهرة‏ ‏البشرية‏ ‏تُرى ‏فى ‏مجال‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ‏خاصة‏ ‏من‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏زاوية‏، ‏وعلى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مستوى‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏تتسع‏ ‏فرص‏ ‏الانتقاء‏ ‏والتوليف‏ ‏للكشف‏ ‏عن‏ ‏مستويات‏ ‏أعماق‏ ‏النص‏ ‏ودلالاته‏ ‏بأكبر‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏حرية‏ ‏الحركة‏ ‏الملتزمة‏.
إن ‏تحديد‏ ‏معالم‏ ‏هذا‏ ‏التنوع‏ ‏داخل‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏المعروف‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏مايسمى ‏بعلم‏ ‏النفس‏ ‏أو‏ ‏الدراسات‏ ‏النفسية‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏مهمة‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏. ‏
- 3 -
نبدأ‏ ‏بعلم‏ "‏الطب‏ ‏النفسى" (‏وهو‏ المجال ‏ ‏"الرسمى" لتخصص المؤلف): ‏فهو‏ ‏بوضعه‏ ‏الراهن‏ ‏ليس‏ ‏علما‏ ‏بالمعنى ‏الدقيق‏ ‏للكلمة‏: ‏إذ‏ْ ‏لم‏ ‏يرتق‏ ‏حتى ‏إلى ‏مرحلة‏ ‏العلم‏ ‏التطبيقي‏. ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏حقيقة‏ ‏الممارسة‏ ‏الطبنفسية‏ ‏ما‏ ‏زالت‏ ‏تقع‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الحرفة‏ (‏الفنية‏) ‏المفيدة‏: ‏حيث‏ ‏تعتمد‏ ‏على ‏معطيات‏ ‏إمبريقية‏، ‏وتستند‏ ‏إلى ‏اتفاقات‏ "‏مرحلية‏" ‏بين‏ ‏المشتغلين‏ ‏بها‏ ‏لاستعمال‏ "‏فروض‏" ‏أو‏ ‏نظريات‏ ‏بذاتها‏، ‏والتواصل‏ ‏بلغة‏ ‏تصنيفية‏ ‏مشتركة‏ "‏إلى ‏حد‏ ‏ما‏". ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏قابل‏ ‏للتحوير‏ ‏والتطور‏: ‏إذ‏ ‏لم‏ ‏يثبت‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏مجالات‏ ‏الممارسة‏ ‏أى ‏تفسير‏ ‏سببى ‏حاسم‏ ‏لحدوث‏ ‏ظاهرة‏ ‏المرض‏ ‏أو‏ ‏لطبيعته‏ ‏أو‏ ‏لمسيرة‏ ‏الشفاء‏ ‏منه‏. ‏لكل‏ ‏هذا‏ ‏لزم‏ ‏أن‏ ‏أؤكد‏ - ‏بخاصة‏ ‏لغير‏ ‏المختص‏ - ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏الطبنفسى ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى "‏الفن‏ ‏الحِرَفى"، وهو‏ ‏يستعمل‏ ‏كل‏ ‏المعطيات‏ ‏العلمية‏ ‏المتاحة‏ "‏كأدوات‏" ‏تشحذ‏ ‏حذقه‏ ‏ومهارته‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏يصبح‏ ‏دور‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏فى ‏النقد‏ ‏الأدبى ‏دورا‏ ‏محدودا‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏وفائق‏ ‏العطاء‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى‏. ‏وتظهر‏ ‏حدود‏ ‏هذا‏ ‏الدور‏ ‏ومخاطر‏ ‏تخطيها‏ ‏حين‏ ‏يحاول‏ ‏أديب‏ ‏ناقد‏ ‏أو‏ ‏طبيب‏ ‏مجتهد‏ ‏أن‏ ‏يمارس‏ ‏لعبة‏ "‏التشخيص‏" (‏التصنيف‏) ‏لوصف‏ ‏شخص‏ "‏أو‏ ‏شخوص‏" ‏العمل‏ ‏الأدبي‏، ‏أو‏ ‏لوصف‏ ‏شخص‏ ‏الأديب‏ ‏المبدع‏ ‏ذاته‏. ‏يأتى الخطر‏ ‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏مجرد‏ ‏تعليق‏ ‏لافتة‏ ‏التشخيص‏ ‏يبدو وكأنه‏ ‏إضافة‏ "‏علمية‏"!!، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏يثرى ‏عملية‏ ‏النقد‏ ‏الأدبي‏. ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏تجاوزا‏ ‏صريحا‏: "‏فاللفظ‏" ‏التشخيصى ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى "‏تعميم‏" ‏تختص‏ ‏به‏ "‏فئة‏" ‏بذاتها، وهذا‏ ‏يتعارض‏ ‏مع‏ "‏التفرد‏ ‏المحتم‏" ‏فى ‏كل‏ ‏شخص‏ ‏من‏ ‏شخوص‏ ‏العمل‏ ‏الأدبى‏، ‏كما‏ ‏فى ‏شخص‏ ‏مبدعه‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏، ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏مَثِّل‏ ‏أى ‏منهما‏ "‏نموذجا‏" ‏بذاته‏، ‏لما‏ ‏كانت‏ ‏ثمة‏ ‏ضرورة‏ ‏للصياغة‏ ‏الإبداعية‏ ‏أصلا‏. ‏‏ ‏أمثلة‏ ‏توضيحة‏: ‏
إن‏ ‏تشخيص‏ ‏هملت‏ ‏بأنه‏ ‏كان‏ ‏مجنونا‏، ‏دون‏ ‏تحديد‏ ‏نوع‏ ‏جنونه‏[16] ‏لا‏ ‏يعنى ‏شيئا‏ ‏أصلا‏: ‏فكلمة‏ "‏الجنون‏" ‏وحدها‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏معنى ‏علميا‏ ‏متفقا‏ ‏عليه‏، ‏بل‏ ‏إنها‏ ‏لاتعنى ‏معنى ‏شائعا‏ ‏واحدا‏: ‏وأغلب‏ ‏ما‏ ‏يشاع‏ ‏عنها‏ (‏أو‏ ‏يشع‏ ‏منها‏) ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏شذوذا‏ ‏وغرابة‏ ‏يجب‏ ‏الابتعاد‏ ‏عنهما‏ ‏طلبا‏ ‏للسلامة‏، ‏وتجنبا‏ ‏لمخاطر‏ ‏الفهم‏ ‏والمشاركة‏. ‏أما‏ ‏الندرة‏ (‏من‏ ‏التحليليين‏ ‏والوجوديين‏ ‏عادة‏) ‏التى ‏ترى ‏فى ‏الجنون‏ ‏عقلا‏، ‏فإن‏ ‏مجرد‏ "‏إعلان‏ ‏هذه‏ ‏الصفة‏ ‏التشخيصية‏ ‏لا‏ ‏يبلغنا‏ ‏شيئا‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏العقل‏" ‏الذى ‏فى ‏الجنون‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏التشخيص‏ ‏قد‏ ‏يختزل‏ ‏الظاهرة‏ ‏ويزيدها‏ ‏تجهيلا‏. ‏فإذا‏ ‏راجعنا‏ ‏احتمالين‏ ‏محددين‏ ‏لمرض‏ ‏هملت‏، ‏وهما‏ "‏النوراستانيا‏ ‏الهستيرية‏"[17] ‏والسوداوية‏[18] ‏لما‏ ‏أمكننا‏ ‏أن‏ ‏نستقبل‏ ‏رسالة‏ ‏جامعة‏ ‏مانعة‏، ‏لا‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الاستعمال‏ ‏‏ ‏التاريخى للفظين‏، ‏ولا‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏بدائلهما‏ ‏المستعملة‏ ‏حاليا‏: ‏فوصف‏ ‏السوداوية‏ ‏مثلا‏ ‏بأنها‏ "‏متى ‏تمكنت‏ ‏من‏ ‏المرء‏ ‏أظهرت‏ ‏تفكيرا‏ ‏مفرطا‏ ‏فى ‏الفعل‏ ‏المطلوب‏"[19] ‏هو‏ ‏وصف‏ ‏يسرى ‏على ‏القلق‏ ‏النفسى ‏المفرط‏، ‏وعلى ‏الرهاب‏ ‏الوسواسي‏، ‏وعلى ‏الوسواس‏ ‏الاجترارى‏، ‏و على حالات‏ ‏البارانويا‏، ‏وغير‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏يكاد‏ ‏يشمل‏ ‏معظم‏ ‏الاضطرابات‏ ‏النفسية‏. ‏
وحين‏ ‏يذهب‏ ‏جونز‏ ‏إلى ‏القول‏ ‏بأن‏ ‏هملت‏ ‏إنما‏ ‏يعانى ‏من‏ ‏العصاب‏ ‏النفسى Psychoneurosis[20] ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏يتنافى - ‏وصفيا‏ - ‏مع‏ ‏رؤيته‏ ‏شبح‏ ‏أبيه‏ ‏رأى ‏العين‏، ‏وسماعه‏ ‏صوته‏ ‏بكل‏ ذلك ‏الوضوح‏ ‏بتكرار لحوح‏[21]. ‏‏ ‏جونز‏ ‏محلل‏ ‏نفسي‏، ‏وقوله‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بأن‏ ‏العصاب‏ ‏النفسى ‏هو‏ ‏حالة‏ ‏عقلية‏ ‏يهزم‏ ‏فيها‏ ‏الشخص‏ - ‏أو‏ ‏يعاكسه‏ - ‏ذلك‏ ‏الجزء‏ ‏اللاشعورى ‏من‏ ‏عقله‏: ‏ذلك‏ ‏الجزء‏ ‏المدفون‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏ذات‏ ‏يوم‏ ‏عقل‏ ‏الطفل‏[22]، ‏هو‏ ‏قول‏ ‏صحيح‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏يميز‏ ‏مرضا‏ ‏محددا‏ ‏دون‏ ‏سواه‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الهزيمة‏ ‏الآتية‏ ‏من‏ ‏الداخل‏ ‏الطفلى (‏وغير‏ ‏الطفلى‏) ‏تحدث‏ ‏فى ‏الذهان‏ ‏والعصاب‏ ‏واضطراب‏ ‏الشخصية‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏. ‏
ولعل‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏مناسبا‏ ‏فى ‏توصيف‏ ‏جونز‏ ‏للحالة‏ ‏هو‏ ‏حديثه‏ ‏عن‏ ‏عرض‏ ‏محدد‏ ‏عنده‏ - ‏دون‏ ‏وجه‏ ‏حق‏ - ‏باعتباره ظاهرة‏ ‏مميزة‏ ‏للتشخيص‏ ‏المقترح‏: ‏ذلك‏ ‏العرض‏ ‏المسمى ‏بالتعطل‏ ‏النوعى ‏للإرادة‏ Specific abolia ‏. لا‏ ‏شك‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏العرض‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يفسر‏ ‏التناقض‏ ‏بين‏ ‏القرار‏ ‏الظاهر‏ ‏والفعل‏ ‏المؤجل‏ ‏أو‏ ‏المعطل‏ (‏قرار‏ ‏قتل‏ ‏العم‏ ‏والتردد‏ ‏فى ‏تنفيذه‏). ‏غير‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏العرض‏ ‏لا‏ ‏يصنف‏ ‏مرضا‏ ‏بذاته‏. ‏حقيقة‏ ‏أننا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعزوه‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الصراع الداخلى‏، ‏لكنه‏ ‏عرض‏ ‏شائع‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏البشرى ‏عامة‏، ‏وفى ‏مساحة‏ ‏واسعة‏ ‏من‏ ‏الأمراض‏، ‏وفى ‏بدايات‏ ‏الفصام‏ ‏بخاصة‏ (‏وسنرجع‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏بعد‏ ‏حين‏). ‏لا‏ ‏نترك‏ ‏هذه‏ ‏النقطة‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نذكر‏ ‏أن‏ ‏جونز‏ - ‏مثل‏ ‏المحللين‏ ‏بعامة‏ - ‏لم‏ ‏يبالغ‏ ‏فى ‏قيمة‏ ‏ذكر‏ ‏اسم‏ ‏المرض‏، ‏بل‏ ‏كان ذلك‏ ‏مجرد‏ ‏بداية‏ ‏لاستبعاد‏ ‏كلمة‏ "‏جنون‏"، ‏ثم‏ ‏الانطلاق‏ ‏إلى ‏تفسيرات‏ ‏تحليلية‏ "‏أوديبية‏" ‏بوجه‏ ‏خاص‏. ‏المحللون‏ - ‏خاصة‏ ‏أيام‏ "‏جونز‏" - ‏لا‏ ‏يحبون‏ ‏الخوض‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ "‏جنون‏"، ‏ولا‏ ‏يزعمون‏ ‏اهتمامهم‏ ‏بهذه‏ "‏المنطقة‏" ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى‏. ‏يبدو‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏إشارة‏ ‏جونز‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏مجرد‏ ‏تصوير‏ ‏حالة‏ ‏هملت‏ ‏على ‏أنها‏ ‏حالة‏ ‏جنونية‏ ‏يكفى ‏لأن‏ ‏نصرف‏ ‏انتباهنا‏ ‏عنه‏، ‏فلا‏ ‏نتعاطف‏ ‏معه‏، ‏ولا‏ ‏يثير‏ ‏اهتمامنا‏ ‏حتى ‏النهاية‏ (‏كما‏ ‏هو‏ ‏الأمر‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏أوفيليا‏ ‏التى ‏جُنِّتْ جنونا صريحاً لا لبس فيه‏). ‏هذا‏ ‏الرأى ‏يكاد‏ ‏لا‏ ‏يعلن‏ ‏إلا‏ ‏جهلنا‏ ‏بالجنون‏، ‏وخوفنا‏ ‏منه‏، ‏ومن‏ ‏لغته‏ ‏المثيرة‏ ‏الدالة‏ ‏المتحدية‏ ‏أبدا‏. ‏إن واقع‏ ‏الأمر‏ هو ‏أن‏ ‏الناقد‏ ‏المبدع‏، ‏من‏ ‏منظور‏ ‏نفسى ‏على ‏وجه‏ ‏التحديد‏، ‏لايمكن‏ ‏أن‏ ‏يضيف‏ ‏شيئا‏ ‏ذا‏ ‏قيمة‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏مغامرة‏ ‏الخوض‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ "‏جنون‏" ‏وما‏ ‏يعادله‏ ‏من‏ ‏رؤى ‏وصور‏، ‏إذن‏، ‏فعدم‏ ‏التعاطف‏ ‏مع‏ ‏الجنون‏ ‏غير‏ ‏مطروح‏ ‏أصلا‏، ‏لا‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏هملت‏، ‏ولا‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏أوفيليا‏. ‏
هكذا‏ ‏نرى كيف ‏أن‏ المحاولاته‏ ‏التشخيصية‏ ‏لحالة‏ ‏هملت‏ ‏لم‏ ‏تُـُضف‏ ‏شيئا‏، ‏بل‏ ‏شوهت‏ ‏أشياء‏ ‏وكادت‏ ‏تطمس‏ ‏أخرى‏. ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏تجاوز‏ ‏الناقد المستهلم للطب النفسى التشخيص‏ ‏إلى مستوى ‏المعايشة‏ ‏والاستعانة‏ ‏بأبعاد‏ ‏معرفية‏ (‏نفسية‏) ‏أخرى‏‏، ‏فإنه‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏أقدر‏ ‏على ‏إبداع‏ ‏نقدى ‏فنى ‏جيد‏، ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏مما‏ ‏يندرج‏ ‏تحت‏ ‏التفسير‏ ‏النفسى ‏بالمعنى ‏الشائع‏.
‏* * * ‏
يندرج‏ ‏تحت‏ ‏أحادية‏ ‏النظرة‏ ‏والتجزىء‏ ‏نتيجة‏ ‏لاستعمال‏ ‏لافتات‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏تشخيص‏ ‏حالة‏ ‏ديستويفسكى ‏السابقة‏ ‏على ‏ظهور‏ ‏الصرْع‏ ‏على ‏أساس‏ ‏أنها‏ ‏حالة‏ "‏نوبات‏ ‏هستيرية‏"، ‏كما‏ ‏ذهب‏ ‏فرويد‏، ‏ليفسر‏ ‏بذلك‏ ‏معالم‏ ‏المنطقة‏ ‏المشتركة‏ ‏بين‏ ‏ديستويفسكى ‏وأبطال‏ ‏قصصه‏ (‏وخصوصا‏ ‏الإخوة‏ ‏كرامازوف‏): ‏فقد‏ ‏رأى ‏فرويد‏ ‏أنه‏ "‏قد‏ ‏كانت‏ ‏لهذه‏ ‏النوبات‏ ‏دلالة‏ ‏الموت‏: ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏مبعثها‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الموت‏، ‏كما‏ ‏كانت‏ ‏تتضمن‏ ‏حالات‏ ‏من‏ ‏السبات‏ ‏والنعاس‏. "‏وقد‏ ‏أصابه‏ ‏هذا‏ ‏المرض‏ ‏فى ‏البداية‏ ‏عندما‏ ‏كان‏ ‏لا‏ ‏يزال‏ ‏صبيا‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏حالة‏ ‏من‏ ‏السوداوية‏ ‏المفاجئة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏أساس‏ ‏لها‏، ‏فكان‏ ‏يشعر‏ - ‏كما‏ ‏أخبر‏ ‏هو‏ ‏صديقه‏ ‏سولييف‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ - ‏كأنه‏ ‏سيموت‏ ‏على ‏التو‏... ‏الخ‏[23]. ‏ثم‏ ‏يذهب‏ ‏فرويد‏ ‏إلى ‏تفسير‏ ‏هذه‏ ‏الحالات‏ ‏بأنها‏ ‏تدل‏ ‏على ‏الاتحاد‏ ‏مع‏ ‏شخص‏ ‏ميت‏، ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏قد‏ ‏مات‏ ‏حقا‏ ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏ما‏ ‏يزال‏ ‏حيا‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏المريض‏ ‏يرجو‏ ‏له‏ ‏الموت‏. ‏والحالة‏ ‏الثانية‏ - ‏كما‏ ‏يرى ‏فرويد‏ - "‏أكثر‏ ‏أهمية‏: ‏إذ‏ ‏تحمل‏ ‏النوبات‏ ‏عندئذ‏ ‏معنى ‏العقاب‏.." ‏ويؤكد‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏أن‏ ‏الشخص‏ ‏الآخر‏ ‏بالنسبة‏ ‏للصبى ‏هو‏ ‏فى ‏العادة‏ ‏أبوه‏، ‏وأن‏ ‏النوبة‏ (‏التى ‏تسمى ‏هستيرية‏) ‏هى، ‏مِن‏ ‏ثَمَّ‏، ‏عقاب‏ ‏ذاتى ‏على ‏رغبة‏ ‏الموت‏ ‏لأب‏ ‏مكروه‏: ‏فديستويفسكى ‏- من وجهة نظر فرويد- يعانى ‏من‏ ‏الشعور‏ ‏بالذنب‏... ‏الخ‏. ‏ومن‏ ‏هذا‏ ‏المنطق‏ ‏يفسر‏ فرويد ‏عدوانية‏ ‏شخوص‏ ‏روايات‏ ‏ديستويفسكى ‏وإجرامهم‏، ‏وكذا‏ ‏سادية ديستويفسكى‏ ‏الخفية‏، ‏المتناقضة‏ ‏مع‏ ‏رقته‏ (‏وماسوشيته‏) ‏الظاهرة‏.. ‏الخ‏. ‏
هذا‏ ‏كله‏ ‏تعسف‏ ‏لا‏ ‏يؤيده‏ ‏أى ‏قدر‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏العلمية‏ ‏بتشخيص‏ ‏هذه‏ ‏النوبات‏ "‏الصرْعية‏"، ‏وإن‏ ‏اختلفت‏ ‏مظاهرها‏ ‏عن‏ ‏الشائع‏ ‏عن‏ ‏الصرع‏ ‏الحركى ‏العام‏: ‏فهذه‏ ‏النوبات‏ ‏قد‏ ‏وصفت‏ ‏بدقة‏ ‏بحيث‏ ‏تشير‏ ‏مباشرة‏ ‏إلى ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏سوى "‏نوبات‏ ‏صغرى"، ‏و‏"‏نوبات‏ ‏إغفائية‏"، ‏و‏"‏نوبات‏ ‏سوداوية‏".. ‏وكلها‏ ‏أنواع‏ ‏وتباديل‏ ‏مما‏ ‏هو‏ ‏صرع‏ ‏فعلا‏: ‏فليس‏ ‏الصرع‏ ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏فقد‏ ‏الوعى ‏والتشنج‏ ‏الحركي‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏مداه‏ ‏قد‏ ‏امتد‏ ‏ليشمل‏ ‏مساحة‏ ‏من‏ ‏السلوك‏ ‏وأشكالا‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏تكاد‏ ‏لا‏ ‏تحصى[24]. ‏والشعور‏ ‏بالموت‏، ‏والخوف‏ ‏منه‏ ‏قبيل‏ ‏النوبة‏، (‏وقبيل‏ ‏النوم‏، ‏كما‏ ‏ذكر‏ ‏ديستويفكى ‏لأخيه‏ ‏أندريا‏) ‏هو‏ ‏إعلان‏ ‏مباشر‏ ‏للطبيعة‏ ‏البشرية‏ ‏التى ‏تظهرها‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ "‏الطبيعة‏ ‏الصرعية‏". ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏النقلة‏ ‏المفاجئة‏ ‏التى ‏يحدثها‏ ‏النشاط‏ ‏الصرعى ‏تعلن‏ ‏التغير‏ ‏النوعى ‏المؤقت‏ ‏من‏ ‏تنظيم‏ ‏وعى ‏بذاته‏ ‏إلى ‏تنظيم‏ ‏آخر‏ (‏أو‏ "‏لا‏ ‏تنظيم‏" ‏لحظى‏): ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏الموت‏ (‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعرفه‏ ‏فنخاف‏ ‏منه‏ ‏رأى ‏العين،‏ ‏فالموت‏ ‏الحقيقى ‏غير‏ ‏قابل‏ "‏للمعرفة‏" ‏فى ‏حدود‏ ‏أدواتنا‏ ‏المحدودة‏). ‏إذن‏، ‏فالتفسيرات‏ ‏التى ‏بنيت‏ ‏على ‏تصور‏ ‏رمزى ‏لمعنى ‏الإغماء‏، ‏وتفسير‏ "‏تثبيتى" ‏لمعنى ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الموت‏... ‏الخ‏. ‏هى تفسيرات غير صحيحة حيث لا تتفق مع الممارسة الإكلينيكية الفعلية، حتى فى زمن فرويد‏. ‏
على ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏ينبغى ‏ألا‏ ‏يعنى ‏أنى ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أختزل‏ ‏بدورى ‏حالات‏ (‏نوبات‏) ‏ديستويفسكى ‏إلى "‏مرض‏ ‏الصرع‏" ‏بمختلف‏ ‏أشكاله‏، ‏لأطرد‏ ‏كل‏ ‏احتمال‏ ‏للربط‏ ‏بين‏ ‏ظاهرة‏ ‏المرض‏ ‏وفيض‏ ‏الإبداع‏ ‏عند‏ ‏ديستويفسكى" ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏: ‏لأنى ‏حاولت‏ ‏فعلا‏ ‏أن‏ ‏أبين‏ ‏دور‏ ‏النشاط‏ ‏المكافيء‏ ‏للصرع‏ ‏من‏ ‏منظور‏ ‏بنائى ‏فى ‏وجهه‏ ‏الإيجابى" ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أعان‏ ‏ديستويفسكى - ‏فى ‏تصورى - ‏على ‏فيض‏ ‏إبداعه‏.
نفس‏ ‏الاتجاه‏ ‏التشخيصى ‏قد‏ ‏حاوله‏ ‏بعض‏ ‏النقاد‏ ‏والأطباء‏ ‏على ‏المستوى ‏المحلى" ‏فقد‏ ‏قدم‏ ‏كاتب‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏تشخيصا‏ ‏لحالة‏ "‏عمر‏ ‏الحمزاوى" ‏بطل‏ ‏شحاذ‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏[25]، ‏وحالة‏ ‏صلاح‏ ‏جاهين‏ (‏الفرحانقباضية‏) ‏فى ‏رباعياته‏ ‏خاصة‏[26]، ‏و‏ "‏الغبى" ‏لفتحى ‏غانم‏[27]. ‏وكان‏ ‏أكثر‏ ‏هذه‏ ‏الدراسات‏ ‏الثلاث‏ ‏دلالة‏ ‏هى ‏دراسة‏ ‏رباعيات‏ ‏جاهين‏، ‏ربما‏ ‏لأنها‏ ‏كانت‏ ‏تصف‏ ‏حالة‏ ‏لا‏ ‏مرضا‏. ‏أما‏ ‏دراسة‏ ‏مرض‏ ‏عمر‏ ‏الحمزاوى ‏فى "‏الشحاذ‏"، ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏الاستهلال‏ ‏بأنها‏ ‏دراسة‏ ‏لمحتوى قصة‏ ‏بمفهوم‏ "‏كلاسيكى" ‏للصحة‏ ‏والمرض‏، ‏فإن‏ ‏رص‏ ‏الأعراض‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏ ‏للاستدلال‏ ‏على ‏أعراض‏ ‏مرض‏ ‏الاكتئاب‏ ‏المتخلَّلْ‏ ‏بلحظات‏ ‏الهوس‏ ‏كان‏ ‏تسطيحا‏ ‏برغم‏ ‏دقته‏. ‏وأعترف‏ ‏الآن‏ (‏أعنى ‏أعلن‏ ‏اعترافي‏) ‏أنى ‏لم‏ ‏أضف‏ ‏بهذه‏ ‏الدراسة‏ ‏جديدا‏ ‏للنقد‏ ‏الأدبى‏، ‏وإن‏ ‏أفادت‏ ‏الدراسة‏ "‏بعض‏" ‏صغار‏ ‏الأطباء‏ ‏فى ‏تفهمهم‏ ‏لمرض‏ ‏الاكتئاب‏. ‏وأكثر‏ ‏بعدا‏ ‏عن‏ ‏الصواب‏ ‏كان‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏دراستى لرواية‏ "‏الغبى" ‏لفتحى ‏غانم‏ ‏بشأن‏ ‏قياس‏ ‏العمل‏ ‏بالمقياس‏ ‏التقليدي‏. ‏ولا‏ ‏يخفف‏ ‏من‏ ‏الخطأ‏ - ‏إلا‏ ‏قليلا‏ - ‏ما‏ ‏أعلنته‏ ‏تلك الدراسة‏ ‏منذ البداية من‏ ‏أنه‏ "... ‏لولا‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ (‏مثل ‏ذكر‏ ‏القياسات‏ ‏النفسية‏ ‏تحديدا‏، ‏ونقص‏ ‏قدرات‏ ‏النمو‏ ‏مباشرة‏... ‏الخ‏) - ‏لوجدنا‏ ‏لها‏ ‏مخرجا‏ ‏رمزيا‏، ‏ولأمكن‏ ‏اعتبارها‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏الدراسات‏ ‏التى ‏تستنطق‏ ‏مالا‏ ‏ينطق‏، ‏وتناقش‏ ‏من‏ ‏لا‏ ‏يفهم‏... ‏الخ‏"[28]. ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النقد‏ لرواية الغبى ‏ظهر‏ ‏وكأنه‏ ‏يصحح‏ ‏ورقة‏ ‏إجابة‏ ‏طالب‏، ‏لا‏ ‏يعايش‏ ‏عمق‏ ‏وعى ‏كاتب‏.[29] ‏والأمر‏ ‏نفسه‏، ‏أو‏ ‏قريب‏ ‏منه‏، ‏أو‏ ‏مزيد‏ ‏عليه‏، ‏ورد‏ ‏فى ‏دراسة‏ ‏طبيب‏ ‏آخر‏ ‏لمسرح‏ ‏اللامعقول‏[30] ‏وبالنسبة‏ ‏للنقاد‏، ‏فإن‏ ‏النويهى[31] ‏والعقاد‏[32] ‏إستعملا‏ ‏اللغة‏ ‏التشخيصية‏ ‏فى ‏نقدهما‏ ‏النفسى ‏لأبى ‏نواس‏ ‏على ‏سبيل‏ ‏المثال‏. ‏وفى ‏حين‏ ‏استعمل‏ ‏الأول‏ ‏ألفاظ‏ ‏المرض‏ ‏والانحراف‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏، ‏اكتفى ‏الثانى ‏بوصف‏ "‏حالة‏ ‏كذا‏" ‏و‏ "‏لازمة‏ ‏كيت‏" ، ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏تشخيصه‏ ‏لمرض‏ ‏بذاته‏. ‏وسوف‏ ‏أعود‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الأعمال‏ ‏مرة‏ ‏ثانية‏.‏
أوردنا‏ ‏هذه‏ ‏الأمثلة‏ ‏العالمية‏ ‏والمحلية‏ ‏لنرى ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏النزعة‏ ‏إلى ‏التشخيص‏ ‏المبنية‏ ‏على ‏ ‏الطب‏ ‏النفسى إن كانت‏ ‏تفيد‏ ‏الطبيب‏ ‏فى التعرف على‏ ‏الظاهرة‏ ‏المرضية‏ فهى أقل نفعا ‏للأديب أو الناقد، إن لم تضرهما أو تعوقهما.
‏- 4 -
‏الطب النفسى
‏أقرب‏ "‏العلوم‏" ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏طب‏ ‏نفسي‏، ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏تجاوزا‏ "‏علم‏" ‏السيكوباثولوجى[33]: ‏وهو‏ ‏نشاط‏ ‏معرفى ‏يتعلق‏ ‏أساسا‏ ‏بعملية‏ ‏تكوين‏ ‏الأعراض‏ ‏فى ‏أثناء‏ ‏تطور‏ ‏المرض‏. ‏لم‏ ‏يتفق‏ ‏المختصون‏ ‏على ‏طبيعة‏ ‏أو‏ ‏حدود هذا العلم‏[34]. ‏وقد‏ ‏وضعت‏ ‏له‏ ‏تعريفا‏ ‏يناسب‏ ‏مرحلة‏ ‏المعرفة‏ ‏الحالية‏، ‏و يتفق مع التزامى ‏بالفكر‏ ‏التطورى ‏الدورى" ‏وهو‏ ‏تعريف‏ ‏يشمل‏ ‏البعد‏ ‏الطولى ‏التوليدى ‏والغائى ‏معا‏، ‏كما‏ ‏يغطى ‏البعد‏ ‏العرضى ‏التركيبى ‏البنائى". ‏ ‏إنه‏":.... ‏العلم‏ ‏الذى ‏يبحث‏ ‏فى ‏أصول‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏وكيفية‏ ‏تكوين‏ ‏الأعراض‏ ‏وما‏ ‏تعنيه‏، كما يبحث فيما‏ ‏يرتبط‏ ‏بذلك‏ ‏من‏ ‏طبيعة‏ ‏تكوين‏ ‏النفس‏ ‏البشرية‏ ‏وبخاصة‏ ‏فى أثناء‏ ‏نموها،‏ ‏أو‏ ‏فى ‏أثناء‏ ‏اضطرابها‏ ‏وتفكك‏ ‏مكوناتها‏، ‏وأخيرا‏ ‏فى ‏أثناء‏ ‏علاجها‏، ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏تباعد‏ ‏أركانها‏ ‏وإعادة‏ ‏تنظيمها‏ ‏معا‏. ‏
هذا‏ ‏التعريف‏ ‏يحدد‏ ‏كيف‏ ‏أن هذا العلم‏ ‏ينتمى ‏إلى ‏الدراسة‏ ‏الدينامية‏ ‏والتركيبية‏، و‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏ ‏ينتمى ‏ ‏إلى ‏التاريخ‏ ‏الطبيعى Natural History: ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏علم‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏فصله‏ ‏عن‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏العميقة‏، ‏التى ‏تواكب‏ ‏مراحل‏ ‏التدهور‏ ‏وأطوار‏ ‏إعادة‏ ‏البناء‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏. ‏لذلك‏ ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏لا‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏رصد‏ ‏الأعراض‏ ‏الظاهرة‏، ‏أو‏ ‏تسجيل‏ ‏المعلومات‏ ‏المستبطنة‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏النتاج‏ ‏المباشر‏ ‏لتطبيق‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏فى ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏. ‏وهو‏ ‏يتخطى ‏الملاحظة‏ ‏الطرفية‏ (‏دون‏ ‏إهمالها‏)، ‏ولا‏ ‏يكتفى ‏لا‏ ‏بالملاحظة‏ ‏للرصد‏، ‏ولا‏ ‏بالاستبطان‏ ‏والتذكر‏، ‏حيث‏ ‏يعتمد‏ ‏على "‏الخبرة‏ ‏المباشرة‏ ‏الكلية‏، ‏القادرة‏ ‏على ‏الاختراق‏ ‏واستيعاب‏ ‏المعطى ‏وإعادة‏ ‏التركيب‏".[35]. ‏هذه‏ ‏الطريقة‏ ‏تعتمد‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏كبير‏ ‏على "‏شخصية‏ ‏الباحث‏: ‏نوعها‏ ‏وخبرتها‏، ‏وتجربتها‏ ‏ومعاناتها‏، ‏ومدى ‏وعيها‏"[36]. ‏
وقد‏ ‏عرجت‏ ‏إلى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏منهج‏ ‏الدراسة‏ ‏المحورى ‏لهذا‏ ‏العلم‏ ‏لأنى ‏أراه‏ ‏منهجا‏ ‏موازيا‏ - ‏بل‏ ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏مماثلا‏ - ‏للمنهج‏ ‏المتبع‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏الخلق‏ ‏الفنى ‏والنقد‏ ‏الإبداعى [37]. ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏موضوع‏ ‏الفحص‏ ‏والدراسة‏ ‏مريضا‏، ‏شمل‏ ‏هذا‏ ‏المنهج‏ "‏المواجهة‏ ‏والمعاناة‏ ‏والإثارة‏ ‏والتقمص‏ (‏والتمثل‏) ‏والاختراق‏ ‏والتخلخل‏ ‏الموازى ‏والعودة‏ ‏وإعادة‏ ‏التوازن‏"، ‏ثم‏ ‏التعبير‏ ‏والتنظير‏. ‏المريض هنا يعتبر "نصًّا بشرياً" قابلا للنقد من خلال فروض هذا العلم، ‏أما إذا‏ ‏كان‏ ‏موضوع‏ ‏الفحص‏ ‏نصا‏ ‏أدبيا‏ ‏واتّبَعَ‏ ‏المنهج‏ ‏نفسه‏، ‏إذن‏ ‏لأنتج‏ ‏إبداعا‏ ‏نقديا‏ (‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏نفسيا‏). ‏وهكذا يتفق علم السيكوباثولوجى‏ ‏مع‏ ‏النقد‏ ‏الأدبى ‏منهجا‏ ‏ويختلف‏ ‏معه‏ "‏مادة‏" (‏ونتاجا‏ ‏طبعا‏).‏
‏علم السيكوباثولوجى
علم‏ ‏السيكوباثولوجى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏يختلف‏‏ ‏عما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏بالمعنى ‏الشائع‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏إنه‏ ‏معرفة‏ ‏دائمة‏ ‏النمو‏، ‏فائقة‏ ‏المرونة‏: ‏فمعطياته‏ ‏السابقة‏ ‏تكاد‏ ‏تكون‏ ‏إطارا‏ ‏عاما‏ ‏لمسيرة‏ ‏دائمة‏ ‏التغير‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏دائم‏ ‏التجدد‏. ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏اشتقاق‏ ‏اسمه‏ (‏باثولوجى = ‏علم‏ ‏المرض‏) ‏يقصره‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مرض‏، ‏فإن‏ ‏وجهه‏ ‏الآخر‏ - ‏بنفس‏ ‏منهجه‏ - ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يدرُس‏ ‏الإبداع‏، ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏نقيض‏ ‏العملية‏ ‏المرضية‏ (‏وذلك‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏أنى ‏ضمنت‏ ‏تعريف‏ ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى ‏الجانب‏ ‏المختص‏ ‏بالنمو‏ ‏وإعادة‏ ‏التنظيم‏) ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏المقصود‏ ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى ‏هو‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏العملية‏ ‏التى ‏تتحور‏ ‏بها‏ ‏البنية‏ ‏السوية‏ ‏إلى ‏بنية‏ ‏مريضة‏، ‏بما‏ ‏يترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏ظهور‏ ‏أعراض‏، ‏فإن‏ ‏التركيز‏ ‏فى ‏العلم‏ ‏المقابل‏[38] (‏الوجه‏ ‏الآخر‏ ‏للسيكوباثولوجي‏) ‏يكون‏ ‏على ‏العملية‏ ‏البنائية‏ ‏التى ‏تتحور‏ ‏بها‏ ‏البنية‏ ‏المتلقية‏ ‏المستوعبة‏ ‏إلى ‏بنية‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏إعادة‏ ‏التنظيم‏، ‏بما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏ظهور‏ ‏الناتج‏ ‏الإبداعى [39]. ‏وبألفاظ‏ ‏أخرى‏: إن‏ ‏دراسة‏ ‏الإبداع‏ ‏الأدبي‏، ‏بمنهج‏ ‏فينومينولوجي‏، ‏مع‏ ‏استعمال‏ ‏أبجدية‏ ‏نفسية‏ ‏منتقاة‏ ‏من‏ ‏مختلف‏ ‏المصادر‏، ‏وتخليق‏ ‏العمل‏ ‏الإبداعى ‏فى ‏صورة‏ ‏نقدية‏ ‏جديدة‏، ‏هو‏ ‏ما‏ ‏أعده‏ ‏الوجه‏ ‏المقابل‏ ‏لعلم‏ ‏السيكوباثولوجى[40].‏ ‏أعلن‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الموقع‏ ‏أن‏ ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى ‏كما‏ ‏أقدمه‏ ‏هنا‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏له‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏ألوان‏ ‏نشاط‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏المعاصر‏ ‏مكان‏ ‏لائق‏. ‏وعلى ‏هذا‏ ‏فإن‏ ‏وجه‏ ‏الشبه‏ ‏بين‏ ‏النقد‏ ‏الأدبى ‏من‏ ‏المنطلق‏ ‏الفينومينولوجى ‏بأبجدية‏ ‏نفسية‏ ‏وبين‏ ‏السيكوباثولوجى ‏لا‏ ‏يعلن‏ ‏ضمنا‏ ‏أن‏ ‏أغلبية‏ ‏الاطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏قد‏ ‏اكتسبوا‏ ‏الأداة‏ ‏المناسبة‏ ‏لأى ‏من‏ ‏النشاطين‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏واقع‏ ‏الأمر‏ ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏هو‏ ‏الاستثناء‏[41]. ‏ولو‏ ‏أننا‏ ‏راجعنا‏ ‏المثالين‏ ‏السابقين‏ (‏هملت‏، ‏ديستويفسكي‏) ‏بمقياس‏ ‏السيكوباثولوجى ‏لنقارن‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏المقياس‏ ‏والبعد‏ ‏التشخيصى ‏السالف‏ ‏الذكر‏، ‏لأمكن‏ ‏معرفة‏ ‏مستويى ‏الدراسة‏ ‏المشار‏ ‏إليهما‏ (‏أى ‏مستوى ‏التشخيص‏، ‏ومستوى ‏السيكوباثولوجى‏). ‏ولكن‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نكمل‏ ‏استعراض‏ ‏بقية‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالعلوم‏ ‏النفسية‏. ‏
- 5 -
تحت‏ ‏عنوان‏ "‏علم‏ ‏النفس‏" ‏نقابل‏ ‏ثلاثة‏ ‏أنواع‏ ‏من‏ ‏النشاط‏ ‏المعرفى‏، ‏لكل‏ ‏منها‏ ‏علاقة‏ ‏مختلفة‏ ‏بموضوعنا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المقدمة‏. ‏
‏1 - علم‏ ‏السلوك‏ Behaviourology[42]: ‏هو‏ ‏العلم‏ ‏المختص‏ ‏بدراسة‏ ‏ظاهر‏ ‏السلوك‏، ‏دراسة‏ ‏دقيقة‏ ‏مقننة‏ ‏ومحددة‏، ‏بمعطيات‏ ‏كمية‏ ‏قابلة‏ ‏للمقارنة‏ ‏وللتثبت‏ ‏بالإعادة‏. ‏وهو‏ ‏بذلك‏ ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إلى ‏مفهوم‏ ‏العلم‏ ‏الحديث‏ ‏حتى ‏ليحق‏ ‏لأهله‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لهم‏ ‏معمل‏ ‏محدد‏ ‏المعالم‏ ‏مثل‏ ‏معامل‏ ‏العلوم‏ ‏الطبيعية‏. هذا‏ ‏العلم‏ - ‏فى ‏الحدود‏ ‏التى ‏رسمها‏ ‏لنفسه‏ - ‏قد‏ ‏أجاب‏ ‏عن‏ ‏أسئلة‏ ‏مهمة‏ ‏فى ‏موضوعنا‏ ‏هذا‏: ‏وذلك‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ "‏بما‏ ‏يتميز‏ ‏به‏ ‏سلوك‏ ‏المبدع‏"، ‏أو‏ "‏ما‏ ‏هو‏ ‏فى ‏المتناول‏ ‏من‏ ‏عملية‏ ‏الإبداع‏"، ‏أو‏ "‏الدراسة‏ ‏التحليلية‏ ‏لمحتوى ‏الناتج‏ ‏الإبداعى". ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏لا‏ ‏يغطى ‏المفهوم‏ ‏الإبداعى (‏الفني‏) ‏لنشاط‏ ‏النقد‏ ‏الأدبي خاصة‏، ‏برغم‏ ‏أنه‏ ‏يثرى ‏الأبجدية‏ ‏النفسية‏ ‏بما‏ ‏يزيده‏ ‏من‏ ‏مساحة‏ ‏رؤيتنا‏ ‏للعمل‏ ‏الفني‏، ‏وما‏ ‏يضيفه‏ ‏من‏ ‏أبعاد‏ ‏وصفية‏. ‏النقد‏ ‏الأدبى ‏بما‏ ‏هو‏ ‏إبداع‏ ‏تال‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يستفيد‏ ‏من‏ ‏الأرضية‏ ‏المعرفية‏ ‏التى يشارك‏ ‏فى ‏تنميتها‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ (‏علم السلوك‏): ‏لكن‏ ‏الإغراء‏ ‏الخطر‏ ‏يظهر‏ ‏حين‏ ‏يصبح‏ ‏علم‏ ‏السلوك‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏النموذج‏ ‏الأمثل، أو الأوحد، المطروح‏ ‏على ‏النقد‏ ‏الأدبى ‏فى ‏محاولته‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ "‏علما‏" ‏[43]. ‏
‏2 - ‏على ‏أقصى ‏الطرف‏ ‏الآخر‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ (‏السلوك‏) ‏نجد‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى "‏علم‏ ‏نفس‏ ‏اللاوعى" - ‏وقد‏ ‏فضلت‏ ‏هذا‏ ‏الاسم‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏الاسم‏ ‏الشائع‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏المعرفى ‏وهو‏ "‏التحليل‏ ‏النفسى". ‏لأوكد‏ "‏مجال‏" ‏النشاط‏ ‏الذى ‏يقول‏ ‏به‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏محتوى" ‏المادة‏" التى يدرسها، ‏وطريقة‏ ‏تناولها لها. ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نُرجع‏ ‏بداية‏ ‏ذيوع‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏المعرفى ‏إلى ‏سيجموند‏ ‏فرويد‏ ‏ومن‏ ‏تبعه‏ (‏وليس‏ ‏من‏ ‏انشق‏ ‏عنه‏، ‏أو‏ ‏تجاوزه‏، ‏كما‏ ‏هو‏ ‏سائد‏). ‏علم‏ ‏نفس‏ ‏اللاوعى هذا ‏شديد‏ ‏الإغراء‏ ‏شديد‏ ‏الخطر‏، ‏يحمل‏ ‏من‏ ‏التحدى ‏والتناقضات‏ ‏مالا‏ ‏سبيل‏ ‏لحصره‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المقدمة‏: ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فلا‏ ‏يمكن‏ ‏إنكار‏ ‏التأثير‏ ‏المترامى ‏الأطراف‏ ‏الذى ‏أحدثه‏ ‏ظهور‏ ‏المدرسة‏ ‏الكلاسيكية‏ ‏للتحليل‏ ‏النفسى ‏حتى ‏كادت‏ ‏أن‏ ‏تؤثر‏ ‏بشكل‏ ‏خطر‏ ‏على ‏الإبداع‏ ‏الأدبى ‏فى ‏مستوياته‏ ‏الإنشائية‏ ‏والنقدية‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏. ‏أول‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏مواجهته‏ ‏من‏ ‏تناقضات‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏المعرفى ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ثَمَّ علم‏، ‏ثم‏ ‏يكون‏ ‏موضوعه‏ ‏ليس‏ ‏قائما‏ ‏فى ‏الوعى". الواقع‏ ‏أن‏ ‏اللاوعى ‏هو‏ ‏فى ‏غير‏ ‏متناول‏ ‏الدراسة‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏مظاهره‏ ‏فى ‏الوعى، ‏لكن‏ ‏المحللين‏ ‏يرون‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏رأيا‏ ‏آخر‏ ‏على ‏أساس‏ ‏أن‏ "‏الشعور‏ ‏الظاهر‏ ‏نفسه‏ ‏لا‏ ‏يعدو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏إنكار‏اً ‏لهذا‏ ‏اللاشعور‏، ‏ونفيا‏ ‏له‏"[44]. ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏فإن‏ ‏الدراسة‏ ‏المتوقعة‏ ‏لهذا‏ ‏المحتوى ‏تعتمد‏ ‏أساسا‏ ‏على ‏القدرة‏ ‏على ‏الترجمة‏ ‏المعقدة‏ ‏من‏ ‏ظاهر‏ ‏الوعى ‏إلى ‏حقيقة‏ ‏اللاوعى. ‏إن‏ ‏كشف‏ ‏فرويد‏ ‏هو‏ ‏بمعنى ‏ما‏ ‏كشف‏ ‏لغوى‏"[45]. ‏وهى ‏لغة‏ ‏جديدة‏ ‏فعلاً‏: ‏وهذا‏ ‏يتطلب‏ ‏بدوره‏ "‏معجما‏" ‏سابق‏ ‏الإعداد‏ (‏غالبا‏)، ‏ومترجِماً ‏فائق‏ ‏المهارة‏. ‏لقد كانت‏ ‏نتيجة‏ ‏تضخم‏ هذا ‏المعجم‏ ‏وثباته‏ ‏مع‏ ‏تواضع‏ ‏المهارة‏، ‏أن‏ ‏تعسفت‏ ‏التفاسير‏ ‏وتمادت‏ ‏فى ‏تقييم‏ "‏الرمزية‏" ‏فى ‏العمل‏ ‏الأدبى"، ‏وهى ‏ليست‏ ‏رمزية‏ ‏مستقاة‏ ‏عادة‏ ‏من‏ ‏مضمون‏ ‏العمل‏ ‏الأدبى ‏وإنما‏ ‏هى ‏مستعارة‏ ‏من‏ ‏أبجدية‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏الكلاسى (‏الفرويدى‏)، ‏التى ‏كادت‏ ‏تستقر‏ ‏على ‏مقولات‏ ‏بذاتها‏ ‏ضد‏ ‏طبيعة‏ ‏تطورها‏ ‏الحتمية
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زهرة الفيوم
عضو لامع
عضو لامع
زهرة الفيوم

انثى
عدد الرسائل : 1043
 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 210
بلد الإقامة : الفيوم
احترام القوانين :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 111010
العمل :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Profes10
الحالة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 710
نقاط : 7382
ترشيحات : 28
الأوســــــــــمة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 222210

 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى    تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى I_icon_minitime20/10/2012, 19:33

