عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17865 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| موضوع: قراءة نقدية في ديوان إبراهيم زولي الأخير 8/10/2009, 05:32 | |
| الأجساد تسقط في البنفسج : حضور الدال .. غياب المدلول
بقلم جبريل سبعي .
أحب أن أشير في هذه المقدمة إلى شدة ممانعة النص في ديوان " الأجساد تسقط في البنفسج " للشاعر القدير إبراهيم زولي ، ذلك أن لغة هذا الديوان نسجت على نحو مختلف ، وليس من اليسير أن يتآلف معها المتلقي من القراءة الأولى ، وإنما سيجد نفسه محتاجا إلى إعادة القراءة مرة بعد مرة ، حتى تتكشف له بعض الخفايا ، ويصبح في مقدوره أن يمد مع تلك اللغة جسورا من الفهم والألفة . وفي الحقيقة فقد احتجت في تعاملي مع " الأجساد تسقط في البنفسج " إلى مزيد من الوقت والجهد ، حتى أظفر بما جئب به في ورقتي هذه .
ليس النص الغائب : لا أريد أن أتحدث عن منهج هذه القراءة ، الذي ينتقل من التفسير إلى التحليل إلى التأويل ، ولا عن المنطلقات الجمالية التي ليس أهمها فكرة التطابق التام ما بين المتخيل والملفوظ ، ولا عن الآليات التحليلية التي من أبرزها استنطاق الديوان بأكمله ، وبحث ما هو مكرور ومتواتر .
ما أود الوقوف لديه قليلا هو مفهوم " الغياب " الذي تضمنه عنوان هذه القراءة فلست أقصد بالغائب المصطلح النقدي المعروف بـ " النص الغائب " الذي تُعاد كتابته تناصّياً في نص جديد ، فالغائب في ورقتي هذه ليس " هو المصدر الذي يستقي منه النص الجديد المادة الأولية لإنتاجه ، ويتضمّن الرموز والإشارات التاريخية والاجتماعية والتراثية المختلفة التي تتوافر في النص الجديد " وليس " هو خلاصة لما لا يُحصى من النصوص الكائنة في الذاكرة أو القابعة في اللاّوعي الفردي أو الجمعي " وإنما مقصودنا بالغائب هنا هو ما كان متصلا بحياة الشاعر ، ثم حينما غاب أحدث معاناة ، وأصبحت هذه المعاناة هي وقود التجربة الشعرية .
تتنوع الأشياء التي تغيب ، حتى لا تكاد تحصر ، وكل شيء قد يحضر أو يغيب ، وتختلف أشكال الغياب ، وكذا آلياته ، فغياب الصديق مثلا إنما هو غياب الإنسان الذي كان يسد احتياجا للتنفيس والبوح ، وهذا الغياب قد يأخذ شكل الغيبوبة ، أو الرحيل ، أو الموت ، وتحققه قد يكون بآلية الابتعاد عبر المكان ، أو التقدم في العمر نحو الخرف ، أو التحول من الصحة إلى العزلة والمرض ، والأهم من ذلك عندما يتمظهر ذلك الغياب في لغة الشاعر ، وعندما يستقطب الرموز والأشياء التي ستشغل بحضورها اللغوي والفني مكان الغائب ، لا سيما أن الظاهرة الشعرية تنطوي " على مرجعين أساسيين : الأول معدوم والثاني موجود " وحيثيات الغياب والحضور ، هي الحياة التي تزخر بها الكثير من التجارب الشعرية الحديثة ، وهي كذلك المادة التي في مقدورها أن تعيد للذات توازنها ، وتخلصها من معاناة الفقد والحنين والحرمان ..
مشاهد الغياب : يعج ديوان " الأجساد تسقط في البنفسج " على نحو ملفت بمشاهد الغياب ، ففي قصيدة " نصفد الهذيان فاتحة " يقول زولي : ( يقايض ما تبقى / من / ممالكه / لكي يبقى وسيما / كالهلال / كأجمل الفتيان / في الحي الترابي / الذي لا يعرف / الرغبات ) والملاحظ أن ممالكه تزول وهو يقايض ما تبقى منها ، وكذلك وسامته تنتهي فيستبقي شيئا منها ، وما ذلك التناقص في الممالك والوسامة إلا شكل من أشكال الغياب .
كذلك في قصيدة " أرتب فوضى الشجيرات " يتحدث الشاعر عن أبيه الغائب ، فيقول : ( هنالك كان أبي / يطعم الليل / والأرق / المتكبر / بعض رغيف / السهر ) إلى قوله يناجي ذلك الأب : ( ليس لي / أحد / يا أبي / فلمن سوف / أفتح صدري / يقاسمني الشاي / بعد الظهيرة / يوقظني للنداء / المقدس في الفجر ) .
وفي النص الموسوم بـ " البنايات " يتساءل شاعرنا عن أولئك الذين غابوا وكانوا قد حملوا الصخور وشيدوا : ( أتأمل / هذي / البنايات / ممهورة بالزبرجد / أسأل أين / الذي / شيدا / والذي حمل / الصخر / عاتقه / للمدى ؟ ) .
وفي قصيدة " غير رمل الطريق " يتحدث زولي عن ذلك الطفل الذي كان يسكن في الحي يشاغب في الليل أحلامه ويفيق ، يقول : ( هو ذا / ي / ت / ك / س / ر / خلف الرغيف / يحيك قميص البلاهة / في / الليل / فيما الملامح / تخرج عارية / باتجاه / الفناء ) .
وهذه شواهد متفرقة سأسردها من غير تفصيل ، وحسبنا أن نعلم أن شغلها واشتغالها إنما هو على موضوع الغياب ، وسأذكر عنوان النص ، ثم أنتقل مباشرة إلى الشاهد :
الجياع ( يجوع الجياع / علانية / يحجب / الظل / أسماءهم )
الساعة يأتي البحر ( تهرب البنت / إلى / وحشتها / لم توصد الأبواب / بالمزلاج لكن / روحها الخضراء / صارت / مطفأة ) .
امرأة ( من تكونين يا امرأة / لا تجيء سوى في الغياب / وعند / احتراق / المواسم ؟ ) ، ( جسدي متعب / نازلا في ظلام المسافة / والعزلة القروية / تأخذني للبعيد / البعيد ) .
ولو أردت سرد المزيد من الأمثلة والشواهد