نخلص‏ ‏من‏ ‏عرض‏ ‏هذا‏ ‏المثال‏ ‏المحدود‏ ‏إلى ‏القول‏:‏
‏"‏إن‏ ‏العقاد‏ ‏بغلبة‏ ‏طبيعته‏ ‏أحادية‏ ‏النظرة‏ (‏بمعنى ‏الاستقطاب،‏ ‏لا‏ ‏بمعنى ‏ضيق‏ ‏الأفق‏)، ‏لا‏ ‏يحتمل‏ ‏مواجهة‏ ‏التناقض، ربما‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏ابتداء‏ ‏وبالتالى ‏فى ‏طفله‏ ‏الحبيب‏ ‏الكبير‏ ‏"ابن‏ ‏الرومى" ‏فهو‏ ‏لذلك‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يراه‏ ‏حقودا‏ ‏شاكرا‏ ‏فى ‏آن‏ ‏واحد‏، ‏فكان‏ ‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يبحث عن تفسير أو تأويل ‏، ‏فأسعفته‏ ‏معلوماته‏ ‏النفسية‏ ‏والطبيعية‏ ‏فوضع‏ ‏القوانين‏ ‏وأفتى‏، ‏وكان‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏القارئ‏ ‏الحساس‏ ‏المحق‏، ‏الموضِّح‏ ‏لجانب‏ ‏رؤية‏ ‏وضوحا‏ ‏نحن‏ ‏أحوج‏ ‏إليه‏، ‏ولكنه‏ ‏مجرد‏ ‏جانب‏. ‏ولم‏ ‏تكن‏ ‏قد‏ ‏أصابته‏ - ‏بعد‏ - ‏وصاية‏ ‏تحليلية‏ ‏نفسية‏، ‏أو‏ ‏طبية‏ ‏غدد‏ ‏صمائية‏، ‏ألبسته عقلنة حالت دون انطلاق إبداعه ناقدا بشكل أو بآخر كما‏ ‏سيأتى ‏حالا:
‏ ‏المثال‏ ‏الثانى" ‏أبو‏ ‏نواس‏، ‏عند‏ ‏العقاد‏[69] (‏والنويهى‏): ‏
من‏ ‏سنة‏ 1931 ‏إلى ‏سنة‏ 1953 (‏من‏ ‏عمر‏42 ‏عاما‏ ‏إلى ‏عمر‏ 64 ‏عاما‏) ‏إزداد‏ ‏اطلاع‏ ‏العقاد‏ - ‏بداهة‏ - ‏على ‏المعارف‏ ‏النفسية‏ ‏وبخاصة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى‏. ‏ويبدو‏ ‏أنه‏ ‏انبهر‏ ‏بمعطيات‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى خاصة‏، ‏لأسباب‏ ‏بعينها‏. ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏إعلانه‏ ‏قبوله‏ ‏لملاحظات‏ ‏التحليل‏، ‏وتحفظه‏ ‏إزاء‏ ‏تأويلاتها‏، ‏فإن‏ ‏لهجته‏ ‏فى ‏الدفاع‏ ‏عنها‏ (‏وبخاصة‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏طه‏ ‏حسين‏) ‏وأسلوبه‏ ‏فى ‏اتباع‏ ‏طرقها‏ ‏واستعمال‏ ‏أبجديتها‏، ‏يشير‏ ‏إلى ‏اقتناع‏ ‏بتأويلاتها‏ ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏بملاحظاتها‏. ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏أثر‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ "‏وخيما‏" ‏على ‏دراسته‏ ‏لأبى ‏نواس‏: ‏فقد‏ ‏بدا‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المعارف‏ ‏لمّا‏ ‏دخلت‏ ‏إلى ‏فكره‏ ‏حرمته كثيراً من‏ ‏تلقائيته‏ ‏التى ‏ميزت‏ ‏ترجمته‏ ‏لابن‏ ‏الرومي‏. ‏ويكفى ‏أن‏ ‏نقرأ‏ ‏العنوان‏ ‏الفرعى ‏لكل‏ ‏من‏ ‏الدراستين‏ ‏حتى ‏ندرك‏ ‏الفرق‏ ‏بينهما‏: ‏ابن‏ ‏الرومى" ‏حياته‏ ‏من‏ ‏شعره‏: ‏أما‏ ‏أبو‏ ‏نواس‏ ‏فهى" ‏دراسة‏ ‏فى ‏التحليل‏ ‏النفسانى ‏والنقد‏ ‏التاريخي‏.. (‏هكذا‏: خبط لصق)‏!.‏
وقد‏ ‏عيبت‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏من‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏دارس‏ ‏وناقد‏ ‏وأديب‏ ‏بما‏ ‏ينبغي‏، ‏وبأقل‏ ‏مما‏ ‏ينبغي‏. ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏لغرض‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏ ‏وفى ‏حدودها‏، ‏أن‏ ‏أناقش‏ ‏بعض‏ ‏التجاوزات‏ ‏العلمية‏ ‏والتحليلية‏ ‏النفسية‏ ‏التى ‏اضطر‏ ‏إليها‏ ‏العقاد‏ ‏فى ‏سنه‏ ‏هذه‏ ‏وظروفه‏ ‏تلك‏، ‏ولكنى ‏أذكر‏ ‏القارىء‏ ‏بما‏ ‏أسميته‏ ‏ظاهرة‏ "‏الالتقاط‏ - ‏فالتعميم‏"، ‏فقد‏ ‏غلبت‏ ‏على ‏الدراسة‏ ‏من‏ ‏أولها‏ ‏إلى ‏آخرها‏.
‏وأكتفى ‏هنا‏ ‏بذكر‏ ‏بعض‏ ‏الملاحظات‏: ‏مثل‏: ‏
1. ‏‏إن‏ ‏المعلومات‏ ‏الطبية‏ (‏والفسيولوجية‏) ‏الواردة‏ ‏عن‏ "‏أسرار‏ ‏الغدد‏" (‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏كثيرا‏ ‏منها‏ ‏قد‏ ‏نسخ‏ ‏علميا‏) ‏لا‏ ‏مبرر‏ ‏لها‏ ‏ ‏: ‏فهى ‏معلومات‏ ‏جزئية‏ ‏لا‏ ‏قيمة‏ ‏لها‏ ‏فى ‏شعر‏ ‏أبى ‏نواس‏ ‏أو‏ ‏شكل‏ ‏جسمه‏ ‏أو‏ ‏طبيعة‏ ‏نموه‏ (‏حيث‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏مريضا‏ ‏بأى ‏مرض‏ ‏غدى ‏ أصلا ‏، ‏كما‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏إلا‏ ‏ارتباط‏ ‏واه‏ ‏بين‏ ‏الشذوذ‏ ‏والغدد‏). ‏وحتى ‏لو‏ ‏كان‏، ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏إثبات‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏وجود‏ ‏عاهة‏ ‏الغددية‏ ‏الصمائية‏ ‏تلك‏ ‏والسلوك‏ ‏الفكرى ‏بخاصة هكذا‏، ‏وبين الإبداع‏ ‏بوجه‏ ‏أشد‏ ‏تخصيصا‏.
2. ‏بالنسبة‏ ‏للتحليل‏ ‏النفسى (‏وبرغم‏ ‏تحفظ‏ ‏العقاد‏ ‏الموقوف‏ ‏عن‏ ‏التنفيذ‏ ‏كما‏ ‏أوضحنا‏) ‏فقد‏ ‏ذهب‏ ‏إلى ‏استعمال‏ ‏جزئيات‏ ‏المعلومات‏ ‏من‏ ‏أمثال‏ "‏لازمة‏ ‏التلبيس‏"، "‏ولازمة‏ ‏الارتداد‏" ‏الخ‏، ‏بشكل‏ ‏محدود‏، ‏وبالمفهوم‏ ‏الذى ‏عثر‏ ‏عليه العقاد‏، ‏ربما‏ ‏بالمصادفة‏. ‏فالارتداد‏ - ‏مثلا‏ - ‏يقول‏ ‏عنه‏ ‏إنه‏ ‏من‏ ‏لوازم‏ ‏النرجسية‏: "‏فهو‏ ‏الذى ‏يعرف‏ ‏أحيانا‏ ‏باسم‏ ‏الصفات‏ ‏الثانوية‏ (!!) ‏ثم‏ ‏يشرح‏ ‏شيئا‏ ‏أشبه‏ ‏بالتقمص‏: ‏ولعله‏ ‏يقصد‏ ‏الارتداء‏!! وهو‏ ‏كذلك‏ ‏يبالغ‏ ‏فى ‏دلالة‏ ‏ما‏ ‏يبدو‏ ‏أنوثة‏ ‏لأبى ‏نواس‏ ‏ويرجعه‏ ‏إلى ‏النرجسية‏، ‏برغم‏ ‏أن‏ ‏ثنائية‏ ‏الجنس‏، ‏من‏ ‏عمق‏ ‏معين‏، ‏هى ‏من‏ ‏ألزم‏ ‏أرضية‏ ‏الإبداع‏[70]. ‏ثم يمضى العقاد ‏فى ‏سائر‏ ‏اللازمات‏ ‏يلتقط‏ ‏ويعمم‏ ‏ويشخص‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏داعى ‏لتكراره‏ ‏هنا‏، ‏حيث‏ ‏عورض‏ ‏بما‏ ‏فيه‏ ‏الكفاية‏، ‏وكان‏ ‏نقد‏ ‏طه‏ ‏حسين‏ ‏من‏ ‏أدق‏ ‏ما‏ ‏قيل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏، ‏برغم‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏به‏ ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏تجاوزات‏ ‏فى ‏الرفض‏. ‏
لقد‏ ‏بالغ‏ ‏فى ‏تجاوزاته‏ ‏وتعميماته‏ ‏وتشخيصاته‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏تفنيد‏[71]. ‏كذلك فعل النويهى وأكثر بإصراره ‏ ‏على ‏التفسير‏ ‏الأوديبى ‏مثلا‏. ‏لقد‏ ‏ركز‏ ‏النويهى ‏على ‏أن‏ ‏أبا‏ ‏نواس‏ ‏قد‏ ‏قام‏ ‏بإحياء‏ animation ‏الخمر‏ ‏كائنا‏ ‏أنثويا‏ ‏مجسدا‏[72]. ‏وهو‏ ‏يفسر‏ ‏هذا‏ ‏الإحياء‏ ‏بأن‏ ‏أبا‏ ‏نواس‏ ‏أحس‏ ‏نحوها‏ ‏بإحساس‏ ‏جنسى[73]، ‏ثم‏ ‏أحس‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏نحوها‏ ‏بأنها‏ ‏أمه‏[74]. ‏وهكذا‏ ‏تكتمل‏ ‏عقدة‏ ‏أوديب‏ ‏برغم‏ ‏أنف‏ ‏كل‏ ‏شىء‏، ‏لمجرد‏ ‏أن‏ ‏شاعرا‏ ‏خاطب‏ ‏الخمر‏ ‏على ‏أنها‏ ‏كائن‏ ‏حى ‏يرضى ‏ويسخط‏، ‏أو‏ ‏أنها‏ ‏العذراء‏ ‏تفض‏ ‏عذريتها‏، ‏أو‏ ‏الأم‏ ‏ترضع‏ ‏طفلها‏. ‏والتعيين‏ Concretization ‏والإحياء‏ animation ‏هما‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏أدوات‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏شعر‏، ‏دون‏ ‏أى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏تفسير‏ ‏لاحق‏، ‏بل‏ ‏هما‏ ‏من‏ ‏أخص‏ ‏خصائص‏ ‏الفن‏ ‏بعامة‏، ‏دون‏ ‏إعلان‏ ‏شذوذ‏ ‏أو‏ ‏انحراف‏ ‏أو‏ ‏مرض‏ ‏أو‏ ‏أوديبية‏. ‏ولو‏ ‏أننا‏ ‏عدلنا‏ ‏عن‏ ‏حشر‏ ‏المعانى ‏والصور‏ ‏فى ‏النظريات‏، ‏لظهرت‏ ‏الخمر‏ ‏كما‏ ‏رآها‏ ‏أبو‏ ‏نواس‏ ‏وأحبها‏ ‏وطرب‏ ‏بها‏ ‏وطرب‏ ‏لها‏ ‏وعاتبها‏ ‏وحادثها‏ ‏وشكرها‏ ‏وخاصمها‏ ‏ورضع‏ ‏منها‏ ‏وألَّهها‏. ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يصف‏ ‏إلا‏ ‏دقة‏ ‏إحساس‏ ‏شاعر‏ ‏سكر‏ ‏أو‏ ‏لم‏ ‏يسكر‏، ‏بل‏ ‏الأرجح‏، ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يسكر‏ ‏بالمعنى ‏الغيبوبى ‏الذاهل‏، ‏وإلا‏ ‏لما‏ ‏قال‏ ‏كل‏ ‏ذلك بكل هذا الجمال والعمق‏، ‏بل‏ ‏لنام‏ ‏أو‏ ‏هام‏ ‏على ‏وجهه‏ ‏عييا‏ ‏حصرا‏. ‏حتى ‏المخمور‏، ‏العادى ‏قد‏ "‏يحيى" ‏الخمر‏ ‏تؤنس‏ ‏وحدته‏ ‏فى ‏ركن‏ ‏حانة‏ ‏مهجورة‏، ‏فنراه‏ - ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يغيب‏ - ‏وهو‏ ‏يناجى ‏كأسه‏ ‏ويستلهمه‏ ‏ويواعده‏، ‏دون‏ ‏جَنسْنَةَ‏ ‏أو‏ ‏أوديبية‏. ‏بل‏ ‏إن‏ ‏أبا‏ ‏نواس‏ ‏قد‏ ‏عاش‏ ‏خبرة‏ ‏تأثير‏ ‏الخمر‏ ‏بوعى ‏فائق‏ ‏سبق‏ ‏اجتهاد‏ ‏العلماء‏ ‏اللاحق‏: ‏فقد‏ ‏عايش‏ - ‏ووصف‏ - ‏فعل‏ ‏الخمر‏ ‏المباشر‏ ‏فى "‏تعتعة‏" ‏التركيب‏ ‏الواحدى ‏للذات‏، ‏ذات‏ ‏شاربها‏، ‏فتتعدد‏ - ‏دون‏ ‏جنون‏ - ‏كخطوة‏ ‏أساسية‏ ‏فى ‏طريقها‏ (‏الذات‏) ‏إلى ‏إعادة‏ ‏التركيب‏ ‏فى ‏إبداع‏ ‏محتمل‏. ‏
يقول‏ ‏أبو‏ ‏نواس‏: ‏
وما‏ ‏الغبن‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ترانى ‏صاحيا‏ ‏ ومالغنم‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يتعتعنى ‏السكر‏[75]
"التعتة‏" ‏تحديدا‏ ‏هى ‏اللفظ‏ ‏العربى ‏الذى ‏اخترته‏ ‏ليصف‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏الباكرة‏ ‏من‏ ‏البسط‏ ‏النموى ‏أو‏ ‏المرضي‏، ‏التى ‏تحُقق‏ ‏فض‏ ‏التسوية‏ ‏المؤقتة‏ ‏أو‏ ‏الاشتبك‏ ‏الجامد‏ ‏المحقق‏ ‏لواحدية‏ ‏الذات‏ ‏مرحليا‏. ‏وهى ‏العملية‏ ‏نفسها‏ ‏التى ‏تحدث‏ - ‏صناعيا‏ - ‏نتيجة‏ ‏للسكْر‏: ‏وهى ‏العملية‏ ‏‏التى ‏تسبق وتصاحب‏ ‏الإبداع أيضا‏[76]. ‏وأبو‏ ‏نواس‏ ‏لا‏ ‏يكتفى ‏بذكر‏ ‏الظاهرة‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏يصف‏ ‏نتيجتها‏ ‏من‏ ‏تعدد‏ ‏يعيه‏ ‏فيستوعبه‏ ‏فيبدع‏ ‏به‏ ‏فرحا‏ ‏شاكرا‏: ‏
مازلت‏ ‏أستل‏ ‏روح‏ ‏الدن‏ ‏فى ‏لطف‏ ‏ واستقى ‏دمه‏ ‏من‏ ‏جوف‏ ‏مجروح‏ ‏ حتى ‏انثنيتُ‏ ‏ولى ‏روحان‏ ‏فى ‏جسدى ‏ والدن‏ ‏منطرح‏ ‏جسما‏ ‏بلا‏ ‏روح‏ ‏
هذا‏ ‏بعض‏ ‏فعل‏ ‏الخمر‏ - ‏مباشرة‏ - ‏فى ‏كيان‏ ‏مرن‏ ‏قابل‏ ‏للتحريك‏ ‏وليس‏ ‏كيانا‏ ‏هشا‏ ‏جاهزا‏ ‏للتناثر‏ ‏فالإغماء‏[77]. ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏النويهى ‏يذهب‏ ‏إلى ‏تشخيص‏ ‏أبى ‏نواس‏ ‏بالشذوذ‏ ‏والمرض‏ ‏الصريح‏، ‏ويصر‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏بجرأة‏ ‏نادرة‏، ‏حيث‏ ‏يؤكد‏ ‏أنه‏ ‏ماذهب‏ ‏فى ‏تأويله‏ ‏لأبى ‏نواس‏ ‏هذا‏ ‏المذهب‏ ‏إلا‏ ‏لشذوذه‏ ‏المرضي‏. ‏وتصل‏ ‏به‏ ‏شهوة‏ ‏التشخيص‏ ‏إلى ‏القول‏ ‏بأن‏ ‏أبا‏ ‏نواس‏ ‏كان‏ ‏فى ‏أواخر‏ ‏حياته‏ ‏على ‏حافة‏ ‏جنون‏ ‏الهوس‏ ‏والاكتئاب‏، ‏يفسر‏ ‏به‏ ‏فترات‏ ‏زهده‏ ‏ومرارة‏ ‏فلسفته‏ ‏فى ‏ذبذبتها‏ ‏مع‏ ‏حالات‏ ‏نشوته‏ ‏وجذله‏، ‏بل‏ ‏لا‏ ‏يتردد‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يحدد‏ "‏السبب‏" ‏لهذا‏ ‏المرض‏: "‏والذى ‏أسرع‏ ‏بدفعه‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الجنون‏ ‏وكاد‏ ‏يقذفه‏ ‏فى ‏حفرته‏ ‏كان‏ ‏نفس‏ ‏الدواء‏ ‏الذى ‏تداوى ‏به‏: ‏الخمر‏" !!! ‏والأمر‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تعليق‏: ‏لأنه‏ ‏إذا‏ ‏بلغت‏ ‏الهواية‏ ‏النفسية‏ ‏والشهوة‏ ‏التشخيصية‏ ‏هذا‏ ‏المبلغ‏ ‏الذى ‏يسمح لناقد أن يقوم من خلال شعر شاعر بتشخيص محدد يعجز ‏ ‏عن‏ ‏أن يصل إليه‏ ‏الأطباء‏ ‏فى ‏جامعاتهم‏ ‏ومستشفياتهم‏ ‏والمريض ماثل أمامهم يشكو ويحكى هو وأهله!! فلا تعليق. ‏الأمر‏ ‏لا‏ ‏يتعلق‏ ‏فقط‏ ‏بأى ‏التشخيصات‏ ‏اختار‏، ‏وإنما‏ ‏يتعلق‏ ‏أساسا‏ ‏بالحد‏ ‏الفاصل‏ ‏بين‏ ‏الصحة‏ ‏والمرض‏، ‏بل‏ ‏بالحد‏ ‏الفاصل‏ ‏بين‏ ‏الإبداع‏ ‏والمرض‏: ‏فحتى ‏فرويد‏ ‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏الشذوذ‏ ‏الجنسى ‏مرضا‏ ‏فى ‏ذاته‏. ‏ومسار‏ ‏حياة‏ ‏أبى ‏نواس‏، ‏منحرفا‏ ‏أو‏ ‏شاذا‏ ‏أو‏ ‏سويا‏ ‏أو‏ ‏ثائرا‏، ‏ليس‏ ‏فيه‏ ‏ما‏ ‏يعلن‏ ‏الإعاقة‏ ‏المرضية‏ ‏أو‏ ‏التناثر‏ ‏المعجز‏ ‏أو‏ ‏الاضطراب‏ ‏المحدد‏، ‏وهو ‏يصل‏ ‏بحدسه‏ ‏الإبداعى ‏إلى ‏وصف‏ ‏أعمق‏ ‏خلجات‏ ‏النفس‏ ‏على ‏نحو‏ ‏لم‏ ‏نعتده‏، ‏يضئ‏ ‏لنا‏ ‏الطريق‏، ‏ولا‏ ‏يظلمه‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏أو‏ ‏علينا‏[78].‏
مهما‏ ‏يكن‏ ‏من‏ ‏أمر‏، ‏فلنذكر‏ ‏أن‏ "‏رؤية‏" ‏تركيبنا‏ ‏الداخلى ‏بطبيعته‏ ‏غير‏ ‏المألوفة‏ ‏لنا‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏أن‏ ‏هذا‏ "‏الشذوذ‏" ‏هو‏ ‏كيان‏ ‏معيش‏ ‏فى ‏فعل‏ ‏يومى ‏لمن‏ ‏رآه‏: ‏لأن‏ ‏مستوى ‏السيكوباثولوجى ‏غير‏ ‏مستوى ‏السلوك‏، ‏وما‏ ‏يحكم‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏السواء‏ ‏والمرض‏ ‏هو‏ ‏السلوك‏ ‏وليس‏ ‏جذوره‏. ‏حتى ‏السلوك‏ ‏نفسه‏ ‏لا‏ ‏يحدد‏ ‏المرض‏ ‏بحالة‏ ‏الاختلاف‏ ‏عن‏ ‏النمط‏ ‏الإحصائى،‏وإنما‏ ‏بشكوى ‏صاحبه‏ ‏وإعاقته‏ ‏وشلله‏. ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏غير‏ ‏وارد‏ ‏أصلا‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏أبى ‏نواس حتى نعلق عليه هذه اللافتة التشخيصية أو تلك‏.
كل ما سبق نتناوله احتراما للمحاولة، مع أنه مبنى على أساس يحتاج مناقشة مبدئية، ألا وهو طبيعة وتنوعات وإشكالات ‏علاقة‏ ‏الشاعر – شخصا- بشعره – إبداعا- وهو ما سوف نتناوله ‏ ‏فى ‏فقرة‏ ‏لاحقة ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏.‏
- 9 -
‏ النقد النفسى فى الرواية
‏هذا‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بعينة‏ "‏التراجم‏" ‏المؤسسة‏ ‏على ‏المنهج‏ ‏النفسى" ‏أما‏ ‏بشأن‏ ‏محاولة‏ ‏تفسير‏ ‏العمل‏ ‏الأدبى ‏ذاته‏ ‏بنفس‏ ‏المنهج‏، ‏فسوف‏ ‏أركز‏ ‏على ‏ناقد‏ ‏واحد‏ (‏عز‏ ‏الدين‏ ‏إسماعيل‏) ‏لأنه‏ ‏يمثل‏ ‏هذا‏ ‏الاتجاه‏ ‏بشكل‏ ‏متميز‏، مع‏ ‏بعض‏ ‏الاستطرادات‏ ‏المحدودة‏ ‏إلى غيره‏ ‏إذا‏ ‏لزم‏ ‏الأمر‏. ‏وسوف‏ ‏ألتزم‏ ‏بمراجعة‏ ‏نقده‏ ‏دون‏ مراجعة تفصيلية للأصل، حيث لن‏ ‏أخرج‏ ‏عن‏ ‏مقتطفات الناقد فى نقده‏.‏
نبدأ‏ ‏بمراجعة‏ ‏تفسير‏ ‏مسرحية‏ "‏سر‏ ‏شهر‏ ‏زاد‏" ‏لباكثير‏ ‏كما‏ ‏قدمه‏ ‏عز‏ ‏الدين‏ ‏إسماعيل‏[79]، ‏حيث‏ ‏أورد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الشأن‏ ‏محاولات‏ ‏متجاورة‏ - ‏وليست‏ ‏مؤتلفة‏ ‏بالضرورة‏ - ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعددها‏ ‏كما‏ ‏يلى:‏
‏1 - ‏إن‏ ‏شهريار‏ ‏قتل‏ ‏زوجته‏ ‏الأولى "‏بدور‏" ‏وهو‏ ‏يعرف‏ ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تخنه‏: ‏وقد‏ ‏قتلها‏ ‏لأنها‏ ‏صدته‏ ‏رفضا‏ ‏لشهوانيته‏، ‏فأُحبط‏ (‏جنسيا‏)، ‏فثار‏، ‏فانتقم‏ ‏منها‏ ‏بقتلها‏ (‏حيث‏ ‏ارتبط‏ ‏معنى الرجولة‏ ‏عنده‏ ‏بتلك‏ ‏الصورة‏ ‏الشهوانية‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏التى ‏يحياها‏).‏
‏2 - ‏إن‏ ‏شهريار‏ ‏أقنعه‏ "‏لاشعوره‏" (‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الاستنتاج‏ ‏المعكوس‏)، ‏أن‏ "‏بدور‏" ‏كانت‏ ‏خائنة‏ ‏(= ‏بما‏ ‏أنه‏ ‏قتلها‏).‏
‏3 - ‏إن‏ ‏شهريار‏ - ‏ليحافظ‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الاستنتاج‏ ‏الحامى ‏له‏ ‏من‏ ‏مواجهة‏ ‏الذنب‏ ‏الذى ‏ارتكبه‏ - ‏ظل‏ ‏يكرر‏ ‏قتل‏ ‏بدور‏: ‏أولا‏ ‏فى ‏قتل‏ ‏زوجاته‏ (‏البدائل‏) ‏من‏ ‏العذارى ‏بعد‏ ‏الليلة‏ ‏الأولى‏، ‏ثم‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بقتلها‏ (‏بدور‏) ‏فى ‏حلمه‏ ‏فى ‏أثناء‏ ‏سيره‏ ‏وهو‏ ‏نائم‏.‏
‏4 - ‏إن‏ ‏شهريار‏ ‏انقسمت‏ ‏نفسه‏ ‏نتيجة‏ ‏لهذا‏ ‏الشعور‏ ‏الدفين‏ ‏بالذنب‏، ‏وأنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏له‏ ‏خلاص‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الشعور‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لتتوحد‏ ‏ذاته‏ ‏ثانية‏ ‏إلا‏ ‏بالاستماع‏ ‏لصوت‏ ‏الضمير‏ (‏رضوان‏ ‏الحكيم‏) ‏بأن‏ ‏يكفر‏ ‏عن‏ ‏ذنبه‏ ‏بعمل‏ ‏الخير‏.‏
وبرغم‏ ‏ما‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏هذه‏ ‏الاستنتاجات‏ ‏من‏ ‏وجاهة‏، ‏وبرغم‏ ‏ما‏ ‏بنيت‏ ‏عليه‏ ‏من‏ "‏معلومات‏ ‏نفسية‏"، ‏فإن‏ ‏بعضها‏ ‏يبدو‏ ‏متأثرا‏ ‏بأبعاد‏ ‏متواضعة‏ ‏لم‏ ‏تستطع‏ ‏أن‏ ‏تغطى ‏هذا‏ ‏التركيب‏ ‏المكثف‏ ‏لشخصية‏ ‏شهريار‏ ‏كما‏ ‏وردت‏ ‏فى ‏المسرحية‏. ‏وأكتفى ‏هنا‏ - ‏كما‏ ‏وعدت‏ - ‏ببعض‏ ‏المراجعات‏ ‏كعينات‏ ‏لما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏النظر‏.‏
1) أما‏ ‏أن‏ ‏الصد‏ ‏قد‏ ‏يؤدى "‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏... ‏إلى ‏العدوان‏" ‏فهذا‏ ‏صحيح‏: ‏ولكن‏ ‏بما‏ ‏أن‏ ‏الناقد‏ ‏قد‏ ‏طرح‏ ‏بدائل‏ ‏لمسارات‏ ‏الإحباط‏، ‏إذن‏ ‏فهو‏ ‏يعرفها‏: ‏فكان‏ ‏المتوقع‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏العوامل‏ ‏التى ‏رجحت‏ ‏هذا‏ ‏السبيل‏ (‏العدوان‏ ‏حتى ‏القتل‏) ‏دون‏ ‏غيره‏ (‏العنة‏ ‏مثلا‏) ‏كرد‏ ‏فعل‏ ‏للإحباط‏. ‏لذلك‏ ‏فإن‏ ‏الحاجة‏ ‏للبحث‏ ‏عن‏ ‏دلالة‏ ‏القتل‏ ‏تلح‏ ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏محاولة‏ ‏تفسير‏ ‏الدافع‏ ‏إليه‏.‏
2) أما‏ ‏نظرية‏ "‏الاستنتاج‏ ‏المعكوس‏" ‏فهى ‏جائزة‏ ‏وجائز‏ ‏مثلها‏، ‏وقبلها‏، - ‏لو‏ ‏صممنا‏ ‏على ‏المنهج‏ ‏النفسى ‏تفسيرا‏ ‏أو‏ ‏تحليلا‏ - ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ثمَّ‏ ‏إدراك‏ ‏ضلالى Delusional perception[80] ‏قد‏ ‏أكد‏ ‏له‏ ‏الخيانة‏ ‏قبل‏ ‏القتل‏ ‏مباشرة‏، ‏وفى ‏لحظة‏ ‏بالذات‏، ‏رغم‏ ‏علمه‏ ‏المسبق‏ ‏بغير‏ ‏ذلك‏: ‏لأن‏ ‏الصد‏ ‏الجنسى ‏يفسر‏ ‏عند‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الشخصيات‏ (‏مثل‏ ‏شهريار‏) ‏بأن‏ ‏فحولته‏ ‏ليست‏ ‏كافية‏ ‏لإخضاع‏ "‏بدور‏" ‏وجذبها‏، ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏أنها‏ ‏تريد‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏أكثر‏ ‏فحولة‏، ‏أى ‏أكثر‏ ‏حيوانية‏ (‏ما‏ ‏يمثله‏ ‏العبد‏ ‏الزنجى‏): ‏فهو‏ (‏شهريار‏) ‏مرفوض‏ "‏لنقص‏ ‏فى ‏الفحولة‏" (‏رغم‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يثبت‏ ‏عكس‏ ‏ذلك‏)، ‏وليس‏ ‏لنقص‏ ‏فى ‏الرقة‏ ‏والطهارة‏ ‏كما‏ ‏يظهر‏ ‏من‏ ‏سطح‏ ‏حجج‏ ‏بدور‏ (‏هكذا‏ ‏يفكر‏ ‏داخله‏)، ‏فتتركز‏ ‏غيرته‏ ‏فى ‏حيوان‏ ‏أقوى ‏منه‏، ‏ولا‏ ‏ينفع‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏إقناع‏ ‏سابق‏ ‏أو‏ ‏لاحق‏: ‏فهو‏ ‏الإدراك‏ ‏الضلالي‏، ‏فالقتل‏.‏
3) أما‏ ‏أن‏ ‏شعورا‏ ‏بالذنب‏ ‏قد‏ ‏نشأ‏ ‏نتيجه‏ ‏لهذا‏ ‏القتل‏ "‏الخطأ‏"، ‏ترتب‏ ‏عليه‏ ‏انقسام‏ ‏الذات‏، ‏فإنه‏ ‏جائز‏ ‏أيضا‏، ‏لكن‏ ‏تكرار‏ ‏فعل‏ ‏القتل‏ ‏له‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏وجه‏: ‏فهو‏ ‏يعلن‏ - ‏أيضا‏ - ‏أن‏ ‏القتل‏ ‏لم‏ ‏ينفع‏ ‏فاعله‏ ‏شيئا‏ (‏شرب‏ ‏الماء‏ ‏المالح يزيد الشارب عطشا‏)، وهو‏ ‏يعلن‏ ‏كذلك‏ ‏استمرار‏ ‏المشكلة‏ ‏الأصلية‏ (‏المبهمة‏ ‏حتى ‏الآن‏)، ‏وهو‏ ‏يعلن‏ ‏كذلك‏ "‏إنكار‏" ‏القتل‏ ‏الأول‏ (‏وإلا‏ ‏فما‏ ‏الداعى ‏للتكرار‏).‏
4) أما‏ ‏أن‏ ‏الحل‏ ‏النهائى (‏الذى ‏لأَمَ‏ ‏ذاته‏ ‏المنقسمة‏) ‏كان‏ ‏هو‏ ‏التكفير‏ ‏عن‏ ‏الذنب‏ ‏بفعل‏ ‏الخير‏، ‏فهو‏ ‏حل‏ ‏لايحرر‏ ‏النفس‏ "‏حتى ‏تعود‏ ‏إلى ‏صاحبها‏ ‏أو‏ ‏يعود‏ ‏إليها‏ ‏صاحبها‏ ‏واحدة‏ ‏بلا‏ ‏انقسام‏"، ‏ولكنه‏ ‏حل‏ ‏ينكر‏ ‏الجزء‏ ‏القاتل‏ ‏الشرير‏ ‏حتى ‏يلغيه‏ ‏تماما‏، ‏بقهر‏ "‏ضميرى" ‏مقابل‏. ‏إذن‏ ‏فهو‏ ‏لايوحد‏ ‏النفس‏، ‏ولكنه‏ ‏يشكلها‏ ‏من‏ "‏النصف‏ ‏الآخر‏"، ‏ليصبح‏ ‏فردا‏ ‏عاديا‏ ‏ماسخا‏ ‏مهذبا‏ ‏وليس‏ ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏حدث‏: ‏فالسندباد‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ "‏فاعل‏ ‏الخير‏" ‏تكفيرا‏ ‏عن‏ ‏الذنب‏، ‏ولكن‏ ‏السندباد‏ ‏هو‏ ‏فارس‏ ‏المعرفة‏ ‏بكل‏ ‏طبقاتها‏.. ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏مفتاح‏ ‏الاقتراح‏ ‏البديل‏: ‏وفى ‏ذلك‏ ‏نقول‏ (‏مع‏ ‏احتمال‏ ‏الوقوع‏ ‏فى ‏الأخطاء‏ ‏نفسها‏).‏
نبدأ ‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏المؤلف‏ ‏والناقد‏ (‏النفسي‏) ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏: ‏فقد‏ ‏أعلنا‏ - ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏ - ‏حاجة‏ ‏شهريار‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يُرَى[81] (‏يشاف‏) ‏فجوره‏ ‏الدال‏ ‏على ‏فحولته‏. ‏وهذه‏ ‏خطوة‏ ‏تعلن‏ ‏حدس‏ المؤلف‏ ‏والناقد‏ ‏على ‏نحو‏ ‏يجعلنا‏ ‏نقف‏ ‏أمامه‏ ‏كما‏ ‏ينبغى، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الحاجة‏ ‏لرؤية‏ "‏الفجور‏" ‏داخلنا‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏الفجور‏ (‏سلوكا‏)، ‏فحاجة‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يُرى - ‏عموما‏ - ‏هى حاجة‏ ‏أصيلة‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏البشرى" ‏وهى ‏عميقة‏ ‏الغور‏، ‏قبل‏ ‏الجنس‏ ‏وبعد‏ ‏الجنس‏.‏
‏ ‏الرؤية‏ ‏المطلوبة‏ ‏تشمل‏ ‏التقبل‏: ‏وهوية‏ ‏الرائى (‏المتقبل‏) ‏لها‏ ‏دلالة‏ ‏خاصة‏: ‏فأن‏ ‏يُرى ‏شهريار‏ ‏من‏ "‏بدور‏" ‏أو‏ من ‏شهر‏ ‏زاد‏ ‏غير‏ ‏أن‏ ‏يُرى ‏من‏ ‏جواريه‏: ‏فالرؤية‏ ‏التى تغنى إنما ‏ ‏تكون‏ ‏ذات‏ ‏قيمة‏ ‏وجودية‏ ‏خلاقة‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏مصدرها‏ ‏شخص‏‏، ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يبدى ‏قبولا‏ (‏ولو‏ ‏مبدئيا‏) ‏للمرئى "‏كما‏ ‏هو‏"، ‏لا‏ "‏كما‏ ‏ينبغى" ‏ولا‏ "‏كما‏ ‏يريد‏". ‏وأيضا حين‏ ‏تكون هذه الرؤية "شوفانا" ‏كليا‏. ‏ حين لا ترى الجوارى شهريا إلا فحلا جنسيا، ولا تراه بدور ‏ ‏إلا‏ ‏بعلا‏ ‏دمثا‏، ‏فى حين ‏ ‏تراه‏ ‏شهر‏ ‏زاد‏ ‏سندبادا‏ ‏يجمع‏ ‏الاثنين‏ ‏ويتخطاهما‏ ‏بالبحث‏ ‏الدائم‏ ‏عن‏ ‏معرفة‏ ‏متجددة‏ ‏أبدا‏ ‏للداخل‏ ‏والخارج‏ (‏اللذان‏ ‏هما‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏صورتان‏ ‏لوجه‏ ‏واحد‏) فهى التى رأته "كلا مجتمعا" دون غيرها. هكذا تنقلب قضية وجوده كما تعلنها شهرزاد‏ ‏الأسطورة‏، ‏أو‏ ‏شهر‏ ‏زاد‏ ‏المسرحية‏ (‏سر‏ ‏شهر‏ ‏زاد‏) ‏إلى دعوة ممن اعترف بوجوده إلى مواصلة النهم – معا- إلى ‏المعرفة‏، ‏والرؤية‏ ‏المتجددة‏ ‏الكشف:‏ ‏لِى، ولنا، ‏وللعالم‏، ‏مستظلين بإرواء الحاجة ‏ ‏إلى ‏القبول‏ ‏الكلي‏، ‏كشرط‏ ‏أساسى‏ ‏لوجود‏ ‏البشر‏ "‏معا‏"، ‏بما‏ ‏يميز‏ ‏البشر‏. ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏تصبح‏ ‏عذراء‏ ‏كل‏ ‏ليلة‏ ‏هى ‏المجهول‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يكتشف‏ ‏من‏ ‏قبل‏، ‏وحين‏ ‏تُـفض‏ ‏بكارته‏ ‏ولا‏ ‏ينبئ ‏إلا‏ ‏عن‏ ‏جنس‏ ‏لا‏ ‏يفني‏، ‏أو‏ ‏عمىً ‏لا‏ ‏يُتقبل‏، ‏ينتهى ‏دوره‏ (دورها) ‏ليبدأ‏ ‏البحث‏ ‏من‏ ‏جديد‏[82]، ‏إلى ‏أن‏ ‏تظهر‏ ‏شهر‏ ‏زاد‏ ‏فتمسك‏ ‏الخيوط‏ ‏من‏ ‏أطرافها‏ ‏المتعددة‏، ‏وتقبل‏ ‏كل‏ "‏البدايات‏" ‏برغم‏ ‏ظاهر‏ ‏تباعدها‏: ‏فهى ‏تقبل‏ ‏فحولته‏ ‏وتنفخ‏ ‏فيها‏، ‏وهى ‏ترى ‏حاجته‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏القبول‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الفعل‏ ‏المترتب‏ ‏عليه‏: ‏وهى ‏تلتقط‏ ‏حاجته‏ ‏إلى ‏معرفة‏ "‏الباقى"، ‏فتقدمه‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏حكايات‏ "‏الخارج‏" (‏التى ‏هى ‏مساقط‏ ‏لما‏ ‏بالداخل‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏ما‏) ‏حتى ‏تجعله‏ ‏يكتشف‏ ‏نفسه‏ ‏سندبادا‏، ‏لا‏ ‏فحلا‏ ‏جنسيا‏ (‏فحسب‏)، ‏ولا‏ ‏زوجا‏ ‏مطيعا‏ ‏ماسخا‏ (‏فحسب أيضا‏)، ‏بل‏ ‏إنسانا‏ "‏يسعى" ‏عشقا‏ ‏إلى ‏المعرفة‏ ‏والاكتشاف‏. ‏وهنا‏ ‏تقع‏ ‏أهمية‏ ‏مراجعة‏ "‏النهاية‏" ‏المختلفة‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏حدس‏ ‏كاتب‏ ‏المسرحية‏ ‏وتفسير‏ ‏الناقد‏[83].‏
يكاد‏ ‏النص‏ ‏يصرح‏ ‏بما‏ ‏يبرر‏ ‏هذه‏ ‏القراءة‏ ‏الجديدة‏ ‏من‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏الحاجة‏ ‏للرؤية‏ ‏من‏ ‏آخر‏، ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏والشوق‏ ‏للمعرفة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى: ‏
شهر زاد‏ - ‏يقولون‏ ‏إنك‏ ‏أكبر‏ ‏زير‏ ‏نساء‏ ‏أنجبته‏ ‏امرأة‏.‏
شهريـار‏ - ‏وتخشيننى ‏من‏ ‏أجل‏ ‏ما‏ ‏سمعت؟
شهر زاد‏ - ‏كنت‏ ‏يامولاى ‏أخشاك‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏ما‏ ‏سمعت‏، ‏أما‏ ‏الآن‏....، ‏فقد‏ ‏صرت‏ ‏أخشاك‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏ما‏ ‏رأيت‏، ‏ثم‏ ‏تطلب‏ ‏أن‏ ‏يعفيها‏ ‏من‏ ‏ذكر‏ ‏ما‏ ‏رأت‏.‏
وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏السياق‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يفسر‏ ‏ببساطة‏ ‏بأنه‏ "‏وماراءٍ‏ ‏كمن‏ ‏سمعا‏"، ‏وأن‏ ‏المقصود‏ ‏بالتمنع‏ ‏فى ‏الرد‏ ‏هو‏ ‏النفخ‏ ‏فى ‏فحولة‏ ‏شهريار‏ ‏بالإشارة‏ ‏دون‏ ‏العبارة‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تَرْك‏ ‏الباب‏ ‏مفتوحا‏ (‏بعدم‏ ‏التصريح‏)، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏شهرزاد‏ "‏القاص‏" ‏لعجائب‏ "‏الداخل‏" - "‏فى ‏الخارج‏"، ‏قد‏ ‏يسمح‏ ‏بتأويل‏ ‏النص‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏ذهبنا‏ ‏إليه‏ ‏حين‏ ‏تتجاوز‏ ‏الرؤية‏ ‏التركيز‏ ‏على ‏الفحولة‏، ‏أو‏ ‏تأكيد‏ ‏عكسها‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏إغفالها‏ ‏أو‏ ‏رفضها‏، ‏إلى ‏رؤية كل‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يرى ‏فى ‏حكايات‏ ‏الليالى ‏أو‏ ‏عالم‏ ‏الناس‏.‏
الحاجة‏ ‏إلى "‏الشوفان‏" ‏قد‏ ‏تقبل‏ ‏رؤية‏ ‏جزئية‏ "‏كبداية‏" ‏لا‏ ‏تمنع‏ ‏رؤية‏ ‏الباقي‏. ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏فرضت‏ ‏الرؤية‏ ‏الجزئية‏ ‏نفسها‏ ‏كرؤية‏ ‏نهائية‏ ‏أو‏ ‏مطلقة‏، ‏مما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏فرض‏ ‏الاغتراب‏ ‏أو‏ ‏الانشقاق‏، ‏فلا‏. ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏شهريار‏ ‏يرضى‏، ‏بل‏ ‏يسعد‏، ‏حين‏ ‏تراه‏ ‏بُدور‏ ‏فاجرا‏، ‏ولكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الفجور‏ ‏مرادفا‏ ‏للجنون‏، ‏فهذا‏ ‏إعلان‏ ‏للاغتراب‏ ‏المرفوض‏، ‏ولا‏ ‏رد‏ ‏على ‏هذا‏ ‏العمى ‏من‏ ‏جانبها‏ ‏إلا‏ ‏بالقتل‏: ‏فالجنون‏ ‏فى ‏صورته‏ ‏الاغترابية‏ ‏المنشقة‏ ‏هو‏ ‏عمق‏ ‏التجزيء‏ ‏المباعِدْ‏. ‏فكأن‏ ‏قبول‏ ‏شهريار‏ ‏لوصف‏ ‏الفجور‏ ‏ورفضه‏ ‏لوصف‏ ‏الجنون‏ ‏يعلن‏ ‏أن‏ "‏فجورى ‏هو‏ ‏جزء‏ ‏مني‏، ‏هو‏ ‏أنا‏: ‏أما‏ ‏أن‏ ‏تفصليه‏ ‏عنى ‏وترينه‏ ‏اغتراباً عنّى، ‏فأنت‏ ‏لا‏ ‏تريننى" ‏فلتذهبى ‏إلى ‏الجحيم‏ ‏بهذا‏ ‏الجنون‏ ‏الآخر‏ = ‏القتل‏". ‏
خلاصة‏ ‏القول:‏ ‏إن‏ ‏التفسير‏ ‏الذى ‏قدمه‏ ‏الناقد‏ ‏قد‏ ‏وفق‏ ‏فى ‏رؤية‏ ‏شهريار و‏هو ‏يعلن‏ ‏احتياجه‏ ‏لأن‏ ‏يُرى ‏بفجوره‏ ‏غير‏ ‏المنفصل‏ ‏عن‏ ‏كيانه‏ (‏كخطوة‏ ‏جوهرية‏ ‏نحو‏ ‏التكامل‏). ‏لكن‏ ‏رؤية‏ ‏الناقد‏ ‏لم‏ ‏تكتمل‏، ‏ربما‏ ‏لغلبة‏ ‏الموقف‏ ‏الاستقطابى ‏الذى ‏يضع‏ ‏الشهوانية‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏العفة‏، ‏والإنسانية‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏الحيوانية‏: ‏وهو‏ ‏موقف‏ ‏أخلاقى ‏أحادى ‏البعد‏. ‏ويمكن‏ ‏الرجوع‏ ‏به‏ ‏إلى ‏فكر‏ ‏فرويد‏ ‏ذاته‏، ‏حتى ‏إن‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الفرويدى ‏قد‏ ‏سمى ‏أحيانا‏ ‏بعلم‏ ‏نفس‏ ‏الأخلاق‏ Moral Psychology ‏كما‏ ‏أن‏ ‏الفكر‏ ‏الدينى (‏التقليدى‏) ‏السائد‏ ‏فى ‏شرقنا‏ ‏ووطننا‏ ‏يرحب‏ ‏دائما‏ ‏بهذه‏ ‏المواجهة‏: ‏الشر‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏الخير‏، ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏التجزيء‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏الرؤية‏ ‏الشاملة‏.‏[84]
قبل‏ ‏أن‏ ‏ننتقل‏ ‏إلى ‏محاولة‏ ‏الناقد‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الرواية‏ ‏يجدر‏ ‏أن‏ ‏يتسع‏ ‏الصدر‏ ‏للإشارة‏ ‏إلى ‏محاولته‏ ‏لتفسير‏ ‏مسرحية‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏بعد‏ ‏آخر‏: ‏مما‏ ‏يؤكد‏ ‏موقفه‏ ‏الانتقائى ‏أيضا‏، ‏وذلك‏ ‏فيما‏ ‏حاوله‏ ‏من‏ ‏تفسير‏ ‏مسرحية‏ ‏الحكيم‏ "‏ياطالع‏ ‏الشجرة‏" ‏تفسيرا‏ "‏تركيبيا‏". ‏وقد‏ ‏كانت‏ ‏أهم‏ ‏نقلة‏ ‏تميز‏ ‏هذا‏ ‏الاتجاه‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏الناقد من‏ ‏البداية‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المسرحية‏ "‏ليست‏ ‏من‏ ‏المسرح‏ ‏الرمزى ‏فى ‏شيء‏": "‏فالنقلة‏ ‏بين‏ "‏شهرزاد‏ (‏الحكيم‏) ‏و‏"‏ياطالع‏ ‏الشجرة‏" ‏هى ‏النقلة‏ ‏من‏ ‏الرمز‏ ‏العقلى ‏إلى ‏الوجود‏ ‏الحيوى": ‏وشتان‏ ‏ما‏ ‏بينهما‏[85].‏
‏ ‏يتضح‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏التفسير‏ ‏أن‏ ‏حدس‏ ‏الناقد‏ (‏وربما‏ ‏الكاتب) ‏قد‏ ‏تخطى ‏الإطار‏ ‏النظرى ‏الذى ‏اعتمد‏ ‏عليه‏ ‏فى ‏التفسير‏. ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏أسس‏ ‏رؤيته‏ ‏على ‏النموذج‏ ‏الفرويدى ‏لتشريح‏ ‏الشخصية‏، ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏فرويد‏ ‏رأى ‏فى "‏أجزاء‏" ‏تشريحه‏ ‏شخوصا‏، ‏أى ‏أنه‏ ‏تبنى ‏فكرة‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏: ‏وهو‏ ‏أمر‏ ‏لم‏ ‏يعلنه‏ ‏فرويد‏ ‏مباشرة‏ أبداً: ‏فعند‏ ‏فرويد‏ ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏الهو‏ (‏أو‏ ‏الهي‏) ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏طاقة‏ ‏دافعة‏ ‏مشوشة‏، ‏لا‏ ‏كيانا‏ "‏ذاتيا‏"، ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏لغتها‏ ‏وصورها‏ ‏وأهميتها‏[86] ‏على ‏أن‏ ‏الناقد‏ ‏هنا‏ ‏التقط‏ ‏احتمال‏ ‏التجسيد‏ ‏العيانى ‏لمستويات‏ "‏الأنا‏" ‏و‏ "‏الهى" ‏و‏ "‏الأنا‏ ‏العليا‏"[87] ‏فى ‏شخوص‏ ‏الرواية‏.‏ ‏رؤية‏ ‏الناقد‏ ‏هى ‏إضافة‏ ‏جديدة‏ ‏سابقة‏ ‏لتأكيد‏ ‏فكرة‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ (‏حالات‏ ‏الأنا‏) ‏التى ‏لم‏ ‏تتضح‏ ‏بهذا‏ ‏الاكتمال‏ ‏إلا‏ ‏مع‏ ‏ظهور‏ ‏التحليل‏ ‏التفاعلاتى (إريك بيرن)[88]‏. ‏وهذا‏ (‏السبق‏) ‏هو حقه‏ ‏دون‏ ‏نزاع‏، ‏كما يبدو‏ ‏أنه‏ ‏أيضا‏ ‏قد‏ ‏استوعب‏ ‏المفهوم‏ ‏التركيبى ‏بشكل‏ ‏دقيق‏ ‏حين‏ ‏أكد‏ ‏على ‏أن‏ ‏المسرحية‏ ‏ليست‏ ‏رمزية‏ ‏بل‏ ‏هى ‏تعلن‏ " "‏الوجود‏ ‏الحيوى" ‏مباشرة‏: ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏فاللاشعور‏ (‏الدرويش‏) ‏هو‏ "‏ذات‏" ‏بلا‏ ‏زمان‏ ‏أو‏ ‏مكان‏ ‏أو‏ ‏منطق‏ ‏أو‏ ‏نظام‏: ‏والرغبة‏ ‏الكامنة‏ ‏فى ‏القتل‏ ‏هى ‏واقع‏ ‏حادث‏ ‏قبل‏ ‏الحدث‏، ‏بعد‏ ‏تحطيم‏ ‏حاجز‏ ‏الزمان‏، ‏إلى ‏آخر‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏بريادة‏ ‏مقبولة‏، إلا أننى ‏قد‏ ‏خيل‏ ‏إلى ‏أن الناقد‏ ‏عاد‏ ‏فتراجع‏ ‏كثيرا‏ ‏أو‏ ‏قليلا‏ ‏عن‏ ‏تجاوز‏ ‏الرمزية‏ ‏حين‏ ‏عاد‏ ‏يقول‏ "‏أما‏ ‏الزوج‏ ‏والزوجة‏ ‏فيمثلان‏ ‏الإنسان‏ ‏والكون‏ ‏أو‏ ‏الحياة‏، ‏وتمثل‏ ‏الشجرة‏ ‏طموح‏ ‏الإنسان‏ ‏كما‏ ‏تمثل‏ ‏السحلية‏ ‏الزوجة‏". ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏مواجهة‏ ‏الوجود‏ ‏الحيوى ‏كما‏ ‏هو‏، ‏دون‏ ‏إشارة‏ ‏إلى ‏أى ‏شئ‏ ‏آخر‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏أراد‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الوجود‏ ‏الحيوى ‏نفسه‏ ‏مكثفا‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏البشرى‏، ‏وليس‏ ‏ممثلا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الوجود‏ ‏الذى ‏فكك‏ ‏النص‏ ‏وحداته‏ ‏ليدير‏ ‏الحوار‏.‏
وبصفة‏ ‏عامة‏ ‏فإنى ‏اعتبرت‏ ‏هذا‏ ‏التفسير‏ ‏قفزة‏ ‏مناسبة‏ ‏تخطت‏ ‏محاولات‏ ‏الناقد‏ ‏السابقة‏، ‏وأفادت‏ ‏ما‏ ‏قصدته‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المقدمة‏ ‏من‏ ‏أهمية‏ ‏أن‏ ‏يتجاوز‏ ‏الناقد‏ (‏قاصدا‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏قاصد‏) ‏معلوماته‏ ‏النفسية‏.‏
‏* * * ‏
أما‏ ‏النموذج‏ ‏الذى ‏اخترناه‏ ‏للناقد‏ ‏نفسه‏ ‏ليمثل‏ ‏النقد‏ ‏النفسى ‏للرواية‏ ‏المصرية‏ ‏المعاصره‏، ‏فهو‏ ‏نقده‏ ‏لرواية‏ "‏السراب‏" ‏لنجيب‏ ‏محفوظ‏. ‏وقد‏ ‏اعتمد‏ ‏الناقد‏ ‏فى ‏تفسيرها‏ ‏على ‏عقدة‏ "‏أورست‏". ‏وقد‏ ‏استعار‏ ‏الناقد‏ ‏تفسيرا‏ ‏لشخصية‏ "‏أورست‏" ‏فى ‏المسرحية‏ ‏الثانية‏ ‏من‏ ‏ثلاثية‏ "‏أجاممنون‏" ‏أكد‏ ‏فيه‏ ‏رولو‏ ‏ماى Rollo May ‏أن‏ ‏قتل‏ ‏أورست‏ ‏لأمه‏ ‏كان‏ ‏إعلانا‏ ‏للانفصال‏ ‏عن‏ ‏الأم‏ ‏إلى ‏العالم‏ ‏الخارجى: "‏لقد‏ ‏اتجه‏ ‏حبى ‏إلى ‏الخارج‏". ‏ولن‏ ‏أناقش‏ ‏هنا‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أكدته‏ ‏عند‏ ‏تناولى ‏لشخصية‏ ‏هاملت‏ ‏من‏‏ ‏أن‏ ‏القتل‏ ‏ليس‏ ‏إيذانا‏ ‏بالانفصال‏ ‏بل‏ ‏إنه فى الأغلب نوع من التعويق للانفصال‏ ‏نتيجة‏ ‏لاحتمالات‏ البصم و‏الاحتواء‏ ‏والبتر‏.‏ ‏دعوتى هنا ‏تنصب‏ ‏على ‏الاعتراض‏ ‏على ‏التقاط‏ ‏وجه‏ ‏الشبه‏ ‏الضعيف‏ ‏لمجرد‏ ‏الاتفاق‏ ‏حول‏ ‏فكرة‏ ‏قتل‏ ‏الأم‏: ‏فبالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏أورست‏ ‏قد‏ ‏قتل‏ ‏أمه‏ ‏فعلا‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏كامل‏ ‏قد‏ ‏شعر‏ "‏وكأنه‏ ‏قتلها‏" ‏فإن‏ ‏بقية‏ ‏الملابسات‏ ‏لا‏ ‏تسمح‏ ‏بافتراض‏ ‏شبه‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏خيانة‏ ‏كليتمنسترا‏ ‏أمُ‏ ‏أورست‏ ‏لأبيه‏، ‏ثم‏ ‏تآمرها‏ ‏لقتله‏، ‏ثم‏ ‏نفيها‏ ‏لابنها‏. ‏فالذى ‏حدث‏ ‏بالنسبة‏ ‏لكامل‏ رؤبة (بطل السراب) ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏العكس‏ ‏تماما‏: ‏فالوالد‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏هجر‏، ‏وكأنه‏ ‏تآمر‏، ‏إهمالا‏ ‏وتخليا‏ ‏عن‏ ‏المسئولية‏، ‏وكامل‏ ‏كان‏ ‏شديد‏ ‏الالتصاق‏ ‏بالأم‏، ‏وكأنه‏ ‏لم‏ ‏يولد‏ ‏أبدا‏، ‏بفعل‏ ‏عدم‏ ‏أمانها‏ ‏وامتلاكه‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏شئ‏. ‏ومن‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏فإن‏ ‏التقاط‏ ‏خيط‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏تعلق‏ ‏جنسى ‏أوديبي‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏صراع‏ ‏للاستقلال‏ ‏فى ‏كدح‏ ‏الجهاد‏ ‏للولادة‏ ‏النفسية‏ ‏فالكينونة‏ ‏المستقلة‏، ‏هو‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يربط‏ ‏بين‏ ‏التفسيرين‏. ‏ولو‏ ‏انطلق‏ ‏الناقد‏ - ‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏إلى‏عقدة‏ ‏أورست‏ ‏أصلا‏ - ‏فالتقط‏ ‏مراحل‏ ‏هذا‏ ‏الصراع‏ ‏بصوره‏ "‏الجنسية‏" ‏و‏"‏الاجتماعية‏" ‏و‏"‏الأخلاقية‏" ‏وغيرها‏، ‏لقدم‏ ‏لنا‏ ‏إضافات‏ ‏جديدة‏ ‏شديدة‏ ‏الثراء‏ ‏لما‏ ‏تمثله‏ ‏رحلة‏ ‏كامل‏ ‏رؤبة‏ ‏لاظ‏[89] ‏الفاشلة‏ ‏للاستقلال‏ ‏بالانطلاق‏ ‏إلى ‏رحاب‏ ‏العالم‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏رحم‏ ‏أمه‏. ‏فمحنة‏ ‏كامل‏ ‏التى ‏عوقت‏ ‏استقلاله‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏فحسب‏ ‏علاقته‏ ‏الإحتوائية‏ ‏بأمه‏، ‏أو‏ ‏علاقته‏ ‏الإستمنائية‏ ‏بجسده‏، ‏أو‏ ‏علاقته‏ ‏الانشقاقية‏ ‏بالجنس‏ ‏المجرد‏، ‏بل‏ ‏كانت‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏معا‏، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏الحرمان‏ ‏من‏ ‏الأب‏ ‏بكل‏ ‏الصور‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتمثلها‏: ‏"الأب‏ ‏الخلقى"، ‏و"الأب‏ ‏القاهر"، ‏و"الأب‏ ‏الحانى"، ‏و"الأب‏ ‏الحامي"‏. ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏حرم‏ "‏كامل‏" ‏من‏ ‏فرص‏ ‏الصراع‏ ‏مع‏ "‏آخر‏" (‏واللجوء‏ ‏إليه‏) ‏فى ‏طريقه‏ ‏إلى ‏النمو‏: ‏فكان‏ ‏التذبذب‏ ‏بين‏ ‏الخوف‏ ‏لدرجة‏ ‏التراجع‏ ‏إلى ‏عالم‏ ‏داخلى ‏مليء‏ ‏بالأوهام‏ ‏واللذائذ‏ ‏السرية‏، ‏وبين‏ ‏أوهام‏ ‏الأمان‏ ‏فى ‏رحم‏ ‏أم‏ (‏رحم‏ ‏نفسي‏) ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏إعطاء‏ ‏أى ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الأمان‏. ‏
تكرار‏ ‏حوادث‏ ‏قتل‏ ‏الوالد‏: ‏فعلا‏ (‏ديمترى ‏كارامازوف‏)، ‏أو‏ ‏تدبيرا‏ ‏فتنفيذا‏ ‏مؤجلا‏ (‏أوديب‏)، ‏أو‏ ‏ثورة‏ ‏وثأرا‏ (‏أوريست‏)، ‏أو‏ ‏حلما‏ ‏أو‏ ‏معنويا‏ (‏كامل‏) - ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏نابع‏ ‏من‏ ‏صعوبة‏ ‏الصراع‏ ‏تعبيرا‏ ‏مأساويا‏ ‏عن‏ ‏جدل‏ "‏الأجيال‏": ‏فبينما‏ ‏يلزم‏ ‏استمرار‏ ‏وجود‏ ‏الوالد‏ ‏كأحد‏ ‏شقى ‏الصراع‏، ‏تتأرجح‏ ‏كفة‏ ‏الصراع‏ ‏فى ‏مأساوية‏ ‏خطرة‏ ‏حين‏ ‏يبدو‏ ‏التخلص‏ ‏منه‏ ‏أحد‏ ‏صور‏ ‏الانتصار‏ (‏الذى ‏يحمل‏ ‏فى ‏داخله‏ ‏حرمانا‏ ‏حتميا‏ ‏من‏ ‏الشريك‏ ‏الضرورى ‏لإكمال‏ ‏مسيرة‏ ‏التكامل‏)، ‏وكأن‏ ‏هذا‏ ‏التكرار‏ ‏يعلن‏ - ‏ضمنا‏ - ‏أن‏ ‏مسيرة‏ ‏التكامل‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتحقق‏ ‏فى "‏جيل‏ ‏واحد‏"، ‏وأنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏على ‏أحد‏ ‏شقى ‏الصراع‏ ‏أن‏ ‏يذهب‏ ‏فى ‏جولة‏ ‏جيل‏ ‏واحد‏، ‏فليذهب‏ ‏الأكبر‏: ‏وما‏ ‏بين‏ ‏البداية‏ (‏المواجهة‏ ‏فى ‏كفاح‏ ‏الاستقلال‏) ‏والتأجيل‏ إلى جولة لاحقة (‏قتل‏ ‏الوالد‏) ‏وبداية‏ ‏الصراع‏ ‏من‏ ‏جديد‏ (‏فى ‏الجيل‏ ‏التالى‏)، ‏تتحرك‏ ‏الأحداث‏[90]. ‏أداة‏ "‏التخلص‏ ‏الاضطرارى" (‏القتل‏) ‏إنما‏ ‏تنبع‏ ‏من‏ ‏غريزة‏ ‏العدوان‏ ‏أساسا‏، ‏وتلعب‏ ‏غريزة‏ ‏الجنس‏ ‏دورا‏ ‏مواكبا‏، ‏حتى ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏القتل‏ ‏نهاية‏ ‏مرعبة‏ ‏ساحقة‏، ‏حيث‏ ‏ثمة‏ ‏ضمان‏ ‏- من خلال الجنس - يعلن‏ ‏أنها‏ ‏نهاية‏ "‏فرد‏": ‏وليست‏ ‏نهاية‏ "‏نوع‏": ‏أى ‏أن‏ ‏الجنس‏ ‏يتحرك‏ ‏ليسهل‏ "‏الفناء‏" ‏الفردى ‏بضمان‏ ‏البقاء‏ ‏النوعى" ‏فلا‏ ‏مبرر‏ - ‏إذن‏ - ‏لأن‏ ‏تترجم‏ ‏كل‏ ‏جريمة‏ ‏قتل‏ ‏والدية‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏وراءها‏ ‏من‏ ‏دوافع‏ ‏جنسية‏، ‏تهميشا لدور‏ ‏العدوان‏ ‏القاتل‏ - ‏فى ‏معركة‏ ‏الاستقلال‏ ‏والبقاء‏ - ‏ ‏فى بقاء ‏الوجود‏ ‏البشرى‏. ‏يعد‏ ‏تفسير‏ ‏رولو‏ ‏ماى ‏لأوريست‏، ‏وتفسير‏ ‏عز‏ ‏الدين‏ ‏إسماعيل‏ ‏لكامل‏، ‏من‏ ‏التفسيرا‏ت ‏التى ‏لم‏ ‏تدر‏ ‏أساسا‏ ‏حول‏ ‏العلاقة‏ ‏الجنسية‏ ‏الثلاثية‏ ‏بين‏ ‏أب‏ ‏وأم‏ ‏وابن‏، ‏بل‏ ‏هى ‏معركة‏ ‏استقلال‏ ‏تظهر‏ ‏على ‏السطح‏ ‏من‏ ‏منطلقات‏ ‏متعددة‏ ‏وبلغات‏ ‏مختلفة‏.‏
‏أزعم‏ - ‏إضافة‏ إلى ذلك - ‏أن‏ ‏العلاقة‏ ‏المريضة‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏رواية‏ "‏السراب‏" ‏كان‏ ‏يستحسن أن ننظر‏ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏مشكلة‏ ‏الأم‏ ‏أساسا‏ ‏لا‏ ‏مشكلة‏ ‏الإبن‏. ‏وقد‏ ‏أشار‏ ‏الناقد‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏البعد‏، ‏ولكن‏ ‏فى ‏موقع‏ ‏الأرضية‏ ‏غالبا‏، ‏أعنى ‏أن‏ "‏العقدة‏" (‏مع‏ ‏تحفظى ‏على ‏هذه‏ ‏التسمية‏) ‏هى ‏ليست‏ ‏عقدة‏ ‏كامل‏، ‏فى محاولته أن ‏ ‏ينفصل‏ ‏عن‏ ‏أمه‏، ‏بل‏ ‏هى ‏عقدة‏ ‏ ‏أمه‏ ‏إذ‏ ‏ترفض‏ ‏ولادته‏، ‏وكلما‏ ‏تحرك‏ ‏كامل عنوة‏ ‏بعيدا‏ ‏عنها‏ ‏لاحقته‏ ‏بكل‏ ‏ثقل‏ ‏أنفاس‏ ‏حبها‏ الاستحواذى ‏وعنف‏ ‏إغارة‏ ‏عدم‏ ‏أمانها‏. ‏فالتفاف‏ ‏الحبل‏ ‏السرى النفسى ‏حول‏ ‏عنق‏ ‏كامل‏ ‏وروحه‏ ‏وجنسه‏ ‏كان‏ ‏يعلن‏ ‏طوال‏ ‏الرواية‏ ‏أن‏ ‏الأم‏ ‏قررت‏ ‏ألا‏ ‏تكمل‏ ‏الولادة‏ ‏وأنها أنفذت‏ ‏قرارها‏. ‏الرواية‏ ‏كلها‏ كانت ‏محاولات‏ ‏مأساوية‏ ‏متلاحقة‏ ‏لتحقيق‏ "‏التراجع‏" ‏المستحيل‏: ‏التراجع‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏يصيرا‏ "‏اثنين‏" منفصلين (ولادة) . ‏وفى ‏البداية‏ ‏أسقطت‏ الأم ‏ذاتها‏ ‏الطفلية‏ ‏عليه‏ ‏لتعلن‏ ‏أنها‏ ‏هى ‏هو‏: ‏فألبسته‏ ‏ملابس‏ ‏البنات‏، ‏ثم‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أعلنت‏ ‏امتلاكه‏ ‏ما‏ ‏استطاعت‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏سبيلا‏. ‏وحين‏ ‏قرر‏ ‏الانفصال‏ ‏عنها‏ ‏ذهبت‏ "‏معه‏" ‏فى ‏داخله‏، ‏تعجزه‏ ‏عن‏ ‏أى ‏علاقة‏ ‏كاملة‏: ‏فإما‏ ‏جنس‏ ‏قح مع امرأة عابرة‏، ‏وهو‏ ‏صورة‏ ‏مؤقتة‏ ‏لاستمناء‏ ‏آخر‏، ‏وإما‏ ‏زواج‏ "‏نظرى"، مع‏ ‏وقف‏ ‏التنفيذ‏. ‏أما‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ابنها منفصلا عنها‏ ‏شخصا‏ ‏"كاملا" بذاته ‏يتصل‏ ‏بشخص‏ ‏كامل غيرها‏، ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الموت‏ ‏بعينه‏ ‏لكيان‏ ‏الأم‏ ‏المهزوم‏ ‏بالوحدة‏ ‏والهجر‏ ‏والحرمان‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يوجد‏ ‏كامل‏ ‏بزمن‏ ‏بعيد‏. ‏فالقتل‏ ‏يصبح‏ ‏هنا‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏إعلان‏ ‏استحالة‏ ‏الإنفصال‏ ‏بالحوار‏ ‏والمواجهة‏: ‏لأنه‏ ‏ليس‏ ‏ثمة‏ ‏فرصة‏ ‏أصلا‏ ‏لحوار‏ ‏أو‏ ‏مواجهة‏: ‏فالأولى أن‏ ‏نسمى ‏العقدة‏ ‏بعقدة‏ "‏الاحتواء‏"، ‏أو‏ "‏الولادة‏ ‏الممنوعة‏" (‏مع‏ ‏التحفظ‏ ‏على ‏كلمة‏ ‏عقدة‏ ‏وتفضيلى ‏لكلمة‏ "‏قضية‏" - ‏ولكنه‏ ‏الحرص‏ ‏على ‏المقارنة‏). ‏هذه‏ ‏العقدة‏ ‏أظهر‏ ‏عند‏ ‏كامل‏ ‏منها‏ ‏عند‏ ‏أوريست‏: ‏فطغيان‏ ‏كليتمنسترا‏ ‏كان‏ ‏طغيانا‏ ‏صريحا‏ ‏ملاحقا‏ (‏بحيث‏ ‏يغرى ‏بالمواجهة‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏يدعو‏ ‏إليها‏)، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏طغيان‏ ‏أم‏ ‏كامل‏ ‏كان‏ ‏سلبيا‏ ‏إمتلاكيا‏ ‏يحرم‏ ‏الابن‏ ‏من‏ ‏أى ‏معركة‏ ‏صريحة‏: ‏فليس‏ ‏أمامه‏ ‏إلا‏ ‏الهرب‏، ‏وأين‏ ‏المهرب‏، ‏وهى - ‏أيضا‏ ‏وقبلا‏ - ‏بداخله؟‏.‏
على ‏أن‏ ‏جذب‏ ‏الأم‏ ‏المستمر‏ ‏يـُـنّشط‏ ‏فى ‏الإبن‏- ‏كل‏ ‏ابن‏ - ‏دافعا‏ ‏أصيلا‏ ‏أيضا‏ ‏يغريه‏ ‏بالتراجع‏ ‏عن‏ ‏محاولة‏ ‏الاستقلال‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يظهر‏ ‏فيما‏ ‏يسمى "‏الحنين‏ ‏للعودة‏ ‏إلى ‏الرحم‏". ‏وقد‏ ‏يأخذ‏ ‏شكل‏ ‏الجنس‏ "‏رمزيا‏"، ‏فتتعقد‏ ‏المشكلة‏، ‏ويصبح‏ ‏الجذب‏ ‏من‏ "‏الخارج‏" (‏الأم‏) ‏والدفع‏ ‏من‏ ‏الداخل‏ (‏التراجع‏ ‏إلى ‏الرحم‏ ‏تجنبا‏ ‏للإستقلال‏ ‏والمسئولية‏) ‏من‏ ‏أقوى ‏القوى ‏التى ‏تحول‏ ‏دون‏ ‏الحياة‏ (‏الأمام‏/ ‏الآخر‏).‏
‏* * * ‏
بديهى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الشروح‏ ‏الجانبية‏ ‏ليست‏ ‏سوى "‏هوامش‏" ‏على ‏النقد‏ ‏المقدم‏، ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏مجال‏ ‏لإعادة‏ ‏النظر‏ ‏بشكل‏ ‏متكامل‏ ‏إلا‏ ‏بدراسة‏ ‏مفصلة‏ ‏مستقلة‏، ‏ولكنى ‏أردت‏ ‏فقط‏ ‏أن‏ ‏أعلن‏ ‏إحتياجنا‏ ‏إلى ‏الإنتقاء‏ (‏من‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏نفسى‏)، ‏وإلى ‏المراجعة‏، ‏وإلى ‏إعادة‏ ‏الصياغة‏، ‏ما‏ ‏ظل‏ ‏النص‏ ‏مثيرا‏ ‏مولدا‏، ‏وما‏ ‏واصلت‏ ‏المعارف‏ ‏النفسية‏ ‏وغير‏ ‏النفسية‏ ‏كشوفها‏ ‏وتعديلاتها‏. ‏كذلك‏ ‏أردت‏ ‏أن‏ ‏أنبه‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏الأفضل‏ ‏مواجهة‏ ‏كل‏ ‏نص‏ ‏أصيل‏ (‏بما‏ ‏هو‏) ‏وليس‏ ‏بقياس‏ ‏ملزم‏ ‏بأسطورة‏ ‏قديمة‏ ‏أخذت‏ ‏مكانها‏ ‏ومكانتها‏ ‏فى ‏وجدان‏ ‏المجتمع‏ ‏البشري‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏تشابهت‏ ‏بعض‏ ‏الجزئيات‏: ‏فينبغى ‏ألا‏ ‏نشير‏ ‏إلا‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏التشابه‏، ‏ليصبح‏ ‏كل‏ ‏نص‏ ‏جديد‏ ‏بمثابة‏ ‏فرصة‏ ‏جديدة‏ ‏لإضافة‏ ‏جديدة‏. ‏وقد‏ ‏بينا‏ ‏منذ‏ ‏قليل‏ ‏أوجه‏ ‏الإختلاف‏ ‏البالغة‏ ‏بين‏ ‏النص‏ ‏والأسطورة‏ ‏المستشهد‏ ‏بها‏[91]. ‏وأعتقد‏ ‏أن‏ ‏معركة‏ ‏كامل‏ ‏مع‏ ‏أمه‏ ‏قد‏ ‏بلغت‏ ‏من‏ ‏الثراء‏ ‏ووعدت‏ ‏بالعطاء‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يستدعى ‏إقحام‏ ‏موضوع‏ ‏موت‏ ‏الأم‏ (‏وكأنه‏ ‏القتل‏ ‏الفعلي‏) ‏إلا‏ ‏بما‏ ‏قد‏ ‏يمثله‏ ‏من‏ ‏أرضية‏ ‏داخلية‏ ‏كامنة‏، ‏أو‏ ‏بوصفه‏ ‏النتاج‏ ‏الطبيعى ‏للعجز‏ ‏عن‏ ‏الولادة‏ ‏النفسية‏: ‏فالولادة‏ (‏النفسية‏) ‏الطويلة‏ ‏المتعسرة‏ ‏هنا‏ ‏تنتهى ‏بموت‏ ‏الأم‏، ‏وإخراج‏ ‏جنين‏ ‏عاجز‏ ‏مشوه‏.‏
تعليقات إضافية:‏ ‏‏ ‏رفض‏ ‏الناقد‏ "‏فجأة‏" ‏التناقض‏ ‏فى ‏شخصية‏ ‏كامل‏ "‏الأوديبية‏ ‏الأورستية‏" ‏التى ‏نشأت‏ ‏من‏ "‏إقحام‏ ‏موضوع‏ ‏آخر‏ ‏مناقض‏ ‏هو‏ ‏قتل‏ ‏الأب‏".. "‏فالشخصية‏ - فى رأيه- ‏إما‏ ‏أن‏ ‏تمثل‏ ‏هذا‏ ‏الوجه‏ ‏الحضارى ‏الإجتماعى ‏أو‏ ‏ذاك‏: ‏أى ‏أنها‏ ‏إما‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏بكل‏ ‏مشكلاتها‏ ‏النفسية‏ ‏وليدة‏ ‏حكم‏ ‏الأب‏ ‏أو‏ ‏حكم‏ ‏الأم‏"[92] ‏ويرفض‏ ‏الناقد‏ أيضا ‏إحتمال‏ "‏أن‏ ‏تكون‏ ‏وليدة‏ ‏هذين‏ ‏النوعين‏ ‏من‏ ‏الحكم‏ ‏معا‏" ‏على ‏المستوى "‏الفردى"، ‏ولكنه‏ ‏يقبله‏ ‏على ‏المستوى ‏الرمزى (‏للمجتمع‏)، ‏مع‏ ‏التحفظ‏ ‏ضد‏ "‏الصناعة‏ ‏المقصودة‏ ‏مسبقا‏". ‏هذا‏ ‏رأى ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يثير‏ ‏الدهشة‏: ‏لأن‏ ‏العكس‏ ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏: ‏فمعركة‏ ‏الاستقلال‏ ‏البنوى ‏تسير‏‏ ‏فى ‏خطوط‏ ‏متوازية‏ ‏ثم‏ ‏متداخلة‏، ‏وتصارع‏ ‏كل‏ ‏الصور‏ ‏الوالدية‏ ‏بنفس‏ ‏الحتمية‏، ‏وإن‏ ‏اختلفت‏ ‏اللغات‏. ‏وأعتقد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الميل‏ ‏إلى ‏الإستقطاب‏ عند الناقد ‏قد‏ ‏ساعدت‏ ‏عليه‏ ‏شدة‏ ‏رغبة‏ ‏الناقد‏ ‏فى ‏تطبيق‏ ‏نموذجه‏ ‏الذى ‏ارتضاه‏: ".. ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏أرى ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏إقتصر‏ ‏الكاتب‏ ‏على ‏تقديم‏ ‏كامل‏ ‏فى ‏إطار‏ "‏أورست‏" ‏وحده‏ ‏لكان‏ ‏ذلك‏ ‏أكثر‏ ‏إقناعا‏ ‏لنا‏ ‏بوجوده‏ ‏الحى"[93]. ‏وأحسب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الإقتراح‏ ‏هو‏ ‏الذى كان يمكن أن ‏يجعل‏ ‏العمل‏ ‏ماسخا‏: ‏لأنه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏سيقدم‏ ‏لنا‏ ‏شخصا‏ ‏مصنوعا‏ ‏يسير‏ ‏فى "‏خطوط‏ ‏هندسية‏ ‏مصنوعة‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏قبل‏". ‏وهى ‏مصنوعة‏ ‏من‏ ‏إلزام‏ - ‏ضمنى - ‏بأبعاد‏ ‏أسطورة‏ ‏قديمة‏ ‏أدت‏ ‏دورها‏ ‏فى ‏حدودها‏، ‏ولو‏ ‏تكررت‏ ‏لما‏ ‏كان‏ ‏ثمة‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏فن‏ ‏جديد‏. ‏وأخشى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏مضاعفات‏ ‏الحماسة‏ ‏للمذهب‏ ‏النفسى‏. ‏الرواية‏ ‏بوضعها‏ ‏الواقعى ‏الفردى‏، ‏لا‏ ‏الرمزى ‏الإجتماعي‏، ‏قد‏ ‏وصلت‏ ‏فى ‏إظهار‏ ‏مشكلة‏ ‏تعسر‏ ‏الولادة‏ ‏النفسية‏ ‏إلى ‏أبعد‏ ‏مما‏ ‏أتاحته‏ ‏المعرفة‏ ‏النفسية‏ ‏المتاحة‏ ‏للكاتب‏ ‏وقت‏ ‏صدورها‏، (‏أو‏ ‏حتى ‏لغيره‏، ‏و‏‏حتى ‏الآن‏)، ‏وبهذا‏ ‏تصبح‏ ‏مصدرا‏ ‏معلِّما‏ ‏نقيس‏ ‏عليه‏ (‏إن‏ ‏شئنا‏) ‏ولا‏ ‏نقيسه‏ ‏بغيره‏.‏
كذلك‏ ‏أدخل‏ ‏الناقد‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ "‏فجأة‏ ‏إيضا‏" ‏قضية‏ ‏تحرر‏ ‏المرأة‏، ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يدل‏ ‏تمرد‏ ‏كامل‏ ‏على ‏أمه‏ ‏على ‏انتكاس‏ ‏رجعى ‏فى ‏حياتنا‏، ‏حين‏ ‏ينكر‏ ‏الابن‏ ‏سلطان‏ ‏أمه‏ (‏وحقوقها‏) ‏ويجاهد‏ ‏للتخلص‏ ‏منها‏. ‏ولنفى ‏هذا‏ ‏الظن‏ ‏يورد‏ الناقد ‏تفسيرا‏ ‏من‏ ‏محاكمة‏ ‏أورست‏ (‏لا‏ "‏كامل‏" !)[94].‏
وقد‏ ‏كان‏ ‏الأوْلى ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏تحرر‏ ‏الأم‏ ‏يستحيل‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏إلا‏ ‏بتحرر‏ الابن‏ (‏جدل‏ "‏العبد‏" ‏و‏ "‏السيد‏" ‏عند‏ ‏هيجل‏)، ‏ومن‏ ‏ثم‏ - ‏دون‏ ‏است
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زهرة الفيوم
عضو لامع
عضو لامع
زهرة الفيوم

انثى
عدد الرسائل : 1043
 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 210
بلد الإقامة : الفيوم
احترام القوانين :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 111010
العمل :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Profes10
الحالة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 710
نقاط : 7382
ترشيحات : 28
الأوســــــــــمة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 222210

 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى    تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى I_icon_minitime20/10/2012, 19:34

التفسير الأدبى للنفس
قراءات فى ديستويفسكى (1)
الفصل الثانى
‏عالم الطفولة من ديستويفسكى
أولا: مقدمات
واقع‏ ‏النفس‏ ‏وسرعة‏ ‏التغير‏‏
حول‏ 1845 (‏أقل‏ ‏قليلا‏ "الحمل‏ ‏والحضانة‏"، ‏أو‏ ‏أكثر‏ ‏قليلا "الكتابة‏ ‏والنشر‏") ‏تم‏ ‏افراز‏ ‏هذين‏ ‏العملين‏ ‏موضوع‏ هذه ‏الدراسة‏. ديستويفسكى‏ ‏يقول‏ ‏لنا‏ ‏ما‏ ‏رآه‏ ‏فينا/فيه، ‏ ‏و‏"‏هو‏" لا يزال شابا آنذاك، لكن مارآه هذا ما زال ‏فينا الآن‏، ‏عام‏ 1982،[1]، ‏فهل‏ ‏هذا صحيح؟ هل يمكن ‏ ‏أن‏ ‏نعتبر‏ ‏ما‏ ‏قاله‏ ‏ديستويفسكى ‏وعاشه‏ ‏ورآه ‏هو‏ ‏هو‏ ‏نحن‏ ‏الآن‏؟‏ ‏الإجابة‏ ‏الأرجح عندى: ‏أن‏ "‏نعم‏"، ‏بل‏ ‏هو‏ قد ‏يصح‏ ‏أكثر‏ ‏ ‏ ‏فى ‏ظروفنا الأحدث‏. ‏النفس‏ ‏الانسانية‏ ‏لا‏ ‏تتغير‏ ‏بالسرعة‏ ‏الظاهرة‏ ‏لتغيرات‏ ‏السلوك‏، ‏وما‏ ‏قاله‏ ‏الشاعر‏ ‏الجاهلى ‏ما‏ ‏زال‏ ‏ينبض‏ ‏فى ‏وجداننا‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏ثمَّ‏ ‏من‏ ‏يشرف‏ ‏بالانتباه‏ ‏الى ‏وجدانه‏ ‏يقظا‏ ‏بنفس‏ ‏الدرجة‏، ‏والأسطورة‏ ‏ما‏ ‏زالت‏ ‏مرجعا‏ ‏لدارس‏ ‏النفس‏ ‏باعتبارها‏ ‏مصدرا‏ ‏أساسيا‏ ‏لفهم‏ ‏تراكيبها‏.‏ ‏حين‏ ‏نقرأ‏ ‏ديستويفسكى ‏معا‏ ‏حالا،‏ ‏يمكن‏ ‏ان‏ ‏نعتبر‏ - ‏بدرجة‏ ‏مناسبة‏ ‏- أننا‏ ‏نقرأ‏ ‏أنفسنا‏ ‏الآن‏ ‏دون‏ ‏اعتبار‏ ‏خاص‏ ‏لفارق‏ ‏الزمن‏، ودون نفى مطلق لبعض التفاصيل السلوكية أكثر من التركيبية، ‏إنْ‏ ‏سلبا‏ ‏وإن‏ ‏ايجابا‏.
‏الترجمة‏: ‏فضلها‏ ‏وحدودها‏‏
كل‏ ‏قراءة‏ ‏منشئة‏ ‏هى‏"‏إعادة‏ ‏إبداع‏"، ‏وهى ‏مسئولية‏ ‏متجددة‏ ‏إن‏‏ ‏صح‏ ‏هذا‏ ‏الافتراض‏ ‏فى ‏القراءة‏ ‏المتذوقة‏ ‏المعيشة‏، ‏فهو‏ ‏يصح‏ ‏أكثر‏ ‏فى ‏الترجمة‏ ‏التى ‏هى ‏قراءة‏ ‏مبدعة‏ ‏ثم‏ ‏أمانة‏ ‏ملتزمة‏ ‏ثم‏ ‏صياغة‏ ‏جديدة‏، ‏أعمال ديستويفسكى التى بين أيدى معظمنا هى أعمال مترجمة‏ (‏ربما‏ ‏للمرة‏ ‏الثانية‏)، ‏والترجمة‏ ‏بهذا‏ ‏القياس‏ ‏وخاصة تلك التى بين يدىّ هى‏ ‏إبداع‏ ‏أساسا‏، ‏وفى ‏تصورى، ‏وكما‏ ‏وصلنى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الترجمة‏ ‏المتميزة‏ (‏د‏.‏سامى ‏الدروبى) ‏أنه‏ ‏يرجع‏ إليها ‏كثير‏ ‏من‏ ‏فضل‏ ‏ما‏ ‏بلغنى ‏بلغتى ‏العربية‏. اللغة‏- ‏أى ‏لغة‏ - ‏لها‏ ‏شخصيتها‏ ‏ونبضها‏ ‏وحركتها‏ ‏وإيقاعها‏ ‏وطبقاتها‏ ‏وإيحاءتها‏ - ‏وبالتالى ‏فانى ‏شديد‏ ‏التحفظ‏ ‏وأنا‏ ‏أدعى ‏أن‏ ‏ديستويفسكى ‏قال‏ ‏كذا‏ ‏و‏‏عنى ‏كيت‏، ‏لعله‏ ‏د‏.‏سامى ‏الدروبى، ‏ولعله‏ ‏كاتب‏ ‏هذه‏ ‏السطور‏، ‏ولكنى ‏شديد‏ ‏اليقين‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏أنه‏ ‏قاله‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏مطابقته‏ "‏الموضوعية‏ " ‏لحقائق‏ ‏المعرفة‏ ‏المتماسكة‏ ‏فى ‏ذاتها‏، ‏المثيرة‏ ‏لمثيلها‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏المتلقى، ‏المتناغمة‏ ‏مع‏ ‏بقية‏ ‏أعمال‏ ‏المبدع‏ ‏وتراجمه‏.‏
مسئولية‏ ‏القارئ‏ ‏(والمترجم أكثر القراء معاناة حالة كونه ناقدا طبيعيا رغم أنفه) هو ‏أن‏ ‏يتخذ‏ ‏لنفسه‏ ‏موقفا‏ ‏جديدا‏ ‏يعيد‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏صياغة‏ ‏ما‏ ‏وصله‏ ‏[2].‏
مادة‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏هى من خلال ‏تلك‏ ‏الترجمة‏ ‏المشار‏ ‏إليها‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏ولا‏ ‏أقل‏، ‏ومع ذلك، ‏سوف‏ ‏أعامل‏ "‏النص‏" ‏باعتباره‏ ‏ديستويفسكيا‏ ‏صرفا‏ (‏حتى ‏يثبت‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏) ‏ولن‏ ‏أعود‏ ‏لإيضاح‏ ‏هذه‏ ‏النقطة‏‏ ‏أبدا‏.‏
أعمال‏ ‏مستقلة‏:‏
كنت‏ ‏أود‏- ‏وما‏ ‏زلت‏ - ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏حديثى ‏عن‏ ‏النفس‏ ‏كما‏ ‏رآها‏ ‏ديستويفسكى ‏من‏ ‏خلال‏ ‏دراسة‏ ‏طويلة‏ ‏شاملة‏ ‏تربط‏ ‏بين‏ ‏أعماله‏ ‏وبعضها‏، ‏وبين‏ ‏مراحل‏ ‏نموه‏ ومراحل‏ ‏رؤيته‏، ‏إلا‏ ‏أننى ‏لكى ‏أفعل‏ ‏ذلك‏ - ‏وسط‏ ‏مسئولياتى ‏الأخرى‏- ‏كان‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏أنتظر‏ ‏طويلا‏ ‏طويلا‏، ‏حتى ‏قدرت‏ ‏أن‏ ‏يمتد‏ ‏الانتظار‏ ‏الى ‏ما‏ ‏بعد‏ ‏أجلى، ‏فأقضى ‏حاملا‏ ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏لى ‏حق‏ ‏الاحتفاظ‏ ‏به‏ ‏بعذر‏ ‏وهم‏ ‏الاتقان‏ ‏والشمول‏، ‏فقررت‏ ‏أن‏ ‏أبدأ‏ ‏بعمل‏ ‏مستقل‏ ‏واحد‏ (‏أو‏ ‏بضعة‏ ‏أعمال‏ ‏متقاربة‏ ‏فى ‏المرحلة‏ ‏أوالدلالة‏) ‏أولا‏ ‏بأول‏، ‏فاذا‏ ‏ما‏ ‏انتهيت‏ ‏مما‏ ‏استطعت‏ ‏عدت‏ ‏اليها‏ ‏أنظر‏ ‏فيها‏ ‏مجتمعة‏ ‏لعلها‏ ‏تقول‏ ‏ما‏ ‏تصورته‏ ‏ابتداء‏.
المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏بين‏ ‏العلم‏ ‏والفن‏:‏
‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى يعتمد‏ ‏على ‏الباحث‏ ‏كأداة‏ ‏وجزء‏ ‏من‏ ‏الظاهرة‏ ‏قيد‏ ‏الدراسة‏ - ‏حيث‏ ‏يقوم‏ ‏بالمعايشة‏ ‏فالاحتواء‏ ‏فالإمحاء‏ ‏فاعادة‏ ‏التركيب‏ ‏فالصياغة‏، ‏وهذا يصدق على العلم مثلما يصدق على‏ ‏المبدع‏ ‏الفنان‏. ‏فالباحث‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏أداة‏ ‏البحث‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏هو‏ ‏الباحث‏ ‏الذى ‏تنمحى ‏ذاتيته‏ ‏الخاصة‏ ‏فى ‏موضوعية‏ ‏مشتملة‏ ‏لذاته‏ ‏وموضوعه‏ ‏معا‏، ‏ثم‏ ‏يستعيد‏ ‏ذاته‏ ‏بما‏ ‏أضيف‏ ‏إليها‏ "فيقول‏" (‏أو‏ ‏يعبر‏ ‏بأى ‏أداة‏ ‏شاء‏). بتكرار سخيف، أذكّر أن‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏ليس‏ ‏استبطانا، كما أنه ليس ملاحظة عن بعد، هو موضوعى ‏بقدر‏ ‏مرونة‏ ‏الباحث به ‏وتناسقه‏ ‏مع‏ ‏موضوعه‏ ‏وقدرته‏ ‏على ‏الاحتواء‏ ‏والإمحاء‏ ‏والإعادة‏ ‏والاستعادة‏ ‏والصياغة‏ ‏المباشرة‏ ‏دون‏ "‏استبطان‏ "‏ذات‏ ‏أو‏ "‏تأمل‏" ‏أجزاء‏، ‏بل‏ ‏بافراز‏ ‏نتاج‏ ‏المعايشة‏ ‏تلقائيا‏ ‏ومباشرة ‏!! ‏الأديب والناقد‏ ‏المبدع‏‏ ‏يفعلان‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يدرك‏ ‏أى منهما أنه ‏"‏فينومينولوجي‏" ‏بالضرورة‏، ‏وأنه‏ إنما‏ ‏يصوغ ‏"‏حياة‏ ‏عاشها‏ ‏فى ‏موضوعاته (الداخلية والخارجية) معا‏" ‏صياغة‏ ‏جديدة‏ ‏متناسقة‏ ‏متفوقة‏ ‏عن‏ ‏الواقع الأصل ليصنع منها جدلا واقعا أكبر وأشمل، وهو ما أسميه الواقع الإبداعى. ‏
لماذا ديستويفسكى:
‏(1) ‏لأنه‏ ‏غير‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏القارىء‏ ‏العربى ‏وأعماله‏ ‏المترجمة‏ ‏فى ‏متناوله‏.‏
‏(2) ‏ولأنه‏ ‏رائد‏ ‏فى ‏رحلات ‏"‏الداخل/الخارج‏" ‏واصفا‏ ‏تفاصيل‏ ‏التفاصيل‏.
‏(3) ‏ولأنه‏ ‏صاحب‏ ‏تجربة‏ ‏مرضية‏ ‏ذاتية‏ ‏اعتقد‏ ‏أنها‏ ‏ذات‏ ‏دلالة‏ ‏فى ‏دفع‏ ‏إبداعه‏ ‏وتمييز محتواه‏ ‏جميعا‏.‏
‏(4) ‏ولأنه‏ ‏قد‏ ‏غطى ‏مساحة‏ ‏هائلة‏ ‏من‏ ‏النفس‏ ‏فى ‏مختلف‏ ‏مراحل‏ ‏تطوره‏ ‏الشخصى ‏وتطور‏ ‏المجتمع‏ ‏وتطور‏ ‏رؤيته‏.‏
‏قارئ‏ ‏ديستوفسكى ‏يعرف ما يقال عن ‏أغلب‏ ‏شخصياته‏ - ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏جميعها‏ ‏حتى ‏الشخصيات‏ ‏الخلفية‏ ‏والثانوية‏ - ‏من أنها ‏من‏ ‏الشواذ‏، ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏الشذوذ‏ ‏مرضا‏ ‏صريحا‏، ‏أم‏ ‏انحرافا‏ ‏عجيبا‏، ‏أم‏ ‏تميزا‏ ‏غير‏ ‏مألوف‏، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏قد‏ ‏يثير‏ ‏شكا‏ ‏حول‏ ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏ديستويفسكى ‏فى ‏عطائه‏ ‏المعرفى ‏الفنى ‏هذا‏ ‏قد‏ ‏وصف‏ ‏النفس‏ ‏الإنسانية‏ ‏العادية‏، ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يصف‏ ‏إلا‏ ‏حالتها‏ ‏الشاذة‏ (‏والمرضية‏) ‏فحسب‏، ‏نفس‏ ‏النقد‏ ‏الذى ‏وجه‏ ‏لسيجموند‏ ‏فرويد‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏استقى ‏معلوماته‏ ‏من‏ المرضى ‏وعممها‏ ‏على ‏الأصحاء‏. ‏هذا‏ ‏الهجوم‏ ‏الهادف‏ ‏للفصل‏ ‏الحاد‏ ‏بين‏ ‏السواء‏ ‏والمرض‏ ‏هو‏ - فى نظرى – حيلة دفاعية ربما نلجأ إليها- نحن الأصحاء !- ‏لتحمينا‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏أنفسنا‏ فى عمق تركيبها، وبالتالى تحرمنا‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏المرض‏ ‏والحقيقة‏. المريض‏ ‏والشاذ‏- ‏فى ‏المجال‏ ‏النفسى - ‏تضخيم وتعرية بشكل صارخ‏ ‏فيه‏ ‏لأحد‏ ‏جوانب‏ ‏تركيبنا‏ ‏ووجودنا‏، ‏والباحث‏ ‏الأمين‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يبحث‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الجانب‏ ‏تحت‏ ‏نور‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ ‏المكبَّرة‏، ‏فإذا‏ ‏تمكن‏ ‏من‏ ‏سبر‏ ‏غورها‏ ‏رآها‏ ‏هى ‏هى ‏فى ‏الشخص السليم‏ ‏بدرجة‏ ‏أخف‏، ‏وبتكامل‏ ‏أشمل‏ ‏مع‏ ‏سائر‏ ‏الجوانب‏ ‏الأخرى، ‏وبتعبير‏ ‏آخر‏: ما‏ ‏المرض‏ ‏الا‏ "‏مبالغة‏ ‏منفصلة‏" (‏مستقلة‏) ‏فى ‏نشاط‏ ‏تركيب‏ ‏قائم‏ ‏يوجد‏ ‏أصلا‏ ‏كجزء‏ ‏متسق‏ ‏مع‏ ‏الكل‏ ‏عند‏ ‏الأسوياء‏. إن رفض‏ ‏رؤية‏ ‏الشاذ‏ ‏كنموذج‏ ‏مكبر‏ ‏لأجزاء‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏هو‏ ‏دفاع‏ ‏ذاتى ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏سيتراجع‏ ‏المختبئون‏ ‏فيه‏ ‏عودة‏ ‏الى ‏الحق‏ ‏أو‏ ‏إنهاكا‏ ‏من‏ ‏الباطل‏، ‏ويكفى ‏لسوىٍّ ‏خائف‏، (‏عالم‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏عالم‏) ‏أن‏ ‏يتشجع‏ ‏بالنظر‏ ‏فى ‏أحلامه‏ (‏ما‏ ‏يصله‏ ‏من‏ ‏أحلامه‏) ‏ليرى ‏مدى ‏شذوذه‏ ‏الذى ‏يسارع‏ ‏برفضه‏.‏
شخصيات‏ ‏ديستوفيسكى "‏الشاذة‏" ‏ما‏ ‏هى ‏إلا‏ ‏داخلنا‏ ‏بكل‏ ‏تفاصيله‏ ‏وقد‏ ‏وضع‏ ‏تحت‏ ‏عدسة‏ ‏حدسه‏ ‏المكبرة‏.
والآن: إلى قراءة المتن نقداً
‏ثانيا: نيتوتشكا‏ ‏نزفانوفا‏‏
هى ‏رواية‏ ‏متوسطة‏ ‏كتبها‏ ‏ديستويفسكى ‏فى ‏عامى 1849,1847، ‏أو‏ ‏هى ‏فى ‏واقع‏ ‏الأمر‏"‏نصف‏ ‏رواية‏"، ‏لأنه‏ ‏كان‏ ‏ينوى ‏أن‏ ‏يكتبها‏ ‏فى ‏ستة‏ ‏أجزاء‏، ‏ثم‏ ‏توقف‏، ‏ويقال‏ ‏أن‏ ‏اعتقاله‏ ‏فى 23 ‏أبريل‏ 1849‏هو‏ ‏الذى ‏قطع‏ ‏عليه‏ ‏عمله‏ ‏فى ‏إنجاز‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏، ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يكف‏ ‏داخل‏ ‏السجن‏ ‏عن‏ ‏الكتابة‏. ‏إن‏ ‏القصة‏ ‏القصيرة ‏"‏البطل‏ ‏الصغير‏" ‏التى ‏تمثل‏ ‏الجزء‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏هذاه الدراسة ‏ ‏ ‏كتبها‏ ‏داخل‏ ‏السجن‏، ‏فلو‏ ‏كان‏ ‏ثمة‏ ‏تكملة‏ ‏ملحة‏- ‏أو‏ ‏ممكنة‏- ‏لهذه الرواية‏ ‏المبتورة‏ ‏لأمكن‏ ‏ذلك‏ ‏داخل‏ ‏السجن‏ ‏كما‏ ‏أمكن‏ ‏لغيرها‏، ‏على ‏أن‏ ‏بتر‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏ونشرها‏ ‏ناقصة‏ ‏كانا‏ ‏فرصة‏ ‏جيدة‏ ‏لأقول:
‏ (1) ‏إن‏ ‏النسيج‏ ‏القصصى ‏المحبوك‏ ‏والمتكامل‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏محور‏ ‏دراستى ‏هذه‏، ‏بل‏ ‏اللقطات‏ ‏المكثفة‏ ‏المستعرضة‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ (‏ليس‏ ‏تماما‏) ‏عن‏ ‏الخط‏ ‏الطولى.
(2) ‏إن‏ ‏حالة‏ ‏الوعى ‏المصاحبة‏ ‏لكتابة‏ ‏عمل‏ ‏ما‏، ‏هى ‏حالة‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏خاص‏ (‏الخصوصية‏ ‏هنا‏ ‏بمعنى ‏الاختلاف‏ ‏عن‏ ‏عموم‏ ‏الوعى ‏فى ‏غير‏ ‏هذا‏ ‏الوقت‏ ‏وليس‏ ‏بمعنى ‏الاختلاف‏ ‏عن‏ ‏وعى ‏سائر‏ ‏الناس‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏محتملا‏)، ‏وهى ‏تكتمل‏ ‏وتنضج‏ ‏فى ‏تهيؤ‏ ‏بذاته‏ ‏وهى ‏تنشِّط ‏تركيبات‏ ‏بذاتها‏، ‏ذات‏"‏حضور‏" ‏متداخل‏، ‏على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏التركيبات‏ ‏ليست‏ ‏جاهزة‏ ‏لتخرج‏ ‏كاملة‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏ترتب‏ ‏لها‏ ‏التهيؤ‏ ‏النوعى ‏المناسب‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تحريك‏ ‏مكوناتها‏ ‏وتنشيطها‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏التهيؤ‏ ‏الخاص الذى يعطى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏تشكيله المتميز‏، ‏فاذا‏ ‏تغير‏ ‏التهيؤ‏ ‏نوعيا وطويلا‏ ‏فقد‏ ‏تنزوى ‏حالة‏ ‏الوعى ‏الخاصة‏ ‏تلك‏ ‏أو‏ ‏تختفى ‏فيعجز‏ ‏المبدع‏ ‏عن‏ ‏إتمام‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏بالذات ‏- ‏دون‏ ‏غيره‏، ‏وكأنه‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏هو‏ ‏ذاته‏ ‏الذى ‏بدأه‏، ‏وكأنى ‏بهذا‏ ‏الفرض أرجح‏ ‏أن‏ ‏المبدع‏ ‏الحقيقى ‏يكون‏ - أثناء إبداعه - ‏هو‏ ‏عمله‏ ‏الذى ‏يعمله‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يكون‏ هو ‏نفسه‏ ‏الشائعة‏، ‏وتتولد‏ ‏شخوصه‏ ‏من‏ ‏طبقات‏ ‏وعيه‏ ‏الإبداعى ‏وتنمو‏ ‏ما‏ ‏استمرمصدر‏ ‏التوليد‏، ‏وقد‏ ‏يؤكد‏ ‏ذلك‏ ‏عملية‏ ‏بتر‏ [3] ‏الصغير‏ "‏لوريا‏"، ‏فقد‏ ‏ظهر‏ ‏هذا‏ ‏الطفل‏ ‏فى ‏مسودة‏ ‏أحد‏ ‏فصول‏ ‏الجزء‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏رواية‏ ‏نيتوتشكا‏ (‏الجزء‏ ‏الذى ‏يجرى ‏فى ‏بيت‏ ‏الأمير‏"‏ك‏") ‏ثم‏ ‏ظهر‏ ‏فى ‏الطبعة‏ ‏الأولى ‏ليحذف‏ ‏تماما‏ ‏فى ‏الطبعة التالية. ‏وكأنه‏ ‏بتر‏ ‏بعملية‏ ‏جراحية‏ ‏قاسية‏ ‏لازمة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏ولعل‏ ‏ذلك‏ ‏تم‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏اضمحل‏ ‏هذا‏ "‏العضو‏" (لوريا) ‏نتيجة‏ ‏لافتقاره‏ ‏الى ‏مقومات‏ ‏نموه ‏(‏حالة‏ ‏الوعى ‏الذى ‏حملته‏ ‏حتى ‏الولادة‏ ‏الباكرة‏) ‏فاستوجب‏ ‏البتر‏ ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يمثله‏ ‏هذا‏ ‏الصبى ‏لوريا‏ ‏كان‏ ‏شديد‏ ‏الأهمية‏ ‏بالنسبة‏ ‏للدراسة‏ ‏الحالية‏ ‏لو‏ ‏أنه‏ ‏إكتمل‏ ‏خلقه‏ ‏فكمل‏ ‏مساره‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏الصبى ‏كان‏ ‏محاصرا‏ ‏بفكرة‏ ‏ملحة‏ " "‏أن‏ ‏أبويه‏ ‏ماتا‏ ‏حزنا‏ ‏وكمدا‏ ‏لأنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يحبهما‏"، ‏وفى ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏معانى ‏الذنب‏ ‏المركب‏،‏ ‏والقتل‏ ‏بالحرمان[4] ‏مما‏ ‏كان‏ ‏سيثرى ‏معرفتنا‏ ‏بعالم‏ ‏الطفولة‏ ‏كما‏ ‏قدمه‏ ‏ديستويفسكى، ‏وخاصة‏ ‏وأننا‏ ‏نلمح‏ ‏بعض‏ ‏ملامح‏ ‏نفس‏ ‏التركيب‏ ‏والميكانزمات‏ ‏عند‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏نفسها‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏التماثل‏ ‏فى ‏الالتقاط‏ ‏والاستضافة‏ ‏فى ‏بيت‏ ‏الأمير ‏(‏مثلهما‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الشأن‏ ‏مثل‏ ‏الكلب‏: ‏فالستاف‏- ‏انظر‏ ‏بعد‏).‏
رواية‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏تتكون‏ ‏من‏ ‏ثلاثة‏ ‏أجزاء‏:
‏الجزء‏ ‏الأول‏: يمثل‏ ‏الطفولة‏ ‏المحرومة‏ ‏البائسة‏ ‏التى ‏نشأت‏ ‏بين‏ ‏أم‏ ‏شبه‏ ‏مريضة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏تعانى ‏أبدا‏ ‏من‏ ‏الإنهاك‏ ‏والفقر‏، ‏وبين‏ ‏زوج‏ ‏هذه‏ ‏الأم‏ ‏المضطرب‏ ‏العاطل‏ ‏الأنانى ‏الخيالى ‏المحبَط‏، ‏الذى ‏اعتبرته‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏والدها‏ ‏منذ‏ ‏بداية‏ ‏إدراكها‏، ‏فأحبته‏ (‏كما‏ ‏سيأتى) ‏وتمنت‏ ‏موت‏ ‏أمها‏ ‏لحسابه‏، (‏رغم‏ ‏حبها‏ ‏السرى ‏لها‏) ‏حتى ‏ماتت‏ ‏الأخيرة‏ ‏وكأنها‏ ‏قضت نحبها‏ ‏من‏ ‏تراكمات‏ ‏البؤس‏ ‏فى ‏ليلة‏ ‏واجه‏ ‏فيها‏ ‏زوجها‏ ‏حقيقة‏ ‏عجزه‏ ("‏الموسيقى‏"!!) ‏عن‏ ‏كل‏ ‏شئ‏، ‏فولّى ‏هاربا‏ ‏من‏ ‏جثة‏ ‏زوجته‏، ‏ومن فشله،‏ ‏ومن حب‏ ‏نيتوتشكا‏، ‏ومن‏ ‏عقله‏ ‏جميعا‏، ‏ليتمتع‏ ‏بحرية‏ ‏الجنون‏ ‏يوما‏ ‏أو‏ ‏أكثر‏ ‏ثم‏ ‏يموت‏ ‏معلِنا‏ ‏الهزيمة‏ ‏الأخيرة‏.‏
الجزء‏ ‏الثانى‏: ‏يشير‏ ‏إلى ‏حياة‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏فى ‏بيت‏ ‏الأمير‏ ‏الذى ‏التقطها‏ ‏بعد‏ ‏ترك‏ ‏والدها[5] (‏زوج‏ ‏أمها‏) ‏لها‏ ‏فى ‏الشارع‏ ‏عاويا‏ ‏جبانا‏ ‏قاسيا‏، ‏وفى ‏هذا‏ ‏الجزء‏ نرى ‏التعويض‏ ‏الصعب‏ (‏لدرجة‏ ‏الاستحالة‏) ‏لبؤس‏ ‏الطفولة‏ ‏الأولى، ‏فنرى ‏العلاقة‏ ‏الزاخرة‏ ‏بين‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏ابنة‏ ‏الأمير‏ ‏وهى ‏فى ‏مثل‏ ‏سنها‏، ‏تلك‏ ‏العلاقة‏ ‏التى ‏بدأت‏ ‏بالتوجس‏ ‏والحذر‏ ‏لتنتهى ‏بالغرام‏ ‏الملتهب‏ ‏بين‏ ‏الطفلتين‏، ‏حتى ‏تحول‏ ‏الأسرة‏ - ‏والظروف‏- ‏بينهما‏. ‏
أما‏ ‏الجزء‏ ‏الثالث‏: ‏فيمثل‏ ‏المراهقة‏ ‏التى ‏أمضتها‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏فى ‏بيت‏ ‏إبنة‏ ‏الأميرة‏ ‏الكبرى - ‏من‏ ‏زواج‏ ‏سابق‏ - (‏ألكسندرينا‏ ‏ميخائيلوفنا‏) ‏حيث‏ ‏لقيت‏ ‏رعاية‏ ‏أموية‏ ‏حقيقية‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏، ‏ولكن‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏شاذة‏ (‏أيضا‏) ‏حيث‏ ‏ظل‏ ‏زوج‏ ‏ألكسندرينا‏، ‏بكل‏ ‏بلادته‏ ‏وتصنعه‏ ‏وانزوائه‏ ‏وغروره‏، يغذِّى ‏شعورا‏ ‏وهميا‏ ‏بالذنب‏ ‏عند‏ ‏زوجته‏ حتى ‏يربطها‏ ‏به‏ ‏وببيتها‏ ‏وطفليها‏ ‏ونفسه‏ ‏دون‏ ‏أدنى ‏كرامة‏ ‏أو‏ ‏إرادة‏، ‏وينتهى ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏والرواية‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تعثر‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏على ‏رسالة‏ ‏تحوى "‏سر‏" ‏هذا‏ ‏الإذلال‏ ‏القاتل‏، ‏وهى ‏رسالة‏ ‏موجهة‏ ‏إلى ‏ألكسندرينا‏ ‏تحمل‏ ‏كل‏ ‏العواطف‏ (‏الأخوية‏) ‏النبيلة‏ ‏مع‏ ‏قرار‏ ‏الانفصال‏ ‏الرزين‏ ‏من‏ ‏حبيب‏ ‏مخلص‏ ‏قديم‏، ‏مما‏ ‏دعى ‏نيتوتشكا‏ ‏أن‏ ‏تعلن‏ ‏ثورتها‏ ‏لصالح‏ "‏الحق‏" ‏فتمثل‏ ‏الضمير‏ ‏القاضى ‏الحامى ‏المسؤل‏ (‏الوالد‏) ‏الذى ‏يضع‏ ‏حدا‏ ‏لهذه‏ ‏المأساة‏ ‏بما‏ ‏يتضمن‏ ‏حق‏ "‏الحق‏ ‏فى ‏الحب‏".
‏تبتر‏ ‏الرواية‏ ‏فجأة‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نعلم‏ ‏ما‏ ‏يترتب‏ ‏عن‏ ‏إعلان‏ ‏هذا‏ ‏الحق‏ ‏من‏ ‏ممارسة‏ ‏أو‏ ‏انهيار‏ ‏أو‏ ‏استمرار‏ ‏أونقلة‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏.‏
تحفظات‏ ‏حول‏ ‏التفسيرات‏ ‏النفسية‏ ‏لمقدم‏ ‏الأعمال‏ ‏المترجمة
كما‏ ‏قدمنا‏، ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏الجزء‏ ‏الأول‏ ‏إنما‏ ‏يروى ‏نشأة‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏التعسة‏ ‏فى ‏جو‏ ‏شديد‏ ‏البؤس‏، ‏مع‏ ‏أمها‏ ‏العاملة‏ ‏المكافحة‏ ‏المحبة‏ ‏لزوجها ‏(‏رغم‏ ‏ما‏ ‏هو‏، ‏وبسببه‏) ‏حيث‏ ‏يقوم‏ ‏هذا‏ ‏الزوج‏ ‏بدور‏ "‏والد‏" ‏نيتوتشكا‏ ‏ليجسد‏ ‏الاضطراب‏ ‏والضياع‏ ‏والخيالية‏ الذاهلة، حتى ‏يفسد‏ ‏كل‏ ‏استقرار‏ ‏عائلى ‏محتمل‏ ‏أو‏ ‏مأمول‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏مصدرا‏ ‏هائلا‏ ‏لفيض‏ ‏زاخر‏ ‏من‏ ‏العواطف‏ ‏الملتهبة‏ ‏الصادرة‏ ‏من‏ ‏تفاعل‏ ‏بؤسه‏ ‏ووحدته‏ ‏وهواجسه‏ ‏ومحاولاته‏ ‏المستميتة‏ ‏لكى ‏يعترف‏ ‏أحد‏ ‏بموهبته‏ "الحقيقية‏ ‏المشوشة‏" ‏أو‏ "‏المزعومة‏ ‏المأمولة‏" (‏لا‏ ‏أحد‏ ‏يدرى - ‏فهو‏ ‏لم‏ ‏يُختبر‏)، ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏يُرى (‏بضم‏ ‏الياء‏) ‏من‏ ‏خلالها‏، ‏ورغم‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏اليه‏ ‏مقدم‏ ‏الترجمة‏ ‏من‏ ‏تصوير‏ ‏حالة‏ ‏بافيموف‏ "‏لعقدة‏ ‏النقص‏" ‏مشيرا‏ ‏بذلك‏ ‏إلى ‏سبق‏ ‏ديستويفسكى ‏لأدلر[6]، ‏فانى ‏رأيت‏ ‏فى ‏يافيموف‏ ‏أساسا‏ ‏إلحاح‏ "‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الشوفان‏" ‏لذاتها‏[7] (‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏الاعتراف‏ ‏بالوجود‏)، ‏لا‏ ‏ليغطى ‏بها‏ ‏نقصا‏ ‏حقيقيا‏ ‏أو‏ ‏متخيلا‏.‏
‏ ‏طوال‏ ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏ظلت‏ ‏هذه‏ ‏الحاجة‏‏ ‏تلح‏ ‏عليه‏ ‏أساسا‏ ‏وتماما‏ ‏حتى ‏لتفسر‏ ‏كل‏ ‏وحدته‏ ‏وكل‏ ‏شقائه‏ ‏وكل‏ ‏ضياعه‏، ‏ولعل‏ ‏علاقته‏ ‏بكمانه‏ (‏أنظر‏ ‏بعد‏) ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏سوى ‏علاقته‏ ‏بذاته‏ (‏من‏ ‏داخل‏)، ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏اليقين‏ ‏بالقدرة‏ ‏الموسيقية‏ ‏الإبداعية‏ ‏الخاصة‏ ‏ليس‏ ‏سوى ‏إعلان‏ ‏أن‏ ‏بداخله‏ ‏من‏ ‏الألحان[8] ما‏ ‏يستحق‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏فيُسمع، ‏"‏ليرى‏" ‏صاحبه، ولم‏ ‏يُثْرِهِ‏ ‏أو‏ ‏يطمئن‏ ‏وجوده‏ ‏أى ‏شئ‏ ‏آخر‏، ‏لاحب‏ ‏زوجته‏ (‏الحقيقى) ‏له‏ ‏ولا‏ ‏أمومة‏ ‏نيتوتشكا‏، ‏ولا‏ ‏غيبوبة‏ ‏الشراب‏، ‏وظل‏ ‏وغْدا‏ ‏طوال‏ ‏الوقت‏، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏علاقته‏ ‏بهذه‏ ‏الطفلة‏ ‏البائسة‏، ‏كان‏ ‏وغدا‏ ‏معها‏ ‏أيضا‏، ‏وأصلا‏، ‏رغم‏ ‏نوبات‏ ‏العواطف‏ ‏المجهضة‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏تظهر‏ ‏منه‏ ‏رغما‏ ‏عنه‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الأحيان‏، ‏ظل‏ ‏لها‏ - وهى الطفلة الوديعة - ‏إبنا‏ ‏مدللا‏ ‏أنانيا‏ ‏حتى ‏تركها‏ ‏فى ‏أصعب‏ ‏المواقف‏ ‏بعد‏ ‏وفاة‏ ‏أمها‏، ‏وهنا‏ ‏أختلف‏ ‏مع‏ ‏من‏ ‏يزعم‏ ‏بأن‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏أوديبية‏ ‏أساسا[9] (‏أو‏ ‏بتصحيح‏ ‏أدق‏: ‏عقدة إلكترا‏) ‏إذ‏ ‏يستشهد‏ ‏ذلك‏ ‏الزاعم‏ ‏بقولها‏: "...‏شعرت‏ ‏نحو‏ ‏أبى... ‏بحب‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏حدود‏، ‏حب‏ ‏غريب‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏الطفولة‏ ‏فى ‏شئ‏" (‏ص‏66) ‏فتصور‏ ‏هذا‏ ‏الناقد‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏طفولة‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يعنيه‏ ‏التفسير‏ ‏الأوديبى ‏لعواطف‏ ‏الأطفال‏، ‏بل‏ ‏ذهب‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏تصور‏ ‏أن‏ ‏ديستويفسكى ‏صالح‏ ‏بين‏ ‏أدلر‏ ‏وفرويد‏ (‏أو‏ ‏جمع‏ ‏بينهما‏) ‏فى علاقة‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏بأبيها‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏مع‏ ‏استمرار‏ ‏تطلعاتها‏ ‏الحالمة‏ ‏نحو‏ ‏القصر‏ ‏المجاور‏ ‏ذى ‏الستائر‏ ‏الحمراء‏ (‏عقدة‏ ‏النقص‏: ‏أدلر‏) ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏إرجاعه‏ ‏مباشرة‏ ‏إلى ‏نشاط‏ ‏خيالها‏ ‏النابع‏ ‏من‏ ‏شقائها‏ ‏وغيره‏ ‏نحو‏ ‏المنزل‏ ‏الجنة‏ (‏الرحم‏ ‏الآمن‏)، ‏لم‏ ‏أجد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏ ‏تصالحا‏ ‏يستأهل هذه‏ ‏الوقفة أو هذا التفسير‏، ‏بل‏ ‏إنى ‏أشك‏ ‏فى ‏جذور‏ ‏النقص‏ ‏كدافع‏ ‏أولى ‏لهذا‏ ‏الخيال‏، ‏فما‏ ‏كانت‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏إلا‏ ‏أمّا‏ ‏لأبيها‏، ‏وما‏ ‏كانت‏ ‏خيالاتها‏ ‏حول‏ ‏القصر‏ ‏ذى ‏الستائر‏ ‏الحمراء‏ ‏إلا‏ ‏خيالات‏ ‏الأطفال‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يعيشوا‏ ‏النقص‏، ‏فهى ‏مجموعة‏ ‏متداخلة‏ ‏من‏ ‏خيالات‏ ‏الاستكشاف‏ ‏والتغير‏ ‏والتعويض‏ ‏جميعا‏، ‏يغذيها‏ ‏هذا‏ ‏القدر‏ ‏الهائل‏ ‏من‏ ‏التعاسة‏ ‏والحرمان‏ ‏لتهرب‏ ‏فى "‏خيالات‏ ‏الأمن‏ ‏والسكينة‏ (‏التى ‏قد‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏الرحم‏ ‏لا‏ ‏إلى ‏التطلع‏) ‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏لافتة‏ "عقدة‏ ‏النقص‏"‏ ومن‏ ‏ثم‏ "‏التعويض‏"!!.‏
ثم إن هذا المقدم الناقد زعم ‏أن‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏وكاتيا‏ (‏إبنة‏ ‏الأمير‏) فى‏ ‏الجزء‏ ‏الثانى ‏تثبت‏ ‏تصالحا‏ ‏جديدا‏ ‏بين‏ ‏أدلر‏ ‏وفرويد‏ ‏حيث‏ ‏ذهب‏ ‏إلى ‏تفسير‏ ‏حب‏ ‏الطفلتين‏ ‏لبعضهما‏ ‏البعض‏ ‏بحب‏ "‏المِثْل‏" ‏الذى ‏قال‏ ‏به‏ ‏فرويد‏، ‏أما‏ ‏صراعهما‏ ‏التنافسى ‏المبدئى ‏فقد‏ ‏عزاه‏ ‏الى ‏ما‏ ‏أشار‏ ‏به‏ ‏أدلر‏ ‏من‏ ‏رغبة‏ ‏التفوق‏ (‏تعويضا‏) ‏وهذا‏ ‏تأكيد‏ ‏جديد‏ ‏لخطورة‏ ‏التسرع‏ ‏بالتفسير‏ ‏النفسى ‏الظاهر‏، ‏ذلك أن‏ ‏علاقة‏ ‏طفلتين‏ ‏مختلفتين‏ ‏عادة ما‏ ‏تبدأ‏ ‏بالحذر،‏ ‏ثم تشمل‏ ‏التنافس،‏ ‏ثم‏ ‏قد‏ ‏تتصاعد‏ ‏الى ‏الالتحام‏ ‏للتكامل‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏إسقاط‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ لداخلها‏ ‏وأحلامها‏ ‏على ‏الأخرى، ‏واستعمال‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏للأخرى ‏بما‏ ‏تحتاجه‏، ‏وكذلك‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏دور‏ "‏الصنو‏"‏[10] فى ‏النمو‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏سوف‏ ‏أعود‏ ‏اليه‏ ‏تفصيلا‏، ‏المهم‏ ‏هنا‏ ‏أنى ‏أنبه‏ ‏ابتداء‏ ‏إلى ‏رفض‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالتفسير‏ ‏النفسى ‏كما هو‏ ‏شائع‏.‏
القصة‏ ‏القصيرة‏: ‏البطل‏ ‏الصغير
‏ ‏قصة‏ "‏البطل‏ ‏الصغير‏"، من وجهة نظر هذه الدراسة، تعتبر‏ ‏هامشا‏ ‏للعمل‏ ‏الأساسى،‏ ‏وهى تكمل‏ ‏رؤية‏ ‏ديستويفسكى ‏للطفولة‏ ‏فى ‏أعماله‏ ‏الباكرة‏، ‏وهى قصة كتبها‏ ‏ديستويفسكى ‏وهو‏ ‏فى ‏سجنه‏ ‏المنفرد‏ ‏بقلعة‏ "‏بتروبافلوسكابا‏"، ‏وهى ‏تقدم‏ ‏لنا‏ ‏الطفولة‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏سهل‏ ‏وحار‏ ‏وشاعرى‏، ‏ففى ‏حين‏ ‏تمثل‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏عالما‏ ‏داخليا‏ ‏زاخرا‏ ‏بكل‏ ‏عوالم‏ ‏الخارج‏ ‏المتناقضة‏، ‏يمثل‏ ‏لنا‏ ‏البطل‏ ‏الصغير‏ ‏عالم‏ ‏الطفولة‏ ‏الراصد‏ "‏للخارج‏" ‏أساسا‏ ‏وبما‏ ‏يستتبعه‏ ‏تفاعله‏ ‏مع‏ ‏هذا‏ "‏الخارج‏"، ‏وقد‏ ‏تعجب‏ ‏ديستويفسكى ‏نفسه‏ - ‏كما‏ ‏تعجب‏ ‏ناقدوه‏ - ‏على ‏التناقض‏ ‏بين‏ ‏جو‏ ‏كتابة‏ ‏القصة‏ ‏فى ‏زنزانة‏ ‏منفردة‏ ‏منتظرا‏ ‏صدور‏ ‏حكم‏ ‏الاعدام‏، ‏وبين‏ ‏جو‏ ‏القصة‏ ".. ‏حياة‏ ‏توشك‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏عيدا‏ ‏لا‏ ‏ينتهى‏"[11]، ‏وعندى أن ‏ذلك‏ ‏يشير إلى أن‏ ‏التهيؤ‏ ‏الذى ‏أشرتُ‏ ‏اليه‏ ‏سالفا‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏بالضرورة‏ ‏مطابقا لنفس الحالة المزاجية المصاحبة للكتابة، فتحريك الوعى الإبداع يأخذ استقلاله بمجرد أن ينطلق بغض النظر عما يثيره،‏ ‏وبأسلوب‏ ‏آخر‏: ‏فليس‏ ‏الجو‏ ‏البهيج‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏ينشأ‏ ‏منه‏ ‏وعى ‏بهيج‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏عمل‏ ‏متفائل‏ ‏سعيد‏، ‏والعكس‏ ‏صحيح‏، ‏وإنما‏ ‏يثار‏ ‏من‏ ‏محتوى ‏الذات‏: ‏ما‏ ‏يماثل‏، ‏أو‏ ‏يكمل‏، ‏أو‏ ‏يعوض‏، ‏أو‏ ‏يعيد‏ ‏تركيب‏، ‏أو‏ يتحدى‏: ‏التهيؤ‏ ‏المحيط‏ ‏حسب‏ ‏درجة‏ ‏الاستعداد‏ ‏ونوع‏ ‏الإعداد‏، ‏ويستمر‏ ‏هذا‏ ‏الوعى ‏المثار‏ ‏باستمرار‏ ‏نوع‏ ‏الإثارة‏ ‏الداخلية‏ ‏والخارجية‏ ‏حتى ‏يصل‏ ‏إلى ‏غايته‏ ‏الإبداعية‏ ‏التى ‏تعطى ‏لكل‏ ‏عمل‏ ‏استقلاليته‏ ‏الفريدة‏، ‏وقد‏ ‏توفر‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏قصة‏ ‏البطل‏ ‏الصغير‏ ‏رغم‏ ‏التناقض‏ ‏بين‏ ‏الخارج‏ ‏والداخل‏.‏
حكاية‏ ‏البطل‏ ‏الصغير‏ ‏تروى ‏لنا‏ ‏قصة‏ ‏طفل‏ ‏فى ‏الحادية‏ ‏عشر‏ ‏من‏ ‏عمره‏، ‏يستعمله‏ ‏بعض‏ ‏الضيوف‏ (‏الشقراء‏ ‏العابثة‏) ‏فى ‏قسوة‏ ‏كأداة‏ ‏للمداعبة‏ ‏وموضوعا‏ ‏للفكاهة‏ ‏والمرح‏، ‏وهو‏ ‏يرفض‏ ‏هذا‏ ‏التسطيح‏ ‏فى ‏استقبال‏ ‏ما‏ ‏يظنونه‏ ‏طفولة‏، ‏ويحمل‏ ‏من‏ ‏منابع‏ ‏العواطف‏ ‏وتصانيفها‏ ‏ما‏ ‏يكفى ‏أن‏ ‏تجرى ‏منه‏ ‏أنهار‏ ‏الحياة‏ ‏النابضة‏ ‏فى ‏قلوب‏ ‏العشرات‏، ‏وهو‏ ‏يتوجه‏ ‏بكل‏ ‏حيويته‏ ‏وطاقته‏ ‏وخياله‏ ‏وحاجته‏ ‏إلى ‏حسناء‏ ‏أخرى (‏السيدة‏: ‏م‏) ‏لتصبح‏ ‏معبودته‏ ‏وموضع‏ ‏أحلامه‏ ‏ورعايته‏ ‏معا‏، ‏وهو‏ ‏يكتشف‏ ‏أثناء‏ ‏ذلك‏- ‏بموضوعية‏ ‏مناسبة‏- ‏ثقل‏ ‏زوجها‏ ‏وبلادته‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏يكتشف‏ ‏علاقتها‏ ‏الخاصة‏ ‏العميقة‏ ‏الرائقة‏ ‏بفارس‏ ‏مسافر‏، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يغار‏ ‏لذلك‏ ‏ولا‏ ‏يثور‏، ‏بل‏ ‏يحنو‏ ‏ويتقبل‏، ‏ويتمادى ‏فى إيثاره‏ ‏وعطائه‏ ‏المحب‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يحتال‏ ‏ليرجع‏ ‏لها‏ "‏رسالة‏" (‏أيضا‏ ‏رسالة‏!) ‏وقعت‏ ‏منها‏ ‏عفوا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تسلمتها‏ ‏من‏ ‏حبيبها‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏وداع‏ ‏سرى، ‏يحتال‏ ‏لذلك‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏مباشرة‏ ‏فى ‏الصورة‏ ‏إكمالا‏ ‏لانكار‏ ‏ذاته‏، ‏وتماديا‏ ‏فى ‏تصوير‏ ‏أن‏ ‏تحقيق‏ ‏هنائها‏ ‏هو‏ ‏الغاية‏ ‏غير‏ ‏المرتبطة‏ ‏بذاته‏، ‏واحتياجه‏ ‏أصلا‏.‏
هذه‏ ‏القصة‏ ‏إذ‏ ‏تقدم‏ ‏لنا‏ ‏صيحة‏ ‏منذرة‏ ‏لكيفية‏ ‏إفسادنا‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏طفولة‏، ‏وعجزنا‏ ‏عن‏ ‏فهمها‏، ‏تشترك‏ ‏فى ‏أقل‏ ‏القليل‏ ‏مع‏ ‏رواية‏ ‏نيتوتشكا‏ - ‏مثلا‏ ‏فى ‏رعاية‏ ‏الطفل‏ ‏لوالديه (عكس المنتظر).‏ ‏هذا الاختلاف فى ذاته يعلن‏ ‏ثراء‏ ‏ديستويفسكى ‏فى ‏الإحاطة‏ ‏بظاهرة‏ ‏ما‏، ‏ودون‏ ‏خضوعه‏ ‏لنمط‏ ‏معين‏.
عودة إلى:
‏نيتوتشكا‏ ‏نزفانوفا
الجزء‏ ‏الأول‏- ‏الطفلة‏ ‏الأم
فى ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏تعيش‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏فى ‏جو‏ ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏عن‏ ‏السواء‏، ‏جوٍّ‏ ‏هو‏ ‏الشذوذ‏ ‏ذاته‏، ‏هو‏ ‏نصف‏ ‏الجنون‏ ‏الذى هو أخطر‏ من ‏الجنون‏ التام،‏ ‏الجنون‏ ‏الكامل‏ ‏الصريح‏ ‏محدد العالم صارخ الحضور‏ ‏بحيث‏ ‏يمكن‏ ‏مواجهته‏ ‏وأحيانا‏ ‏تحديه‏، ‏أما‏ ‏نصف‏ ‏الجنون ‏(‏ص‏88)[12]‏ فهذا‏ ‏هو‏ ‏الاضطراب‏ ‏المخل‏ ‏حيث‏ ‏الأرض‏ ‏مغرية‏ ‏بالسير‏ ‏لكنها‏ ‏رخوة‏ ‏حتى ‏الغرق‏ ‏وحيث "الآخر‏" ‏واعد‏ ‏بالإنصات‏ ‏ولكنه‏ ‏بعيد‏ ‏حتى ‏الصمم‏، ‏وهكذا‏.‏ ‏بدأت‏ ‏سرعة‏ ‏إيقاع‏ ‏الأحداث‏ ‏تزيد‏ ‏بعد‏ ‏شجار‏ ‏عنيف‏ ‏بين‏ ‏الزوجين‏ ‏إنحازت‏ ‏فيه‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏لأبيها‏ ‏لاعتبارات‏ ‏غير‏ ‏واضحة‏، ‏أهمها‏ ‏الخوف‏ ‏الشديد‏ ‏من‏ ‏أمها‏ ‏التى ‏كان‏ ‏يتراءى ‏لها‏ ‏أنه‏ "‏ما‏ ‏من‏ ‏أحد‏ ‏إلا‏ ‏يخشاها‏"، ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏خليقا‏ ‏بهذا‏ ‏الخوف‏ ‏وما‏ ‏تلاه‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏بداية‏ ‏طفولة‏ ‏حقيقية‏ ‏واستكانة‏ ‏إلى أبيها مثلا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏لجأت‏ ‏إليه‏ ‏تكاد‏ ‏تدخل‏ ‏فى ‏جسده‏ ‏حتى ‏التلاشى ‏طلبا‏ ‏للأمان‏ ‏وفرحا‏ ‏به‏.‏
‏"‏نادانى ‏أبى، ‏فقبلّنى، ‏وداعب‏ ‏رأسى، ‏وحملنى ‏إلى ‏ركبتيه‏ ‏بينما‏ ‏كنت‏ ‏أشد‏ ‏جسمى ‏إليه‏[13] "‏برفق‏ ‏وحب‏" (‏ص‏66,65)‏
‏ نلاحظ أن ‏الذى ‏حدث‏ ‏هو: أنها‏ ‏هى التى‏ ‏تلوذ به، وليس هو الذى يضمها، بل إن الرفق يحمل ريح أمومة حانية كما سيأتى حالا.‏
‏"‏وشعرت‏ ‏نحو‏ ‏أبى ‏منذ‏ ‏تلك‏ ‏اللحظة‏ ‏بحب‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏حدود‏، ‏حب‏ ‏غريب‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏الطفولة‏ ‏فى ‏شئ‏" (‏ص‏66)‏
يسارع‏ ‏النقاد‏ ‏ليقولوا‏ ‏أنها‏ - ‏اذن‏ - ‏عقدة‏ ‏أوديب ‏(‏إلكترا‏) ‏ولو‏ ‏تمهلوا‏ ‏ثانية‏ ‏واحدة‏ ‏لسمعوها‏ ‏تكمل‏: ‏
‏"حتى ‏لأستطيع‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏العاطفة‏ ‏تشتمل‏ ‏على ‏شئ‏ ‏مما‏ ‏تشعر‏ ‏به‏ ‏الأم‏ ‏نحو‏ ‏إبنها‏ ‏من‏ ‏حب‏ ‏وقلق‏" (‏ص‏66)‏
وهى ‏ذات‏ ‏نفسها‏ ‏تعلن‏ ‏غرابة‏ ‏الأمر‏ (‏لنتعلم‏! ‏وياليتنا‏ ‏نفعل‏)‏ وهى تكمل:
‏"‏إن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏مضحكا‏ ‏أن‏ ‏توصف‏ ‏عاطفة‏ ‏طفل‏ ‏بمثل‏ ‏هذا‏" (‏ص‏66)‏
والأكثر‏ ‏إضحاكا‏ ‏أن‏ ‏نسارع‏ نحن (نقادا ونفسيين!) إلى "‏جنسنة‏ " ‏هذه‏ ‏العاطفة‏ ‏تحت‏ ‏أفكار‏ ‏تحليلة‏ ‏أوديبية‏ ‏متعجلة‏.‏
نيتوتشكا‏ ‏تعلن‏ - ‏مباشرة‏ - ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏اللحظة‏ ‏الحادة ‏المعقدة‏ (‏أنظر‏ ‏بعد‏) ‏كانت‏ ‏بداية‏ ‏جديدة‏ ‏لتغير‏ ‏كيفى، ‏وتفجر‏ ‏ذكرياتى، ‏ووعى ‏جديد‏.‏
‏"..‏كانت‏ ‏تلك‏ ‏فيما‏ ‏أعتقد‏ ‏أول‏ ‏ملاحظة‏ ‏أبوية‏... ‏ولعلها‏ ‏هى ‏السبب‏ ‏فى ‏أن‏ ‏ذكرياتى ‏أصبحت‏ ‏منذ‏ ‏تلك‏ ‏اللحظة‏ ‏واضحة‏ ‏هذا‏ ‏الوضوح‏"(‏ص‏66).‏
بضربة‏ ‏واحدة‏ ‏وخلال‏ ‏بضعة‏ ‏عشر‏ ‏سطرا‏ ‏قال‏ ‏لنا‏ ‏ديستويفسكى ‏كيف‏ ‏بدأت‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏مسيرة‏ ‏النمو‏، ‏وكيف‏ ‏تغير‏ ‏استقبالها‏ ‏للعالم‏، ‏بل‏ ‏أنه‏ ‏حدد‏ ‏نوع‏ ‏الوعى ‏الجديد‏ ‏النامي‏:‏
‏"‏أصبحت‏ ‏لا‏ ‏أكتفى ‏بالمشاعر‏ ‏التى ‏تصلنى ‏من‏ ‏الخارج‏ ‏بل‏ ‏صرت‏ ‏أفكر‏، ‏وأحكم‏، ‏وألاحظ"[14]
‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏لم‏ ‏تنمُ‏ ‏طفلة‏ ‏منذ‏ "‏هذه‏ ‏اللحظة‏"، ‏فقد‏ ‏سرقت‏ ‏طفولتها‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الثانية‏، ‏سرقتها‏ ‏حالة‏ ‏ألحُّ‏ ‏من‏ ‏طفولتها‏، ‏فاذا‏ ‏بها‏ ‏الأم‏ ‏الحانية‏ ‏الراعية‏، ‏ولمن؟‏ ‏للوالد‏ ‏الذى ‏أثار‏ ‏طفولتها‏ ‏بتلويح‏ ‏ما. ‏ يبدو‏ ‏أن‏ ‏الذى ‏يحدد‏ "‏مَنْ‏ ‏الوالد‏" ‏و‏" ‏مَنْ‏ ‏الطفل‏" ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏السن‏ ‏أو‏ ‏القبل‏ ‏العُلوية‏ ‏أو‏ ‏مَنْ‏ ‏يجلس‏ ‏على ‏ركبتىْ ‏من‏، ‏وإنما‏ ‏اتجاه‏ ‏الاعتمادية‏ ‏ونوع‏ ‏وعى ‏كل‏ ‏طرف‏ ‏بالآخر‏:‏
فالأب‏ ‏هنا‏ ‏بدا‏ ‏هو‏ ‏الأضعف‏، ‏إذن‏: ‏فهو‏ ‏أولى ‏بالطفولة‏!.‏
‏"‏كان‏ ‏يتراءى ‏لى ‏أن‏ ‏أبى ‏حقيق‏ ‏بالرثاء‏، ‏معذب‏، ‏مضطهد‏" (‏ص‏66)‏
ثم‏ ‏بالتالى‏: ‏"‏وأن‏ ‏من‏ ‏الظلم‏ ‏ألا‏ ‏أحبه‏ ‏حبا‏ ‏قويا‏" (‏ص‏66)‏
وتتحد‏د ‏العلاقة‏ ‏اضطرادا بإعلان من هو الأكثر‏ ‏مسئولية‏ ‏والأقدر‏ ‏فهما‏ ‏وأعمق‏ ‏وعيا‏.‏
‏"‏كيف‏ ‏استطعت‏ ‏أنا‏ ‏الصغيرة‏ ‏أن‏ ‏أنفذ‏ ‏إلى ‏أعماق‏ ‏نفسه‏، ‏فأدرك‏ ‏الآلام‏ ‏التى ‏كان‏ ‏يعانيها‏" (‏ص‏66).‏
ويتردد‏ ‏ما‏ ‏يؤكد‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏الأموية‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏موضع‏: ‏
‏"‏ومع‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏طفلة‏، ‏استطعت‏ ‏أن‏ ‏أنفذ‏ ‏إلى ‏أعماقه‏" (‏ص‏102)‏
‏"‏لا‏ ‏شك‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏الطفل‏ ‏لا‏ ‏أنا‏، ‏ما‏ ‏دام‏ ‏يحدثنى ‏بهذه‏ ‏اللهجة‏ ‏عن‏ ‏أعدائه‏" (ص‏102)‏
وهى ‏تشاركه‏ ‏آلامه‏ ‏وتُـرجع‏ ‏مصدر‏ ‏آلامهما‏ ‏معا‏ ‏إلى ‏القسوة‏ ‏المتخيلة‏ ‏للأم‏ ‏رغم‏ ‏مخالفة‏ ‏ذلك‏ ‏للحقيقة‏، ‏فهذه‏ ‏الأم ‏التى ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏أبدا‏ ‏قاسية‏ استقبلتها طفلتنا على انها مصدر القسوة التى تبرر لها تعلقها بأبيها أمّاً له:
"‏لعل‏ ‏قسوة‏ ‏أمى ‏الشديدة‏ ‏علىّ ‏هى ‏التى ‏دفعتنى ‏إلى ‏التعلق‏ ‏بأبى ‏تعلقى ‏بإنسان‏ ‏يعانى ‏مثل‏ ‏الذى ‏أعانيه‏ ‏وفقا‏ ‏للصورة‏ ‏التى ‏رسمتها‏ ‏لنفسى‏"‏
وقد‏ ‏ظلت‏ ‏أمومتها‏ ‏لأبيها‏ ‏تلاحقها‏ ‏حتى ‏فى ‏أقسى ‏لحظة‏ ‏فى ‏حياتها‏ ‏حين‏ ‏تركها‏ ‏فى ‏الشارع‏ ‏غدرا‏ ‏بعد‏ ‏وفاة‏ ‏والدتها‏، ‏فبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تثور‏ ‏عليه‏ ‏وترفضه‏ ‏أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏تعامله‏ ‏تَرْكَاَ‏ ‏بَتْركِ‏، ‏ظلت‏ ‏تجرى ‏وراءه‏ ‏لا‏ ‏لتحتمى ‏به‏.. ‏ولكن‏ ‏لترعاه‏:‏
‏"‏أخذت‏ ‏أعدو‏ ‏وراءه‏ ‏عدوا‏ ‏سريعا‏ ‏وقد‏ ‏تملكنى ‏خوف‏ ‏مجنون‏.. ‏ووجدت‏ ‏قبعته‏ ‏فى ‏الطريق‏، ‏لقد‏ ‏سقطت‏ ‏عن‏ ‏رأسه‏ ‏وهو‏ ‏يعدو‏ ‏فحملت‏ ‏القبعة‏ ‏وتابعت‏ ‏عدوى‏.. ‏كنت‏ ‏أشفق‏ ‏على ‏أبى، ‏كان‏ ‏صدرى ‏يختنق‏ ‏إذ‏ ‏أتذكر‏ ‏أنه‏ ‏بلا‏ ‏معطف‏، ‏وبلا‏ ‏قبعة‏، ‏بعيدا‏ ‏عني‏" (!!) (‏ص‏111).‏
وتبلغ‏ ‏درجة‏ ‏السماح‏ ‏الحانى ‏من‏ ‏الأم‏ ‏الطفلة‏ ‏لطفلها‏ ‏الهارب‏ ‏أنها‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تلحق‏ ‏به‏ ‏لتطمئنه‏ ‏أنها‏ ‏سمحت‏ ‏له‏ ‏بتركها‏ ‏وهى ‏الخائفة‏ ‏العاجزة‏ ‏اليتيمة‏ ‏المهجورة‏، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏تريده‏ "‏له‏" ‏هو‏ ‏ألا‏ ‏يخاف‏ ‏منها‏ (‏وليس‏ ‏العكس‏).
‏"...‏حتى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أطمئنه‏.. ‏حتى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أؤكد‏ ‏أننى ‏لن‏ ‏أعود‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏يريد‏ ‏ذلك‏" (‏ص‏118). ‏وهى ‏فى ‏سماحها‏ ‏هذا‏ ‏تعلم‏ ‏مصيرها‏"
‏".. ‏وإنى ‏عائدة‏ ‏وحدى ‏إلى ‏جانب‏ ‏أمي‏" (‏ص‏:118)
مع أن أمها لم تكن آنئذ إلا‏ ‏جثة‏ ‏هامدة‏ ‏فى‏المنزل.‏ ‏ نيتوتشكا ‏لا‏ ‏تكاد‏ ‏تدرك‏ الحد‏ ‏الفاصل‏ ‏بين‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏ بعد.
‏هكذا‏ ‏نرى ‏ديستويفسكى ‏وقد‏ ‏استطاع‏ ‏بحدسه‏ ‏الفائق‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏تركيبا‏ ‏متكاملا‏ (‏هو‏ ‏التركيب‏ ‏الوالدى)[15] ‏الموجود‏ ‏فينا‏ ‏منذ‏ ‏الولادة‏، نحن أطفالا، إلى نهاية العمر، ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏يظهر‏ ‏حسب‏ ‏توزيع‏ ‏القوى ‏والعواطف‏ ‏بين‏ ‏كيانين‏ ‏إنسانيين‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏السن‏، ‏ولا‏ ‏أجد‏ ‏أى معالم‏ ‏دالة‏ ‏تبرر تفسيرات‏ ‏أوديبية‏ ‏جنسية‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏العلاقة‏.‏
‏ثانيا: ‏النمو‏ ‏وقفزات‏ ‏الوعى
حين‏ ‏أعلنت‏ ‏نيتوتشكا‏ "‏هذه‏ ‏اللحظة‏" (‏ص‏66) ‏كبداية‏ ‏اليقظة‏ ‏من‏ "‏نوم‏ ‏الطفلة‏" (‏ص‏66) ‏كانت‏ ‏لا‏ ‏تستعمل‏ ‏مجازا‏ ‏بلاغيا‏ ‏وإنما‏ ‏حقيقة‏ ‏مباشرة‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏كتب‏ ‏التربية‏ ‏المتعجلة‏ ‏والشائعة‏ ‏قد‏ ‏سطحت‏ ‏مسار‏ ‏النمو‏ ‏حتى ‏تصورنا ‏ ‏أنه‏ ‏إضافات‏ ‏كمية‏ ‏مع‏ ‏أقل‏ ‏الإنتباه‏ ‏لهذه‏ "‏النقلات‏" ‏النوعية‏.‏ ‏انتقلت‏ ‏نيتوتشكا‏ ‏هنا‏ ‏هذه‏ ‏النقلة‏ ‏تحت‏ ‏مظلة‏ ‏جو‏ ‏الأمان‏ ‏الذى ‏وصل‏ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏هدهدة‏ ‏الوالد‏ ‏بعد‏ ‏رعب‏ ‏معايشة‏ ‏الشجار‏ ‏بين‏ ‏الوالدين‏، ‏رعب‏ ‏يهدد‏ ‏الوجود‏ ‏ذاته‏، ‏دام‏ ‏ساعتين‏ ‏طويلتين‏:‏
‏"‏كنت‏ ‏أحاول‏ ‏عبثا‏ ‏خلالهما‏، ‏وأنا‏ ‏أرتجف‏ ‏من‏ ‏القلق‏ ‏أن‏ ‏أحذر‏ ‏كيف‏ ‏سينتهى ‏الأمر‏ (‏ص‏65)‏
ورغم‏ ‏هذا‏ ‏التمهيد‏ ‏برعب‏ ‏يهدد‏ ‏الوجود‏، ‏يتلوه‏ ‏الاحتواء‏ ‏بطمأنينة‏ ‏غير‏ ‏متوقعة‏ ‏أو‏ ‏محسوبة‏ ‏مما‏ ‏يغرى ‏القارئ‏ ‏المتعجل‏ ‏بتصور‏ ‏ما‏ ‏سيتبع‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ "‏نوم‏ ‏آمن‏" ‏فإن‏ ‏الذى ‏حدث‏ ‏هو‏ ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏، ‏إذ‏ ‏هو‏"‏يقظة‏ ‏مفرطة‏" ‏بل‏ ‏إن‏ ‏تعبيرها‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الحادث‏ ‏وما‏ ‏استتبعه‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏غريبا‏ ‏لمن‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏الطفولة‏ ‏وكيف تنمو.
‏"‏وقد‏ ‏جرحنى ‏هذا‏ ‏الحادث‏ ‏جرحا‏ ‏عميقا‏"!!(‏ص‏67) ‏
‏"...‏من‏ ‏ذلك‏ ‏اليوم‏ ‏أخذ‏ ‏نموى ‏يتم‏ ‏بسرعة‏ ‏عجيبة‏-‏ بسرعة‏ ‏مرهقة‏" (‏ص‏ 67)‏
والآن‏: ‏كيف‏ ‏يجتمع‏ "‏الجرح‏ " "‏بالأمن‏" "‏باليقظة‏" ‏فيؤدى ‏ذلك‏ ‏إلى "‏الإسراع‏ ‏فى ‏مسيرة‏ ‏النمو‏"‏؟‏.‏
على القارئ‏ ‏أن‏ ‏ينسى - ‏أو‏ ‏يتناسى - ‏التأكيد الاستقطابى على‏ ‏التناقض‏ ‏الظاهر‏ فى معظم المجالات، إذا كان يريد أن يستقبل علاقة الجرح بالأمن باليقظة (مثلا): ‏
إن‏ ‏النمو‏ ‏لا‏ ‏يتم‏ ‏بالإضافة‏، ‏وإنما‏ ‏بالكسر‏ ‏فالإطلاق‏ ‏فالاستيعاب‏ ‏فاتساع‏ ‏الوعى، ‏ربما كان هذا‏ ‏ما‏ ‏أراد‏ ‏ديستويفسكى ‏أن‏ ‏يعلمنا‏ ‏إياه‏، ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الجرح‏ ‏إنما‏ ‏يعلن‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتصوره‏ ‏شرخا‏ ‏فى ‏جدار‏ ‏الكبت‏، ‏يطلق‏ ‏مكنون‏ ‏الذات‏، ‏فُتسْتَعاد‏ ‏الذكريات‏، ‏ونفيق‏ ‏من‏ ‏تنويم‏ ‏سابق ‏(‏كان‏ ‏لازما‏ ‏حتى ‏تلك‏ ‏اللحظة‏) ‏لننطلق‏ ‏بسرعة‏ ‏أكبر‏- ‏وأكثر‏ ‏إرهاقا‏ - ‏على ‏درب‏ ‏النمو‏، ‏وكأن‏ ‏ديستويفسكى ‏قد‏ ‏رأى ‏كل‏ ‏الظروف‏ ‏المطلوبة‏ ‏لإعلان‏ ‏هذه‏ ‏اللحظة‏ ‏المتكررة‏ ‏على ‏مسار‏ ‏النمو‏ (‏برغم أنها غائبة عن اهتمام كثير منا بما فى ذلك‏ ‏رهط‏ ‏من‏ ‏العلماء‏) ‏فهى ‏تتطلب‏ ‏عادة‏ (‏وبالترتيب‏):‏
‏ (‏أ‏) ‏تهديد‏ ‏بأن‏ ‏القديم‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يصلح‏، ‏أو‏ ‏أنه أصبح مهدداً‏ ‏بشكل‏ٍٍ ‏ما‏، ‏مهدداً‏ ‏لدرجة‏ ‏الإطاحة‏ ‏بالوجود‏ ‏برمته‏ (‏هنا‏ ‏الشجار‏ ‏بين‏ ‏الأم‏ ‏والأب‏) ‏
‏(‏ب‏) ‏‏ ظهور معالم أمان‏ واعدٍ ‏منقذ‏ ‏يسمح‏ ‏بالعودة‏ ‏إلى ‏الحياة‏ (‏هدهدة‏ ‏الوالد‏ ‏لنيتوتشكا‏) ‏
‏(‏ج‏) ‏تراخى ‏قبضة‏ ‏الكبت‏ ‏القديم‏ ‏حتى ‏التسليم‏ ‏المؤقت‏ (‏الالتحام‏ ‏الجسدى) ‏
‏(‏د‏) ‏إنطلاق‏ ‏الداخل‏ ‏عبر‏ ‏الشرخ‏ ‏الحادث‏ ‏فى ‏جدار‏ ‏الكبت‏ ‏نتيجة‏ ‏التراخى ‏بعد‏ ‏الوعد‏ ‏بالأمن‏ ‏الذى ‏تلى ‏بدوره‏ ‏التهديد‏ "‏السالف‏ ‏الذكر‏" (‏اليقظة‏ ‏بعد‏ ‏نوم‏ ‏الطفولة‏، ‏وظهور‏ ‏الذكريات‏ "‏بهذا‏" ‏الوضوح‏) ‏
‏(‏هـ‏) ومن ثَمَّ ‏الإسراع‏ ‏باستيعاب‏ ‏المخزون‏ ‏المطلق‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏الكامن‏ ‏يثرى ‏به‏ ‏الوعى ‏الظاهر‏ ‏لتوليف‏ ‏وعى ‏جديد‏ ‏فى ‏خطى ‏سريعة‏ ‏مرهقة‏ (‏أخذ‏ ‏نموى ‏يتم‏ ‏بسرعة‏ ‏عجيبة‏- ‏سرعة‏ ‏مرهقة‏).
‏الوقوف‏ ‏عند‏ ‏هذه‏ ‏اللحظات[16] ‏هام‏ ‏وضرورى ‏لأن‏ ‏الأعمال‏ ‏الأدبية‏ ‏تتحفنا‏ ‏به‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الملاحظات‏ ‏التربوية‏ ‏والمشاهدات‏ ‏الكلينيكية‏، ‏وقد‏ ‏أسميت‏ ‏مقابلها‏ ‏المرضى "‏بداية‏ ‏البداية‏"[17]، ‏ولها‏ ‏مقابل‏ ‏ثالث‏ ‏فى ‏لحظات‏ ‏التنوير‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏أو‏ لحظات "‏الوصول‏" ‏فى ‏الخبرة‏ ‏الصوفية‏. ‏إن تحديد‏ ‏هذه‏ ‏اللحظة‏ ‏تحديدا‏ ‏نوعيا‏ ‏يتم‏ ‏بمنتهى ‏الدقة‏ ‏والوضوح‏ (‏دون‏ ‏التزام‏ ‏بتوقيت‏ ‏معين‏) ‏وهى ‏تصبح ‏- ‏عادة‏- ‏معلما‏ ‏من‏ ‏المعالم‏ ‏التاريخية‏ ‏الحياتية‏، ‏يتحدث‏ ‏الفرد‏ ‏عنها‏ ‏بجلاء‏ ‏تام[18]‏ ‏هى‏ "‏لحظة‏" ‏بذاتها‏ ‏لها‏ ‏"ما‏ ‏قبلها"،‏ ‏وهو‏ (‏ما‏ ‏قبلها‏) ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏مدغوما‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يحدث‏ ‏سبق‏ ‏التوقيت[19]، ‏وهى لها‏ ‏"ما‏ ‏بعدها‏" ‏الذى يكون‏ ‏عادة‏‏ ‏شديد‏ ‏الوضوح‏ ‏والتحديد‏: ‏تقول‏ ‏نيتوتشكا‏: ‏‏"‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أرى ‏بوضوح‏ ‏تام‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏وقع‏ ‏بعد‏ ‏الثامنة‏ ‏والنصف‏ ‏من‏ ‏عمرى ‏يوما‏ ‏بيوم‏... ‏دون‏ ‏إنقطاع‏ ‏كأنه‏ ‏وقع‏ ‏بالأمس‏" (‏ص‏63) ‏
أما‏ الوضع ‏قبل‏ ‏هذه اللحظة فكان كما يلى:
‏"‏كل‏ ‏ما‏ ‏انقضى ‏قبل‏ ‏هذا‏ ‏العهد‏ ‏لم‏ ‏يدعْ‏ ‏فى ‏نفسى ‏أى ‏أثر‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أذكره‏ ‏الآن‏" (‏ص‏63).
‏فهل‏ ‏نصدقها‏ ‏بالحرف‏ ‏الواحد‏ ‏حتى ‏وهى ‏تحكى ‏عن‏"‏جزر‏ ‏من‏ ‏الذكريات‏" ‏شديدة‏ ‏الوضوح‏ ‏رغم‏ ‏الضباب‏ ‏من‏ ‏حولها‏ ‏ورغم‏ ‏انفصالها‏ ‏عن‏ ‏أى ‏تسلسل‏ ‏منظم‏؟ ‏نعم، فهى ‏تذكر‏ ‏فى ‏تلك‏ ‏الفترة‏ (‏السابقة‏) ‏فى ‏غير‏ ‏ترتيب‏ "‏أشبه‏ ‏بأحلام‏ ‏مريض‏: "‏حصانا‏ ‏داسها‏، ‏وفأرا‏ ‏فى ‏ركن‏ ‏حجرة‏ ‏ساكنة‏ ‏وهى ‏مريضة‏ ‏إثر‏ ‏حادث‏ ‏الحصان‏.." ‏الخ‏، ‏وحتى ‏الوعى ‏بحالة‏ ‏النوم‏ ‏السابق‏ ‏إنما‏ ‏يدل‏ ‏على ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏التذكر‏ ‏من‏ ‏عدمه‏ ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏أساسا‏ ‏فى ‏"‏نوع‏ ‏الوعى‏" ‏قبل‏ ‏وبعد‏ تلك "‏اللحظة‏". ‏وظاهرة‏"‏سبق‏ ‏التوقيت‏" ‏هذه هى عادة ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يؤكد‏ ‏حيوية‏ ‏الأحداث‏ ‏فى ‏مخزون‏ ‏الوعى، ‏وهى ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏ذات‏ ‏دلالة‏ ‏خاصة‏ ‏فى ‏توقيت‏ ‏بداية‏ ‏سيكوباثولوجية‏ ‏بعض‏ ‏الأمراض‏ ‏فإنها‏ ‏هنا‏ ‏تمثل‏ ‏الأداة‏ ‏النشطة‏ ‏فى ‏السرد‏ ‏والرواية‏. ‏وديستويفسكى ‏لا‏ ‏يفتأ‏ ‏يذكرنا‏ ‏بتناوب‏ ‏النمو‏، ‏وقد‏ ‏عاد‏ ‏يستعمل‏ ‏تعبيرات:‏ ‏النوم‏ ‏واليقظة‏ ‏والبلادة‏ ‏والوضوح‏ ‏لوصف‏ ‏فترات‏ ‏النمو‏ ‏المتلاحقة‏ ‏المختلفة‏ ‏عن‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏نوعيا‏.‏ مثلا‏:
"‏كأنما‏ ‏استيقظت‏ ‏من‏ ‏نوم‏ ‏ثقيل‏" (‏ص‏64) ‏وكذلك‏، "...‏وانقضت‏ ‏سنة‏ ‏كاملة‏ ‏على ‏تيقظ‏ ‏شعوري‏... ‏وعلى ‏تمزقى ‏صامتة‏ ‏بين‏ ‏مطامح‏ ‏غامضة‏ ‏نشأت‏ ‏فى ‏بغته‏" (‏ص‏74) ‏ثم‏، " أصبحت‏ ‏حياتى ‏بعد‏ ‏سفر‏ ‏كاتيا‏ ‏حياة‏ ‏هادئة‏ ‏ساكنة‏ ‏ملازمة‏ ‏للبيت‏.. ‏لم‏ ‏استيقظ‏ ‏منها‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏نحو‏ ‏السادسة‏ ‏عشرة‏ ‏من‏ ‏عمرى ‏ان‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏.." (‏ص‏195) (‏وقد‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏).‏
‏"‏كنت‏ ‏قد‏ ‏بلغت‏ ‏السادسة‏ ‏عشرة‏ ‏من‏ ‏عمرى، ‏وقد‏ ‏أصبت‏ ‏فجأة‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الحين‏ ‏بنوع‏ ‏من‏ ‏تبلد‏ ‏الحس‏ ‏وخمود‏ ‏العاطفة‏... ‏وكأن‏ ‏خيالى ‏قد‏ ‏كبا‏، ‏وكانت‏ ‏وثباتى ‏قد‏ ‏انطفأت‏ ‏وكانت‏ ‏أحلامى ‏قد‏ ‏تبددت‏ ‏حتى ‏لكأنى ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أحلم‏" (‏ص‏225)‏
ويلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏أنه‏ ‏كما‏ ‏تحدث‏ ‏الإضاءة‏ ‏والتنوير‏ ‏والوضوح‏ ‏فجأة‏، ‏كذلك‏ ‏فإن‏ ‏الإنطفاء‏ ‏يحدث‏ ‏فجأة‏، كما‏ ‏أود‏ ‏أن‏ ‏أكرر‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏مبرر لاعتبار‏ ‏هذه‏ ‏التعابير‏ ‏عن‏ ‏انطفاء‏ ‏الوثبات‏، ‏وخمود‏ ‏العاطفة‏ ‏تعابير‏ ‏مجازية‏، ‏إذ‏ ‏أنها‏ ‏تصف‏ ‏مباشرة‏ ‏خبرات‏ ‏وعى ‏حقيقية‏ ‏مختلفة نوعيا عن كل عداها.
‏ثالثا: ‏الداخل‏ ‏والأنغام
يافيموف‏ ‏الكمان‏:‏
ما وصلنى هو أن‏ "‏كمان‏" ‏يافيموف‏ (‏والد‏ ‏نيتوتشكا‏ = ‏زوج‏ ‏أمها‏) ‏لم يكن إلا‏ ‏ذاته‏ ‏الداخلية‏ ‏المرْجُوَّة‏، ‏وبقبولنا‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏سنحاول‏ ‏إثباته‏ ‏حالا‏ ‏يبدو‏ ‏تفسير‏ ‏حالة‏ ‏يافيموف‏ ‏بعقدة‏ ‏النقص‏ ‏الأدلرية‏ ‏شديد‏ ‏التسطيح‏.‏
لم‏ ‏يكن‏ "‏الكمان‏" ‏هو‏ ‏الآلة‏ ‏التى ‏بدأ‏ ‏بها‏ ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏فى ‏الأصل‏ ‏عازفا‏ ‏على "‏الكلارينيت‏"، ‏وقد‏ "‏ورث‏" ‏هذا‏ ‏الكمان‏ ‏من‏ "‏عجوز‏ ‏عجيب‏" ‏وكأنه‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏اللغة‏ ‏الأنغامية[20] ‏الأعمق‏ ‏هى ‏الأصل‏ ‏الأقدم‏ ‏المنحدرة‏ ‏من‏ ‏تاريخنا‏ ‏الأول‏[21]‏الذى ‏لم‏ ‏تعجز‏ ‏لغتنا‏ ‏الرمزية‏ ‏الكلامية‏ ‏أن‏ ‏تستوعبه‏ ‏بما‏ ‏يحقق‏ ‏التوازن‏ ‏والتواصل‏ ‏معا‏، ‏فالكمان‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ "‏ذات يافيموف‏" ‏الأعمق‏، ‏وهو‏ ‏رغبته‏ ‏فى ‏التواصل‏ ‏بحق‏، ‏وهو‏ ‏عجزه‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏، ‏وهو‏ ‏لغة‏ ‏كامنة‏ ‏واعدة‏،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زهرة الفيوم
عضو لامع
عضو لامع
زهرة الفيوم

انثى
عدد الرسائل : 1043
 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 210
بلد الإقامة : الفيوم
احترام القوانين :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 111010
العمل :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Profes10
الحالة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 710
نقاط : 7382
ترشيحات : 28
الأوســــــــــمة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 222210

 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى    تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى I_icon_minitime20/10/2012, 19:39

التفسير الأدبى للنفس
قراءات فى ديستويفسكى (2)

الفصل الثالث
‏حركية العلاقات البشرية جدلا وامتدادا
فى الإخوة كارامازوف
إستهلال‏:‏
لا‏ ‏يصلح‏ ‏ما‏ ‏قلته‏ ‏يوما‏ ‏عن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏، ‏مع‏ ‏ديستويفسكى، ‏من‏ ‏أنه‏ "‏خذ‏ ‏من‏ ‏ديستويفسكى ‏ما‏ ‏شئت‏ ‏لما‏ ‏شئت‏" ‏. بل لعل‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏، ‏إذ‏ ‏أنك لا تستطيع أن تفـر مما أراد ديستويفسكى أن يقحمك فيه بإبداعه المتميز، ورغم‏ ‏أن‏ ‏ديستويفسكى ‏يلح‏ ‏إلحاحا‏ ‏شديدا‏، ‏ومباشرا‏ أحيانا كثيرة ‏فيما‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يقوله‏، أو ربما ‏أن‏ ‏يكونه‏، ‏يصلنى أنه‏ ‏لم‏ ‏يستقر‏ ‏أبدا ‏ ‏على ‏ما‏ ‏يريد‏‏، وأنه صدق م نفسه فى ذلك. ‏وهذا‏ ‏طيب‏ ‏لأنه‏ ‏ينفى ‏عنه‏ ‏تهمة‏ ‏أنه‏ ‏خطيب‏ ‏فى ‏جمع‏، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏ملاحَـق‏ ‏بفكرة‏ ‏واحدة‏ ‏مكرره‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يوصلها‏.‏
فى ‏حدود‏ ‏ما‏ ‏قرأت‏ ‏له‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أحدد‏ ‏ما وصلنى عن بعض‏ ‏المواضيع‏ ‏أو‏ ‏الهواجس‏ ‏أو‏ ‏القضايا‏ ‏التى ‏تلح‏ ‏عليه‏، ‏فيلح‏ ‏بها‏ ‏علينا‏، ‏هذا‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المحتوى، ‏لكن‏ ‏القضية‏ ‏مع‏ ‏ديستويفسكى ‏ليست‏ ‏قضية‏ ‏محتوى ‏أو‏ ‏موضوع‏، ‏وإنما‏ هى قضية‏ ‏تركيب‏. أهم‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏تركيب[1] ‏ديستويفسكى (‏حتى ‏علمى ‏به‏ ‏الآن‏) ‏هو‏ ‏ذلك‏ ‏البركان‏ ‏الثائر‏ ‏المتواصل‏ ‏من‏ ‏المشاعر‏ ‏والرؤى، ‏والذى ‏يتكثف‏ ‏أحيانا‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏صـرْعة‏ ‏مرضية‏، ‏ثم‏ ‏يتدفق‏ ‏أحيانا‏ ‏أخرى فى ‏شكل‏ ‏إبداع‏ ‏إنفعالى ‏متلاحق‏، ‏و‏هو‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يضبط‏ ‏قوة‏ ‏دفعة‏ ‏ليخرجه‏ ‏من‏ ‏ثقب‏ ‏إبرة‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏إطناب‏ ‏حكى ‏يطول‏ ‏حتى يمكن أن ‏نمله‏ ‏أو‏ ربما ‏نرفضه‏، ‏وقد‏ ‏يصبـرنا‏ ‏عليه‏ ‏أننا‏ ‏نلتقط‏ ‏فى ‏كم‏ ‏الكلام‏ ‏المتواصل‏ ‏ما‏ ‏يعيننا‏ ‏عليه‏، ‏نلتقط‏ ‏إشراقة‏ً ‏غير‏ ‏متوقعة،‏ ‏أو‏ ‏بهر‏ ‏رؤية‏ ‏كاشفة‏، ‏أو‏ ‏سبر‏ ‏غور‏ ‏سحيق‏، ‏وأحسب‏ ‏أنه‏ ‏يلتقطها‏ ‏معنا (وهو يكتب أو وهو يقرأ ما كتب)‏ ‏فى ‏أحيان‏ ‏كثيرة‏، ‏إذن‏ ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يفرضها‏ ‏علينا‏ ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يتراءى ‏لأول‏ ‏وهلة‏.‏
قبل‏ ‏أن‏ ‏أعرض‏ ‏قراءتى ‏لهذه‏ ‏الرواية‏ ‏الملحمة‏ ‏أود‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏بعض‏ ‏الملاحظات‏ ‏الواجبة [2]‏.
‏1- ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏قد‏ ‏يجوز‏ ‏أن‏ ‏نربط‏ ‏بين‏ ‏بعض‏ ‏محتوى ‏روايات‏ ‏الكاتب‏ ‏وبعضها‏، ‏لكن‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏ننتبه‏ ‏دائما‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الإستشهاد‏ ‏على ‏ديستويفسكى ‏من‏ ‏ديستويفسكى ‏روائيا‏.. ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يؤخذ‏ ‏بحذر‏ ‏شديد‏، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏تكرار‏ ‏وتعديل‏ ‏لنفس‏ ‏الأفكار‏ ‏لما‏ ‏كان‏ ‏ثمة‏ ‏داع‏ ‏لمواصلة‏ ‏الإبداع‏ ‏أصلا‏، ‏فالاستشهاد‏ ‏هنا‏ ‏مسموح‏ ‏به‏ ‏بالقدر‏ ‏الذى ‏يترك‏ ‏لكل‏ ‏عمل ‏استقلاله‏، ‏ثم‏ ‏يسمح‏ ‏بتحديد‏ ‏إجتهادى ‏لاحتمالات‏ ‏التلاقى ‏وتفـرقات‏ ‏الإختلاف‏، ‏وكذلك‏ ‏لحفز‏ ‏تكثيف‏ ‏الرؤى ‏وتطويرها‏.
2- إلى ‏درجة‏ ‏أكبر‏، ‏لا‏ ‏ينبغى ‏الربط‏، ‏بين‏ ‏إبداعه‏ ‏وبين‏ ‏كتاباته‏ -شخصا- ‏فى ‏مجال‏ ‏آخر‏، ‏بأسلوب‏ ‏آخر‏، (‏فى ‏الصحف‏ ‏أو‏ ‏فى ‏خطاب‏ ‏خاص‏) ‏أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏ينبغى ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏الربط‏ ‏بطريقة‏ ‏الاستنتاج‏ ‏التدليلى ‏المباشر‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏نثبت‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏على ‏لسان‏ ‏أحد‏ ‏الأبطال‏ ‏بقول‏ ‏جاء‏ ‏على ‏لسان‏ ‏المؤلف‏ ‏فى ‏صحيفة‏ ‏أو‏ ‏رسالة‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏آخر‏ ‏لغرض‏ ‏آخر‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏لكل‏ ‏كتابة‏ ‏مستواها‏ ‏وخطابها‏ ‏وحدودها‏ ‏بحيث‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نفترض‏ ‏التناقض‏ ‏تكاملا‏، ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏نفترض‏ ‏الإتفاق‏ ‏تدليلا‏ ‏وإثباتا‏، ‏وإلا‏ ‏لماذا‏ ‏تتعدد‏ ‏الكتابات؟‏ ‏ولماذا‏ ‏الإبداع‏ ‏أصلا؟‏ ‏وبتعبير‏ ‏أخر‏: ‏إذا‏ ‏كنا‏ ‏نؤكد‏ ‏فى ‏ناحية‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نفصل‏ ‏ذات‏ ‏الكاتب‏ (‏ذواته‏) ‏عن‏ ‏إبداعه‏، ‏فإنه‏ ‏على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نختزل‏ ‏ذات‏ ‏الكاتب‏ ‏إلى ‏ظاهر‏ ‏حياته‏ ‏أو‏ ‏أحداث‏ ‏يومه‏ ‏أو‏ ‏مُعلن‏ ‏آرائه‏ ‏فى ‏صحيفة‏ ‏أو‏ ‏مجلس‏ ‏أو‏ ‏حزب‏ ‏سياسى. ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏فعلينا‏ ‏أن‏ ‏نأخذ‏ ‏المصادر‏ ‏المختلفة‏ ‏لآثاره‏، ‏إذا‏ ‏لزم‏ ‏أن‏ ‏نستوعبها‏ ‏أصلا‏، ‏باعتبار‏ ‏أنها‏ ‏أبجدية‏ ‏متفرقة‏، ‏نصيغ‏ ‏نحن‏ ‏منها‏ ‏جملة‏ ‏أو‏ ‏قصيدة‏ ‏النقد‏ ‏الإبداعى.‏
‏3- ‏وبالنسبة‏ ‏للترجمة‏: ‏ لاشك‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏اختلافا‏ ‏بين‏ ‏الإنجليزية‏ ‏والفرنسية‏، ‏والعربية‏ ‏والروسية‏، ‏ولا‏ ‏أظن‏ ‏أنه‏ ‏حتى ‏بالرجوع‏ ‏إلى ‏الروسية‏ ‏يمكن‏ ‏حسم‏ ‏هذه‏ ‏القضية‏، ‏فديستويفسكى ‏يكتب‏ ‏بروسية‏ ‏قديمة‏ ‏نسبيا‏، ‏وهو‏ ‏يكتب‏ ‏بروسية‏ ‏خاصة‏ ‏مثل‏ ‏أى ‏مبدع‏ ‏متميز‏ ‏وأكثر‏، ‏وينبغى ‏أن‏ ‏نعيش‏ ‏اللغة‏ ‏لا‏ ‏أن‏ ‏نتلمس‏ ‏أطراف‏ ‏ألفاظها‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏قارئ ‏العربية‏ ‏يختلف‏ ‏مع‏ ‏قارئ ‏لغة‏ ‏أخرى ‏وهما‏ ‏أمام‏ ‏نفس‏ ‏النص‏، ‏ولا‏ ‏يحسم‏ ‏بينهما‏ ‏تعريف‏ ‏معجم‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏استلهام‏ ‏جملة‏ ‏الفقرة‏ ‏بل‏ ‏جملة‏ ‏النص‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏روح‏ ‏اللغة‏ ‏وإيحاءاتها[3].
عموميات‏ ‏مبدئية‏ ‏من‏ ‏وحى ‏كارامازوف‏:‏
‏‏توقفنى – مرة أخرى- ‏عموميات‏ ‏مبدئية‏ ‏ألتقتطها‏ ‏جديدة‏ ‏على، ‏وقد فسَّرتْ‏ ‏لى ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏عجزت‏ ‏عن‏ ‏تفسيره‏ ‏من‏ ‏قبل‏. ‏
أولا: تراجع النوبات والحمى: نتذكر‏ ‏أولا‏ ‏صْرع‏ ‏ديستويفسكى ‏وأثره‏ ‏فى ‏كتاباته‏، ‏وعلاقة‏ ‏ذلك‏ ‏بالنقلات‏ ‏المفاجئة‏، ‏وعلاقته‏ ‏بوعيه‏ ‏بالزمن‏ ‏فى ‏وحدة‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏أجزاء‏ ‏الثانية‏، ‏وكذا‏ ‏علاقته‏ ‏بإدخال‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏صرع‏، ‏وإغماء‏، ‏ونوبة‏ ‏وحمى ‏فى ‏نسيج‏ ‏رواياته‏ ‏بشكل‏ ‏مفرط‏ [4]‏، ‏نتذكر‏ ‏ذلك‏ ‏لنتبين‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل الحالى الذى بين أيدينا‏ ‏قد‏ ‏أقل‏ ‏من‏ ‏الصرع‏ ‏والمصروعين‏ ‏والمغمى‏عليهم‏ ‏وأهل‏ ‏الحمى، ‏لكنه‏ ‏زاد‏ ‏فى ‏الخطابة‏ ‏والإطناب‏ ‏والاسترسال‏ ‏التفصيلى ‏الفضفاض‏.‏
ثانيا‏: ‏تفسير‏ ‏الاطناب‏: حين‏ ‏رحت‏ ‏أتقمص‏ ‏شخوص هذه‏ ‏الرواية بالذات‏ ‏وهم‏ ‏يسهبون‏ ‏فى ‏الكلام‏ ‏والمناقشات‏ ‏والمناظرات‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏تكاد‏ ‏تصبح‏ ‏ممجوجة‏، ‏ضقت‏ ‏ذرعا‏ ‏به‏ ‏وبهم‏، ‏وقلت‏ ‏إن‏ ‏صح‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الدين‏، ‏أو‏ ‏عن‏ ‏السياسة‏، ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏فى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الحب‏‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏ولكن‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لم‏ ‏أجرؤ‏ ‏أن‏ ‏أحذف‏ - ‏متلقيا‏ - ‏ما‏ ‏رأيت‏ ‏أنه‏ ‏ينبغى ‏حذفه‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏اللت‏ ‏والعجن‏، ثم‏ ‏إننى ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏ألتمس‏ ‏عذرا‏ ‏بالفارق‏ ‏الزمنى (‏أكثر‏ ‏منذ أكثر من ‏قرن‏) ‏واختلاف‏ ‏طبيعة‏ ‏إيقاع‏ ‏الحياة‏، ‏حيث‏، ‏الانتقال‏ ‏بالخيل‏، ‏والإضاءة‏ ‏بالسماور‏... ‏الخ‏، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏التفسير‏، ‏رغم‏ ‏صحته‏، ‏لم‏ ‏يغننى.‏ فاخترت‏ ‏أن‏ ‏أضع‏ ‏تفسيرا‏ ‏آخر‏ ‏أكثر‏ ‏جسارة‏ ‏يقول‏:‏
إن‏ ‏أسلوب‏ ‏ديستويفسكى، ‏حين‏ ‏يتحول‏ ‏منه‏ ‏الحوار‏ ‏إلى ‏مقال‏ ‏يكاد‏ ‏لا‏ ‏يصلح‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏النوع‏ ‏الذى ‏يدور‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏ ‏بين‏ ‏متحاورين‏ ‏عاديين‏ ‏فى ‏الفعل‏ ‏اليومى، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏مناظرات‏ ‏عقلانية‏ ‏كما‏ ‏تبدو‏ ‏فى ‏ظاهرها‏ - ‏وإنما‏ ‏هى ‏رواية‏ ‏قبل‏ ‏كل‏ ‏شئ‏.‏ إذن‏ ‏فهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الكتابة‏ ‏المرسلة‏ ‏والحوار‏ ‏التفصيلى لايصلحان‏ ‏أن‏ ‏يكونا‏ ‏تداعيا‏ ‏حرا‏ ‏مما‏ ‏نقابله‏ ‏فى ‏الحكايات‏ ‏المسماة‏ ‏باسم‏ "‏تيار‏ ‏الوعي‏" (‏أو‏ ‏تيار‏ ‏اللاوعى‏)، ثم إن‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الحكى ‏ليس‏ ‏مونولوجا‏ ‏داخليا‏ ‏فقط‏، ‏ولا‏ ‏حتى ‏هو‏ ‏ديالوج‏ ‏داخلى ‏تماما‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏وذاك‏، ‏لولا‏ ‏إعلانه‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏حوار‏ ‏مباشر‏، ‏ومتواصل‏ ‏لا‏ ‏ينقطع‏.‏ لكل‏ ‏ذلك‏ ‏قدرت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المستوى ‏من‏ ‏الحكى ‏يجرى ‏فى ‏عمق‏ ‏الطبقة‏ ‏الأولى ‏من‏ ‏الوعى، ‏فلا‏ ‏هو‏ ‏كلام‏ ‏مثل‏ ‏كلامنا‏ ‏اليومى ‏العادى، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏تيار‏ ‏غامض‏ ‏يجرى ‏فى ‏عمق‏ ‏وعى ‏آخر‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏تكبير‏ ‏مجهرى ‏للحظة‏ ‏مكثفة‏ ‏من‏ ‏حوار‏ ‏واع‏‏ ‏موجود‏ ‏فى ‏عمق‏ ‏نفس‏ ‏مستوى ‏الوعى ‏الظاهر‏ ‏بشكل‏ ‏مكثف‏ ‏أشد‏ ‏التكثيف‏، ‏بحيث‏ ‏تستغرق‏ ‏اللحظة‏ ‏الواحدة‏ ‏عشرين‏ ‏صفحة‏ ‏مثلا‏ ‏متى ‏تم‏ ‏التكبير‏، ‏وديستويفسكى ‏قادر‏ ‏على ‏استخراج‏ ‏هذه‏ ‏اللحظة‏، ‏ثم‏ ‏فردها‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏الحكى ‏المسلسل‏. ‏
يلاحظ‏ - ‏أيضا‏- ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الحكى ‏هو‏ ‏شديد‏ ‏الترابط‏ ‏واضح‏ ‏المنطق‏ ‏بعكس‏ ‏الحكى ‏التلقائى ‏أو‏ ‏الحر‏ ‏المسترسل‏، ‏وهذا‏ ‏ليس‏ - ‏فى ‏ذاته‏ - ‏ضد‏ ‏عمقه‏، ‏ولا‏ ‏هو‏، ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏كافٍ ‏أن‏ ‏يجعله‏ ‏حكيا‏ ‏منطقيا‏ ‏واعيا‏ ‏مباشرا‏ ‏على‏ ‏السطح‏.‏ وبتعبير‏ ‏آخر‏: ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يدور‏ ‏فى ‏خلد‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏ ‏ولا‏ ‏ينطقه‏، ‏فجاء‏ ‏ديستويفسكى ‏يعرضه‏ ‏هكذا‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الإفاضة‏ ‏وكأنه‏ ‏حوار‏ ‏أو‏ ‏مونولوج‏ ‏مباشر‏.‏بهذا‏ ‏فقط‏ ‏تحملت‏ ‏مثل‏ ‏هذه الحوارات ‏[5].
ثالثا‏: ‏استعمال‏ ‏الأقواس
‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏استعمال‏ ‏ديستويفسكى للأقواس‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏الوظائف‏ ‏والدلالات‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏فيه‏ ‏تصنيف‏ ‏واحد‏، ‏كأن‏ ‏نضعه‏ ‏تحت‏ ‏ظاهرة‏ "‏تعدد‏ ‏الأصوات‏" ‏مثلا‏، ‏فالأقواس‏ ‏عنده‏ ‏تعنى ‏أيا‏ ‏من‏، ‏وأحيانا‏ ‏كلا‏ ‏من‏:
‏1- ‏جملة‏ ‏اعتراضية‏.‏
‏2- ‏رؤية‏ ‏سبقية‏.‏
‏3- ‏صوت‏ ‏داخلى.‏
‏4- ‏موقف‏ ‏للراوى.‏
‏5- ‏إلتقاط‏ ‏أنفاس‏.‏
‏6-... ‏وغير‏ ‏ذلك‏.‏
رابعا‏: ‏الزمن‏: ‏
‏تصورت‏ ‏واستقبلت‏ ‏علاقة‏ ‏ديستويفسكى ‏بالوحدات‏ ‏المتناهية‏ ‏الصغر‏ ‏من‏ ‏الزمن‏، ‏فهو‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يحسب‏ ‏زمنه‏ ‏باللحظات‏ [6].‏
‏"‏لبثت‏ ‏ثلاث‏ ‏ثوان‏ ‏أو‏ ‏خمسة‏ ‏أتفرس‏ ‏فيها‏" [7]
‏"‏غرس‏ ‏أسنانه‏ ‏فى ‏لحم‏ ‏الإصبع‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏أوتى ‏من‏ ‏قوة‏ ‏لمدة‏ ‏ثانيتين‏"[8].‏
‏"‏وقرع‏ ‏الباب‏ ‏ولكن‏ ‏الجواب‏ ‏لم‏ ‏يأت‏ ‏رأسا‏ ‏وإنما‏ ‏تأخر‏ ‏عشر‏ ‏ثوان‏"[9]. ‏
‏ ‏بل‏ ‏منذ‏ ‏اللحظة‏ ‏التى ‏راودتنى ‏فيها‏ ‏نية‏ ‏النطق‏ ‏بهذه‏ ‏الكلمات‏، ‏بحيث‏ ‏لا‏ ‏يمضى ‏ربع‏ ‏ثانية‏ ‏إلا‏ ‏وأكون‏..."[10] ‏الخ‏.‏
‏‏ولاننسى ‏أن‏ ‏أحداث‏ ‏الرواية‏ ‏برمتها‏ ‏لم‏ ‏تستغرق‏ ‏سوى ‏أيام‏ (‏بالإضافة إلى الرجعات التصويرية - ‏فلاش‏ ‏باك‏)، ‏فالزمن‏ ‏عنده‏ ‏متناه ‏فى ‏الصغر‏، ‏مكثف‏ ‏بالأحداث‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏قابل‏ ‏للمرونة‏ ‏الممتدة‏ ‏بالتصوير‏ ‏البطئ‏ ‏واختراق‏ ‏المستقبل‏ ‏معا‏.. ‏إلى ‏ما‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏مدى.‏
خامسا‏: ‏الواقعية
حين‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏الواقعية‏‏،[11] ‏فإننا‏ ‏لا‏ ‏نعنى ‏واقع‏ ‏الناس‏، ‏أو‏ ‏واقع‏ ‏الأشياء‏ ‏أو‏ ‏واقع‏ ‏الأماكن‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏نعنى ‏قدرة‏ ‏الكاتب‏ ‏الخاصة‏ ‏على ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏منغلقا‏ ‏على ‏ذاته‏ ‏المتميزة‏ ‏الظاهرة‏، ‏أى ‏قدرته‏ ‏على ‏أن‏ ‏يستعمل‏ ‏ذاته‏ "‏مرصدا‏ ‏للواقع"‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏"مصهرا‏ ‏للواقع‏"، ‏ثم‏ ‏على ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏النهاية‏ "‏مصدرا‏ ‏للواقع"‏ ‏المبدع‏ ‏مسقطا‏ ‏على ‏الواقع‏ ‏الواقع (ليغيّره غالبا)‏.‏
هكذا‏ ‏لا‏ ‏تصبح‏ ‏الثلاث‏ ‏عشر‏ ‏درجة‏ ‏فى ‏منزل‏ ‏راسكولينوف‏ ‏فى ‏الشارع‏ ‏الفلاني‏/ ‏هم‏ ‏هم‏ ‏كذلك‏ ‏إذا‏ ‏وصفهم‏ ‏فى ‏إبداعه‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏أراهم‏ ‏لزوجته‏ ‏رأى ‏العين‏ [12]- ‏حتى ‏لو‏ ‏صرّح‏ ‏هو‏ ‏بذلك‏، ‏أو‏ ‏أقنع‏ ‏نفسه‏ ‏بذلك‏.
‏إذن‏ ‏فكل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الشخوص‏ ‏هم‏ ‏ذوات‏ ‏دوستويفسكى ‏شخصيا‏. ‏وخاصة‏ ‏أسرة‏ ‏كارامازوف‏ - ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏التقطهم‏ ‏فكـانـهـم، ‏ ‏فتخلقوا‏ ‏منه‏ ‏به‏، ‏فكانوا‏ ‏هكذا‏ ‏واقعا‏ ‏جديد‏.‏
سادسا‏: ‏هل‏ ‏حقا‏ ‏أنها‏ ‏الأفكار‏ ‏تتجسد؟‏ ‏
‏ديستويفسكى ‏صاحب‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏سواء‏ ‏وهو‏ ‏ضد‏ ‏الدين‏ ‏أو‏ ‏وهو‏ ‏شديد‏ ‏التدين‏، ‏سواء‏ ‏وهو‏ ‏من‏ ‏الأحرار‏ ‏الاشتراكيين‏ ‏أم‏ ‏المحافظين‏ ‏الإصلاحيين‏، ‏ولا‏ ‏شك‏ ‏أنه‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يوصـل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏للناس‏ ‏الناس‏، ‏وكأنها‏ ‏قضيته‏ ‏الأولى ‏والأخيرة‏.‏ ليكن‏.‏
ولكن‏ ‏الإشكال‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏يكمن‏ ‏فى ‏قضية‏ ‏لاحقة‏، ‏وشديدة‏ ‏الأهمية‏، ‏وهى:‏
هل‏ ‏هو‏ ‏يبدع‏ ‏لذلك‏ ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏يبدع‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏ذلك؟‏.‏ أظن‏ ‏أن‏ ‏الأخيرة‏ ‏هى ‏الأصح‏.‏ وكأن‏ ‏مسألة‏ ‏ماذا‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏هى ‏مسألة‏ ‏تالية‏، ‏وأن‏ ‏المهم‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يدع‏ ‏نفسه‏ (‏بكل‏ ‏تواجد‏ ‏مستوياتها‏) ‏تقول‏ ‏ما‏ ‏يقول‏.‏ وأحسب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يوحـد‏ ‏بين‏ ‏الشكل‏ ‏والمضمون‏ ‏بطريقة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى.‏
فهو‏ - ‏إذن‏ - ‏لا‏ ‏يجسد‏ ‏الأفكار‏ ‏فى ‏أشخاص‏ ، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يوظف‏ ‏الأشخاص‏ (‏أشخاص‏ ‏ذاته‏: الحقيقيين‏ ‏المختلفين‏ ‏والمتعددين‏) ‏فى ‏توصيل‏ ‏رسالة‏ ‏متعددة‏ ‏الجوانب‏ ‏لمن‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعيشها‏ ‏معهم‏، ‏وبتعبير‏ ‏آخر‏: ‏إن‏ ‏القول‏ ‏بأنها‏ "‏أفكار‏ ‏تتجسد‏ ‏فى ‏أشخاص‏"، ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يتعدل‏ ‏إلى ‏أنهم‏: "‏شخوص‏ ‏يحضرون‏ ‏بماهم‏: ‏وجدانا‏ ‏مفكـرا‏ ‏ماثلا‏ ‏حيا‏ ‏متحركا"‏[13].‏
والفرق‏ ‏ليس‏ ‏سهلا‏، ‏وليس‏ ‏قليلا‏.‏
سابعا‏: ‏ليس مدحاً أن يكون‏ ‏عالما‏ ‏نفسيا‏ [14]
لا‏ ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏وصف‏ ‏ديستويفسكى ‏بأنه‏ ‏عالم‏ ‏نفسى ‏أو‏ ‏طبيب‏ ‏نفسى ‏هو‏ ‏مدح‏ ‏بأى ‏صورة‏ ‏من‏ ‏الصور‏، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏ ‏أى ‏أنه ربما يكون‏ ‏ذمّا‏[15]. ‏ديستويفسكى ‏يرى ‏النفس‏ - ‏واقعا‏ - ‏قبل‏ ‏وبدون‏ ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏علم‏ ‏نفس‏، (‏علم‏ ‏نفس‏ ‏صحيح‏ ‏أم‏ ‏زائف‏).‏
ثامنا‏: ‏دوائر‏ ‏العائلات
استطاع‏ ‏ديستويفسكى ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏الضخم‏ ‏أن‏ ‏يحرك‏ ‏ثلاث‏ ‏دوائر‏ ‏متماسة‏ ‏متقاطعة‏ ‏معا‏، ‏تمثل‏ ‏ثلاث‏ ‏عائلات‏‏: ‏عائلات‏ ‏كارامازوف‏، ‏وإيليوشا‏، ‏وكوليا‏، ‏ثم‏ ‏وضع -‏ ‏فى ‏وضع‏ ‏التماس‏ ‏الهامشى- ‏ثلاث‏ ‏عائلات‏ ‏أخرى ‏بدقة‏ ‏حاذقة‏، ‏هى: ‏عائلات‏ ‏كاتيا‏، ‏وجريجورى، ‏وهو‏‏خلاكوفا‏.‏ ‏هذه‏ ‏الدوائر‏ ‏الست‏ كانت ‏تلتقى ‏وتتماس‏ ‏وتتداخل‏ ‏وتتباعد‏ ‏بشكل مثير متشابك معا‏.‏
تاسعا‏: ‏وجه‏ ‏الشبه‏ ‏مع‏ ‏حالنا‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏الآن
استشعرت‏ - ‏بشكل‏ ‏ما‏ - ‏وهو‏ ‏يتكلم‏ ‏عن‏ ‏روسيا‏، ‏الأرثوكسية‏، ‏والكنيسة‏ ‏الدولة‏، ‏والدولة‏ ‏الكنيسة‏ ‏كأنه أحيانا‏ ‏ينشر‏ ‏مقالات‏ ‏تصلح‏ ‏أن‏ ‏تنشر‏ ‏اليوم‏ ‏فى ‏صحيفة‏ ‏الأخبار‏، ‏أو‏ ‏مجلة‏ ‏أكتوبر‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏الأهالى - ‏وقد‏ ‏خلصت‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏إلى أننا‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏روسيا‏ (‏وليس‏ ‏الاتحاد‏ ‏السوفيتى) ‏منا‏ ‏إلى ‏أوربا‏ و‏أن‏ ‏إسلامنا‏ "‏فى ‏مصر‏ (‏الإسلام‏ ‏التلقائى ‏الممارس‏ ‏يوميا‏) ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ذا نكهة‏ ‏قبطية ‏روسية‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ (‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏).‏ وعلى ذلك: فإما‏ ‏أن‏ ‏المشاكل‏ ‏أزلية‏ ‏تتكرر‏، ‏وإما‏ ‏أننا‏ ‏متخلفون‏ ‏عما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نكونه‏ ‏قرنا‏ ‏وبعض‏ ‏قرن‏.‏
عاشرا‏: ‏دقة‏ ‏التعبير‏ ‏وعمق‏ ‏الرؤية‏:‏
‏دعونى ‏أرص‏ ‏أمامكم‏ ‏بعض‏ ‏الفسيسفاء‏ ‏التى ‏تناثرت‏ ‏فى ‏الرواية‏ ‏هنا‏ ‏وهناك‏ ‏لترينا‏ ‏أى ‏عمق‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏ديستويفسكى ‏فى ‏وصفه‏ ‏الذات‏ ‏البشرية‏ ‏ظاهرا‏ ‏وباطنا‏.‏ دقة‏ ‏التعبير‏-‏كما‏ ‏استعملتها‏ ‏هنا‏، ‏لا‏ ‏تعنى ‏جمالا‏ ‏فى ‏الأسلوب‏، ‏لكنها‏ تعنى أكثر: ‏تمكّنا‏ ‏من‏ ‏الأعماق‏، ‏وهو‏ ‏تمكن‏ ‏يحذقه‏ ‏ديستويفسكى ‏من‏ ‏أول‏ ‏لمسة‏ ‏إدراك‏، ‏فيرصد أعماقنا‏ ‏بمجهر‏ ‏شديد‏ ‏الحساسية‏، ‏ثم‏ ‏يتمادى ‏فى ‏العزف‏ ‏على ‏أوتار‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏ ‏حتى ‏يتمم‏ ‏هذه‏ ‏الجزئية‏ ‏من‏ ‏اللحن‏ ‏باستطراد‏ ‏يكشف‏ ‏ويتكشف‏ ‏فيفاجئ ‏ويحرك‏ - ‏هذا‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحيان‏ ‏وليس‏ ‏فى ‏كل‏ ‏الأحيان‏، ‏وقد‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏الوصف‏ ‏بتعميم‏ ‏لقضية‏ ‏الإختلاف‏ ‏عن‏ ‏المجموع‏ ‏تصعيدا‏، أو بتفصيل‏‏ ‏أنوثة‏ ‏التثنى ‏فى ‏إصبع‏ ‏القدم‏ ‏الصغيرة‏، ‏ثم‏ ‏نفاجأ بأنه‏ ‏يصف‏ ‏الشخصية‏ ‏برمتها‏.‏
لنبدأ‏ ‏بمقتطف‏ ‏دال:‏
‏ "‏لأن‏ ‏الإنسان‏ ‏الشاذ‏ ‏ليس‏ ‏حتما‏ - ‏ليس‏ ‏دائما‏ - ‏ذلك‏ ‏الذى ‏يبتعد‏ ‏عن‏ ‏القاعدة‏... ‏حتى ‏لقد‏ ‏يتفق‏ ‏أن‏ ‏يحمل‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏حقيقة‏ ‏عصره‏ ‏بينما‏ ‏يكون‏ ‏الناس‏، ‏جميع‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏معاصرية‏، ‏قد‏ ‏ابتعدوا‏ ‏عن‏ ‏القاعدة‏ ‏إلى ‏حين‏ ‏كأنما‏ ‏دفعتهم‏ ‏عنها‏ ‏ريح‏ ‏هبت‏ ‏عليهم‏ ‏على ‏حين‏ ‏فجأة‏" [16].‏
هو‏ ‏إذ‏ ‏يبدأ‏ ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏رفض‏ ‏السواء‏ ‏الإحصائى ‏لا‏ ‏يساير‏ ‏مقولة‏ ‏أن‏ ‏العبقرى (‏أو‏ ‏الشاذ‏) ‏هو‏ ‏الذى ‏يبتعد‏ ‏عن‏ ‏القاعدة‏ ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏سابق‏ ‏لعصره‏، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏الناضورجى ‏كما‏ ‏أسماه لى‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ذات مرة، ‏وإنما‏ هو ‏يؤكد‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏الممثل‏ ‏الحقيقى ‏لعصره‏، ‏وبالتالى ‏يكون‏ ‏المجموع‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏ابتعد‏ ‏لظروف‏ ‏ربما‏ ‏تتعلق‏ ‏بتعثر‏ ‏مسيرة‏ ‏تطوره‏ - (‏تطور‏ ‏المجموع‏ - ‏فيكون‏ ‏الفرد‏، ‏هذا‏ ‏الفرد‏، ‏هو‏ ‏الأكثر‏ ‏تمثيلا‏ ‏لعصره‏).‏
ثَمَّ‏ ‏مقتطف‏ ‏آخر‏ ‏بعيد‏ا ‏عن‏ ‏التجريد‏ ‏يرينا‏ ‏كيف‏ ‏يدخل‏ ‏ديستويفسكى ‏إلى ‏وصف‏ ‏الشخصية‏ ‏من‏ ‏مدخل‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏حيوية‏ ‏جزئية‏ ‏بدنية‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏حالا‏.‏
‏"‏إن‏ ‏فى ‏جسمها‏ (‏جروشنكا‏) ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏تثن‏ ‏تراه‏ ‏فى ‏الساق‏ ‏أيضا‏، ‏وتراه‏ ‏حتى ‏فى ‏الأصبع‏ ‏الصغير‏ ‏من‏ ‏قدمها‏ ‏اليسرى‏" [17]
ثم‏ ‏انظر‏ ‏قوله:‏
"‏فيه‏ ‏استعداد‏ ‏للإصابة‏ ‏بمرض‏ ‏السل‏"[18]
وكأن‏ ‏هذا‏ ‏الاستعداد‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏يصلح‏ ‏وصفا‏ ‏لتقاطيع‏ ‏وجه‏ ‏إنسان‏!!‏ ثم‏ ‏يُلحق‏
"‏متزوج‏ امرأة‏ ‏عاقرا‏.." ‏وكأن‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏السلوك‏ ‏مباشرة‏ ‏حتى ‏يميزه‏.‏
ثم‏ ‏انظر‏ ‏وصفه‏ ‏لنظرة‏ ‏عين‏ ‏آخرين‏ ‏مثل‏
‏"‏يثبتان‏ ‏عليه‏ ‏أعينهما‏، ‏بل‏ ‏يغرسانهما‏ ‏فى ‏لحمه‏ ‏غرسا‏ ‏مثل‏ ‏الحشرات‏ ‏تمص‏ ‏دمه‏" [19].‏
ثم‏ ‏قوله‏:‏
‏" ‏شاحبة‏ ‏الوجه‏ ‏قليلا‏، ‏لها‏ ‏عينان‏ ‏توشكان‏ ‏أن‏ ‏تكونا‏ ‏سوداوين‏ ‏على ‏سطوع‏ ‏شديد‏ ‏وحركة‏ ‏قوية‏" [20].
ثم‏ ‏أنظر‏ ‏دقة‏ ‏التعبير‏ ‏عن‏ ‏عجزه‏ ‏ثم‏ ‏تصوير‏ ‏الثراء‏ ‏الداخلى ‏بالعجز‏ ‏عن‏ ‏تصويره‏:‏
‏"... ‏ ‏لقد‏ ‏فهم‏ ‏الأب‏ ‏بائيسى- ‏فيما‏ ‏يبدو-‏ "‏لا‏ ‏فهما‏ ‏كاملا‏ ‏والحق‏ ‏يقال‏، ‏لكنه‏ ‏فهم‏ ‏فيه‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏نفاذ‏ ‏البصيرة‏ ‏للحالة‏ ‏النفسية‏ ‏التـى ‏كان‏ ‏عليها‏ ‏أليوشا‏"[21]. ‏
‏ "‏ولكن‏ ‏يجب‏ ‏علـىّ ‏أن‏ ‏أعترف‏ ‏مع‏ ‏ذلك‏ ‏بأننى ‏لو‏ ‏أردت‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏على ‏وجه‏ ‏الدقة‏ ‏معنى ‏تلك‏ ‏الدقيقة‏ ‏الغريبة‏ ‏المبهمة‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏الداخلية‏ ‏التى ‏عاشها‏ ‏بطلى ‏الذى ‏أحبه‏ ‏كثيرا‏، ‏والذى ‏مازال‏ ‏فى ‏ريعان‏ ‏الشباب‏ ‏لكان‏ ‏صعبا‏ ‏على ‏كل‏ ‏الصعوبة‏" [22].‏
ثم‏ ‏فى ‏تجسيده‏ ‏لصور‏ ‏الذاكرة‏:‏
‏ "‏إن‏ ‏طفولتى ‏تنبثق‏ ‏أمامى، ‏حتى ‏يخيل‏ ‏إلى ‏أننى ‏اتنفس‏ ‏كما‏ ‏كنت‏ ‏أتنفس‏ ‏فى ‏طفولتى ‏بذلك‏ ‏الصدر‏ ‏الصغير‏ ‏صدر‏ ‏الطفل‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يتجاوز‏ ‏الثامنة‏ ‏من‏ ‏عمره‏" [23].‏
‏ ‏وعن‏ ‏سمردياكوف
‏"‏ولكنه‏ ‏سيظل‏ ‏محتفظا‏ ‏فى ‏قرارة‏ ‏نفسه‏ ‏بالمشاعر‏ ‏التى ‏تجمعت‏ ‏له‏ ‏أثناء‏ ‏استرساله‏ ‏ذاك‏ ‏فى ‏أحلامه‏، ‏وهى ‏مشاعر‏ ‏عزيزة‏ ‏عليه‏ ‏أثيره‏ ‏عنده‏، ‏يجمعها‏ ‏فى ‏نفسه‏ ‏طوال‏ ‏حياته‏ ‏على ‏نحو‏ ‏لا‏ ‏يدركه‏ ‏بل‏ ‏ولا‏ ‏يشعربه‏، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يدرى ‏طبعا‏ ‏لماذا‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏" [24].‏
ونلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏كيف‏ ‏أنها‏ ‏مشاعر‏- ‏وليست‏ ‏أفكارا.
‏‏الرواية‏:‏
‏لم‏ ‏أستقر‏ ‏أبدً على‏ ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏هذا‏ ‏السفر‏ ‏الضخم‏، قارئا بحروف مكتوبة، أى ناقدا بشكل ما. ‏سوف‏ ‏أحاول‏ ‏الدخول‏ ‏على ‏ثلاث‏ ‏محاور‏ ‏الأول‏: تساؤلات، ‏والثانى: ‏موضوعات‏، ‏والثالث‏ ‏أشخاص‏.‏
برغم‏ ‏استحالة‏ ‏الفصل‏ - ‏طبعا‏ - ‏ورغم‏ ‏احتمال‏ ‏التكرار‏ - ‏بداهة‏ - ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الممكن‏ ‏حاليا‏‏.‏
أولا‏: ‏تساؤلات
الرواية تثير تساؤلات بلا حصر، وهى لا تثيرها لكى تجيب عليها، ولكن لكى نظر فيها نحن دون إلزام بالإجابة أيضا، من هذه التساؤلات الأساسية مثلا :
· هل‏ ‏تمثل‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏مرحلة‏ ‏نضج‏ ‏لديستويفسكى، (‏خاصة وأنه ‏ ‏كتبها‏ ‏قبل‏ ‏وفاته‏ ‏بعام‏ ‏واحد‏)‏؟‏. ‏
· وهل‏ ‏هى ‏تتميز‏ ‏بوضع‏ ‏خاص‏ ‏بين‏ ‏رواياته؟‏.‏
· ‏وهل‏ ‏الحل‏ ‏الذى ‏عرضه‏ (‏فناء‏ ‏الذات‏ ‏الفرد‏ ‏فى ‏المجموع‏ ‏بالحب‏ ‏الفعـال‏، ‏ثم‏ ‏الأمل‏ ‏فى ‏المستقبل‏) ‏هو‏ ‏المخرج‏ ‏الذى ‏توصـل‏ ‏إليه‏ ‏بعد‏ ‏رحلة‏ ‏حياته‏، ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏مازال‏ ‏يواجه‏ ‏التحدى ‏فى ‏الوجود‏ ‏الأزلى ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يلوح‏ ‏فى ‏الرواية؟‏
· وما هى الكارامازوفية، ومن هو الراوى ؟
نبدأ من الآخر‏
ماهى الكارامازوفية؟
من‏ ‏خلال‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏: ‏أسرة‏ ‏كارامازوف‏ ‏يقدم‏ ‏لنا‏ ‏ديستويفسكى ‏النفس‏ ‏الإنسانية‏ / ‏الحياة‏ / ‏الآن‏، ‏أساسا‏ ‏وكأنه‏ ‏يفعل‏ ‏مثلما‏ ‏فعل‏ ‏أفلاطون‏ ‏حين‏ ‏أخرج‏ ‏الذات‏ ‏البشرية‏ ‏ووضعها‏ ‏فى ‏جمهورية‏، ‏ومازال‏ ‏الناس‏ ‏يناقشون‏ ‏جهوريته‏ ‏على ‏أنها‏ ‏جمهورية‏ ‏وليس‏ ‏على ‏أنها‏ ‏النفس‏ ‏البشرية‏.‏ ذلك‏ ‏أننى ‏استقبلت‏ ‏كل‏ ‏أفراد‏ ‏عائلة‏ ‏كارامازوف‏ ‏ليس‏ ‏باعتبارهم‏ ‏مراحل‏ ‏متلاحقة‏ ‏فى ‏حياة‏ ‏ديستويفسكى، ‏وإنما‏ ‏باعتبارهم‏ ‏صورا‏ ‏لحياة‏ ‏آنية‏ ‏حية‏ داخلة وخارجه (داخلنا وخارجنا) ‏بزخمها‏ ‏وجدلها‏ ‏وتناقضاتها‏ ‏وولافها‏.‏
إن‏ ‏ديستويفسكى ‏هنا‏ ‏يعرض – من خلال أسرة كارامازوف -‏ ‏بانوراما‏ ‏الحياة‏ ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏العلاقة‏ ‏بالحياة‏، لعله ‏ ‏يجسد‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏حياة‏ ‏فيه أساسا‏، ‏وهذا‏ ‏لايعنى ‏أن‏ ‏أفراد‏ الرواية‏ ‏مصنوعون‏ ‏لأداء‏ ‏دور‏، ‏وإنما‏ ‏هم‏ ‏حاضرون‏ ‏لتحقيق‏ ‏أوجه‏ ‏الحياة‏ ‏كما‏ ‏تتبدى ‏فى ‏حركة‏ ‏مكوناتها‏: ‏"أفرادا‏- ‏فى ‏واحد‏/ ‏الكل‏". ‏لعله من المفيد أن أشير‏‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏كيف‏ ‏ ‏تكرر‏ ‏لفظ‏ ‏الحياة‏، ‏بل‏ ‏وبالذات‏، "‏حب‏ ‏الحياة‏"، ‏على ‏لسان‏ ‏أفراد‏ ‏الرواية‏ ‏عامة‏، ‏وأسرة‏ ‏كارامازوف‏ ‏خاصة‏، ‏اللَّـِّذى ‏منهم‏، ‏والمعقلِـن‏، ‏والمتدين‏، ‏والصرعى. ‏وإذا‏ ‏قلنا‏ ‏الحياة‏: ‏فإن‏ ‏ثمَّ‏ ‏طولا‏، و‏ثمِّ‏ ‏عْرضا‏. هذه‏ ‏الرواية‏ ‏بعكس‏ ‏روايات‏ ‏الأجيال‏ ‏تقدم‏ ‏لنا‏ ‏الحياة‏ ‏بالعرض‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏تقدمها‏ ‏بالطول‏، ‏فالأحداث‏ ‏كلها‏ - ‏كما‏ ‏قلت‏ - ‏لم‏ ‏تستغرق‏ ‏سوى ‏أياما‏ (‏لم‏ ‏أتمكن‏ ‏من‏ ‏عدها‏ ‏بعد،‏ ‏بل‏ ‏إنى ‏لم‏ ‏أرغب‏ ‏فى ‏ذلك‏.)‏ ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فهى ‏ليست‏ ‏رواية‏ ‏آنية‏ ‏تدور‏ ‏فى ‏اللحظة‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏تدوِّر‏ ‏اللحظة‏، ‏وتحدد‏ ‏أغلب‏ ‏توجهاتها‏، ‏وتترحل‏ ‏فى ‏أعماقها‏، ‏ثم‏ ‏تنطلق‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏بعدها‏ ‏حتى ‏أبعْد‏ ‏البعد‏ (‏سوف‏ ‏يتذكر‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏، ‏سوف‏ ‏يتذكرون‏ ‏لون‏ ‏الوجه‏.... ‏الخ‏)‏
ما‏ ‏هى ‏الكارامازوفية بعد هذا؟
هذا بعض ما وصلنى على أية حال:
‏1/ ‏هى "‏حب‏ ‏الحياة‏"‏، ‏وأرى ‏أن‏ ‏تصنيف‏ ‏الكارامازوفيين‏ ‏إلى ‏حسى، ‏ومفكر‏، ‏وملاك‏.. ‏حتى ‏بواسطة‏ ‏الكاتب‏ ‏نفسه‏، ‏هو‏ ‏تصنيف‏ ‏سطحى، (‏سأرجع‏ ‏إلى ‏نقده‏ ‏فى ‏حينه‏) ‏وبالتالى: ‏فإن‏ ‏القاسم‏ ‏المشترك‏ ‏الأعظم‏ ‏بينهم‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏ظاهر‏ ‏موقفهم‏ ‏ومحتوى ‏فكرهم‏ ‏هو‏ "‏حب‏ ‏الحياة‏"‏
‏" ‏إننى ‏أحب‏ ‏الحياة‏ ‏إننى ‏أسرف‏ ‏فى ‏حب‏ ‏الحياة‏ ‏حتى ‏لأخجل‏ ‏من‏ ‏ذلك‏"[25]. (‏قالها‏ ‏ديمترى ‏فى ‏موقف‏ ‏قبيل‏ ‏الإنتحار‏) ‏
‏2/ ‏وهى ‏اندفاعة‏ ‏الجموح
‏"‏مندفعا‏ ‏ذلك‏ ‏الإندفاع‏ ‏الجامح‏ ‏الذى ‏يتميز‏ ‏به‏ ‏آل‏ ‏كارامازوف‏"[26]
‏3/ ‏وهى " ‏الشهوة‏ - ‏البساطة‏":‏
لأليوشا‏: "... ‏أنت‏ ‏واحد‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏تاما‏ ‏كاملا‏.. ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏تؤمن‏ ‏بأن‏ ‏للعرق‏ ‏وللوراثة‏ ‏أثرا‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏شئ‏، ‏أنت‏ ‏شهوانى ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أبيك‏ ‏بسيط‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أمك‏" [27].‏
هذا‏ ‏الإنشقاق‏ ‏من‏ ‏أسخف‏ ‏ما‏ ‏وقع‏ ‏فيه‏ ‏ديستويفسكى، ‏سواء‏ ‏بأن‏ ‏يجعل‏ ‏الشهوة‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏البساطة‏، ‏أو‏ ‏بأن‏ ‏يلصق‏ ‏هذا‏ ‏بأبيه‏ ‏وذاك‏ ‏بأمه‏ - ‏لكنه‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏تدارك‏ ‏ذلك‏ ‏حين‏ ‏جمع‏ ‏هذه‏ ‏الصفات‏ ‏معا‏ ‏دون‏ ‏تميز‏:‏ نقرأ ما قاله راكيتين‏ ‏لأليوشا‏:
"‏هم‏ ‏أناس‏ ‏شهوانيون‏، ‏أناس‏ ‏طماعون‏، ‏أناس‏ ‏بسطاء‏" [28].‏
‏4/ ‏وهى ‏الطفولة‏ ‏الجامحة‏: ‏ولكن‏ ‏أين‏ ‏تقع‏ ‏الطفولة‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏القضية‏: ‏هل‏ ‏هى ‏فى ‏شهوة‏ ‏الإندفاع‏، ‏أم‏ ‏فى ‏سذاجة‏ ‏البساطة؟‏ ‏يقول‏ ‏ديستويفسكى ‏فى ‏موقع‏ ‏آخر‏:‏
"‏إن‏ ‏القساة‏ ‏الضوارى ‏أصحاب‏ ‏الأهواء‏ ‏الجامحة‏، ‏من‏ ‏أمثال‏ ‏آل‏ ‏كارامازوف‏- ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يحبون‏ ‏الأطفال‏" [29]
ولنا‏ ‏أن‏ ‏نتساءل‏ ‏لماذا‏ ‏يحبون‏ ‏الأطفال‏: ‏أهو‏ ‏بديل؟‏ ‏أهو‏ ‏إسقاط؟‏ ‏أهو‏ ‏تفعيل؟‏[30].‏
ربما‏ ‏يكون‏ ‏الكارامازوفى ‏هو‏ ‏الطفل‏ ‏مضروبا‏ ‏فى ‏أبعاد‏ ‏مستعرضة‏ ‏بالعرض‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏ينضج‏ ‏بالطول‏.‏
‏5/ ‏وهى ‏القوة‏ ‏الخام‏، ‏التى ‏تنحط‏ - ‏أو‏ ‏تتفجر‏:‏
‏" ‏مندفعا‏ ‏ذلك‏ ‏الإندفاع‏ ‏الجامح‏ ‏الذى ‏يتميز‏ ‏به‏ ‏آل‏ ‏كارامازوف‏" [31]
‏" ‏قوة‏ ‏آل‏ ‏كارامازوف‏، ‏قوة‏ ‏الحطة‏ ‏والخسة‏ ‏فى ‏آل‏ ‏كارامازوف‏" [32]
يصاحب‏ ‏هذا‏ ‏الجموح‏ ‏والاندفاع‏ ‏أحيانا‏ ‏حب‏ ‏التدنى ‏والقدرة‏ ‏على ‏تحمل‏ ‏ذلك
‏" ‏فحين‏ ‏أسقط‏ ‏فى ‏الهوة‏ ‏أتدهور‏ ‏تدهورا‏ ‏تاما‏".‏
‏ ".. ‏فإذا‏ ‏بلغت‏ ‏القرار‏ ‏من‏ ‏هوة‏ ‏الدناءة‏ ‏والخسة‏ ‏طفقت‏ ‏أترنم‏ ‏بنشيد‏: ‏ألا‏ ‏فلأكن‏ ‏منحطا‏ ‏سافلا‏"[33].‏
لكنها‏ ‏ليست‏ ‏دائما‏ ‏قوة‏ ‏الحطة‏ ‏والتدنى، ‏هى ‏قوة‏ ‏أساسية جوهرية‏، ‏أقرب‏ ‏الطرق‏ ‏لظهورها‏ ‏هو‏ ‏طريق‏ ‏التدنى، ‏لكنها‏ ‏قد‏ ‏تظهر‏ ‏خاما‏ ‏غير‏ ‏مميزة‏:‏
‏"‏فما‏ ‏إن‏ ‏فتح‏ ‏عينيه‏ ‏حتى ‏أحس‏ ‏فى ‏نفسه‏ ‏بسيل‏ ‏خارق‏ ‏من‏ ‏القوة‏، ‏فأدهشه‏ ‏ذلك‏ ‏كثيرا‏، ‏وماهى ‏إلا‏ ‏لحظة‏ ‏حتى ‏نهض‏ ‏عن‏ ‏سريره‏ ‏بوثبة‏ ‏واحدة‏" [34].‏
إذن‏ ‏هى ‏ليست‏ ‏قوة‏ ‏الحطة‏ ‏والخسة‏ ‏فحسب‏، ‏لكنها‏ ‏قوة ‏(فطرية ‏بيولوجية)‏ ‏خام‏ ‏تظهر‏ ‏فجأة‏ ‏بلا‏ ‏اتجاه‏ ‏وبلا‏ ‏تفسير‏، ‏وعند‏ ‏الاستيقاظ‏ ‏بالذات‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏أسميته‏ ‏أحيانا‏: ‏عنف‏ ‏ضخ‏ ‏الوعى.‏ 0تذكر الوجه الإيجابى للصرع!!!)
‏6/ ‏وهى "‏الصلابة‏ ‏الذاتية‏":‏
الكرامازوفيين‏ ‏يعترفون‏ ‏أنهم‏ ‏غير‏ ‏قابلين‏ ‏للإصلاح‏.
"‏فهل‏ ‏أصلحنى ‏ذلك‏؟ ‏كلا‏ ‏ثم‏ ‏كلا‏، ‏لأنى ‏كارامازوفى"‏
‏7/ ‏ثم‏ ‏هم‏ "‏المحتفظون‏ ‏بالبدائية‏ ‏المستقلة‏ ‏الجافة‏" (‏الحشرة‏ ‏المتوحشة‏).‏
الأمر‏ ‏قد‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏عودة‏ ‏للنظر‏ ‏فى ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الطفل‏، ‏والقوة‏ ‏الخام‏، ‏وتلك الحشرة الموصوفة بدقة متحدية؟‏ ‏خاصة‏ ‏وقد‏ ‏لعبت‏ ‏الحشرة‏ ‏دورا‏ ‏خاصا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏فكانت‏ ‏ترمز‏ ‏عادة‏ ‏إلى ‏اللذة‏ ‏الحسية‏ ‏المجردة‏، ‏والصلبة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏مع‏ ‏تأكيد‏ ‏ضمنى ‏على ‏تفرد‏ ‏بلا‏ ‏آخر‏.‏
‏" ‏فيك‏ ‏أيضا‏ ‏تحيا‏ ‏هذه‏ ‏الحشرة‏" [35] "... ‏هى ‏الحشرة‏ ‏المفترسة‏ ‏الكاسرة‏".‏
ونلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏الحشرة‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏مجرد‏ ‏الفطرة‏ ‏الحيوانية[36]‏، ‏لكنها‏ ‏قد‏ ‏تأتى ‏من‏ ‏الخارج‏/‏الداخل‏ ‏
‏"‏فاعلم‏ ‏أن‏ ‏حشرة‏ ‏أخرى ‏قد‏ ‏لدغتنى ‏فى ‏تلك‏ ‏اللحظة‏ ‏فى ‏القلب‏ ‏من‏ ‏جسدى.. ‏هى ‏الحشرة‏ ‏المفترسة‏ ‏الكاسرة‏" [37].‏
ووقفة‏ ‏هنا‏ ‏تستأهل‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏الحشرة‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏العيانى ‏ليست‏ ‏عادة‏ ‏جامحة‏ ‏ولا‏ ‏مندفعة‏، ‏ولاهى ‏متوحشة‏ ‏مفترسة‏ ‏عامة‏، ‏فحشرة‏ ‏ديستويفسكى ‏ليست‏ ‏داخلنا‏ ‏العدوانى ‏الذى ‏يصور‏ ‏عادة‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏حيوان‏ ‏كاسر‏ ‏كما‏ ‏اعتاد‏ ‏الناس‏ ‏أن‏ ‏يعبروا‏ ‏عنه‏، ‏أو‏ ‏كما‏ ‏اعتاد‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏الأحلام‏. (‏وسأرجع‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏).‏
إذن‏ ‏فالكارامازوفية‏ ‏هى ‏زخم‏ ‏الحياة‏ ‏فى ‏نبضها‏ ‏الفطرى ‏بقوة‏ ‏الإندفاع‏ ‏والوعى، ‏بما‏ ‏يصاحب‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏محاولات‏ ‏التعويض‏ ‏والإنكار‏ ‏والإزاحة‏ ‏والتسامى، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏: ‏السمو‏.‏
من‏ ‏هو‏ ‏الراوى؟
عجيب‏ ‏أمر‏‏ ‏الراوى فى هذه الرواية: ‏من‏ ‏هو؟‏ ‏من‏ ‏أى ‏منطقة‏ ‏يحكى؟‏ ‏كيف‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الأعماق‏ ‏وبأى ‏عين‏ ‏يرصد‏ ‏هذه‏ ‏الخلجات‏ ‏عن‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏ ‏هنا‏ أ‏وهناك؟‏ ‏وكيف‏ ‏سمح‏ ‏لنفسه‏ ‏أن‏ ‏يتخطى ‏الرصد‏ ‏إلى ‏التحليل‏، ‏بل‏ ‏إلى ‏الحكم‏ ‏على ‏أعمق‏ ‏المشاعر‏ ‏وأدق‏ ‏التناقضات؟‏ ‏
‏- ‏هل‏ ‏هو‏ ‏مواطن‏ ‏مشاهد‏ ‏قاص‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏البلدة؟
‏- ‏هل‏ ‏هو‏ ‏أليوشا‏ ‏متفرجا‏ (‏ذات‏ ‏مفارقة‏ ‏متأملة‏)‏؟
‏- ‏هل‏ ‏هو‏ ‏الكاتب‏ ‏المبدع‏ ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏خالقا‏ ‏أو‏ ‏متألها‏ ‏يعلم‏ ‏السر‏ ‏وأخفى؟
‏- ‏وأين‏ ‏موقعه‏ (‏كرسيه‏) ‏الذى ‏يسمح‏ ‏له‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏المرونة‏ ‏والرصد؟‏.‏
‏- ‏هل‏ ‏هو‏ ‏وعى ‏فائق‏ ‏فرضِىّ ‏أو‏ ‏هو‏ ‏وعى ‏فائق‏ ‏فِعِلْىّ، ( ‏ذات‏ ‏تكاملية‏ ‏هى ‏ديستويفسكى ‏نفسه‏ ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏يرصد‏ ‏ذواته‏) ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏المرصد‏/ ‏المصهر‏/ ‏المصدر؟
‏الأرجح‏ ‏عندى ‏أن‏ ‏الفرض‏ ‏الأخير‏ ‏هو‏ ‏الأقرب‏ ‏للصواب‏، ‏ولكن‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏إثبات‏ ‏ذلك‏، ‏بتفصيل‏ ‏لاحق‏ (‏ليس‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الدراسة‏).‏
من‏ ‏هو‏ ‏بطل الرواية؟
‏ ‏لماذا‏ ‏سبق‏ ‏ديستويفسكى بتقرير‏ ‏أن‏ ‏أليوشا‏ ‏هو‏ ‏بطل‏ ‏الرواية؟‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏تورط‏ ‏مبدئى ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يفى ‏بحقه؟‏ ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏حلم‏ ‏شخصى ‏وتقمص‏ ‏باطنى.. ‏لم‏ ‏تسعف‏ ‏تلقائية‏ ‏الإبداع‏ ‏فى ‏تحقيقه؟‏ ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏الأولى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏البطل‏ ‏هو‏ ‏إما‏ ‏فيدور‏، ‏وإما‏ ‏إيفان‏، ‏بل‏ ‏إننى ‏انتهيت‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الأرجح‏ ‏أنه‏ ‏سمردياكوف‏ ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏أليوشا‏ ‏على أية حال‏. ‏
ثانيا‏: ‏قضايا
‏(1) ‏الأبوة‏، ‏وقتل‏ ‏الأب‏:‏
‏ ‏لا‏ ‏تُـذكر‏ ‏رواية‏ ‏كارامازوف‏ ‏إلا‏ ‏وتقفز‏ ‏مسألة‏ ‏قتل‏ ‏الأب‏ ‏على ‏السطح‏، ‏لكننى ‏ ‏لم‏ ‏أر‏ ‏أولوية لهذه‏ ‏المسألة‏ ‏هكذا‏‏، ‏لما يلى‏:‏
أولا‏: ‏لا‏ ‏يوجد‏ فى الرواية ‏أب‏ ‏بالمعنى الوظيفى والنفسى أصلا‏، ‏ففيدور كارامازوف (الأب البيولوجى)‏ ‏كان‏: ‏إما‏ ‏فردا‏ ‏متفردا‏ ‏مستقلا‏ ‏تماما‏، ‏لذّيا‏ ‏متمركزا حول ‏ذاته‏، وإما‏ ‏إبنا‏ ‏ضعيفا‏ ‏محتميا‏، ‏بأى ‏أب‏ ‏ممكن ، آباؤه كان أغلبهم من أولاده: ‏: ‏فهو‏ ‏إبن‏ ‏أليوشا‏ ‏أصغر‏ ‏أبنائه‏، ‏وإبن‏ ‏جريجورى ‏الخادم‏، ‏وأحيانا‏ ‏إبن‏ ‏ديمترى ‏ونادرا‏ ‏إبن‏ ‏إيفان‏. ‏
ثانيا‏: ‏إن‏ ‏ما‏ ‏أثير‏ ‏طول‏ ‏الرواية‏ ‏هو‏ ‏ظهور‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏الأب‏- ‏كفضلة‏ ‏نافرة‏ ‏نتيجة ذاتويته وانفصاله، من هنا نفهم ‏رغبة‏ ‏القتل‏ ‏من خلال "تفعيل" الواقع، وكأنها تحصيل‏ ‏الحاصل‏، ‏أو‏ ‏الإزاحة‏ ‏المنطقية‏، ‏اللهم‏ ‏إلا فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بمعركته‏ ‏التنافسية‏ ‏مع‏ ‏ديمترى، ‏أما‏ ‏قتل‏ ‏الأب‏ ‏بالمعنى ‏الأوديبى ‏أو‏ ‏بمعنى ‏صراع‏ ‏الأجيال‏ ‏فهو‏ ‏أمر‏ ‏آخر‏ ‏يتطلب‏ ‏حضور‏ ‏أب‏ ‏قوى ‏جاثم‏ ‏ممثلا‏ للسلطة‏ ‏معيقا ‏ ‏للنمو‏، ‏وبالتالى ‏حافزا‏ ‏على ‏اختراقه‏، ‏مثيرا لرغبة المحيطين المبهورين للتخلص منه، ولو بالقتل، ‏أما‏ ‏هذا‏ ‏الأب‏ ‏المتنحى ‏أصلا‏، ‏الإبن‏ ‏دائما‏، ‏الطفل‏ ‏لاهيا‏، ‏فهو‏ ‏أبعد‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يبرر‏ ‏قضية‏ ‏قتل‏ ‏الأب‏ ‏بالمعنى ‏الأوديبي
ثالثا‏: ‏حتى ‏وإذا‏ ‏دخلنا‏ ‏من‏ ‏مدخل‏ ‏التنافس‏ ‏على ‏الأنثى ‏الأم‏، ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏جروشنكا‏ ‏لم‏ ‏تمثل‏ ‏أمـا‏ ‏أبدا‏، ‏فلم‏ ‏يكن‏ ‏التنافس‏ ‏عليها‏ ‏هو‏ ‏تنافس‏ ‏أوديبى ‏بمعنى ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏أما‏ ‏حاوية‏ ‏وأبا‏ ‏قادرا‏ ‏مخيفا‏.، وإنما كان تنافسا غريميا متكافئا غالبا.
رابعا‏: ‏إن‏ ‏الذى ‏قتل‏ ‏الأب‏ ‏فعلا‏ ‏هو‏ ‏إبن‏ ‏مشكوك‏ ‏فى ‏بنوته‏، ‏وكان‏ ‏السبب‏ ‏المعلن‏ ‏للقتل‏ ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏عن‏ ‏عقدة‏ ‏قتل‏ ‏الأب‏، ‏وهو‏ ‏السرقة‏، ‏مع‏ ‏احتمال‏ ‏استجابة‏ ‏لرسالة‏ ‏غامضة‏ مقتِحَمة ‏من‏ ‏إيفان‏.‏
‏من‏ ‏أضعف‏ ‏مواقف‏ ‏الرواية‏ ‏أن‏ ‏كشف‏ ‏ديستويفسكى عن‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏الإيحائية‏ ‏قبيل‏ ‏انتحار‏ ‏سمردياكوف‏ ‏كشفا‏ ‏مباشرا‏ ‏ومكررا‏، ‏وكان‏ ‏الأفضل‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏المسألة‏- ‏إذا‏ ‏توافرت‏ ‏مقوماتها‏- ‏بمثابة‏ ‏الجنون‏ ‏المُـقْحـم‏ Folie impose ‏(مِنْ إيفان فى سمردياكوف) وهو ما ‏يمكن‏ ‏تناوله‏ ‏ ‏بطريقة‏ ‏أدق تشكيلا وأعمق إبداعا. ‏
أخيرا‏: ‏الأب‏ ‏هنا‏ ‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏أية‏ ‏علاقة‏ ‏بالمقولة‏ ‏الفرويدية‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الأب‏ ‏هو‏ ‏الله‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏وبالتالى ‏فلم‏ ‏يمثل‏ إلحاد‏ ‏إيفان‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏سمردياكوف‏ ‏قتل‏ ‏الأب‏ ‏الإله‏ - ‏مع‏ ‏أن‏ ‏المشلكة‏ ‏الدينية‏ ‏والإيمانية‏ ‏كانت‏ ‏ماثلة‏، ‏بل‏ ‏ملحة‏، ‏طول‏ ‏الوقت‏، حيث كان‏ ‏الله - ‏‏طوال‏ ‏الرواية - ‏إما‏ ‏حاضرا‏، ‏وإما‏ ‏مستغاثا‏ ‏به‏، ‏وإما‏ ‏مخَتَرعا‏ ‏أو‏ ‏متهما‏ ‏أو‏ ‏ملاما‏ بالإضافة إلى الشكّ والنفىْ.
إذن‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏عقدة‏ ‏الرواية‏ ‏برمتها‏ ‏هى ‏قتل‏ ‏الأب‏، ‏وإنما‏ ‏كان‏ ‏أصل‏ ‏الإشكالية‏ ‏هو‏ ‏انعدام‏ ‏حضور‏ ‏الأب‏ ‏أصلا‏، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏قلب‏ ‏الأدوار‏ ‏ليصبح‏ ‏الأب‏ ‏إبنا‏.‏
‏للأمر‏ ‏بعد‏ ‏آخر‏ ‏وهو ‏جماعية‏ ‏وعى ‏الناس‏ ‏بالرغبة‏ ‏فى، ‏والموافقة‏ ‏على، ‏"قتل‏ ‏الأب"‏، كجزء لا يتجزأ من مسيرة التطور، ‏يظهر‏ ‏هذا‏ ‏بالألفاظ‏ ‏فى ‏حوار‏ ‏ليزا‏ ‏مع‏ ‏أليوشا‏.‏
‏- "‏الناس‏ ‏جميعا‏ ‏يستحسنون‏ ‏أنه‏ ‏قتله‏".‏
‏- ‏"هم‏ ‏مفتونون‏ ‏بذلك‏ ‏مفتونون‏، ‏صحيح‏ ‏أنهم‏ ‏يصيحون‏ ‏قائلين‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏فظيع‏، ‏ولكنهم‏ ‏فى ‏قرارة‏ ‏أنفسهم‏ ‏مفتونون‏، ‏وأنا‏ ‏نفسى ‏مفتونة‏ ‏أنا‏ ‏أول‏ ‏المفتونين‏"‏
جاء‏ ‏هذا‏ ‏عقب‏ ‏حوار‏ ‏فى ‏الصفحة‏ ‏السابقة‏ (يقول):‏
أليوٍشا‏:‏
‏- ‏ثمة‏ ‏ساعات‏ ‏يحب‏ ‏فيها البشر‏ ‏الجريمة‏.‏
ليزا‏ - ‏جميع‏ ‏البشر‏ ‏يحبون‏ ‏الجريمة‏". ‏
‏لعل‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏يوحى ‏أن‏ ‏استقبال‏ ‏النقاد‏ ‏لقتل‏ ‏الأب‏ ‏فى ‏كارامازوف‏ ‏وتركيزهم‏ ‏عليه‏ ‏كان‏ ‏إستجابة‏ ‏لما‏ ‏فى ‏أنفسهم‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏كان‏ ‏حادثا‏ ‏فى ‏الرواية‏.
‏‏(2)- ‏آباء‏.. ‏وآباء‏:‏
تعددت‏ ‏صور‏ ‏الآباء‏ ‏فى ‏الرواية‏ ‏تعددا‏ ‏مزعجا:
· ‏بدءا بالأب ‏ ‏زوسيما.
· ثم‏ ‏الأب‏ ‏أليوشا
· ثم‏ ‏الأب‏ ‏جريجورى (‏أب‏ ‏للجميع‏: ‏ديمترى، ‏فسمردياكوف‏، ‏وأب‏ ‏فيدور‏ ‏بالذات‏، ‏وللأخوين‏ ‏الباقيين‏ ‏حسب‏ ‏الحاجة‏).‏
· ثم‏ ‏الأب‏ ‏الطفل‏ ‏إيليوشا‏ (‏فهو‏ ‏أب أبيه‏ ‏الكابتن‏ ‏سينجريف‏)‏
· ثم‏ ‏الأب‏ ‏كوليا‏. ‏وهو‏ ‏أيضا‏ ‏والد‏ ‏أمه‏.‏
‏كما‏ ‏نلاحظ‏ - ‏مارين‏ ‏عبورا‏ - ‏تبادل‏ ‏أدوار‏ ‏الأب‏ ‏بين‏ ‏الأخوين‏ ‏إيفان‏ ‏وأليوشا.‏‏
‏أتقن‏ ‏ديستويفسكى رسم‏ ‏"هذه‏ ‏الزحمة‏ ‏الأبوية‏" ‏وهو‏ ‏يتجاوز‏ ‏السن‏ ‏والميلاد‏، ‏وهو‏ ‏يحسن‏ ‏رسم‏ ‏التفاصيل‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يدع‏ ‏مجالا‏ ‏للشك‏ ‏فى ‏طبيعة‏ ‏الجانب‏ ‏الإيجابى ‏من‏ ‏الأبوة‏، ‏وهو‏ ‏العلاقة‏ ‏الراعية‏ ‏الحانية‏ ‏المسئولة‏ (‏الأبوية‏) ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏مَـنْ‏ ‏أكبر‏ ‏مِـنْ‏ ‏مَـنْ‏ ‏سنا‏، ‏وقد‏ ‏طغا‏ ‏هذا‏ ‏الجانب‏ ‏غالبا‏ ‏على ‏ما‏ ‏يرصد‏ ‏باعتباره‏ ‏السمات الأساسية للأبوة بما يصاحبها ‏من‏ ‏إثارة‏ ‏التحدى ‏وجدل‏ ‏الإنفصال‏ ‏وصعوباته‏، ‏فلم‏ ‏نر‏ ‏أبا‏ ‏من‏ ‏هؤلاء‏ ‏الآباء‏ ‏وهو‏ "‏يمتلك"‏ ‏أو‏ "‏يسيطر"‏ ‏أو‏ ‏"يمنع‏ ‏الاستقلال"‏ ‏بالشكل‏ ‏المألوف‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏التنافس‏ ‏العادى ‏مثل‏ ‏تنافس‏ ‏إيليوشا‏ ‏مع‏ ‏أليوشا‏، ‏أو‏ ‏كوليا‏ ‏مع‏ ‏أليوشا‏ ‏وهو‏ ‏تنافس‏ ‏الإخوة‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏تنافس‏ ‏الأب‏ ‏مع‏ ‏الإبن‏.‏
الإثنان‏ ‏اللذان‏ ‏لم‏ ‏يقوما‏ ‏أصلا‏ ‏بدور‏ ‏الأب‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏أقل‏ ‏القليل‏ ‏هما‏ ‏فيدور‏ ‏الأب‏ ‏الحقيقى ، ‏وديمترى ‏الطفل‏ ‏الجامح‏.‏
‏(3) ‏الأم‏ (‏الأمومة‏) ‏
إذا‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏كيفية‏ ‏ظهور‏ ‏دور‏ ‏الأب‏، ‏فإن‏ ‏الأم‏ ‏لم‏ ‏تظهرظهورا‏ ‏جليًّا‏ ‏صحيحا‏ ‏أبدا‏، ‏فهى ‏إما‏ ‏غائبة‏، ‏وإما‏ ‏متوارية‏ ‏فى ‏ظلمة‏ ‏علاقة‏ ‏خافتة‏، ‏وإما‏ ‏مشوهة‏ ‏عاجزة‏، ‏وإما‏ ‏ملتِهمه‏ ‏مدّعية‏.
‏فلنعدد‏ ‏الأمهات‏ ‏بشكل‏ ‏متعجل‏ ‏أيضا‏:‏
‏1- ‏أم‏ ‏الإخوة الكارامازوفيين‏ التى لم تظهر بجلاء إلا استنتاجا‏
ا‏- ‏الأم‏ ‏أديلائيد‏: ‏هاربة‏ ‏إلى ‏زوج‏ ‏طفيلى، ‏ثم‏ ‏هاربة‏ ‏منه‏ ‏بالموت‏. ‏
ب‏- ‏الأم‏ ‏صوفيا‏: ‏دمية‏، ‏هشة‏ ‏بكل‏ ‏معنى ‏الكلمة‏ - ‏يخطفها‏ ‏المرض‏ ‏مبكرا‏.‏
‏2-‏ ‏أم‏ ‏ليزا‏، ‏السيدة‏ ‏هوخلاكوفا‏، ‏حيزبون‏ ‏سطحية‏، ‏لم‏ ‏نر‏ ‏من‏ ‏أمومتها‏ ‏إلا‏ ‏عاطفة‏ ‏مهترئة‏، ‏وشفقة‏ ‏قاسية‏.‏
‏3- ‏ثم‏ ‏‏أم‏ ‏كوليا‏، ‏وهى ‏أم‏ ‏مضحية‏ ‏فى ‏ظاهر‏ ‏الأمر‏ (‏لم‏ ‏تتزوج‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏كوليا‏)، ‏لكن‏ ‏عواطفها‏ ‏كما‏ ‏ينعتها‏ ‏إبنها‏ ‏هى ‏من‏ "‏عواطف‏ ‏العجول‏" (‏فى ‏الأغلب)‏.‏
‏4- ‏لم‏ ‏يتبق‏ ‏إلا‏ ‏أم‏ ‏إيليوشا‏ ‏وهى ‏أم‏ ‏معتوهة‏ ‏تماما‏، ‏ليس‏ ‏نتيجة‏ ‏لتخلف‏ ‏ذهنى ‏بقدر‏ ‏ماهو ‏نتيجة‏ ‏لتدهور‏ ‏عقلى ‏ظاهر‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏ديستويفسكى ‏قد‏ ‏لعب‏ ‏بعتهها‏ ‏بقدرة‏ ‏العارف‏ ‏أين‏ ‏وكيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعثر‏ ‏على ‏بؤر‏ ‏الحكمة‏ ‏ودلالات‏ ‏الفطرة‏ ‏فى ‏وسط‏ ‏زحمة‏ ‏وتشوش‏ ‏العته‏.‏
على ‏أنى ‏لم‏ ‏أجد‏ ‏لتهميش دور‏ ‏الأم‏ ‏فى هذه الرواية ‏الذى‏ ‏دلالة‏ ‏خاصة‏، ‏لا‏ ‏فى ‏قضية‏ ‏الكارامازوفية‏، ‏ولا‏ ‏فى ‏قضية‏ ‏الدين‏ ‏والإيمان‏، ‏ولا‏ ‏فى أية ‏قضية‏ ‏محورية‏ ‏أخرى، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏ثمة‏ ‏دور‏ ‏لصورة‏ ‏الأم‏ ‏كما‏ ‏وردت‏ ‏فى ‏كارامازوف‏ ‏فهو‏ ‏دور‏ ‏يعلن‏ ‏الأهمية‏ ‏التى ‏نستنتجها‏ ‏من‏ ‏أثر‏ ‏الاختفاء‏ ‏أو‏ ‏الإنكار‏ ‏لما‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يختفى ‏أو‏ ‏يُنكر‏، ‏فربما‏ ‏تعمد‏ ‏ديستويفسكى‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏الإيجاب‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏تجسيد‏ ‏آثار‏ ‏السلب‏، ‏تجسيدا‏ ‏بما‏ ‏هو‏... ‏وليس‏ ‏بمعادلة‏ ‏مسطحة‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏اختفاء‏ ‏الأم‏، ‏أو‏ ‏انتحارها‏، ‏أو‏ ‏سطحيتها‏، ‏أو‏ ‏بلهها‏ ‏كانت‏ وراء ‏الدوافع‏ ‏التى ‏شكلت‏ ‏نوع‏ ‏العلاقات‏ ‏الأسرية‏ ‏التى ‏ظهرت‏ ‏فى ‏الرواية‏، ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏علاقات‏ ‏حب‏ ‏أَخَوى ‏يعوض‏ ‏فقدان‏ ‏الأم‏ ‏وطفولة‏ ‏الأب‏، ‏أو‏ ‏كانت‏ ‏تماسك‏ ‏القهر‏ ‏والذل‏ ‏فى ‏عائلة‏ ‏إيليوشا‏، ‏أو‏ ‏كانت‏ ‏الوحدة‏ ‏والتعويض‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏كوليا‏.‏
‏أقوى ‏موقف‏ ‏أموى ‏وصلنى، ‏كان‏ ‏نهاية‏ ‏أديلائيد‏ ‏أم‏ ‏ميتيا‏، ‏فقد‏ ‏وصلنى ‏فيه‏ ‏احتجاج‏ ‏قوى، ‏وانسحاب‏ ‏موقوت‏ ‏مدروس‏ ‏وكأنه‏ ‏هو‏ ‏هو‏ ‏انتحار‏ ‏الفتاة‏ ‏الرومانسية‏ ، ‏فى ‏الخلفية‏: ‏حين‏ ‏ناداها‏ ‏الجرف‏ ‏الجميل‏ ‏للعودة‏ ‏إلى ‏الرِحم‏ ‏الأرض‏ (‏ما‏ ‏دامت‏ ‏الحياة‏ ‏هكذا‏!!) ‏فاستجابت‏ ‏بانتحار‏ ‏متناغم‏- ‏هكذا‏ ‏استقبلتُ‏ ‏موت‏ ‏أديلائيد‏ ‏بعد‏ ‏هربها‏.‏
‏(4) ‏الأخّوة‏:‏
ثمَّ ‏نوعان‏ ‏من‏ ‏التآخى ‏ظهرا‏ ‏طوال‏ ‏الرواية‏:‏
‏1- ‏أخوة‏ ‏الدم‏، ‏وهى ‏الأخوة‏ ‏الحارة‏ ‏جدا‏ ‏بين‏ ‏الاخوة‏ ‏الثلاثة‏[38].‏
‏2- ‏أخوة‏ ‏الرأى ‏أو‏ ‏العقيدة‏ ‏أو‏ ‏الهدف‏ ‏أو‏ ‏أخوة‏ ‏ألفة‏ ‏الائتناس‏ ‏بالحوار‏.‏
أما‏ ‏عن‏ ‏أخوة‏ ‏الدم‏ ‏فقد كانت شديدة‏ الحرارة والترابط، والتقارب، والحركية ‏برغم‏ ‏الاختلاف‏ ‏الجوهرى ‏فى ‏ظاهر‏ ‏الطباع‏، ‏وفى ‏عمق‏ ‏المعتقد‏ ‏وطبيعة‏ ‏التدين‏ ‏والموقف‏ ‏من‏ ‏الله‏، ‏وفى ‏طبيعة‏ ‏العلاقة‏ ‏بالحسيات‏ ‏والحياة‏، ‏وفى ‏توجه‏ ‏الغايات‏، ‏وفى ‏منبع‏ ‏ومسار‏ ‏النشأة‏. كانت‏ ‏دوائر‏ ‏التماثل‏ ‏تعلن‏ ‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زهرة الفيوم
عضو لامع
عضو لامع
زهرة الفيوم

انثى
عدد الرسائل : 1043
 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 210
بلد الإقامة : الفيوم
احترام القوانين :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 111010
العمل :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Profes10
الحالة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 710
نقاط : 7382
ترشيحات : 28
الأوســــــــــمة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 222210

 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى    تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى I_icon_minitime20/10/2012, 19:42

إن‏ ‏الحدس‏ ‏الإبداعى ‏الأصيل‏ ‏يلتقى مع غيره ‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏إلى ‏إثبات‏ ‏سبق‏ ‏أو‏ ‏تأكيد‏ ‏مقارنة‏، ‏يصح‏ ‏هذا‏ ‏أكثر‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏الجماعى ‏فى ‏الأسطورة‏ ‏والمثل‏ ‏العامى، ‏كما‏ ‏يظهر‏ ‏بين‏ ‏إبداع‏ ‏الكاتب‏ ‏ونفسه‏، ‏وإبداع‏ ‏الكاتب‏ ‏وغيره‏ ‏من‏ ‏معاصريه‏ ‏وغير‏ ‏معاصريه‏، ‏ولا‏ ‏أظن‏ ‏أنه‏ ‏يفيد‏ ‏كثيرا‏ ‏أن‏ ‏أدخل‏ ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏مقارنات‏ (‏خاصة‏ ‏مقارنات‏ ‏التفضيل‏) ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏أو‏ ‏بصفة‏ ‏خاصة‏ - ‏لذلك‏ ‏سأكتفى ‏هنا‏ ‏ببعض‏ ‏الإشارات‏ ‏العابرة‏ ‏لاحتمال‏ ‏مقارنات‏ ‏ممكنة‏:‏
‏(‏أ‏) ‏احتمال‏ ‏مقارنة‏ ‏بين‏ ‏فهم‏ ‏دوستويفسكى ‏لفكرة‏ ‏برج‏ ‏بابل‏ ‏الذى ‏أراد‏ ‏البشر‏ ‏أن‏ ‏يشيدوه‏ ‏بلا‏ ‏إله‏، ‏كما‏ ‏يحاولون‏ ‏ذلك‏ ‏الآن‏، ‏لا‏ ‏ليرتفعوا‏ ‏من‏ ‏الأرض‏ ‏إلى ‏السماوات‏ ‏بل‏ ‏لينزلوا‏ ‏السماء‏ ‏إلى ‏الأرض‏، ‏وبين‏ ‏مئذنه‏ ‏جلال‏ ‏صاحب‏ ‏الجلالة‏ ‏فى ملحمة الحرافيش لمحفوظ ‏الحرافيش‏.‏
‏(‏ب‏) ‏‏نص‏ ‏ديستويفسكى فى هذا المتن ‏ ‏على ‏عدة‏ ‏مقارنات‏ ‏مباشرة‏ ‏مثل‏ ‏انتحار‏ ‏أوفيليا‏ ‏وانتحار‏ ‏الفتاة‏ ‏الرومانسية‏، ‏وبين‏ ‏مسرحية‏ ‏شيللر‏، ‏وسفر‏ ‏بيرون‏..، ‏فى ‏القصيدة‏ ‏التى ‏اخترعها‏ ‏إيفان‏ ‏إلخ‏.‏
‏(‏جـ‏) ‏أغرانى ‏هاتف‏ ‏ما‏ ‏أن‏ ‏أتذكر‏ ‏فلة‏ ‏وهى ‏تعمل‏ ‏فى ‏غرزة‏ ‏الحرافيش‏ ‏حين‏ ‏قرأت‏ ‏أن‏ ‏جروشنكا‏ ‏كانت‏ ‏قد‏ ‏عملت‏ ‏بعض‏ ‏الوقت‏ ‏لحساب‏ ‏فيدور‏ ‏فى ‏خمارته‏ .‏
‏(‏د‏) ‏قفز‏ ‏إلى ‏ذهنى ‏تشبيه‏ ‏جريجورى ‏لابنه‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏خطأ‏ ‏من‏ ‏أخطاء‏ ‏الطبيعة‏، - "‏لأنه‏ "‏تنين‏"، "‏نتيجة‏ ‏أنه‏ ‏اختلط‏ ‏الأمر‏ ‏على ‏الطبيعة‏". ‏بما‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏مائة‏ ‏عام‏ ‏من‏ ‏العزلة‏ ‏وخوف‏ ‏زوجة‏ ‏جوزيه‏ ‏أركاديو‏ ‏الكبير‏ ‏أن‏ ‏تلد‏ ‏إنسانا‏ ‏بذيل‏.‏ وأيضا بولادة تمر بنوى فى سوق السمك (العطر رزوسكند)
‏(‏هـ‏) ‏كذلك‏ ‏يمكن‏ ‏مقارنة‏ ‏أبله ديستويفسكى نفسه‏ ‏بكثير‏ ‏مما‏ ‏ورد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العمل‏، ‏وكأن‏ ‏أليوشا‏ ‏هو‏ ‏تطور‏ ‏الأبله‏ ‏وكذلك‏ ‏يمكن‏ - ‏مقارنة‏ ‏أناستازيا‏ ‏مع‏ ‏جروشنكا‏، ‏وحتى ‏منظرحرق‏ ‏النقود‏ ‏فى ‏المدفأة‏ ‏فى الأبله‏، ‏مع‏ ‏منظر‏ ‏عرض‏ ‏النقود‏ ‏على ‏الضابط‏ ‏سينجريف‏ (‏والد‏ ‏إيليوشا‏).‏
‏(‏و‏) ‏بل‏ ‏إن‏ ‏فكرة‏ ‏أن‏ ‏تجسيد‏ "‏داخل‏" ‏إيفان‏ ‏فى ‏سمردياكوف (كما صورته ناقدا)‏ ‏قد‏ ‏ذكرتنى‏ ‏بصورة‏ ‏دوريان‏ ‏جراى ، ‏وأيضا‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏عرضته‏ ‏فى ‏قراءتى ‏لابنة‏ ‏ريان‏: ‏حيث‏ ‏تجسد‏ ‏المدرس‏ ‏فى ‏القسيس‏، ‏والضابط‏ (‏اللذة‏) ‏فى ‏الأبله‏ (‏البدائية‏).
(ز) أشرت سالفا إلى مقارنة "حشرة" ديسويفسكى هنا، بالقراضة "غرينوى" فى العطر، لباتريكزوسكند.
‏6- ‏ ‏ ‏أراء‏ ‏فى ‏الفلسفة‏ ‏والأخلاق‏ ‏والسياسة‏ ‏تستحق‏ ‏وقفة‏ ‏‏.
أ‏- ‏نقد‏ ‏موقف‏ ‏المثقفين‏ ‏
‏" ‏بل‏ ‏مثقفين‏ ‏أدعياء‏ ‏يحملون‏ ‏فى ‏أنفسهم‏" ‏مشكلات‏ ‏عميقة‏ ‏لا‏ ‏تحل‏".... ‏إن‏ ‏جوهر‏ ‏تفكيرهم‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يلى: ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أولى ‏يستحيل‏ ‏التسليم‏ ‏ومن‏ ‏جهة‏ ‏أخرى ‏يستحيل‏ ‏عدم‏ ‏الإنكار‏"[101]
أهمية‏ ‏هذا‏ ‏المقتطف‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏ننتبه‏ ‏لوعى ‏ديستويفسكى ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏طرح‏ ‏الرأى ‏ونقيضه‏ ‏على ‏لسان‏ ‏شخوصه‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏على ‏لسان‏ ‏نفس‏ ‏الشخص‏ (‏إيفان‏ ‏مثلا‏)، ‏فإنه‏ ‏لم‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏مثل‏ ‏هؤلاء‏ ‏المثقفين‏ ‏الذين‏ ‏عراهم‏ ‏بهذا‏ ‏التعبير‏.‏
ب‏- ‏وعن‏ ‏فلسفة‏ ‏الجمال‏.‏
‏"‏الجمال‏ ‏هو‏ ‏شطئان‏ ‏اللانهاية‏ ‏تتقارب‏ ‏وتختلط‏"
جـ‏- ‏عن‏ ‏حق‏ ‏الحكم‏ ‏على ‏آخر‏ ‏بأنه‏ ‏لا‏ ‏يستحق‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏.‏
‏"‏هل‏ ‏تعتقد‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏حق‏ ‏كل‏ ‏إنسان‏ ‏أن‏ ‏يعـين‏... ‏أولئك‏ ‏الذين‏ ‏ما‏ ‏يزالون‏ ‏يستحقون‏ ‏أن‏ ‏يعيشوا‏ ‏وأولئك‏ ‏الذين‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يزولوا؟‏" [102]‏
د‏- ‏وعن‏ ‏احترام‏ ‏الغباء‏، ‏وعلاقته‏ ‏بالحكمة
قل‏ ‏لى: ‏ "‏لماذا‏ ‏تعمدت‏ ‏أن‏ ‏تبدأ‏ ‏الحديث‏ ‏بيننا‏ ‏على ‏أغبى ‏نحو‏ ‏ممكن‏"‏
‏- ‏أولا‏ ‏لأننى ‏أحببت‏ ‏أن‏ ‏أجارى ‏عادات‏ ‏الناس‏... ‏وثانيا‏: ‏لأن‏ ‏المرء‏ ‏يكون‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الحقيقة‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏غبيا‏. ‏إن‏ ‏الغباء‏ ‏يمضى ‏نحو‏ ‏الهدف‏". [103]
وقبل‏ ‏أن‏ ‏أختتم‏ ‏هذا‏ ‏الهامش‏ ‏أذكر‏ ‏نفسى ‏والقارئ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏آراء‏ ‏ديستويفسكى، ‏وإنما‏ ‏هى ‏رؤاه‏ ‏على ‏لسان‏ ‏شخوص‏ ‏مختلفين‏ ‏وأننى ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏رصدى ‏لتحيزه‏ ‏لفكرة‏ ‏معينة‏، ‏إلا‏ ‏أننى ‏رصدت‏ ‏وستقبلت‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏مساحة‏ ‏السماح‏ ‏التى ‏تركنى ‏أتحرك‏ ‏فيها‏، ‏وكم‏ ‏المسام‏ ‏التى ‏فى ‏جدران‏ ‏بنايته‏ ‏الضخمة‏.‏
‏ ‏ثالثا‏: ‏أشخاص‏ ‏
ثم‏ ‏ننتقل‏ ‏إلى ‏المحور‏ ‏الثالث‏، ‏وأستسمح‏ ‏القارئ ‏أن‏ ‏أركز‏ ‏كثيرا‏، ‏أو ‏ ‏تماما‏ ‏تقريبا‏ ‏(!!) على ‏أسرة‏ ‏كارامازوف‏.‏
فيدور‏ ‏كارامازوف‏
‏هو‏ ‏رب‏ ‏هذه‏ ‏العائلة‏ ‏الأكبر‏، ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏التعريف‏ ‏الرسمى، ‏لكن‏ ‏حضوره‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏كذلك‏ ‏أبدا‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏استيلائه‏ ‏على ‏الأموال‏ ‏بحق‏ ‏وبدون‏ ‏حق‏ ، وعلى ‏كـلٍّ‏، ‏فقد‏ ‏اختلفت‏ ‏صور‏ ‏حضوره‏:‏ ‏باختلاف‏ ‏الواصف‏، ‏ومرات‏ ‏باختلاف‏ ‏الموقف‏، ‏ومرات‏ ‏حسب‏ ‏مزاج‏ ‏الراوى، ‏ومن‏ ‏ذلك‏:‏
‏1- ‏فحين‏ ‏يصفه‏ ‏الآخرون‏، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الراوى، ‏فى ‏نزواته‏ ‏وصبواته‏ ‏يبدو‏ ‏مستهترا‏، ‏منافقا‏، ‏وصوليا‏، ‏طفيليا‏، ‏منحلا‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أنه‏ ‏حين‏ ‏يحضر‏، ‏ويحاور‏، ‏ويصف‏ ‏نفسه‏: ‏يبدو‏ ‏فيلسوفا‏ ‏حائرا‏، ‏متحديا‏، ‏وطفلا‏ ‏أيضا‏.‏
‏2- ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏أبا‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏نادر‏ ‏الندرة‏، ‏مثلا‏ ‏حين‏ ‏ينصح‏ ‏أحد‏ ‏أبنائه‏ ‏أن‏ ‏يحب‏ ‏الآخر‏.‏
‏- "‏إيفان‏: ‏هل‏ ‏تحب‏ ‏إليوشا‏. - ‏أحبه‏. - ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏تحبه‏" [104].‏
‏3- ‏كان‏ ‏منافسا‏ ‏عنيدا‏ ‏لمعظم‏ ‏الأبناء‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏المواقع‏، ‏ينافس‏ ‏ديمترى، ‏فى ‏حبه‏ ‏جروشنكا‏، ‏وينافس‏ ‏إيفان‏ ‏فى ‏الإلحاد‏.‏
أما‏ ‏علاقته‏ ‏بأليوشا‏ ‏فكانت‏ ‏تتراوح‏ ‏بين‏ ‏الحب‏ ‏البنوى (‏باعتبار‏ ‏أليوشا‏ ‏أباه‏)، ‏والاحترام‏ ‏للاختلاف‏، ‏والنصح‏ ‏الأبوى ‏بالصدفة‏ ‏البحته‏، ‏والائتناس‏ ‏به‏ ‏أغلب‏ ‏الأوقات‏.‏ ‏كان‏ ‏باطنه‏ ‏ظاهرا‏ ‏بلا‏ ‏حرج‏، ‏وهو‏ ‏يتمادى ‏فيما‏ ‏يفرضه‏ ‏عليه‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏التهريج‏، ‏فيقلبها‏ ‏إهانة‏ ‏لذاته‏، ‏وكأنها‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏هو‏، ‏يغيظ‏ ‏بذلك‏ ‏الآخرين‏ (‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏ذلك‏).‏
‏4- ‏وكان‏ ‏مصرا‏ ‏بوعى ‏ومسئولية‏ ‏على ‏الخلاعة‏ ‏حتى ‏نهاية‏ ‏العمر
ولكنه‏ ‏أيضا‏:‏
‏5- ‏كان‏ ‏فنانا‏ ‏تلقائيا‏ ‏يرسم‏ ‏حياته‏ ‏بطريقة‏ ‏مكثفة‏ ‏متعددة‏ ‏الحضور‏، (‏راجع‏ ‏الموقف‏ ‏المزدوج‏ ‏لتفاعله‏ ‏عند‏ ‏وفاة‏ ‏زوجته‏ ‏الأولى ‏سواء‏ ‏انتحابه‏ ‏الطفلى، ‏أم‏ ‏باستعادته‏ ‏حريته‏) ‏وهو‏ ‏موقف‏ ‏شديد العمق والدلالة ‏ ‏.‏
ثم‏ ‏نلاحظ‏ ‏ذلك‏ ‏أيضا‏ ‏فى ‏تلك‏ ‏النقلة‏ ‏الفنية‏ ‏حين‏ ‏تذكر‏ ‏أليكسى ‏أمه‏ ‏وزار‏ ‏قبرها‏ ‏بمساعدة‏ ‏جريجورى ‏فتأثر‏، ‏فاندفع‏ ‏إلى ‏الدير ليهب‏ ‏ألف‏ ‏روبل‏ ‏لتتلى ‏الصلوات‏ ‏على ‏زوجته‏ ‏الأولى ‏وليس‏ ‏على ‏أم‏ ‏أليوشا‏.‏
‏ ‏لإبداع فى‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏يتمثل‏ ‏فى ‏تلقائية‏ ‏التكثيف‏ ‏وجمال‏ ‏المفاجأة‏ ‏المزاحة‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏التفسير‏ ‏المسطح‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏نتيجة‏ ‏عدم‏ ‏تركيز‏ ‏أو‏ ‏نسيان‏.‏
كان‏ ‏فيدور‏ ‏حاد‏ ‏البصيرة‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏فيه‏، "‏أنا‏ ‏ِِكْذبُ‏ ‏يحيا‏..."
وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏" ‏إننى ‏أكره‏ ‏الكذب‏" ‏إلخ
‏- ‏كما‏ ‏كان‏ ‏شديد‏ ‏الحساسية‏ ‏أيضا‏، ‏وخاصة‏ ‏حين‏ ‏يشرب‏، ‏ويحتاج‏ ‏لمن‏ ‏يؤنسه‏، ‏ويراه‏.‏
‏- ‏وكان‏ ‏صاحب‏ ‏موقف‏ ‏سياسى:‏
‏"‏أما‏ ‏روسيا‏ ‏فهى ‏بلد‏ ‏قذر‏ ‏حقير‏..: ‏أو‏ ‏قل‏ ‏إننى ‏لا‏ ‏أكره‏ ‏روسيا‏ ‏بمقدار‏ ‏ما‏ ‏أكره‏ ‏هذه‏ ‏العيوب‏، ‏وربما‏ ‏كرهت‏ ‏روسيا‏ ‏أيضا‏".
‏- ‏وكان‏ ‏محبا‏:‏
كان‏ ‏يحب‏ ‏أليوشا‏.‏
بل‏ ‏وأعلن‏ ‏لإيفان‏ ‏أنه‏ ‏يحبه‏ ‏ليس‏ ‏أقل‏ ‏من‏ ‏أليوشا‏.‏
وعلاقته‏ ‏بميتيا‏ ‏تظهر‏ ‏وكأنها‏ ‏تنافسٌ‏ ‏كاره‏، ‏ولكن‏، ‏ربما‏ ‏لولا‏ ‏جروشنكا‏، ‏لكانت‏ ‏من‏ ‏نفس‏ ‏النوع‏ ‏السهل‏ ‏المحب‏. ‏وحتى ‏سمردياكوف‏، ‏كان‏ ‏يحبه‏. ‏
‏" ‏لا‏ ‏يدرى ‏أحد‏ ‏لماذا‏، ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏الفتى ‏كان‏ ‏متوحشا‏ ‏معه‏ ‏كتوحشه‏ ‏مع‏ ‏سائر‏ ‏الناس‏" [105].‏
أما‏ ‏موقفه‏ ‏من‏ ‏الدين‏ ‏فيمكن‏ ‏إيجازه‏ ‏كما‏ ‏يلى:‏
‏1- كان ‏متدينا‏ ‏حدْسيا‏ ‏عاديا‏، ‏بشروطه‏.‏
‏2- ‏لا‏ ‏يعوقه‏ ‏شعور‏ ‏بالذنب‏ ‏أو‏ ‏خوف‏ ‏من‏ ‏نار‏ ‏أو‏ ‏طمع‏ ‏فى ‏جنه‏.‏
‏3- ‏كان‏ ‏ساخرا‏ ‏ناقدا‏ ‏فنانا‏، ‏يريدها‏ ‏نارا‏ ‏بلا‏ ‏سقف‏ ‏لتلتقطه‏ ‏الشياطين‏..‏
ديمترى
‏1- ‏إفتقد‏ ‏ديمترى ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏الأم‏ ‏والأب‏، ‏وماتت‏ ‏أمه‏ ‏بلا‏ ‏ذكرى (‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏بالنسبة‏ ‏لذكرى ‏أليوشا‏ ‏عنها‏) ‏ولم‏ ‏ير‏ ‏أباه‏، ‏أو‏ ‏لم‏ ‏يعرفه‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏بلوغه‏ ‏سن‏ ‏الرشد‏.‏
‏2- ‏ظلت‏ ‏الرواية‏: ‏ترسمه‏ ‏عكس‏ ‏إيفان‏ ‏تماما‏. "‏إن‏ ‏من‏ ‏الصعب‏ ‏على ‏المرء‏ ‏أن‏ ‏يتصور‏ ‏إنسانين‏ ‏بينهما‏ ‏من‏ ‏قوة‏ ‏التنافر‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏هذين‏ ‏الأخوين‏" [106]. ‏
لكن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الظاهر‏ ‏فحسب‏.‏
‏3- ‏ففى ‏مناقشة‏ ‏مع‏ ‏راكيتين‏.
"‏أنظر‏ ‏إلى ‏هؤلاء‏ ‏الشهوانين‏ ‏الثلاث‏". ‏وكأنه‏ ‏جمع‏ ‏إيفان‏ ‏فى ‏شهوانيته‏ ‏مع‏ ‏ميتيا‏ ‏وفيدور‏... ‏على ‏قدم‏ ‏المساواة‏.‏
‏4- ‏فهو‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ - ‏هكذا‏ - ‏يمثل‏ ‏اللذة‏ ‏فحسب‏ ‏كما‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏المقدمة‏، ‏والفصلان‏ ‏المتعاقبان‏ ‏للاعترافات‏ ‏يشيران‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏العمق‏ ‏الذى ‏يتناول‏ ‏به‏ ‏قضايا‏ ‏الوجود‏ ‏والوعى. ‏أنظر‏ ‏إليه‏ ‏وهو‏ ‏يقول‏: (‏ذلك‏ ‏اللذي‏!! ‏يقول‏) ‏
‏"‏لقد‏ ‏أحببت‏ ‏المجون‏ ‏حتى ‏فى ‏العار‏، ‏لقد‏ ‏أحببت‏ ‏القسوة‏، ... ‏ألست‏ ‏بقـة؟‏ ‏ألست‏ ‏حشرة‏ ‏خبيثه؟‏" [107]. ‏
وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يقول‏:‏
‏"‏إن‏ ‏المصير‏ ‏الفاجح‏ ‏الذى ‏كتب‏ ‏على ‏البشر‏ ‏يعذبنى ‏تعذيبا‏ ‏شديدا‏ ‏لأننى ‏أنا‏ ‏نفسى ‏واحد‏ ‏من‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأشقياء‏ ‏البؤساء‏" [108].‏
بل‏ ‏أنظر‏ ‏إلى ‏حيرته‏ ‏الوجودية‏ ‏وهو‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يعاهد‏ ‏الأرض‏.‏
‏"‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يقطع‏ ‏للآلهه‏ ‏القديمة‏" "‏أم‏ ‏الأرض‏" "‏عهدا‏ ‏إلى ‏الأبد‏"‏
‏ "‏إننى ‏أسير‏ ‏فى ‏الليل‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أعرف‏ ‏أأنا‏ ‏أغوص‏ ‏فى ‏الوحل‏ ‏والعار‏ ‏أم‏ ‏أتقدم‏ ‏نحو‏ ‏الضياء‏ ‏والفرح‏، ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏بعينه‏ ‏البلاء‏" [109].‏
ثم‏ ‏إنه‏ ‏يتمتع‏ ‏ببصيرة‏ ‏تكاد‏ ‏تقترب‏ ‏من‏ ‏بصيرة‏ ‏أبيه‏. ‏
ونلاحظ‏ ‏عموما‏ ‏أن‏ ‏عمق‏ ‏البصيرة‏ ‏يتناسب‏ ‏مع‏ ‏أحد‏ ‏متغيرين‏: ‏ضعف‏ ‏الكف‏ (‏فيدور‏ - ‏ديمترى) ‏أو‏ ‏حدة‏ ‏التفعيل (‏acting out ‏إيفان‏، ‏أليوشا‏)‏
‏(‏عن‏ ‏كاتيا‏) "‏هى ‏لا‏ ‏تحبنى ‏أنا‏، ‏وإنما‏ ‏تحب‏ ‏نبل‏ ‏نفسها‏ ‏وأريحية‏ ‏قلبها‏ ‏وشهامة‏ ‏روحها‏".‏
‏"‏إلا‏ ‏أن‏ ‏البلية‏ ‏هى ‏أننى ‏لن‏ ‏أنتحر‏، ‏لن‏ ‏أنتحر‏ ‏الآن‏ ‏على ‏كل‏ ‏حال‏" [110] (‏ويتكرر‏ ‏أن‏ ‏يهم‏ ‏ولا‏ ‏يفعل‏).‏
‏" ‏وأيضا‏..، ‏هو‏ ‏يعلم‏ ‏كيف‏ ‏يستسلم‏ ‏لإهانة‏ ‏نفسه‏ ‏بوعيه‏ ‏مثل‏ ‏أبيه‏ "‏وإذا‏ ‏جاء‏ ‏عشيقها‏ ‏يزورها‏ ‏اختبأت‏ ‏فى ‏الغرفة‏ ‏المجاورة‏، ‏وسأنظف‏ ‏أحذية‏ ‏أصدقائها‏"[111].‏
‏ ‏ثم‏ ‏إعلانه‏ ‏المتكرر‏ (‏سبب‏ ‏الورطة‏ ‏البوليسية‏) ‏أنه‏ ‏سيقتل‏ ‏أباه‏، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏إلا‏ ‏وعيا‏ ‏بداخله‏، ‏وليس‏ ‏تهديدا‏ ‏قابلا‏ ‏للتحقيق‏.‏
‏ "‏إن‏ ‏رجسا‏ ‏كريها‏ ‏يتهيأ‏ ‏هنا‏ (‏كان‏ ‏الرجل‏ ‏الذى ‏يشير‏ ‏إليه‏ ‏إنما‏ ‏يوجد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المكان‏ ‏بعينيه‏).. ‏رجس‏ ‏ينضج‏ ‏ويتخمر‏ ‏و‏ ‏يمكننى ‏أن‏ ‏أكبته‏"[112].‏
لكن‏ ‏السجن‏ ‏بدأ‏ ‏يلمه‏، ‏فأصبح‏ - ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏انفرد‏ ‏بنفسه‏ ‏فى ‏سجنه‏! - ‏يغار‏ ‏من‏ ‏الكابتن‏ ‏صديق‏ ‏جروشنكا‏ ‏القديم‏.‏
بل‏ ‏إنه‏ ‏ولد‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏فى ‏السجن‏ "‏لقد‏ ‏ولد‏ ‏فىّ ‏كائن‏ ‏جديد‏، ‏الحق‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏موجودا‏ ‏منذ‏ ‏الأزل‏، ‏ولكن‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏لولا‏ ‏تلك‏ ‏الكارثة‏" [113].‏
‏" ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تتصور‏ ‏رغبتى ‏المحمومة‏ ‏فى ‏أن‏ ‏أوجد‏ ‏وأن‏ ‏أعرف‏"[114].‏
‏"‏ولعلنى ‏لم‏ ‏أندفع‏ ‏للشراب‏، ‏ولم‏ ‏أقاتل‏ ‏الناس‏ ‏وأنقاد‏ ‏للعنف‏ ‏إلا‏ ‏لأن‏ ‏تلك‏ ‏المعانى ‏كانت‏ ‏تغلى ‏فى ‏داخلي‏" [115].‏
أما‏ ‏موقفه‏ ‏من‏ ‏الدين‏: ‏فهو‏ ‏متدين‏ ‏عادى، ‏أقرب‏ ‏إلى ‏تدين‏ ‏أبيه‏ ‏دون‏ ‏سخرية‏ ‏ثائرة‏.‏
‏"‏أحلف‏ ‏لك‏ ‏يا‏ ‏أليوشا‏.. ‏أحلف‏ ‏لله‏ ‏صادقا‏ ‏صدق‏ ‏وجود‏ ‏الله‏، ‏وصدق‏ ‏أن‏ ‏يسوع‏ ‏المسيح‏ ‏ربنا‏... ‏الخ‏" [116].‏
وهو‏ ‏يفسر‏ ‏عذاب‏ ‏الأطفال‏ (‏تدينا‏)- ‏بأن‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏تدفع‏ ‏ثمن‏ ‏ذنوب‏ ‏كل‏ ‏الناس‏، (‏بالمقابلة‏ ‏بإيفان‏ ‏الذى ‏دفعه‏ ‏رفضه‏ ‏لعذاب‏ ‏الأطفال‏ ‏أن‏ ‏يرد‏ ‏البطاقة‏ ‏لله‏ ‏ويتنازل‏ ‏عن‏ ‏التدين‏ ‏أصلا‏).‏
وهو‏ ‏ناقد‏ ‏عادى ‏للإلحاد‏: ‏أنظر‏ ‏قوله‏ ‏لراكتين‏: "‏إنك‏ ‏إذا‏ ‏أنكرت‏ ‏الله‏ ‏تنتهى ‏إلى ‏زيادة‏ ‏سعر‏ ‏اللحم‏ ‏أنت‏ ‏نفسك‏ ‏فتربح‏ ‏بالكوبك‏ ‏روبلا‏.." [117]
إيفان
إيفان‏ ‏له‏ ‏دور‏ ‏أساسى ‏ثابت‏ ‏معظم‏ ‏الوقت‏، ‏ملتحف‏ ‏بعناد‏ ‏جاف‏، ‏يتحدى ‏بألم‏ ‏شخصى، ‏مرهق‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يقتل‏ ‏بأداة‏ ‏غير‏ ‏ذاته‏، ‏يقتل‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏تحصيل‏ ‏الحاصل‏، ‏ووأد‏ ‏الحياة‏.‏
وديستويفسكى ‏يصفه‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏بدقة‏ ‏مفرطة‏.‏
‏"‏متجهم‏، ‏وليس‏ ‏خجولا‏"[118]
‏"‏مشغول‏ ‏البال‏ ‏دائما‏ ‏بشئ ‏ما‏، ‏بمسألة‏ ‏نفسية‏ ‏لعلها‏ ‏خطيرة‏"[119]
وهو‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏كاتب‏ ‏مقال‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏مفكر‏، ‏يعانى عذابا‏ ‏كيانيا‏ (‏إيمانيا‏) ‏ويحب‏ ‏أن‏ ‏يعبث‏ ‏بعذابه‏. ‏
‏ ‏يقول‏ ‏عنه‏ ‏ميتيا‏ ‏أنه‏ ‏قبر‏، ‏فيرفض‏ ‏أليوشا‏ ‏ويقول‏ ‏إنه‏ ‏لغز‏، ‏وهو‏ ‏يعترف‏ ‏بالخلود‏ ‏فى ‏الإله‏، ‏ويؤمن‏ ‏فى ‏خطوة‏ ‏منطقية‏ ‏مبدئية‏، -‏رغما‏ ‏عنه‏- ‏ولكنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يرى ‏الظلم‏، ‏وأذى ‏الأبرياء‏، ‏يرجع‏ ‏بطاقته‏ ‏متنازلا‏ ‏عن‏ ‏الله‏ ‏والدين‏، ‏وعن‏ ‏أمل‏ ‏التناغم‏ ‏الأعظم‏.‏
‏ ‏أمه‏ ‏ماتت‏ - ‏أيضا‏- ‏ولكنها‏ ‏لم‏ ‏تترك‏ ‏له‏ ‏ذكرى ‏ولا‏ ‏صورة‏ (‏مثل‏ ‏أليوشا‏) ‏وأبوه‏ ‏نسيه‏ ‏ثم‏ ‏أنكره‏ ‏صراحة‏ (‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏ممارسة‏ ‏الإنكار‏ ‏فعلا‏ ‏ظاهرا‏) ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الإعلان‏ ‏للرفض‏ ‏والإنكار‏ ‏هو‏ ‏الأقسى ‏والأخطر‏ ‏من‏ ‏الرفض‏ ‏ذاته‏، ‏أو‏ ‏هو‏ ‏بُـعد‏ ‏مضاف‏ ‏ومستقل‏ ‏نوعيا‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الترك‏ ‏الجسدى ‏قد‏ ‏يستعاض‏ ‏عنه‏ ‏بصورة‏ ‏داخلية‏ ‏مثلما‏ ‏حدث‏ ‏لأليوشا‏، ‏وإنما‏ ‏الأكثر‏ ‏إيلاما‏ ‏هو‏ ‏الطرد‏ ‏المعنوى: ‏
‏" ‏أما‏ ‏إيفان‏ ‏فإننى لا‏ ‏أعترف‏ ‏به‏ ‏إبنا‏ ‏لى، ‏من‏ ‏أين‏ ‏جاء‏ ‏هذا‏ ‏الوبش؟‏ ‏إنه‏ ‏ليس‏ ‏مثلنا‏، ‏إن‏ ‏له‏ ‏نفسا‏ ‏غير‏ ‏نفوسنا‏"[120].
ومع‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏النافرة‏ ‏الخاصة‏ (‏والتى ‏سنـرى ‏أعتى ‏منها‏ ‏وأقسى ‏بين‏ ‏سمردياكوف‏ ‏وإيفان‏) ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نبحث‏ ‏عن‏ ‏وجه‏ ‏الشبه‏ ‏بين‏ ‏الأب‏ ‏فيدور‏ ‏والإبن‏ ‏إيفان‏ (‏مع‏ ‏أن‏ ‏المتوقع لأول وهلة ‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الشبه‏ ‏بين‏ ‏ديمترى ‏ووالده‏) ‏. يأتى ‏تأكيد‏ ‏وجه‏ ‏الشبه‏ بين إيفان وأبيه ‏ ‏ِِمْن‏ ‏من؟‏ ‏من‏ ‏سمردياكوف، يقول:‏
‏"‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الأبله‏ ‏قد‏ ‏ساق‏ ‏ملاحظة‏ ‏شائقة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يفاخر‏ ‏بمثلها‏ ‏رجل‏ ‏أذكى ‏منه‏..." ‏بين‏ ‏جميع‏ ‏أبناء‏ ‏فيدور‏ ‏بافلوفتش‏ ‏لا‏ ‏شك‏ ‏مما‏ ‏يشبهه‏ ‏سائرهم‏، ‏هو‏ ‏إيفان‏ ‏فيدروفتش‏" [121]
فهل‏ ‏هذا‏ ‏صحيح؟‏ ‏ولماذا
أظن‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏يشير‏ ‏مباشرة‏ ‏أن‏ ‏الكارامازوفيه‏ ‏إذا‏ ‏تعقلنت‏، ولم‏ ‏يحلها‏‏ التفعيل سلوكا سيكوباتيا عادة، إذا لم يحدث ذلك ‏انقلبت‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏الواقعية‏ ‏الشاكة‏ ‏الشيزيدية التى يمثلها ‏إيفان؟‏.‏
ثم‏ ‏إن‏ ‏إيفان‏ - ‏أيضا‏- ‏يحب‏ ‏الحياة‏ (‏كارامازوفيا‏) ‏ولكن‏ ‏بطريقته‏:‏
وهو‏ ‏الذى ‏شرح‏ ‏الشيزيدية‏، ‏والخوف‏ ‏من‏ ‏الاقتراب‏ ‏بمنتهى ‏الدقة ‏[122]
وهو‏ ‏الذى ‏عبـر‏ ‏عن‏ ‏نوع‏ ‏الألم‏ ‏وصعوبة‏ ‏المشاركة‏.‏
وقد‏ ‏وصلنى ‏حبه‏ ‏للأطفال‏ - ‏كظاهرة‏ ‏كارامازوفية‏ ‏عامة‏ - ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏وصلنى ‏من‏ ‏أليوشا‏.‏
‏"‏ولكن‏ ‏الأطفال‏ ‏يمتازون‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏بأن‏ ‏المرء‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يحبهم‏ ‏عن‏ ‏قرب‏ ‏مهما‏ ‏تكن‏ ‏وساختهم‏ ‏ودمامتهم‏".
مهم‏ ‏جدا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏إيفان‏ (‏وليس‏ ‏ديمترى) ‏هو‏ ‏الذى ‏ذكر‏ ‏حكاية‏ ‏الحشرة‏، ‏وهذا‏ ‏مناسب‏ ‏لأن‏ ‏الشيزيدى ‏هو‏ ‏الذى ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يدرك‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏وجوده‏ ‏ينفصل‏ ‏- ‏كجسم‏ ‏غريب‏- ‏عن‏ ‏هارمونية‏ ‏الكون‏: ‏الإيمان‏.‏
وكذلك‏ ‏نذكر‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏مثالية‏ ‏إيفان‏ ‏تبدو‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏العدل‏ ‏الذى ‏يطلبه‏، ‏وهو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏العدل‏ ‏يلغى ‏الصراع‏ ‏ولا‏ ‏يواجهه‏، ‏ليتجاوزه‏ ‏مثل‏: ‏
‏"‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أرى ‏الوعلة‏ ‏بعينى ‏مستلقية‏ ‏أمام‏ ‏الأسد‏ ‏فى ‏هدوء‏ ‏وسلام‏، ‏وأن‏ ‏أرى ‏الضحية‏ ‏مرتدة‏ ‏إلى ‏الحياة‏ ‏تعانق‏ ‏قاتلها‏"- (!!!) [123].‏
وهو‏ ‏يرى ‏أن‏ ‏الانتظار‏ ‏حتى ‏يتكشف‏ ‏سر‏ ‏العالم‏ ‏هو‏ ‏القاعدة‏ ‏التى ‏تقوم‏ ‏عليها‏ ‏سائر‏ ‏الأديان‏ ‏وبالتالى، ("‏وأنا‏ ‏امرؤ‏ ‏مؤمن‏") هو ‏ينتظر‏ ‏بدوره‏ ‏أن‏ ‏ينكشف‏ ‏سر‏ ‏العالم‏، ‏لكن‏ ‏اعتراضه‏ ‏ينصب‏ ‏على ‏أنه‏ ‏أثناء‏ ‏هذا‏ ‏الانتظار‏ ‏لاكتشاف‏ ‏سر‏ ‏الكون‏ ‏والالتحام‏ ‏بانسجام‏ ‏محتمل‏، ‏سيسرى ‏الظلم‏، ‏ويقهر‏ ‏الضعيف‏ ‏ويشوه‏ ‏الطفل‏، ‏وتصل‏ ‏قمة‏ ‏فلسفته‏ ‏فى ‏قوله‏ "‏إننى ‏لا‏ ‏أجحد‏ ‏الرب‏، ‏ولكنى ‏أعيد‏ ‏إليه‏ ‏بطاقتي‏" [124].‏
ومع‏ ‏ذلك‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏كفت‏ ‏السماء‏ ‏عن‏ ‏بذل‏ ‏الضمانات‏، ‏فهو‏ ‏يكاد‏ ‏يقر‏: ‏
‏"‏أنه‏ ‏لا‏ ‏قيمة‏ ‏بعد‏ ‏الآن‏ ‏إلا‏ ‏ليقين‏ ‏القلب‏ ‏دليلا‏ ‏وبرهانا‏".‏
هذه‏ ‏القصيدة‏ ‏هى ‏إيفان‏ "‏شخصيا‏".‏
وهى تعلمه ‏إيماناً‏ ‏شديداً‏ ‏وراسخاً‏.‏
وهى ‏إعلان‏ ‏لاستحالة‏ ‏حل‏ ‏المشكلة‏ ‏الوجودية‏ ‏بإعطاء‏ ‏الحرية‏ ‏من‏ ‏الرب‏ (‏شخصيا‏) ‏لأن‏ ‏الإنسان‏ ‏سوف‏ ‏يتنازل‏ ‏عنها‏ ‏لصالح‏ ‏السلطة‏ ‏الدينية‏ ‏أو‏ ‏أى ‏سلطة‏.‏
وكانت‏ ‏إرهاصات‏ ‏إيفان‏ ‏بالحكم‏ ‏الشمولى ‏الدينى ‏أساسا‏ (‏والذى ‏أخذ‏ ‏محتوى ‏شيوعيا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏روسيا‏ ‏(وغير‏ ‏روسيا‏) ‏شديدة‏ ‏الدلالة‏ ‏فى ‏قوله‏:‏
‏"وستحررهم‏ ‏من‏ ‏القلق‏" [125].‏
ثم‏ ‏يعترف‏ ‏إيفان‏ ‏بأن‏ ‏الدين‏ ‏مخدر‏ ‏الشعوب‏.‏
‏" ‏فقد‏ ‏أقر‏ ‏ضرورة‏ ‏الكذب‏ ‏على ‏الناس‏ ‏وتضليلهم‏. ‏وخداعهم‏، ‏بغية‏ ‏السير‏ ‏بهم‏ ‏إلى ‏الموت‏ ‏وإلى ‏العدم‏ "‏سيرا‏ ‏واعيا‏، ‏ولكن‏ ‏مع‏ ‏ترك‏ ‏أوهامهم‏ ‏لهم‏ ‏فى ‏الطريق‏" [126].
ثم‏ ‏هو‏ ‏يرى ‏الحل‏ ‏الصوفى ‏الذى ‏لا‏ ‏يصلح‏ ‏للعامة‏ ‏بوضوح‏ ‏فى ‏شكل‏:‏
‏"... ‏ثمرة‏ ‏تفاهم‏ ‏واتفاق‏، ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏جمعية‏ ‏سرية‏ ‏أنشئت‏ ‏من‏ ‏زمن‏ ‏طويل‏ ‏للمحافظة‏ ‏على ‏السر‏ ‏وإخفائه‏ ‏عن‏ ‏أنظار‏ ‏الضعفاء‏ ‏والبؤساء‏ ‏وتأمين‏ ‏سعادتهم‏ ‏بذلك‏".‏
ومع‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏المنطق‏ ‏البالغ‏، ‏الوضوح‏ ‏فإن‏ ‏التعاسة‏ ‏هى ‏الثمن‏.‏
صحيح‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يؤمن‏ ‏بالله‏، ‏ذلك‏ ‏كل‏ ‏سره‏، ‏ولكن‏ ‏أليس‏ ‏هذا‏ ‏عذابا‏ ‏بالنسبة‏ ‏إلى ‏رجل‏ ‏مثله‏ ‏ألاّ‏ ‏يؤمن‏، ‏وما‏ ‏ذنبه‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الصدق‏ ‏واليقين‏ ‏لاختياره‏، ‏اختيار‏ ‏إيفان‏ ‏الموت‏ ‏حيا‏، ‏حتى ‏كأنه‏ ‏هو‏ ‏شخصيا‏ ‏الموت‏.‏
أما‏ ‏عن‏ ‏رؤية‏ ‏أليوشا‏ ‏لموت‏ ‏إيفان‏، ‏بل‏ ‏لإيفان‏ ‏الموت‏، ‏فإنه‏ ‏يذكرنى ‏بقول‏ ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور‏ ‏فى ‏ليلى ‏والمجنون‏ ‏على ‏لسان‏ ‏ليلى ".. ‏يا‏ ‏ويحيى ‏أحببت‏ ‏الموت‏" ‏وحين‏ ‏يتجسد‏ ‏الموت‏ ‏فى ‏إنسان‏ ‏شقى ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يفكر‏ ‏ويبرر‏ ‏ويدافع‏ ‏عن‏ ‏موته‏ ‏ويصر‏ ‏عليه‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يثير‏ ‏رحمة‏ ‏وألم‏ ‏شخص‏ ‏يحبه‏، ‏وخاصة‏ ‏وهو‏ ‏عاجز‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏ينقذه‏، ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏أليوشا‏، ‏أنظر‏ ‏إليه‏ ‏وهو‏ ‏يذكره‏ ‏بالحياة‏:‏
‏"‏وبراعم‏ ‏الربيع‏ ‏الغضة‏، ‏ماذا‏ ‏أنت‏ ‏صانع‏ ‏بها؟‏ ‏والقبور‏ ‏العزيزة‏ ‏عليك ‏.. ‏كيف‏ ‏ستعيش‏ ‏إذن؟‏ ‏وأين‏ ‏ستجد‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏أن‏ ‏تظل‏ ‏تحب؟‏ [127].‏
وإيفان‏ ‏رغم‏ ‏هذا‏ ‏الموت‏ ‏يستشعر‏ ال‏قوةال‏ ‏كارامازوفية‏، ‏وهو‏ ‏يسخرها‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يدرى ‏فى ‏تأكيد‏ ‏الموت‏.‏
‏"‏إيفان‏ - ‏فى ‏نفسى ‏قوة‏ ‏سوف‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تصمد‏ ‏
أليوشا‏ - ‏أية‏ ‏قوة‏.‏
إيفان‏ - ‏قوة‏ ‏آل‏ ‏كارامازوف‏.. ‏قوة‏ ‏الحطة‏ ‏والخسة.
‏(‏وقد‏ ‏أشرنا‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏صفة‏ ‏الحطة‏ ‏والخسة‏ ‏هذه‏ ‏ليست‏ هى كل الكارامازوفية، برغم حضورها الواضح متى لزم الأمر)
‏ ‏ثم‏ ‏ها‏ ‏هو‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏أقوى ‏عاطفة‏ ‏أخوية‏، ‏إذْ‏ ‏يستمد‏ ‏الحياة‏ ‏من‏ ‏أخيه‏ (‏الموضوع البشرى الحقيقى‏).‏
‏"‏إسمع‏ ‏يا‏ ‏أليوشا‏، ‏إذا‏ ‏بقى ‏فى ‏نفسى ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏ما‏ ‏يكفى ‏لأن‏ ‏أحب‏ ‏براعم‏ ‏الربيع‏ ‏النضرة‏، ‏فسوف‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏بفضل‏ ‏ذكراك‏..، ‏سوف‏ ‏يكفينى ‏فى ‏ساعات‏ ‏الكمد‏ ‏واليأس‏ ‏أن‏ ‏أتذكر‏ ‏أنك‏ ‏مازلت‏ ‏تحيا‏ ‏فى ‏مكان‏ ‏ما‏، ‏حتى ‏أسترد‏ ‏حب‏ ‏الحياة‏ ‏فورا‏" [128].‏
ونلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏أليوشا‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏موضوعا‏ ‏داخليا‏/‏خارجيا‏ ‏جيدا‏، ‏وأنه‏ ‏بذلك‏ ‏اخترق‏ ‏ويخترق‏ ‏شيزيدية‏ ‏إيفان‏ ‏ضد‏ ‏كل‏ ‏العوائق‏.‏
وحين‏ ‏استشعر‏ ‏إيفان‏ ‏أليوشا‏ ‏كموضوع‏ ‏يقترب‏، ‏أعلن‏ ‏ضرورة‏ ‏الابتعاد‏، ‏بقدر‏ ‏إعلانه‏ -‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏حالا‏- ‏روعة‏ ‏الطمأنينة‏ ‏المحتملة‏ (‏عن‏ ‏بعد‏)..‏
‏ "‏والأفضل‏ ‏ألا‏ ‏تكلمنى ‏بعد‏ ‏الآن‏ ‏قط‏" [129].‏
ثم‏ ‏ينسحب‏ ‏إيفان‏ ‏داعيا‏ ‏إلى ‏الوحدة‏ ‏مع‏ ‏سبق‏ ‏الإصرار‏.‏
‏"‏سوف‏ ‏يكون‏ ‏وحيدا‏ ‏من‏ ‏جديد‏" [130].‏
وحين‏ ‏يرى ‏إيفان‏ ‏نفسه‏ ‏جسما‏ ‏غريبا‏ ‏أملسا‏ ‏قبيحا‏، ‏فإنه‏ ‏يرى ‏سمردياكوف‏، ‏فهو‏ ‏يرى ‏نفسه‏ ‏فيه‏: ‏قبيحا‏ ‏متحديا‏، ‏فينزعج‏.‏
‏"‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقلقنى ‏هذا‏ ‏الجرو؟‏" [131].‏
فيكره‏ ‏نفسه‏، ‏إذ‏ ‏يكره‏ ‏سمردياكوف‏.‏
إن‏ ‏العداوة‏ ‏التى ‏يشعر‏ ‏بها‏ ‏نحو‏ ‏هذا‏ ‏الإنسان‏ ‏تشبه‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏بغضا‏ ‏ومقتا‏.‏
وبعد‏ ‏ذلك‏ ‏فإن‏ ‏حوارات‏ ‏إيفان‏ ‏مع‏ ‏سمردياكوف‏ ‏حول‏ ‏كيفية‏ ‏إيحائه‏ ‏له‏ ‏بالقتل‏ ‏كانت‏ ‏من‏ ‏المباشرة‏ ‏بحيث‏ ‏سرقت‏ منها‏ ‏هذه‏ ‏اللمسة‏ ‏الإبداعية‏ ‏التى ‏تصـور‏ ‏الداخل‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏خارج‏ ‏ماثل‏ (‏قارن‏ نقد الكاتب لفيلم ‏إبنة‏ ‏ريان‏) [132].‏
لعل‏ ‏التعاسة‏ ‏والفهم‏ ‏اللذان‏ ‏ظهرا‏ ‏فى ‏وعى ‏إيفان‏ ‏وصفه‏ ‏علاقته‏ ‏بسمردياكوف‏‏ ‏هما‏ ‏تماما‏ ‏ضد‏ ‏الحزن‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يعانية‏ ‏أليوشا‏ ‏كلما‏ ‏اقترب‏ ‏من‏ ‏صدق (داخل) الآخر‏، ‏حزن‏ ‏الأول‏ (‏إيفان‏) ‏هو‏ ‏عدم‏ ‏الشيزيدى ‏ووحدته‏، ‏وحزن‏ ‏الثانى (‏أليوشا‏) ‏هو‏ ‏آلام‏ ‏تفعيل‏ ‏الداخل‏ ‏الحى ‏فى ‏حضن‏ ‏الواقع‏.‏
يأتى ‏إعلان‏ ‏إيفان‏ ‏بأنه‏ ‏لا‏ ‏يطيق‏ ‏الأنبياء‏ ‏ولا‏ ‏الصرعيين‏، ‏ثم‏ ‏كراهيته‏ ‏الخاصة‏ ‏للذين‏ ‏يرسلهم‏ ‏الرب‏، ‏بمثابة‏ ‏رؤية‏ ‏تؤكد‏ ‏درجة‏ ‏العقلنة‏ ‏بالذات‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الأعماق‏ ‏المتفجرة‏ ‏صْرعا‏ ‏أو‏ ‏أنبياء‏ ‏أو‏ ‏رسلا‏.
وإذا‏ ‏كان‏ ‏سمردياكوف‏ ‏هو‏ ‏صورة‏ ‏دوريان‏ ‏جراى ‏الإيفانية‏ ‏إذ‏ ‏ينظر‏ ‏فى ‏مرآة‏ ‏مقعرة‏، ‏فإن‏ ‏الشيطان‏ ‏الذى ‏زاره‏ ‏فى ‏كابوس‏ ‏مرضه‏ ‏كان‏ ‏انشقاقا‏ ‏على ‏مرآة‏ ‏مسطحة‏ ‏بنص‏ ‏الحوار‏، ‏فكان‏ ‏هو‏ ‏هو‏ ‏المرة‏ ‏تلو‏ ‏المرة‏، ‏والفرق‏ ‏بين‏ ‏التفعيل‏ ‏العشوائى‏، ‏وبين‏ ‏الانشقاق‏ ‏الدفاعى ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏فى التفعيل يتجسد الداخل‏ (‏سمردياكوف‏)‏ ‏بكل‏ ‏حاجته‏ ‏وعنفه‏ ‏كما‏ ‏هو، أما‏ ‏الانشاق‏ ‏فهو‏ ‏حضور‏ ‏طولى ‏يمثل‏ ‏أحد‏ ‏جوانب‏ ‏أو‏ ‏أحد‏ ‏وجوه‏ ‏العقل‏ ‏الممنطق‏ ‏عادة‏ ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يمثله‏ ‏زائر‏ ‏إيفان‏ ‏الشيطان‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏هو‏.‏
‏ "‏أنا‏.. ‏أنا‏ ‏وحدى ‏الذى ‏أنطق‏ ‏بهذه‏ ‏الأقوال‏ ‏لا‏ ‏أنت‏" [133].‏
لكن‏ ‏إسقاطا‏ ‏آخر‏ ‏يـظهر‏ ‏هذا‏ ‏المسخ‏ ‏الداخلى ‏مُـسْقطا‏ ‏على ‏ديمترى ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏فى ‏سجنه‏، ‏مسقطا‏ ‏تارة‏ ‏باتهامة‏ (‏أو‏ ‏تصديق‏ ‏اتهامه‏ ‏بالقتل‏)، ‏وتارة‏ ‏بوصفه‏ ‏بالمسخ‏ ‏مباشرة‏، ‏فحين‏ ‏تثور‏ ‏الكراهية‏ ‏على ‏الكل‏، ‏يعلن‏ ‏إيفان‏ ‏لأليوشا‏ ‏أنه‏ "‏سوف‏ ‏أكرهك‏ ‏الآن‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏إننى ‏أكره‏ ‏المسخ‏ ‏كذلك‏، ‏لا‏ ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أنقذ‏ ‏المسخ‏، ‏ألا‏ ‏فليعفن‏ ‏فى ‏السجن‏" [134] (‏يعنى ‏أخاه‏ ‏ميتيا‏).‏
لا‏ ‏أعرف‏ ‏أين‏ ‏أضع‏ ‏آمال‏ ‏أو‏ ‏رؤية‏ ‏أليوشا‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏إيفان‏، ‏فهل‏ ‏صدق‏ ‏حين‏ ‏قال‏:‏
‏"‏إن‏ ‏الله‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏إيفان‏ ‏يرفض‏ ‏أن‏ ‏يؤمن‏ ‏به‏ ‏يفرض‏ ‏نفسه‏ ‏الآن‏ ‏على ‏وجدان‏ ‏إيفان؟‏" [135]
‏لمجرد‏ ‏احتمال‏ ‏أنه‏ ‏سيذهب‏ ‏لمحاولة‏ ‏انقاذ‏ ‏أخيه‏ ‏ديمتري؟‏
‏أم‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏مجرد‏. ‏دعوة‏ ‏هداية‏ ‏من‏ ‏أليوشا‏ ‏كالمعتاد؟‏.‏
خلاصة‏ ‏القول‏:
‏إن‏ ‏إيفان‏ ‏لا‏ ‏يمثل‏ ‏الإلحاد‏، ‏لسبب‏ ‏بسيط‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏عجز‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏يلحد‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا حتى النخاع، مع أن فكره كان يمثل قـلق الالحاد طول الوقت‏.‏
‏"‏أليوشا‏"‏
أليوشا‏ ‏ليس‏ ‏بطل‏ ‏الرواية‏، ‏وهو ليس‏ ‏مشروعا‏ ‏ثوريا‏ ‏قادما‏ ‏فى ‏جزء‏ ‏رابع‏، ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏مثاليا‏ ‏شيزيديا‏ ‏انطوائيا. ‏بصراحة: عجزتُ‏ ‏أن‏ ‏أتعاطف‏ ‏معه‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏حدود،‏ ‏لكننى ‏لم‏ ‏أرفضه‏، ‏ولم‏ ‏أستبعد‏ ‏احتمال‏ ‏تطوره‏ ‏ولكن‏ ‏دعونا‏ ‏نبدأ‏ ‏من‏ ‏البداية‏.‏
‏- ‏تمتع‏ ‏أليوشا‏، ‏ربما‏ ‏فى ‏غفلة‏ ‏من‏ ‏الظروف‏ ‏الواقعية‏ ‏القاسية‏ ‏بجرعة‏ ‏مناسبة‏ ‏من‏ ‏الثقة‏ ‏الأساسية‏، ‏وديستويفسكى ‏يعرف‏ ‏بدقة‏ ‏بالغة‏ - ‏كما‏ ‏ألمحنا‏- ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏الشيزيدية‏/ ‏الجسم‏ ‏الغريب‏، ‏هى ‏النقيض‏، ‏الصريح‏ ‏للتكوين‏ ‏النابض‏: ‏الثقة‏ ‏الأساسية‏ Basic trust ، ‏فهو‏ ‏ينتهز‏ ‏فرصة‏ ‏تقديم‏ ‏شخصية‏ ‏أليوشا‏ ‏ليعلن‏ ‏ويحدد‏ ‏هذا‏ ‏الفرق‏.‏
‏ "‏لقد‏ ‏كان‏ ‏صموتا‏، ‏لا‏ ‏عن‏ ‏شك‏ ‏وحذر‏ ‏طبعا‏، ‏ولا‏ ‏عن‏ ‏خجل‏ ‏أو‏ ‏وجل‏ ‏ولا‏ ‏عن‏ ‏تجهم‏ ‏فى ‏الطبع‏ ‏والمزاج‏.. ‏أبدا‏... ‏بل‏ ‏بسبب‏ ‏شئ ‏خاص‏ ‏فى ‏نفسه‏ ‏بسبب‏ ‏اهتمام‏ ‏داخلى.." [136].‏
ولنقف‏ ‏هنا‏ ‏عند‏ ‏كلمة‏ "‏داخلي‏" ‏وليسمح‏ ‏لى ‏القارئ ‏أن‏ ‏أتقدم‏ ‏خطوة‏ ‏نحو‏ ‏شرح‏ ‏عالم‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏، ‏دون‏ ‏استعمال‏ ‏اللغة‏ ‏السائدة‏ ‏مثل‏ ‏اللاشعور‏ ‏والشعور‏ ‏وما‏ ‏أشبه‏.‏
فإذا‏ ‏كان‏ ‏فيدور‏ ‏الأب‏ ‏يسمح‏ ‏لداخله‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏خارجا‏، ‏فهذا‏ ‏وجه‏ ‏لتكامل‏ ‏سهل‏، ‏وإن‏ ‏تحدى ‏وتدفق‏ ‏فى ‏عنفوان‏ ‏فطرى، ‏مع‏ ‏إصرار‏ ‏أنه‏ "‏هو‏ ‏هذا‏"..-"‏هكذا‏، "‏ومن‏ ‏يعجبه‏"..!!.‏(وإللى عاجبه!).
وإذا‏ ‏كان‏ ‏ديمترى ‏هو‏ ‏فيدور‏ ‏الأب‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏سهولة‏ ‏إخراج‏ ‏داخله‏ ‏طازجا‏ ‏فجا‏ ‏مثل‏ ‏أبيه‏، ‏مع‏ ‏فارق‏ ‏الإلتزام‏ ‏النسبى ‏والوعى ‏بسوء‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏، ‏والأمل‏ ‏فى ‏تكامل‏ ‏ما‏...، ‏فهو‏ ‏أيضا‏ ‏كذلك‏، ‏إنسان‏ ‏له‏ ‏داخل‏ ‏ببوابة‏ ‏مروحية‏، ‏لكن‏ ‏مفاصلها‏ ‏أقوى.‏
أما‏ ‏داخل‏ ‏إيفان‏ ‏فهو‏ ‏سحيق‏ ‏مشوه‏، ‏غير‏ ‏مسموح‏ ‏له‏ ‏بالظهور‏ ‏الصريح‏ ‏فى ‏فعل‏ ‏سهل‏، ‏فهو‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏ثقب‏ ‏إبرة‏ ‏العقل‏، ‏بحساب‏ ‏شامل‏ ‏مقلوب‏، ‏حتى ‏يمكن‏ ‏القول‏ ‏أنه‏ ‏مثل‏ ‏عفريتة‏ ‏الصورة‏، ‏لكنه‏ ‏غير‏ ‏قابل‏ ‏للتحميض‏ ‏أصلا‏، ‏وبما‏ ‏أن‏ ‏العفريتة‏ ‏لا‏ ‏تظهر‏ ‏حقيقتها واضحة ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏حُمـِّـضت‏، ‏فهو‏ ‏داخل‏- ‏رغم‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏وجوده‏ - ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يظهر‏ - ‏فقط‏ ‏نرى ‏تأثير‏ ‏وجوده‏ ‏المختفى ‏على ‏ظاهر‏ ‏جاف‏ ‏يكاد‏ ‏يتشقق‏.‏
أما‏ ‏أليوشا‏ ‏فله‏ ‏داخل‏ ‏آخر‏، ‏داخل‏ ‏حـى ‏مرن‏ ‏نابض‏، ‏ملئ ‏يمتلئ‏، ‏وفى ‏المتناول‏، كل‏ ‏إنسان‏ ‏له‏ ‏داخل‏، ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏تصنيف‏ ‏جديد‏.‏ أنا‏ ‏لا‏ ‏أعنى ‏بالداخل‏ ‏هنا‏" ‏لا‏ ‏شعور‏" ‏مكبوت‏ ‏أو‏ ‏مرموز‏ ‏له‏.. ‏إلى ‏آخر‏ ‏هذه‏ ‏الرطانة‏ ‏التحليلية‏، ‏ولكنى ‏أشير‏ ‏إلى ‏مساحات‏ ‏وحركة‏، ‏وتماسك‏ ‏وامتلاء‏، ‏ومرونة‏ ‏وجفاف‏، ‏وتناغم‏، ‏وتشقق‏.‏
فيدور‏: ‏داخله‏ ‏متواضع‏ ‏لا‏ ‏يملأ‏ ‏كل‏ ‏وجوده‏، ‏قريب‏، ‏متحرك‏، ‏ليس‏ ‏متماسكا‏ ‏لأنه‏ ‏متفجر‏، ‏يملؤ‏ ‏وعيه‏ ‏الظاهر‏ ‏بسهولة‏ ‏وينحسر‏ ‏عنه‏ ‏بنفس‏ ‏السهولة‏، ‏وفيدور‏ ‏يستسلم‏ ‏له‏: ‏لا‏ ‏هو‏ ‏وصى ‏عليه‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يوجهه‏ ‏أو‏ ‏يحوره‏، ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏ينكره‏ ‏أو‏ ‏يخجل‏ ‏منه‏.‏
ديمترى: ‏داخله‏ ‏قريب‏ ‏أيضا‏، ‏وسهل‏ ‏أيضا‏: ‏هو‏ ‏متدفق‏ ‏مهدد‏، ‏لكن‏ ‏ديمترى - ‏بعكس‏ ‏فيدور‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ - ‏له‏ ‏موقف‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الداخل‏، ‏يدفنه‏ ‏غالبا‏، - ‏ربما‏ ‏حتى "‏يتخمر‏ ‏كبتا‏" ‏غصبا‏ ‏عنه‏، ‏ويريد‏ ‏أن‏ ‏ينتصر‏ ‏عليه‏، ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏، ‏وهو‏ ‏يأمل‏ ‏أن‏ ‏يتكامل‏ ‏به‏، ‏ولو‏ ‏فى ‏نقطة‏ ‏ما‏ ‏فى ‏مستقبل‏ ‏غير‏ ‏منظور‏.‏
إيفان‏: ‏داخله‏ ‏بعيد‏ ‏حتى ‏الفراغ‏، ‏موصى ‏عليه‏، ‏مشوه‏، ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏المتناول‏ ‏بعد‏ ‏عمليات‏ ‏صعبة‏ ‏جافة‏ ‏لا‏ ‏تسمح‏ ‏بخروجه‏ ‏أو‏ ‏الإشارة‏ ‏إليه‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏ثقب‏ ‏إبرة‏ ‏عقل‏ ‏وصى ‏ومنطق‏ ‏ساخط‏، ‏ونظام‏ ‏جاف‏.‏
أما‏ ‏إيليوشا‏: ‏فداخله‏ ‏حى ‏متماسك‏، ‏ليس‏ ‏متجانسا‏ ‏بمعنى ‏الواحدية‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏ممتلئ ‏به‏ ‏متحرك‏ ‏معه‏ ‏مطمئن‏ ‏إليه‏، ‏وهو‏ ‏قلق‏ ‏أيضا‏ ‏عليه‏. ‏ينميه‏ ‏فى ‏عناد‏ ‏المتحفظ‏ ‏دون‏ ‏شك‏ ‏أو‏ ‏تراجع‏، ‏يتحاور‏ ‏به‏ ‏وبخارجه‏ ‏معا‏، ‏ويعطى ‏للزمن‏ ‏مساحة‏ ‏تستوعبها‏ ‏حركته‏، ‏فيتنامى ‏الحوار‏..‏
كما‏ ‏أشرت‏ ‏سابقا‏، ‏فإن‏ ‏أليوشا‏ ‏التقط‏ ‏أمه‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏رضا‏ ‏كونى، ‏فملأت‏ ‏داخله‏، ‏ونمت‏ ‏بهدوء‏، ‏وعادت‏ ‏تملؤ‏ ‏وعيه‏، ‏وتهدهده‏ ‏كلما‏ ‏احتاج‏ ‏إليها‏، ‏وهى ‏كموضوع‏ ‏داخلىّ ‏حى، ‏هى ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏يقين‏ ‏حياته‏ ‏الداخلية‏، ‏كما‏ ‏أنها‏ ‏المسئولة‏ ‏عن‏ ‏توجه‏ ‏مساره‏ ‏إلى ‏موضوعية‏ ‏متصاعدة‏.‏
هنا‏ ‏أقف‏ ‏لأركز‏ ‏على ‏أهمية‏ ‏نوعية‏ ‏هذه‏ ‏الرسالة‏ ‏التربوية‏ - ‏نفسيا‏ - ‏مهما‏ ‏قصرت‏ ‏لحظتها‏، ‏وعلى ‏ضرورة‏ ‏نقائها‏، ‏و‏على ‏دقة‏ ‏نوعيتها‏ ‏مقارنة‏ ‏بكم‏ ‏من‏ ‏الحضور‏ ‏الجسدى ‏الفاتر،‏ ‏أو‏ ‏مقارنة‏ ‏بحضور‏ ‏غائب‏ ‏كلية‏، ‏وديستويفسكى ‏يدرك‏ - ‏بذلك‏- ‏أن‏ ‏الحياة‏ ‏بداية‏ ‏ثم‏ ‏تنمو‏، ‏وهذه‏ ‏البداية‏ ‏هى ‏بذرة‏ ‏واحدة‏ ‏أو‏ ‏عدة‏ ‏بذور‏، ‏ثم‏ ‏مناخ‏ ‏متوسط‏، ‏وأرض‏ ‏مهيأة‏..‏
ويبدو‏ ‏أن‏ ‏ديستويفسكى ‏يعرف‏ ‏ما‏ ‏أعنيه "‏بالداخل‏ ‏هذا‏" ‏حين‏ ‏يقول‏ ‏عن‏ ‏أليوشا‏.‏
‏"‏ولكن‏ ‏يجب‏ ‏على ‏أن‏ ‏أعترف‏ ‏مع‏ ‏ذلك‏ ‏بأننى ‏لو‏ ‏أردت‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏على ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الدقة‏ ‏معنى ‏تلك‏ ‏الدقيقة‏ ‏القريبة‏ ‏المبهمة‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏الداخلية‏" [137] ‏التى ‏عاشها‏ ‏بطلى ‏الذى ‏أحبه‏ ‏كثيرا‏.. ‏لكان‏ ‏ذلك‏ ‏صعبا‏ ‏علـىّ ‏كل‏ ‏الصعوبة‏.‏
وقريب‏ ‏مما‏ ‏ذهبت‏ ‏إليه‏ ‏هنا‏ ‏أيضا‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إليه‏ ‏ديستويفسكى بقوله‏:
‏"‏ألا‏ ‏فاعلموا‏ ‏أن‏ ‏ذكرى ‏مشرقة‏ ‏مقدسة‏، ‏يحملها‏ ‏المرء‏ ‏فى ‏نفسه‏ ‏منذ‏ ‏طفولته‏ ‏هى ‏خير‏ ‏تربية‏ ‏وأفضل‏ ‏تهذيب‏، ‏ورَبَّ‏ ‏ذكرى ‏مضيئة‏ ‏واحدة‏ ‏كهذه‏ ‏الذكرى ‏تكون‏ ‏كافية‏ ‏لخلاصنا‏ ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يبق‏ ‏فى ‏قلوبنا‏ ‏أى ‏شئ ‏سواها‏"[138].‏
مع‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏التفرقة‏ ‏التركيبية‏ ‏بين‏ ‏أفراد‏ ‏أسرة‏ ‏كارامازوف‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏الداخل‏ ‏والخارج‏، ‏فإنهم‏ ‏جميعا‏ ‏يحملون‏ ‏نفس‏ ‏زخم‏ ‏الحياة‏ ‏وإرادة‏ ‏التغيير‏، ‏وحفز‏ ‏الاندفاع‏، ‏وفيض‏ ‏الحركة‏، ‏وتدفق‏ ‏الوعى.‏
فمن‏ ‏أين‏ ‏يا‏ ‏ترى ‏جاء‏ ‏هذا‏ ‏الفرق‏، ‏وهم‏ ‏يحملون‏ ‏نفس‏ ‏الجينيات‏ - ‏تقريبا‏ - ‏ويعيشون‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏البيئة‏.‏
ليس‏ ‏لزاما‏ ‏أن‏ ‏أعرف‏، ‏ولا‏ ‏أن‏ ‏نعرف‏، ‏وإلا‏ ‏تَّعسفْنا‏ ‏فى ‏الأغلب‏.‏
ولكن‏ ‏أنظر‏ ‏إلى ‏ديستويفسكى ‏وهو‏ ‏يصف‏ ‏الثقة‏ ‏الاساسية‏ Basic trust ‏حالة‏ ‏كونها‏ ‏مسقطة‏ ‏على ‏العالم‏ ‏الخارجى.‏
‏"‏لعل‏ ‏هذا‏ ‏الفتى (‏أليوشا‏) ‏هو‏ ‏الإنسان‏ ‏الوحيد‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏الذى ‏يمكنك‏ ‏أن‏ ‏تتركه‏ ‏وحيدا‏ ‏بلا‏ ‏مورد‏ ‏فى ‏وسط‏ ‏مدينة‏ ‏كبرى ‏لا‏ ‏يعرفها‏، ‏ثم‏ ‏إذا‏ ‏هو‏ ‏لا‏ ‏يهلك‏ ‏من‏ ‏الجوع‏ ‏والبرد‏... ‏إنه‏ ‏سيدبر‏ ‏أموره‏ ‏عندئذ‏ ‏بأيسر‏ ‏طريقة‏.. ‏فسـرعان‏ ‏ما‏ ‏سيأخذه‏ ‏أحدهم‏ ‏فيطعمه‏ ‏ويسكنه‏." [139]
‏لم‏ ‏أستقبل‏ ‏هذا‏ ‏إطلاقا‏ ‏على ‏أنه‏ ‏تسليم‏ ‏ولا‏ ‏سلبية‏، ‏لكنه‏ ‏الوصف‏ ‏الحدْسى ‏الرائع‏ ‏لما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏نتاج‏ ‏ثقة‏ ‏أساسية‏ ‏لا‏ ‏نعرف‏ ‏مصدرها‏ ‏حتى ‏مع‏ ‏تأكيدنا‏ ‏على ‏صورة‏ ‏الآم‏ ‏وهى ‏تملؤ‏ ‏الوعى، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏الصعب‏ ‏تصور‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏يكفى، ‏لعلها‏ ‏مجرد‏ ‏عينة‏.‏
لكن‏ ‏ديستويفسكى ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يفسد‏ ‏رؤيته‏ ‏لهذه‏ ‏الثقة‏ ‏الأساسية‏ ‏بأن‏ ‏يضفى ‏عليها‏ ‏الصفات‏ ‏الملائكية‏.‏
‏"‏رغم‏ ‏أنك‏ ‏بما‏ ‏لك‏ ‏من‏ ‏عفة‏ ‏وطهارة‏ ‏لم‏ ‏تتسخ‏ ‏يوما‏ ‏بهذه‏ ‏الأشياء‏ ‏كما‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتسخ‏ ‏بها‏ ‏ملاك‏" [140].‏
هنا‏ ‏يسقط‏ ‏ديستويفسكى ‏فى ‏الاستقطاب‏، ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فهو‏ ‏يبدأ‏ ‏بنقد‏ ‏شديد‏ ‏لما‏ ‏يزعمه‏ ‏متخصصوا‏ ‏النفس‏ ‏حين‏ ‏يواجهون‏ ‏بشخص‏ ‏مثل‏ ‏أليوشا‏، ‏فينفى ‏مستنكرا‏، ‏ومن‏ ‏البداية‏ ، ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتبادر‏ ‏لمتعجل‏ ‏منهم‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏المظهر‏ ‏الخارجى ‏لأليوشا‏، ‏فهو‏ ‏يقول‏ ‏ابتداء‏ ‏وكأنه‏ ‏يخاطبهم‏ :
" ‏إنه‏ ‏ليس‏ ‏واحدا‏ ‏من‏ ‏أولئك‏ ‏الحالمين‏ ‏الصفراء‏ ‏وجوهم‏، ‏الضعيفة‏ ‏صحتهم‏ ‏الضاوية‏ ‏أجسامهم‏... ‏إنه‏ ‏مراهق‏ ‏فى ‏التاسعة‏ ‏عشر‏ ‏من‏ ‏عمره‏ ‏فياض‏ ‏العافية‏ ‏شديد‏ ‏المهابة‏ ‏مورد‏ ‏الخدين‏.. ‏مضئ ‏النظرة‏.."‏
وهكذا‏ ‏سمح‏ ‏لى ‏أن‏ ‏ألتقط‏ ‏بدورى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏القوة‏ ‏ليست‏ ‏قوة‏ ‏ظاهرة‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تناسق‏ ‏دال‏.‏
ويعقلنها ‏ديستويفسكى بلا مبرر‏ ‏عندما‏ ‏يصف‏ ‏إيمان‏ ‏أليوشا‏ ‏كناتج‏ ‏فكر‏.‏
‏" ‏إنه‏ ‏منذ‏ ‏فكر‏ ‏تفكيرا‏ ‏عميقا‏ ‏فاقتنع‏ ‏بوجود‏ ‏الله‏ ‏وخلود‏ ‏الروح‏، ‏قال‏ ‏لنفسه‏ ‏على ‏نحو‏ ‏طبيعى ‏تماما‏ ‏إننى ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أعيش‏ ‏للخلود‏ ‏وإننى ‏أرفض‏ ‏التسويات‏ ‏وأنصاف‏ ‏الحلول‏" [141].
هذا‏ ‏يضع‏ ‏علامات‏ ‏استفهام‏ ‏على ‏طريق‏ ‏نمو‏ ‏أليوشا‏ ‏الإيمانى، ‏فالسن‏ ‏صغيرة‏ ‏والحلم‏ ‏غالب‏.‏
‏"‏فقد‏ ‏جاء‏ ‏إلى ‏مدينتنا‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏مفكرا‏ ‏حالما‏، ‏ربما‏ ‏للاستطلاع‏ ‏وحده‏، ‏ربما‏ ‏ليرى ‏هل‏ ‏يعطى ‏كل‏ ‏شئ ‏أم‏ ‏يعطى ‏روبلين‏ ‏فحسب‏." [142]
وهو‏ ‏يعترف‏ ‏بكارامازوفتيه‏، ‏باندفاعيته‏ ‏وزخم‏ ‏حيويته‏ (‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏نحو‏ ‏جروشنكا‏ ‏وإنما‏ ‏أيضا‏ ‏نحو‏ ‏كاتيا‏)، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏استجابته‏ ‏لليزا‏ ‏فيها‏ ‏اندفاع‏ ‏مشابه‏ ‏من‏ ‏الناحية‏ ‏الأخرى - ، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏الفتى ‏المحب‏ ‏الملتزم‏ ‏الوالد‏.‏
وأليوشا‏ ‏يتبنى ‏والده‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏ويعلق‏ ‏الحكم‏، ‏ولا‏ ‏يدمغه‏ ‏مهما‏ ‏فعل‏.‏
ثم‏ ‏هو‏ ‏يتمادى ‏فى ‏عقيدته‏ ‏أنه‏ ‏محبوب‏ ‏بلا‏ ‏قيد‏ ‏ولا‏ ‏شرط‏ ‏ولا‏ ‏سبب‏، ‏وهذا‏ ‏أحد‏ ‏أسباب‏ ‏تحفظى ‏على ‏مسيرة‏ ‏نموه‏.‏
ورغم‏ ‏أنى ‏رفضت‏ ‏أن‏ ‏أقبل أليوشا ‏ ‏بطلا‏ ‏للرواية‏، ‏إلا‏ ‏أنى ‏أعترف‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏البؤرة‏ ‏التى ‏تتجمع‏ ‏فيها‏‏ ‏إشعاعات‏ ‏حب‏ ‏أفراد‏ ‏الأسرة‏ ‏فردا‏ ‏فردا‏، ‏بل‏ ‏حتى ‏حب‏ ‏معظم‏ ‏أفراد‏ ‏مجتمعه‏ ‏من‏ ‏الكبار‏ ‏والصغار‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏.‏
ولم‏ ‏أغفل‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏شئ ‏النوبة‏ ‏الوحيدة‏ ‏التى ‏أصابته‏ - ‏مثل‏ ‏أمه‏ - ‏التى ‏قد‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏الهشاشة‏، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تتكرر‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الضعف‏ ‏البشرى ‏هذا‏ ‏يدفعنا‏ ‏إلى ‏احترام‏ ‏متواضع‏.‏
وهو‏ ‏يبدى ‏نضجا‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏كهولة‏ ‏قبل‏ ‏الأوان‏ "‏اللهم‏ ‏اشملهم‏ ‏برحمتك‏، ‏اشمل‏ ‏برحمتك‏ ‏جميع‏ ‏أولئك‏ ‏الذين‏ ‏لقيتهم‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏النهار‏ ‏لأنهم‏، ‏أشقياء‏.." [143]
سمردياكوف
إذا‏ ‏كان‏ ‏لازما ‏أن‏ ‏ننتقى ‏لكل‏ ‏رواية‏ ‏بطلا (وهو لم يعد لازما)‏، ‏فالبطل‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏بطول‏ ‏فترة‏ ‏حضوره‏ ‏فى ‏الرواية‏، ‏ولا‏ ‏بأهمية‏ ‏وتعدد‏ ‏علاقاته‏، ‏ولا‏ ‏بمساحة‏ ‏ظهوره‏، ‏وإنما‏ - ‏عندى - ‏أن‏ ‏البطل‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يتميز‏ ‏بدلالته‏ ‏المحورية‏ ‏فى ‏الأصالة‏ ‏والمثول‏ ‏فى ‏عمق‏ ‏العمل‏ ‏الإبداعى.‏
من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏فإننى ‏أكاد‏ ‏أعتبر‏ ‏سمردياكوف‏ ‏هو‏ ‏البطل‏ - ‏دون‏ ‏أليوشا‏.‏
‏ ‏أليوشا‏ ‏لم‏ ‏يتحقق‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الحضور‏ ‏العملى ‏الإيجابى (‏بالحب‏ ‏الفعال‏) ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏، ‏لكنه‏ ‏ظل‏ ‏فى ‏وعيى ‏وحتى ‏الآن‏ ‏وعدا‏ ‏ممكنا‏ ‏مجهولا‏، ‏هو‏ ‏أفق‏ ‏يلوح‏ ‏وليس‏ ‏طريقا‏ ‏يوصّـل. ‏ ليس‏ ‏معنى ‏هذا‏ ‏أنه‏ ‏ضعيف‏ ‏أو‏ ‏مثالى ‏أو‏ ‏انطوائى ‏حالم‏ ‏كما‏ ‏حذر‏ ‏ديستويفسكى ‏من‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأحكام‏، ‏بل‏ ‏أحسب‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يُختبر‏ ‏بمعنى ‏الإنشقاق‏ ‏للإلتحام‏، ‏والانسحاب‏ ‏للبسط‏، ‏والجدل‏ ‏للولاف‏، ‏افتقدت‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ - ‏فتراجعتُ‏ ‏عن‏ ‏تقمصه‏، أو قل: صعبَ علىّ تقمصه. احترمت‏ ‏أمل‏ ‏ديستويفسكى ‏ومحاولاته‏، ‏وتوقفت‏ ‏حذرا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الوجود‏ ‏الفنى ‏الخاص‏- ‏واعتبرت أليوشا‏ - ‏فى ‏مجمل‏ ‏حضوره‏ ‏وليس‏ ‏فى ‏كل‏ ‏حضوره‏‏ ‏وعدا‏، ‏لا‏ ‏بطلا‏ ‏ولا‏ ‏ملاكا‏، ‏وذلك‏ ‏فى ‏حدود‏ ‏قوله‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏الرواية‏.
"‏ولتصبح‏ ‏إنسانا‏ ‏آخر‏، ‏فى ‏رأيى ‏أنه‏ ‏يكفيك‏ ‏أن‏ ‏تظل‏ ‏طول‏ ‏حياتك‏ ‏تفكر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الإنسان‏ ‏الآخر‏، ‏وأن‏ ‏يظل‏ ‏هذا‏ ‏الإنسان‏ ‏الآخر‏ ‏ماثلا‏ ‏أمامك‏ ‏حيثما‏ ‏وجدت‏ ‏أينما‏ ‏هربت‏.... ‏الخ‏."[144]
ليكن‏، ‏وليظل‏ ‏أليوشا‏ ‏هذا‏ ‏الانسان‏ ‏الآخر‏ ‏القادم‏... ‏ليس‏ ‏إلا‏...‏
‏ ‏أما‏ ‏سمردياكوف‏ ‏فهو‏ ‏البطل‏ ‏عندى، ‏لأنه‏ ‏حقيقة‏ ‏عارية‏، ‏تلخص‏ ‏وتحدد‏ ‏بشاعتنا‏ ‏حين‏ ‏ننفصل‏ ‏عن‏ ‏الطبيعة‏ ‏والكون‏، ‏ونخضع‏ ‏لظاهر‏ ‏اللفظ‏ ‏ومنطق‏ ‏الهرب‏ - ‏فمنذ‏ ‏ولادته‏، ‏والإعلان‏ ‏يتلاحق‏ ‏بأنه‏ ‏جسم‏ ‏غريب‏، ‏فقد‏ ‏جاء‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏طفل‏ ‏آخر‏ ‏أخطأت‏ ‏الطبيعة‏ ‏فى ‏حسابات‏ ‏صنعه‏ (‏ابن‏ ‏جريجورى) ، ‏وقد‏ ‏جاء‏ ‏من‏ ‏أب‏ ‏مجهول‏ ‏لم‏ ‏يثبت‏ ‏صراحة‏ ‏أبدا‏ ‏أنه‏ ‏فيدوركارامازوف‏، ‏ومن‏ ‏أم‏ ‏بلهاء‏ "‏ناستازيا‏ ‏بتروفنا‏"[145] ‏وهى ‏ليست‏ ‏بلهاء‏ ‏فقط‏ ‏بل‏ ‏إنها‏ ‏منفصلة‏ ‏هى ‏أصلا‏ ‏عن‏ ‏الطبيعة‏، ‏رأيت‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏وصفها‏ ‏بأنها‏ ‏نفثه‏ ‏من‏ ‏نفثات‏ ‏جهنم‏"، ‏فهى ‏أم‏ ‏لم‏ ‏تحتمل‏ ‏حضوره ابنها، ‏فانسحب‏ - ‏مات‏، جفّ- ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏لفظته‏، ‏ ورغم‏ ‏الفرصة‏ ‏النادرة‏ ‏التى ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تنشئه‏ ‏بقدر‏ ‏من‏ ‏الثقة‏ ‏أكبر‏ ‏مما‏ ‏حصل‏ ‏عليه‏ ‏سائر‏ ‏الاخوة‏ ‏الثلاث‏ ‏للعلاقة‏ ‏التعويضية‏ ‏التى ‏جعلت‏ ‏جريجورى ‏وامرأته‏ ‏يتبنيانه‏، ‏رغم‏ ‏ذلك‏، ‏فإنه‏ ‏أبى ‏أن‏ ‏يتلقى ‏ما‏ ‏تلقاه‏ ‏ميتيا‏ ‏أو‏ ‏أليوشا‏، ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏شذوذه‏ ‏وتفرده‏ ‏وانفصاله‏ ‏عن‏ ‏الطبيعة‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏قد‏ ‏تغلبا‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏الأمر‏، ‏أو‏ ‏لعل‏ ‏ما‏ ‏أعطاه‏ ‏جريجورى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زهرة الفيوم
عضو لامع
عضو لامع
زهرة الفيوم

انثى
عدد الرسائل : 1043
 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 210
بلد الإقامة : الفيوم
احترام القوانين :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 111010
العمل :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Profes10
الحالة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 710
نقاط : 7382
ترشيحات : 28
الأوســــــــــمة :  تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى 222210

 تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى Empty
مُساهمةموضوع: رد: تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى    تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى I_icon_minitime20/10/2012, 19:49

البيانات الشخصية للكاتب

الاسم: يحيى توفيق الرخاوى.
تاريخ الميلاد: 1 نوفمبر 1933
مكان الميلاد: القاهرة - جمهورية مصر العربية.
الجنسية: مصرى.
الحالة الاجتماعية: متزوج.
الزوجة: فوزية إبراهيم داود
الأبناء:
محمد: 9 فبراير، 1962
منى: 26 نوفمبر، 1963
مى: 14 سبتمبر، 1965
مصطفى: 7 أغسطس، 1967
التعليم الثانوى: مدرسة مصر الجديدة الثانوية ، القاهرة.
الكلية: بكالوريوس الطب والجراحة، كلية الطب، جامعة القاهرة، 1957.
المؤهلات العليا:
دبلوم الأمراض الباطنية، 1959كلية طب قصر العيني- جامعة القاهرة.
دبلوم الأمراض النفسية والعصبية ، 1961كلية طب قصر العينى - جامعة القاهرة.
دكتوراه الطب النفسى ، 1963 كلية طب قصر العينى - جامعة القاهرة.
مهمات علمية:
كلية الطب جامعة باريس، مستشفى سانت آن، قسم بيير بيشو، ثم طب نفس الأطفال، قسم أ. ليبوفيسى، ودياتكين، والطب النفسى الاجتماعى بالاشتراك مع بيير برينيتى، وحضور ندوات ومحاضرات جون ديلاى، هنرى إى، و لاكان فى مستشفى سانت آن ( أكتوبر 1968- نوفمبر 1969).
اللغات:
العربية: ممتاز.
الإنجليزية: جيد جدا.ً
الفرنسية: جيد.
الهوايات والرياضة[1]: العدو، السير القوى، والتخييم ، والإسكواش، والرحلات الطويلة، السباحة.
الوظائف والمناصب الرسمية الحالية:
أستاذ الطب النفسى: كلية الطب - جامعة القاهرة. (1974).
كبير مستشارى دار المقطم للصحة النفسية: جمهورية مصر العربية. (1973).
النشاطات العلمية والثقافية الحالية:
· عضو الجمعية المصرية للصحة النفسية (1960)
· عضو مؤسس للكلية الملكية للأطباء النفسيين (1972)
· رئيس مجلس ادارة جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى (يناير، 1978).
· رئيس التحرير المشارك المجلة المصرية للطب النفسى. (19 ديسمبر، 1978).
(لسان حال عن الجمعية المصرية للطب النفسي).
· رئيس تحرير مجلة "الانسان والتطور". (يناير، 1980) (مجلة علمية ثقافية تصدر عن: جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعي).
· مستشار الطب الشرعى بالمحاكم المصرية والعربية (السودان، السعودية: 1980، 1981)
· عضو اللجنة العليا للرقابة على المصنفات الفنية. (1986).
· عضو الهيئة العليا للأدوية. (1986 ).
· عضو اتحاد الكتاب و الأدباء (1987).
· مستشار النشر بالهيئة العامة للكتاب. (1989).
· عضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة فى الأمراض الباطنة الخاصة على مستوى الجامعات المصرية (أكتوبر 1989 - أغسطس 1995).
· عضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للطب النفسى. (يناير 1990).
· مسئول التحرير المشارك للمجلة العربية للطب النفسى. (مايو 1990).
(تصدر عن: إتحاد الأطباء النفسانيين العرب(
· رئيس اللجنة العلمية للجمعية المصرية للطب النفسى (أكتوبر 1990-1991).
· عضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للنقد الأدبى (1990-1992)
· عضو المجلس الأعلى للثقافة لجنة التربية وعلم النفس (أكتوبر 1993).
· عضو المجلس الأعلى للثقافة - لجنة الثقافة العلمية (أكتوبر، 1993).
· عضو مجلس إدارة مركز الأبحاث النفسية - جامعة القاهرة) أكتوبر 1993).
· عضو مجلس مراقبة الأمراض العقلية (1993).
· عضو مجلس إدارة الشهادة العربية تخصص الطب النفسى (ابريل، 1993 - 1998) (مقرر لجنة الإمتحان لنفس الشهادة).
· رئيس اللجنه العلمية فى البحث القومى للإدمان - مصر (1995).
· رئيس تحرير "نشرة الإدمان" ملحق علمى تثقيفى وقائى لمجلة الإنسان والتطور (1998).
الوظائف السابقة:
· طبيب إمتياز بمستشفيات جامعة القاهرة، 1957 - 1958.
· طبيب مقيم بمستشفيات جامعة القاهرة، 1958 - 1961.
· معيد الطب النفسى بكلية الطب - جامعة القاهرة، 1962 -1965.
· مدرس الطب النفسى بمستشفيات جامعة القاهرة بكلية الطب. جامعة القاهرة، 1965- 1969
· أستاذ مساعد الطب النفسى بجامعة القاهرة، بكلية الطب.جامعة القاهرة، 1969-1974
· أستاذ زائر لتدريس أطباء دبلوم الطب النفسى بمستشفى شهار، الطائف، المملكة العربية السعودية، 1980- 1981 (الذى أنشأته منظمة الصحة العالمية).
· رئيس قسم الطب النفسي: كلية الطب، جامعة القاهرة. (1990-1994).
· رئيس وحدة الطب النفسى البيولوجى والعلاج النفسي: جامعة القاهرة (1990 - 1994).
محاضر منتدب في:
1 -جامعة المنصورة، كلية الطب المنصورة ( 1962-1972).
2- جامعة عين شمس: كلية الآداب: (الطب النفسى، وعلم النفس الفسيولوجى لطلاب علم النفس (1972-1977).
3- مدارس التمريض، والمعهد العالى للتمريض (جامعة القاهرة).
4- المركز القومى للبحوث القضائية: (الطب النفسى الشرعى).
أ- وكلاء النيابة: 1982- 1988.
ب - القضاء العسكرى: 1987- 1989.
جـ - أطباء مصلحة الطب الشرعى: 1986- 1988.
5- عضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة المساعدين فى الأمراض الباطنة الخاصة على مستوى الجامعات المصرية (1982-1989).
6- عضو اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة فى الأمراض الباطنة الخاصة على مستوى الجامعات المصرية (1990-).
7- رئيس لجنة الامتحانات فى إجازة الزمالة العربية للطب النفسى (البورد) (1990-).
8-عضو لجنة الثقافة العلمية – المجلس الأعلى للثقافة (1992-).
قائمة المنشورات:
أ- الكتب المنشورة:
1- عمر شاهين و يحيى الرخاوى (ثلاث طبعات: 1962، 1965، 1977) مبادئ الأمراض النفسية: القاهرة: مكتبة النصر الحديثة. (222 ص). (بالإنجليزية).
2- عمر شاهين و يحيى الرخاوى (1965) علم النفس فى الممارسة الطبية. القاهرة: مكتبة النصر الحديثة. (222 ص). (بالانجليزية).
3- عمر شاهين و يحيى الرخاوى (1968) علم النفس تحت المجهر. القاهرة: مكتبة النصر الحديثة. (325 ص).
4- عمر شاهين و يحيى الرخاوى (1971) ألف باء. الطب النفسى. القاهرة: مكتبة النصر الحديثة. (317ص). (بالانجليزية).
5- يحيى الرخاوى (1972) حياتنا والطب النفسى. القاهرة: دار الغد للثقافة والنشر.
6- يحيى الرخاوى (1972) حيرة طبيب نفسى. القاهرة: دار الغد للثقافة والنشر (231)
7- يحيى الرخاوى (1972) عندما يتعرى الانسان (طلقات من عيادة نفسية). القاهرة: دار الغد للثقافة والنشر، (الطبعة الثانية، 1979: 272 ص).
8- يحيى الرخاوى (1977) المشى على الصراط:رواية من جزئين: الجزء الأول: الواقعة. (261 ص). الجزء الثاني: مدرسة العراة. (404 ص). القاهرة: دار الغد للثقافة والنشر. [حاصلة على جائزة الدولة فى الآدب للرواية الطويلة (1980) والحصول على وسام العلوم والفنون من الدرجة الثانية].
9- يحيى الرخاوى (1978) مقدمة فى العلاج النفسى الجمعي: عن البحث فى النفس والحياة. القاهرة: دار الغد للثقافة والنشر، (302 ص).
10- يحيى الرخاوى (1978) سر اللعبة. القاهرة: دار الغد للثقافة والنشر، (ديوان شعر: 134ص).
11- يحيى الرخاوى (1978) أغوار النفس. القاهرة: دار الغد للثقافة والنشر، (ديوان شعر مع شروح نقدية فى ضوء الخبرة الطبنفسية). (495ص).
12- يحيى الرخاوى (1979) دراسة فى علم السيكوباثولوجى (شرح: سر اللعبة (
[ويعتبر المٌؤلف هذا المؤَلف هو العمل المحورى الذى يمثّل تنظيره للأمراض النفسية والسيكوباثولوجيا]، القاهرة: دار عطوة للطباعة، (947 ص).
13- يحيى الرخاوى (1980) حكمة المجانين (طلقات من عيادة نفسية). القاهرة: دار عطوة للطباعة، (191ص).
14- يحيى الرخاوى (1980) دليل الطالب الذكى فى علم النفس والطب النفسى: المجلد الأول. علم النفس (سلسلة). القاهرة: دار عطوة للطباعة، (309ص).
15- يحيى الرخاوى (1980) دليل الطالب الذكى فى علم النفس والطب النفسي: المجلد الثانى.) فى طبيعة وتصنيف وعلاج الأمراض النفسية. (سلسلة). القاهرة: دارعطوة للطباعة، (98ص).
16- يحيى الرخاوى (1982) دليل الطالب الذكى فى علم النفس والطب النفسى: المجلد الثالث. (محاورات):فى الانسان والطب. (سلسلة). القاهرة:دار عطوة للطباعة، (93 ص).
17- يحيى الرخاوى (1982) أفكار وأسمار حول القصر العينى. القاهرة: دار عطوة للطباعة، (117ص).
18- يحيى الرخاوى (1983) البيت الزجاجى والثعبان. (شعر). القاهرة: جمعية الطب النفسى التطورى، (87 ص).
19- يحيى الرخاوى (1987) اللغة العربية والعلوم النفسية الحديثة. القاهرة: جمعية الطب النفسى التطورى، (48 ص).
20- يحيى الرخاوى (1989) النظرية التطورية الإيقاعية وأساسيات من علم النفس (وتشمل الخطوط العامة للنظرية النفسية البيولوجية التى وضعها المؤلف). القاهرة: (61ص).
21- يحيى الرخاوى (1989) المفاهيم الأساسية للطب النفسى. القاهرة: نظرية مصرية (147ص).
22- يحيى الرخاوى (1990) الطب النفسى للممارس. القاهرة: جمعية الطب النفسى التطورى، (66ص).
23- يحيى الرخاوى (1990) الناس والطريق. (سيرة ذاتية تطل من أدب الرحلات)، القاهرة جمعية الطب النفسى التطورى (196ص).
24- يحيى الرخاوى (1992) قراءات فى نجيب محفوظ. القاهرة - الهيئة العامة للكتاب (160ص).
25- يحيى الرخاوى ( 1992) مثل وموال قراءة فى النفس الإنسانية، القاهرة كتاب الهلال (321ص).
26- يحيى الرخاوى (1997) مراجعات فى لغات المعرفة القاهرة، دار المعارف (126ص).
27- يحيى الرخاوى (2000) رباعيات ورباعيات [دراسة مقارنة: جاهين - الخيام - سرور]- القاهرة - مركز المحروسة (122ص).
28- يحيى الرخاوى (2000) الناس والطريق [طبعة أولي] [من تداعيات السيرة الذاتية] القاهرة - مركز المحروسة.
29- يحيى الرخاوى (2000) هيا بنا نلعب يا جدى سويا مثل أمس. القاهرة - مطبعة المحروسة(131ص).
30- يحيى الرخاوى (2000) ورطة قلم. القاهرة - مركز المحروسة (129ص).
31- يحيى الرخاوى (2000) مواقف النفرى بين التفسير والاستلهام. القاهرة - جمعية الطب النفسى التطورى (193ص).
32- يحيى الرخاوى (2000) ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: الناس والطريق [الطبعة الثانية] - القاهرة - جمعية الطب النفسى التطورى (239ص).
33- يحيى الرخاوى (2000) ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثاني:الموت والحنين - القاهرة - جمعية الطب النفسى التطورى (273ص).
34- يحيى الرخاوى (2000) ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال - القاهرة - جمعية الطب النفسى التطورى (223ص).
ب - مقالات منشورة بالانجليزية:
1- عبد العزيز عسكر، عمر شاهين، يحيى الرخاوى. (1960) علاج الانسولين المعدل فى مرضى العيادة الخارجية. مجلة الجمعية الطبية المصرية، 43، 12.
2- عمر شاهين، محمد الكومى، يحيى الرخاوى (1963) مستوى الـ 17 كيتوستيرويد، فى مرض الحزاز العصبى. المجلة المصرية للأمراض العصبية والنفسية وجراحة الأعصاب، 4، 143.
3- عبد العزيز عسكر، يحيى الرخاوى، عمر شاهين. (1964) تأثير خفض الحرارة بواسطة التبريد الداخلى فى المرضى النفسيين. المجلة المصرية للأمراض العصبية والنفسية وجراحة الأعصاب،5:254.
4- عبد العزيز عسكر، يحيى الرخاوى، عمر شاهين، محمود سامى عبد الجواد. (1964) تقييم التأثير المثير للميثا أمفيتامين بالمقارنة باستخدام بفكر خامل اختبار مينوسوتا متعدد الأوجه. المجلة المصرية للأمراض العصبية والنفسية وجراحة الأعصاب، 5 ، 259.
5- عبد العزيز عسكر، يحيى الرخاوى، عمر شاهين، محمود سامى عبد الجواد. (1964) استخدام اختبار مينوسوتا متعدد الأوجه فى تحديد التأثير المنبه للميثا أمفيتامين فى الفصاميين. المجلة المصرية للأمراض العصبية والنفسية وجراحة الأعصاب، 5 ، 79.
6- عبد العزيز عسكر، يحيى الرخاوى، عمر شاهين، محمود سامى عبد الجواد. (1964، 1965) استخدام اختبار مينوسوتا متعدد الأوجه فى تحديد التأثير المنبه للميثا أمفيتامين فى حالات الاكتئاب. المجلة المصرية للأمراض العصبية والنفسية وجراحة الأعصاب، 5 ، 89.
7- عبد العزيز عسكر، يحيى الرخاوى، عمر شاهين، محمود سامى عبد الجواد. (1964) استخدام اختبار مينوسوتا متعدد الأوجه فى تحديد التأثير المنبه للميثاأمفيتامين فى حالات العصاب والاكتئاب. المجلة المصرية للأمراض العصبية والنفسية وجراحة الأعصاب، 5 ، 97
8- عمر شاهين، يحيى الرخاوى، يحيى طاهر، (1964) عقار الليدبران فى العيادة الخارجية للأمراض النفسية. المجلة المصرية للأمراض العصبية والنفسية وجراحة الأعصاب50،11.
9- عبد المنعم المفتى، عمر شاهين، يحيى الرخاوى (1964) مرض الثعلبه كخلل نفسجسدى. مجلة الجمعية الطبية المصرية ، 47: 11-12.
10- عبد العزيز عسكر، عمر شاهين، يحيى الرخاوى (1966) تجربة تأثير الثيوبنتونن على إدرار الماء. مجلة الجمعية الطبية المصرية49، 1
11- يحيى الرخاوى، عمر شاهين، محمود سامى عبد الجواد (1969) تقييم التأثير السلوكى لتعاطى العقاقير باستخدام اختبارات الشخصية. مجلة الجمعية الطبية المصرية 52: 11-12
12- عمر شاهين، محمد الرفاعى، يحيى الرخاوى (1971) العوامل النفسية المسببة لمرض الجلوكوما الأولى. المجلة المصرية للصحة النفسية 12 ، 7
13- عمر شاهين، محمد الرفاعى، يحيى الرخاوى (1971) الأعراض النفسية المصاحبة لمرض الجلوكوما الأولى. المجلة المصرية للصحة النفسية 12 ، 7
14- يحيى الرخاوى، عمر شاهين، رجائى سليمان (1971) التغيب المرضى عن العمل كمؤشر للصحة النفسية فى المجتمع الصناعى فى الجمهورية العربية المتحدة. المجلة المصرية للصحة النفسية 12 ، 7
15- يحيى الرخاوى، عمر شاهين، رجائى سليمان (1971) التغيب المرضى كظاهرة اختيارية. المجلة المصرية للصحة النفسية 12 ، 7
16- عمر شاهين، يحيى الرخاوى، محمد عرفان، سامية عبد الرحمن (1972) الخبرات النفسية فى العدوان الإسرائيلى سنة 1976. المجلة المصرية للصحة النفسية 13 ، 7
17- عمر شاهين، يحيى الرخاوى، محمد عرفان، سامية عبد الرحمن (1972) مقاييس الثالوث العصابى على مقياس منيسوتا المتعدد الأوجه على مرضى الهيبوكوندريا. المجلة المصرية للصحة النفسية 13 ، 7.
18- عبد العزيز عسكر، عمر شاهين، محمود سامى عبد الجواد يحيى الرخاوى، أحمد الشريف، المميزات الخطية لبعض المرضى النفسيين.المجلة المصرية للصحة النفسية 13، 7.
19- يحيى الرخاوى، يسرية أمين، رفعت محفوظ، عماد حمدى، عبد الرحمن فوزى (1978)مشكلة تصنيف انفصام الشخصية باتباع الدليل المصرى لتقسيم الأمراض النفسية. المجلة المصرية للطب النفسى 1: 24 - 37.
20- يحيى الرخاوى، محمد شعلان، محمود سامى عبد الجواد ، زينب لطفى، (1978) خبرات فى العلاج الجمعى فى البيئة المصرية. المجلة المصرية للطب النفسى 1: 69 - 78
21- يحيى الرخاوى. (1978) الطب النفسى اليوم فى مصر. المجلة المصرية للطب النفسى، 1: 13-23. (إفتتاحية).
22- محمود سامى عبد الجواد، رفعت محفوظ، محمد هويدى، يحيى الرخاوى (1978) تشخيص الفصام فى مصر: دراسة مقارنة بين الممارسين المصريين محليا لترتيب أهمية الأعراض. المجلة المصرية للطب النفسى 1: 100 - 113.
23- يحيى الرخاوى. (1979) الطب النفسى اليوم فى مصر( التطبيق والنظرية). المجلة المصرية للطب النفسى 2: 19 - 26. (إفتتاحية).
24- يحيى الرخاوى. (1979) القيمة التطورية لتحمل الاكتئاب فى الحياة العصرية. المجلة المصرية للطب النفسى 2: 138 - 144
25- محمود سامى عبد الجواد، محمد شعلان، جعفر، يحيى الرخاوى. (1979) اختبار مينوسوتا متعدد الاوجه (صورة مختصرة) التطبيق على مرضى السكر. المجلة المصرية للطب النفسى 2: 145 - 156
26- يحيى الرخاوى، عبد الرحمن فوزى، عماد حمدى، رفعت محفوظ. (1980) ظاهرة الاعتماد فى العلاج النفسى الجمعى. المجلة المصرية للطب النفسى 2: 205 - 220
27- يحيى الرخاوى. (1980) مراجعة على منطق استخدام العقاقير طويلة المدى فى الطب النفسى. المجلة المصرية للطب النفسى 3: 8 -12 (إفتتاحية).
28- يحيى الرخاوى، محمود سامى عبد الجواد، محمد شعلان، رفعت محفوظ. ابريل (1980) مفهوم حالات البارانويا ودلالة التفكك المؤقت خلال علاج مميز. المجلة المصرية للطب النفسى 3: 51 - 61
29- يحيى الرخاوى. (1980) توسع مفهوم "النموذج الطبي" فى الطب النفسى. المجلة المصرية للطب النفسى. (إفتتاحية) 3: 138 – 142
30- يحيى الرخاوى، عبد الرحمن فوزى، مجدى عرفه، رفعت محفوظ. اكتوبر (1980) مفهوم "الاضطرابات الوجدانية" فى النظام النظرى الحالى. المجلة المصرية للطب النفسى 3: 183 - 197.
31- يحيى الرخاوى. (1981) القلق: علاقة مفهوم "ما هو قلق " بعلاج القلق. المجلة المصرية للطب النفسى 4: 6 - 14. (إفتتاحية)
32- محمود سامى عبد الجواد، يحيى الرخاوى، رفعت محفوظ، محمد هويدى (1981) أهمية العرض النسبى فى تشخيص الفصام. المجلة المصرية للطب النفسى 4: 39 - 56
33- يحيى الرخاوى. (1981) العلاقة بين تنظيم المخ، ووظائفة (الحاجة الى مراجعة دلالية ومفهومية). المجلة المصرية للطب النفسى 4: 151 - 152. (افتتاحية).
34- يحيى الرخاوى. (1981) الدين و الصحة النفسية (مع إشارة خاصة إلى نمو الطفل) المجلة المصرية للطب النفسى 4: 281: 289
35- يحيى الرخاوى. (1982) علاج الجلسات الكهربائية. إعادة تنظيم توافقى. المجلة المصرية للطب النفسى 5: 17 - 21 (إفتتاحية).
36- يحيى الرخاوى (1982) الاضطراب الفصامى الوجدانى، هل هو سلة مهملات لما ليس كذلك؟ أم أنه وقفة على المفترق فى اتجاه التدهور. المجلة المصرية للطب النفسى 5: 192 - 194
37- عماد حمدى، رفعت محفوظ، يسرية أمين، يحيى الرخاوى. (1982) علاج "الحرمان من النوم": جزء من خطة شاملة فى "وسط خاص". المجلة المصرية للطب النفسى 5: 282-293
38- يحيى الرخاوى. (1983) بـُـعد النشاط والثبات (الجمود) المجلة المصرية للطب النفسى 6: 9 - 11 (إفتتاحية).
39- يحيى الرخاوى، رفعت محفوظ، محمد هويدى، عماد حمدى، يسرية أمين. (1983) التقييم الإكلينيكى لوظائف الانا: قياس ثبات الملاحظين الإكلينيكيين. المجلة المصرية للطب النفسى 6 - 12 - 42
40- يحيى الرخاوى، يسرية أمين، عماد حمدى، رفعت محفوظ، محمد هويدى. (1983) اضطراب التفكير فى الفصام: العلاقة ببعدى النشاط والزمن. المجلة المصرية للطب النفسى6: 12 - 42
41- يحيى الرخاوى. (1983) النص (السيناريو) البحثى النفسى: "الآلية- التفاؤل- الإحباط" يتكرر فى أحدث نماذجه "الأشعة المقطعية بالكمبيوتر" المجلة المصرية للطب النفسى 6: 171 - 173 (افتتاحية).
42- يحيى الرخاوى، رفعت محفوظ، أسامه الشربينى، محمد هويدى، عماد حمدى، يسرية أمين. (1983) خلل التفكير فى مرضى الفصام: (قياس اكلينيكي). المجلة المصرية للطب النفسى6: 201 - 212
43- يحيى الرخاوى. (1984) العلاج النشط وتنظيم المخ. المجلة المصرية للطب النفسى 7: 13 - 15 (افتتاحية).
44- عماد حمدى، يسرية أمين، رفعت محفوظ، أسامه عرفه، يحيى الرخاوى. (1984) المقياس المختصر للحالة الطبنفسية: قياس ثبات المصححين. المجلة المصرية للطب النفسى 7: 56 - 70
45- يحيى الرخاوى. (1985) البسط البيولوجى فى الحلم، والذهان، والإبداع (أو أى منها) نظرية فردية. المجلة المصرية للطب النفس 8: 8- 11 (افتتاحية).
46- يحيى الرخاوى، مجدى عرفه، رفعت محفوظ، عماد حمدى، يسرية أمين، فوزية داود. (1985) الفصام: الخصائص المحتملة للنمط الوجدانى. المجلة المصرية للطب النفسى 8: 41 – 73
47- يحيى الرخاوى. (1986) استعادة إيقاعية التبادل بين التنشيط والتهدئة فى علاج الأمراض النفسية.. المجلة المصرية للطب النفسى 9: 5 - 7 (افتتاحية).
48- يحيى الرخاوى، عماد حمدى، عماد وديع، رفعت محفوظ، يسرية أمين، مجدى عرفه. (1986) السمات البصرية الاكلينيكية فى مرضى الفصام. المجلة المصرية للطب النفسى 9: 31- 52
49- يحيى الرخاوى. الظاهرة النفسية ومخاطر الترجمة. (1987) المجلة المصرية للطب النفسى 10: 9-10 (إفتتاحية).
50- يحيى الرخاوى. (1988) مشكلة الحكم على كفاءة الإرادة فى الطب النفسى الشرعي) المجلة المصرية للطب النفسى11: 11-16
51- يحيى الرخاوى. (1989) إضمحلال الخداع الإستقطابى التشخيصى إلى ما هو عضوى - وما هو وظيفى. المجلة المصرية للطب النفسى 12:7-11 (إفتتاحية).
52- يحيى الرخاوى. (1990) العقاقيركمنظم لاستعادة النظام. المجلة المصرية للطب النفسى 13: 5-9 (إفتتاحية).
53- يحيى الرخاوى. (1990) آفاق وخداعات حول تصنيف وتسمية الأمراض النفسية. الجزء الأول: اختراق النظام التشخيصى السائد. المجلة العربية للطب النفسى 1: 81-92 (إفتتاحية).
54- يحيى الرخاوى. (1990) "فى تصنيف الأمراض النفسية: "تعدد الأبعاد وجها لوجه أمام تعدد المحاور". المجلة العربية للطب النفسى 2: (إفتتاحية).
55- يحيى الرخاوى. (1990) "مراجعة استخدام مصطلح وجدانى فى الممارسة والبحث الطبنفسية". المجلة المصرية للطب النفسى 13: 135-139
56- يحيى الرخاوى (1990) "المسار الفصامى، التحتحة، التفسخ، التدهور". المجلة المصرية للطب النفسى 14: 11-15
57- يحيى الرخاوى (1992) "الأولويات وحساب التكلفه والمنفعه فى البحث الطبنفسية فى البلدان النامية: هل يعتبر إنتهاك الاطفال اولوية". المجلة المصرية للطب النفسى 15: 6-10
58- يحيى الرخاوى (1992) "مستويات تنظيم الوعي". المجلة المصرية للطب النفسى. 15: 150-155
59- يحيى الرخاوى. (1993) "المفهوم الممتد للتلقى. نظرية لرأب صدع المفاهيم والتسميات الخاطئة المتعلقة بهذه الظاهرة". المجلة المصرية للطب النفسى 16: 9 - 13
60- يحيى الرخاوى أمانى الرشيدى، محسن عسكر، عزه البكرى. (1993) "ردود افعال المرضى النفسيين لزلزال وقع فى مصر". المجلة المصرية للطب النفسى، 16: 47 - 54
61- يحيى الرخاوى. (1994) "العلاج الدوائى النفسى والعلاج النفسي".المجلة المصرية للطب النفسى 17: 5 - 7
62- يحيى الرخاوى. (1994) "نحو حوار أفضل بين الممارسة الإكلينكية للطب النفسى والمعلومات المستمده من أبحاث علوم الأعصاب". المجلة المصرية للطب النفسى 17: 133 - 13
63- يحيى الرخاوى (1995) البصيرة فى تاريخ ومفهوم الجنون من خلال اللغة والبيئة للطب النفسى 18: 7 - 11
64- يحيى الرخاوى (1995) البصيرة فى تاريخ ومفهوم الجنون من خلال اللغة و البيئة والثقافة العربية والإسلامية (2). المجلة المصرية للطب النفسى 18: 149 - 151
65- يحيى الرخاوى (1996) النمو الحديث فى إستخدام وسوء إستخدام الشعبى فى علاج المرضى النفسيين فى مصر والعالم العربى. النفسى 19: 7 - 10
66- يحيى الرخاوى (1997) البصيرة وتقدير الأمر فى ممارسة الطب النفسى، المجلة المصرية للطب النفسى 20: 7- 10
67- يحيى الرخاوى (1997) الإرهاب واضطراب التهوية المجلة المصرية للطب النفسى 21: 7 - 10
68- يحيى الرخاوى (1998) الإكتئاب وفقد القدرة على الإستمتاع والآلم النفسى. المجلة المصرية للطب النفسى 21:7 -10
جـ- مقالات منشورة بالعربية([2]):
1- يحيى الرخاوى. (1975) "تحرير المرأة وتطور الإنسان، نظرة بيولوجية". المجلة الإجتماعية القومية12، العددان 2 - .
2- يحيى الرخاوى. (1980) الله. الإنسان. التطور.الله سلسلة حتمية. الإنسان والتطور، 1: 71-80
3- يحيى الرخاوى. (1980) مقتطف وموقف: تأثير علاج الليثيم على الإنتاج الفنى. الإنسان والتطور 2: 110-116
4- يحيى الرخاوى. (1980) سوء استعمال العلوم النفسية. الإنسان والتطور، 2: 68-84
5- يحيى الرخاوى. (1980) مقتطف وموقف: شجاعة مولانا الإمام الغزالى.. وأزمته.. الإنسان والتطور 2: 131- 132
6- يحيى الرخاوى (1980) العدوان والإبداع. الإنسان والتطور 3: 49- 81
7- يحيى الرخاوى. (1980) مقتطف وموقف: عن تقويم المرضى الصالحين للعلاج النفسى. تأليف سيدنى بلوتس - ترجمة د. مجدى عرفة. الإنسان والتطور 3: 82-118
8- يحيى الرخاوى. (1980) الباحث أداة البحث وحقله فى دراسة الطفولة والجنون. الإنسان والتطور 4: 26 - 45
9- يحيى الرخاوى. (1980) مقتطف وموقف: من كتاب "الإنسان والجنون" تأليف اشتيفان بنديك. " الإنسان والتطور 4: 81 - 90
10- يحيى الرخاوى. (1981) العلاج النفسى للذهانيين. الإنسان والتطور 5: 25-53
11- يحيى الرخاوى. (1981) حالات وأحوال: الإخوة الأربعة، الجزء الأول: الأرضية. الإنسان والتطور 5: 68 - 81
12- يحيى الرخاوى (1981) الأدب نافذة على النفس (عن رواية "حقيبة خاوية" لمحمود حنفي). الإنسان والتطور 5: 82-101
13- يحيى الرخاوى. (1981) الأدب نافذة على النفس (عن ديوان النزهة بين شرائح اللهب لنشأت المصري). الإنسان والتطور 6: 65-80
14- يحيى الرخاوى. (1981) حالات وأحوال، الجزء الثاني: حالة "زهران -1". الإنسان والتطور 6: 50-62.
15- يحيى الرخاوى. (1981) البقاء للأنفع. الإنسان والتطور 7: 17-26
16- يحيى الرخاوى. (1981) مقتطف وموقف: من الجنسية الى العدوانية، د. صلاح مخيمر. الإنسان والتطور 7: 58-63
17- يحيى الرخاوى. (1981) حالات وأحوال، الجزء الثالث: حالة "زهران -2 ".الإنسان والتطور 7:64 - 77
18- يحيى الرخاوى. (1981) الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى. الإنسان والتطور 8: 19 - 33
19- يحيى الرخاوى. (1981) الأدب نافذة على النفس مقتطف ووداع صلاح عبد الصبور. الإنسان والتطور 8: 59-64
20- يحيى الرخاوى. (1981) حالات وأحوال، الجزء الرابع: حالة "زهران -3 ".الإنسان والتطور، 8: 65-82
21- يحيى الرخاوى. (1982) حالات وأحوال، الجزء الخامس حالة زاهر. الإنسان والتطور، 9: 31-39
22- يحيى الرخاوى. (1982) مقتطف وموقف: 1- عن الديالكتيك 2- مع الشعراوى. الإنسان والتطور، 9: 40 - 44
23- يحيى الرخاوى. (1982) رباعيات ورباعيات "قراءة فى الخيام وسرور وجاهين" الإنسان والتطور، 9: 45 - 98
24- يحيى الرخاوى. (1982) صدمة بالكهرباء أم ضبط للإيقاع. الإنسان والتطور، 10: 44-69
25- يحيى الرخاوى. (1982) حالات وأحوال اعتذار وإعادة نظر. الإنسان والتطور، 10: 80
26- يحيى الرخاوى. (1982) قراءة فى ديستويفسكى (من عالم الطفولة). الإنسان والتطور، 12: 171- 137
27- يحيى الرخاوى. (1983) الموت.. الحلم.. الرؤيا- دراسة فى رواية "الأفيال" لفتحى غانم. الإنسان والتطور،15: 108-136
28- يحيى الرخاوى. (1983) قراءة في" رأيت فيما يرى النائم "نجيب محفوظ". الإنسان والتطور، 16: 103- 136
29- يحيى الرخاوى.(1983) إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى. فصول،4: عدد 1: 35 - 57
30- يحيى الرخاوى. (1984) التفسير الدوائى الطبنفسى الحديث. الإنسان والتطور، 17: 18-40
31- يحيى الرخاوى. (1984) مقتطف و موقف: عن الإبداع والأخلاق. الإنسان والتطور، 17: 59 - 63
32- يحيى الرخاوى. (1984) قراءة فى ليل آخر لنعيم عطية. الإنسان والتطور، 17: 98-134
33- يحيى الرخاوى. (1984) عن ماهية الوجدان وتطوره. الإنسان والتطور، 18: 108-150
34- يحيى الرخاوى. (1984) مقتطف وموقف: عودة الداء وتساقط الأنفس، وإعادة الولادة (من شعر امرؤ القيس). الإنسان والتطور،19: 93 - 97
35- يحيى الرخاوى. (4891) القتل بين مقامى العبادة والدم: قراءة فى ليالى ألف ليلة لنجيب محفوظ. الإنسان والتطور، عدد 19: 122 - 156
36- يحيى الرخاوى. (1984) مقتطف وموقف: من "وعود الإسلام" روجيه جارودى: نهاية الفلسفة، وحوار الحضارات. الإنسان والتطور، 20: 26 - 28
37- يحيى الرخاوى (1984). مثل و موال:علم بالنفس من أقوال الناس. الإنسان والتطور، 21: 54 - 68
38- يحيى الرخاوى. (1985) مقتطف وموقف: "كلمات" سارتر (اللغة المصوّرة، والشعور بالترك) الإنسان والتطور. عدد 21 ص.ص: 138 - 141
39- يحيى الرخاوى. (1985) مقتطف وموقف: عن انقباض القاضى الجرجانى. الإنسان والتطور. عدد 22 ص.ص: 29 - 31
40- يحيى الرخاوى. (1985) مثل وموال فصل فى النذالة والخسة. الإنسان والتطور. عدد 22 ص.ص: 104 - 112
41- يحيى الرخاوى.، حوار مع محمد السماحى، إبراهيم عادل (1985) حول الإجتهاد الإبداعى وموجة الدفاع عن الدين. الإنسان والتطور. عدد 22 ص.ص: 156-193
42- يحيى الرخاوى. (1985) مقتطف وموقف: من الأرجوزة الشقرونية فى القرن الثامن عشر: طب قديم جداً.... ولكن.... الإنسان والتطور،عدد 23 ص: 81 - 88
43- يحيى الرخاوى. (1985) مثل وموال: فصل فى الحرمان والشبع والطبقية. الإنسان والتطور،23: 114 - 121
44- يحيى الرخاوى. (1985) مثل وموال "اختراق الحدود الأخلاقية: بما يستأهل" الإنسان والتطور، 24: 64 - 67
45- يحيى الرخاوى. (1985): الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع. فصول. مجلة النقد الأدبى. 5: عدد 2: 67 - 91
46- يحيى الرخاوى. (1986) مثل بلا موال " إبعد عن الشر وغنّى له" ( تأويل على تأويل أحمد حربي). الإنسان والتطور،25 - 70
47- يحيى الرخاوى. (1986) مقتطف وموقف: حول العلاج النفسى الآن تعقيب على مقال أفلين أ.(1984) اللانست مجلد 11 - 856. الإنسان والتطور، 25: 71 - 75
48- يحيى الرخاوى، عماد حمدى (1986) نظرية التحليل التفاعلاتى. الإنسان والتطور، 26: 13 - 38
49- يحيى الرخاوى. (1986) مقتطف وموقف" انتحار أديب". الإنسان والتطور، 26: 53 - 58
50- يحيى الرخاوى. (1986) مثل وموال: زاوية (زوايا أخرى للجذب والصداقة فى الصداقة والهجر). الإنسان والتطور،26: 78 - 85
51- يحيى الرخاوى. (1986) مقتطف وموقف: من الذى أحرقه النازى فى الأفران؟ تعقيب على ملاحظة فى كتاب "الإنسان يبحث عن معني" لفكتور فرانكل (1963). الإنسان والتطور، 27: 30 - 37
52- يحيى الرخاوى. (1986) مثل وموال: فى لعبة العلاقات البشرية. الإنسان والتطور، 27: 47 - 55
53- يحيى الرخاوى. (1986) مثل وموال: قانون الواقع من الجبر والإختيار إلى الحسابات والتعلم الإنسان والتطور،28: 102 - 113.
54- يحيى الرخاوى. (1986) مقتطف وموقف: عن المناخوليا والبحث عن سبب فى مقابل التطبيق الإمبريقى. من ابن سينا). الإنسان والتطور، 28: 128 - 133
55- يحيى الرخاوى. (1986) جدلية الجنون والإبداع. فصول:عدد 4: 30 - 58
56- يحيى الرخاوى. (1987) مقتطف وموقف: حرية التفكير. وفعل الفلسفة فى مواجهة الدولة، والدين ، والسياسة والجامعة. الإنسان والتطور، 29: 30 - 41
57- يحيى الرخاوى. (1987) حالات وأحوال: الإخوة الأربعة. عودة على بدء. الإنسان والتطور، 29: 52 - 107
58- يحيى الرخاوى. (1987) مثل وموال: التناسب والفروق الفردية (من الأمثال الشعبية). الإنسان والتطور، 29: 115 - 124
59- يحيى الرخاوى. (1987) حالات وأحوال بين المطرقة والسندان. الإنسان التطور، 30: 8-34
60- يحيى الرخاوى. (1987) مقتطف وموقف: قال رحمه الله وجعل الجنة مأواه.قراءة نقدية فى التسامح، وتحمّل الاختلاف، فى الفلسفة الجوّانية، لعثمان أمين (1964) دار القلم. الإنسان والتطور، 30: 40 - 44
61- يحيى الرخاوى. (1987) مثل وموال: غنوة وحدوتة - أربع حواديت وطفلة أمية شغالة: تأويل نفسى من منطلقين. الإنسان والتطور، 30: 91 - 143
62- يحيى الرخاوى. (1987) مقتطف وموقف: إما الإبداع فى كل مكان، وإما التبعية..الإنسان والتطور، 31: 59 - 64
63- يحيى الرخاوى. (1987) مثل وموال وحدوتة أولا العقد الإجتماعى والغش الجماعى. ثانيا تسطيح التراث بالإنكار والاختزال. الإنسان والتطور، 31: 65 - 75
64- يحيى الرخاوى. (1987) حالات وأحوال: صديقان وصديقان. الإنسان والتطور، 31: 131 - 146
65- يحيى الرخاوى. (1987) تقييم نقدى لدراسة وصفية لمحاولة الإنتحار فى القاهرة. الإنسان والتطور، 13:61-161
66- يحيى الرخاوى. (1987 ، 1988) مثل وموال: الإنسان المصرى حال كونه مهموماً، حزيناً (عن الهم والناس). الإنسان والتطور، 32 ، 33: 45 - 49
67- يحيى الرخاوى. (1987 ، 1988) علم النفس: من رؤاهم فى رحاب التصوف الإسلامى (فى رحاب النفري) موقف ما لا ينقال الجزء الأول الإنسان والتطور، 32 ، 33: 58 - 62
68- يحيى الرخاوى. (1987 ، 1988) الجنس: قراء ة نقدية فى "بيع نفس بشرية" لمحمد المنسى قنديل الإنسان والتطور، 32 ، 33: 98 - 126
69- يحيى الرخاوى. (1987 ، 1988) المؤتمرات العلمية بين العلم والسياحة والإعلام. الإنسان والتطور، 32، 33: 98- 126
70- يحيى الرخاوى. (1987 ، 1988) حالات وأحوال: هند فى مفترق الأمراض. الإنسان والتطور، 32، 33: 180 - 217
71- يحيى الرخاوى. (1987، 1988) الموسوعة النفسية: حرف الألف: انتحار. الإنسان والتطور، 32 ، 33: 218 - 227
72- يحيى الرخاوى. (1987 ، 1988) فى رحاب النفري: موقف مالا ينقال (علم النفس). الإنسان والتطور، 43، 53: 27-33
73- يحيى الرخاوى. (1988) مقتطف وموقف: عن البيولوجيا التطورية والذاكرة الكونية من ردود د. شيلدراك. الإنسان والتطور، 34 ، 35: 34 - 36
74- يحيى الرخاوى. (1988) حالات وأحوال: الإكتئاب الحيوى النشط: حزن أم تفجر وعي؟. الإنسان والتطور،34 ، 35: 85 - 102
75- يحيى الرخاوى. (1988) الموسوعة النفسية: الشعور بالذنب. الإنسان والتطور، 34 ، 35: 103 - 117
76- يحيى الرخاوى. (1988) إشكالية الزمن. تعليق على ندوة حدس اللحظة. الإنسان والتطور، 34، 35: 15 - 22
77- يحيى الرخاوى. (1988) نصوص: (من شكواهم) صديق من فرشوط. الإنسان والتطور، 34 ، 35: 12 – 15- 119
78- يحيى الرخاوى. (1990) دورات الحياة وضلال الخلود (الموت والتخلق فى حرافيش نجيب محفوظ). فصول، 9: عدد 1/2: 153 - 188
79- يحيى الرخاوى (1990) اختبار الأمثال الشعبية للتفكير(1990) القاهرة.
80- يحيى الرخاوى. (1993) السببية والاسباب فى المرض النفسى. الإنسان والتطور، 5: 134 - 148
81- يحيى الرخاوى. (1994) الموقف النقدي: ونظرة تطورية لأسباب وطبيعة المرض النفسي: الإنسان والتطور، 58: 171 - 184
82- يحيى الرخاوى. (1994) مثل وموال: العلاقة بالواقع من خلال الأمثال العامية فى مصر والبحرين. الإنسان والتطور 57 ، 58: 127 - 146
83- يحيى الرخاوى. (1994) مثل وموال: العلاقة بالموضوع من خلال الأمثال العامية فى مصر والبحرين، الإنسان والتطور 57، 58: 54 - 67
84- يحيى الرخاوى. (1994) حالة بينية: المسار والتتبع تمثيلية نفسية (علي: الخائف، والمطمئن، والعنيد، والجدع.. إلخ)، الإنسان والتطور 58: 68 - 80
85- يحيى الرخاوى. (1994) فى رحاب مولانا النفرى (من موقف قد جاء وقتي). الإنسان والتطور 57: 14 - 21
86- يحيى الرخاوى. (1994) أصداء لأصداء السيره الذاتية (نجيب محفوظ) حدس الكلمه، الإنسان والتطور 58: 120 - 124
87- يحيى الرخاوى. (1994) الموسوعة النفسية: "حرف الواو" (الوقاية فى المرض النفسي). الإنسان والتطور 58: 125 - 133
88- يحيى الرخاوى (1997) تقاسيم على أصداء نجيب محفوظ (1) الإنسان والتطور، 59: 111 - 150
89- يحيى الرخاوى ( 1998) تقاسيم على أصداء نجيب محفوظ (2) 60: 139 - 161
90- يحيى الرخاوى (1998) تقاسيم على أصداء نجيب محفوظ (3) 61: 137 - 161
91- يحيى الرخاوى ( 1998) تقاسيم على أصداء نجيب محفوظ (4) 62: 143 - 171
د-الندوات والمؤتمرات([3])
1- المؤتمر العربى الأول للصحة النفسية، القاهرة، ديسمبر 1970
2- المؤتمر العربى الثانى للصحة النفسية، القاهرة، ديسمبر 1975
3- المؤتمر الدولى للصرع، القاهرة، نوفمبر 1976
4- المؤتمر المصرى الدولى الأول للطب النفسى، ديسمبر 1978
5- الندوة السنوية للمركز القومى للبحوث، القاهرة ، جمهورية مصرالعربية، فبراير1983.
6- المؤتمر الطبى الاول للجمعية المصرية - الفرنسية للطب النفسى، القاهرة، نوفمبر1985
7- المؤتمر الدولى المصرى الاول للطب النفسى، القاهرة، مارس 1986
8- المؤتمر العربى الثالث للصحة النفسية، عمان، إبريل 1987
9- المؤتمر الدولى للجمعية العالمية للصحة النفسية، القاهرة، اكتوبر 1987
10- المؤتمر العربى الأول لمواجهة مشكلة الإدمان ديسمبر 1988.
11- المؤتمر الطبى الثانى للجمعية المصرية - الفرنسية للطب النفسى، باريس، نوفمبر 1989
12- المؤتمر العربى الرابع لاتحاد الاطباء النفسيين العرب، صنعاء، ديسمبر 1989
13- مؤتمر الإمارت العربية المتحدة الثانى للطب النفسى (ديسمبر 1989 / يناير 1990).
14- الندوة الدولية لأعمال نجيب محفوظ والرواية العربية، مارس 1990 ، كلية الآداب جامعة القاهرة.
15- المؤتمر المصرى العالمى الرابع فى الطب النفسى، 1990، القاهرة، جمهورية مصر العربية.
16- ندوة الاعداد العلمى و المهنى للأخصائى النفسى فى مصر، يونية: 1990، القاهرة، جمهورية مصر العربية.
17- مؤتمر جمعية الطب النفسى والقانون، الانحراف والعنف فى المجتمع المصرى مايو 1990
18- المؤتمر العربى الخامس للطب النفسى، الدار البيضاء - المغرب 1992.
19- مؤتمر الطب النفسى والقانون(1992) الطائف المملكة العربية السعودية.
20- مؤتمر الإدمان: (1992) مستشـفى جدة المملكة العربية السعودية.
21- المؤتمر العربى السادس للأمراض النفسية: (1994) القاهرة.
22- مؤتمر المجلس العالمى للأدوية النفسية والعصبية، واشنطن، 1994.
23- المؤتمر الأقليمى لكلية الأطباء الملكية البريطانية، 1994، القاهرة.
24- المؤتمر المصرى العالمى الأول لعلاج الإدمان وسوء إستعمال العقاقير. القاهرة. 1996
25- المؤتمر السنوى الدولى للجمعيه المصريه للطب النفسى (مستقبل الطب النفسي). القاهرة 1998.
26- المؤتمر المصرى العالمى الأول للتعليم الطبنفسى فى القرن الـ 21: القاهرة (1998).
و- رسائل علميــة:
رسائل الدكتوراه:
1- يحيى الرخاوى، (1963) دراسة سيكوماترية لبعض أوجه السلوك عند المرضى النفسيين. (رسالة دكتوراه غير منشورة بكلية الطب - جامعة القاهرة). (بالانجليرية(.
رسائل تمّت تحت إشراف أ.د. يحيى الرخاوى:
2- رجائى سليمان، (1969) الجوانب النفسية للتغيب عن العمل فى المجتمعات الصناعية. (قسم طب الصناعات. كلية الطب - جامعة القاهرة).
3- كوثر سليمان، (1974) الدراسات الكيميائية الحيوية علـى الناتج النهائى لبعض الموصلات العصبية فى بعض الاضطرابات العصبية. رسالة دكتوراه. كلية الطب. جامعة القاهرة.
4- محمد حافظ الأطرونى، (1976) زملة العصاب القولونى. رسالة دكتوراه. كلية الطب. جامعة المنصورة.
5- عماد حمدى غز، (1977) العلاج النفسى الجمعى، دراسة دينامية لتناول مصرى. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
6- زينب لطفى، (1977) دور التمريض فى تحديد المشكلات السلوكية لأطفال ماقبل سن المدرسة. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
7- يسرية أمين، (1977) دراسة فى أنواع الفصام. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
8- محمد هويدى، (1978) دراسة فى ديناميات الحالات البينية. رسالة دكتوراه فى الآداب والفلسفة. مركز البحوث الاجتماعية والجنائية.
9- محمد حسيب الدفراوى، (1979) بعض المشكلات التصنيفية فى الطب النفسى بمصر. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
10- وفاء الليثى حجاج، (1980) المقابلة السيكاترية. رسالة ماجستير. كلية الطب.جامعة القاهرة.
11- رفعت محفوظ، (1981) دراسة فى وظائف الذات فى مرضى الفصام المصريين. رسالة دكتوراه. كلية الطب. جامعة القاهرة.
12- سيد حفظـى، (1981) اضطرابات النوم والأحلام فى الاضطرابات النفسية. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
13- عماد حمدى غز، (1981) بنية الشخصية فى الاضطرابات النفسية المختلفة. رسالة دكتوراه. كلية الطب. جامعة القاهرة.
14- نجاة النحراوى، (1981) دراسة اكلينيكية فى بعض حالات البارانويا من خلال اعراضها (محاولة توضيحية). رسالة ماجستير. كلية البنات. جامعة عين شمس.
15- أمانى الرشيدى، (1982) اضطرابات الإدراك فى الأمراض النفسية. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
16- مجدى عرفه، (1982) الظواهر الوجدانية فى الفصام. رسالة دكتوراه. كلية الطب. جامعة القاهرة.
17- يسرية أمين، (1982) التقييم الاكلينيكى والقياس النفسى لاضطراب عملية ومحتوى التفكير فى المرضى الفصاميين المصريين. رسالة دكتوراه. كلية الطب. جامعة القاهرة.
18- رفيق حاتم، (1985) تاريخ الطب النفسـى. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
19- طارق سامى، (1985) اضطرابات محتوى التفكير. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
20- هناء سليمان، (1985) الجانبية المخية (التجنيب ونصفى المخ الكرويين). رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
21- عنايات عبد الوهاب، (1986) أثر برامج العلاج التنشيطى من أجل الكفاءة الاجتماعية للمرضى المزمنين الذهانيين.المعهد العالى للتمريض. كلية الطب. جامعة القاهرة.
22- أحمد ضبيع، (1986) دراسة فى النظريات الشخصية المعاصرة. رسالة ماجستير. كلية طب بنها. جامعة الزقازيق.
23- عماد وديع، (1986) الأعراض البصرية الاكلينيكية فى الاضطرابات النفسية. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
24- محمود حسن الشيخ، (1986) وجهات النظر المعاصرة عن علاج الصدمة الكهربية. رسالة ماحستير. كلية الطب. جامعة الزقازيق.
25- نصر إبراهيم، (1987) تفسير الأمثلة فى المرضى النفسيين. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
26- لميس الراعى، (1988) الأبعاد الفينومينولوجية للاكتئاب. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
27- سعاد موسى، (1988) بعض الجوانب الباثولوجية والسيكوباثولوجية للفصام. مراجعة نظرية. رسالة ماحستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
28- جمال سلامة، (1988) المطاوعة العصبية. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
29- نهى صبرى، (1989) مفهوم الاضطرابات العقلية العضوية.مراجعة وتحديد. رسالة ماجستير. كلية الطب. جامعة القاهرة.
30- عزة البكرى، (1990) الظواهر الكأبية والعدوانية فى العلاج النفسى الجمعى. رسالة دكتوراه. كلية الطب. جامعة القاهرة.
31- طارق سامى، (1990) العلاقة بين الحالة قبل المرضية، والتناول العلاجى التنشيطى بالإضافة إلى متغيرات علاجية أخرى فى حالات الإدمان. رسالة دكتوراه. كلية الطب. جامعة القاهرة.
32- نجاة النحراوى (1990) ديناميات التغير فى الحالات البارانوية خلال العلاج النفسى. رسالة دكتوراه فى علم النفس. كلية البنات. جامعة عين شمس.
33- نهى صبرى (1996) الأعراض ووظائف الذات وتغييرات الظاهرة الإكلينيكية المحتملة خلال العلاج النفسى الجمعى. رسالة دكتوراه كلية الطب - جامعة القاهرة.
34- محمد نصر الدين (1997) اضطراب التفكير التجريدى لدى بعض المرضى النفسيين عند الذهانيين. رسالة ماجستير. كلية الطب - جامعة القاهرة.
المقطم فى 28 / 5 / 1995
الملحق
مقدمة:
لم نعتد أن نتكلم عن أنفسنا، ولا حتى للتقدم لشغل وظيفة بما يسمّى تأريخ الإنجازات، ولا حتى فيما يسمّى بالسيرة الذاتية.
وبالنسبة لأن هذا التاريخ الذى طلب منّى مؤخرا سيقدّم إلى هيئة عالمية، فقد وجدت أن الحرج أكبر ، والمسئولية أثقل، وأن المسألة هى مسار فكر، وليست مجرد إنجاز نشر أو شغل وظيفة، ثم فى النهاية ، إن ما يقوله الناس -مختصّين وعامّة- هو الأبقى، ثم أن ما يقوله التاريخ هو فصل الخطاب إذا ما أتيح للتاريخ الأمين أن يفصل الخطاب.
ولم يكن مدهشا لى أن أحاول أن أكتب هذا الذى يسمّى مسار تاريخ شخصى..لأول مرّة، وأنا فى السابعة والخمسين من عمرى (بالمناسبة: ولدت-دون عيد-فى مثل هذا اليوم الذى أكتب فيه هذا الكلام، 1/11/1933) ، ذلك لأننى لم أضطر إليه من ناحية ، وأنه لم يطلب منى من ناحية أخرى، وقد حمانى هذا وذاك من أن أشكل حياتى، ونشاطى العلمى والعقلى طبقا لما يمكن أن أكتبه فى مثل هذا الــَّـزمان.
وكلّما أتيحت الفرصة لأحدهم أن يقدّمنى فى محفل علمى أو ثقافى ، وقدّمنى بما يعرف من تاريخى أصابنى نوع من التساؤل عمّا إذا كان "هذا" هو أنا.
ومع ذلك، ومع تقدّم السن، ومع تزايد وإلحاح احترامات الواقع، اضطررت أن أكتب ما صدر فى هذه الصفحات وكأنى هو، لكننى كدت أحجم عن إرساله، ثم خطر لى أننى أعود بهذا العزوف فأقصّر فى حق فرعى، وفى حق من يمكن أن أساعده من خلال ذكر بعض الحق عن شخصى، أقصّر تقصيرا لم يعد عمرى أو ظروفى تسمح باللحاق به لتعديله، كذلك كان ثمة دافع مُواكب ذكّرنى بأن هذا العزوف، بعد هذه السن، إنما يتضمّن شكلا من ادعاء التواضع الذى يحمل حتما مظنة غرور.، فقررت إرساله.، فلم أستطع. فخطر لى أن ألحق به هذا الملحق الذى يقدّمنى بالصورة الأقرب إلى ما أتصورّه أنا، فضلا عن أنه يعيد توزيع تاريخى من زاوية تخصصى، (وما يتصل بهذا التخصص)، ذلك أننى أحسب أن مسار الحياة العلمية والحرفية لفرد ما، هو فى واقع الأمر مسار تطور فكره، ونمو وجوده، فإذا كان المقصود بما يسمّى مسار حياة أن يتعرف من يقرأه على صاحبه فكرا متحركا، وليس مجرد اسم منشور، فإن التعرف الأمين يحتاج إلى تنظيم مناسب.
لذلك قدّرت أن هذا الملحق هو أهم من السرد السابق - على الأقل من وجهة نظرى.
أولا: إيضاح مبدئى.
بداية أحب أن أوضّح بعدين فى علاقة شخصية بالطب النفسي:
فقد صعب على منذ البداية أن أمتهن هذا التخصص حرفة مستقلة عن وجودى الشخصى، أو أن ألتمس فيه علما صرفا، فقد وجدته سبيلا لحياة ، أو للحياة، وفرصة للرؤية ، وإلزاما بإعادة النظر فى كل شيء، نعم كل شيء. لذلك فإن التداخل بين الشخصى والموضوعى وارد، وكذلك فإن التداخل بين الخاص والعام شديد الإلحاح حتى أننى عجزت فى معظم الأحيان عن تجنّبه، وقد ظهر هذا فى بعض الأعمال الباكرة.
ثانيا: المؤثرات الأساسية.
لا أحسب أن الطب النفسى مثله مثل غيره من فروع العلوم، بحيث يمكن معرفة مسار المشتغل فيه من عدّة أبحاث منشورة، أو بعض مؤتمرات محضورة !!!، فارتباطه باللغة وبالبيئة، شديد ووثيق، وبالتالى يكون مسار المشتغل فيه بنفس القدر الذى تأثر ويتأثر فيه بهذين المتغيّرين الأساسيين (اللغة والبيئة) وبقدر وعيه بهما ، وموقفه منهما.
لذلك لزم أن أحدد علاقتى بهما، وما إليهما تفصيلا بالنسبة لمسار تاريخى العلمى على الوجه التالي:
1- اللغة العربية
لست متأكدا هل تأصّلت علاقتى باللغة العربية لأن والدى كان مدرّسا لها، والأهم أنه كان عاشقا لها، أم أن ذلك مرتبط ببيئتى ونشأتى عامّة، علما بأن التداخل بين اللغة العربية، وما هو إسلام هو تداخل شديد التكثيف من خلال القرآن خاصّة، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تأثير اللغة التركيبى على التكوين المفاهيمى الخاص بتطورى العلمى والثقافى هو أمر يتعلق بالفصحى والعامية المصرية على حد سواء (ولعل علاقتى بالأمثال الشعبية ، وديوانى بالعامية خير دليل على ذلك (1/11).
وبصفة عامة أستطيع أن أجزم أن قوّة اللغة العربية، وإيقاعها الأعمق، وعلاقة ضمائرها بتحديد العلاقة بالموضوع تحديدا متميزا، ورسوخها تاريخا - بسبب حفظ القرآن بها جزئيا- كل ذلك كان دائما محركا ومنظّما لتكوين فكرى، حيث اللغة كيان مباشر فى حضور وعيى مع وعى مرضاى، وليس فقط فى أن مرضاى كانوا يمرضون بالعربية. [أنظر مثلا: 1/15 ج / 55].
2- الإسلام:
أحسب أن علاقتى بالإسلام ليست علاقة تقليدية بمعنى أنه معتقد فكرى أو ممارسة عبادات، وأظن أن تأثرى بالإسلام ، فيما يتعلق بمسار حياتى العلمية والمهنية يدور حول ثلاث محاور: التوحيد، والفطرة (التى هى أبدا ليست مرادفة للبدائية) والغيب.
وأعتقد أن التوحيد مرتبط بشكل ما بمنشأ الفكرة المحورية الضامة للأفكار الدائرة فى محيطها (تركز ذلك فى دراستى للسيكوباثولوجى، عن الفصام خاصة (1/12) وفى النظرية التطورية الإيقاعية ( 1/20)، وكذا بالاقتراب الجشتالتى من الظواهر(كل ما يتعلّق بالمراجعات المنهجية، مثل:جـ /Cool، وما يتعلق بذلك من ارتباط بالمنهج الفينومينولوجى.
وربما من الفطرة زاد ارتباطى بالإيقاع الحيوى ونبض التكوين البشرى مع نبض الطبيعة، ومن ثمّ استحالة التكامل البشرى، فى أعلى مراتب الصحّة النفسية منفصلا عن التكامل الجدلى مع الطبيعة.
فإذا أضفنا إلى ذلك تأكيد الإسلام على ضرورة اليقي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تبادل الأقنعة (دراسة فى سيكولوجية النقد) للدكتور يحيى الرخاوى
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» دراسة عن الشعر النبطي - دراسة تحليلية وتاريخية
» درس عن نظم الحكم, للدكتور يحيى الجمل
» رقصة سيكولوجية
» سيكولوجية الأمومة
» الكتاب الصوتى : سيكولوجية الجماهير للفرنسى جوستاف لوبون

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الشاعر عبد القوى الأعلامى :: المنتديات الأدبية :: المنتديات الأدبية :: منتدى الدراسات النقدية والبلاغة-
انتقل الى: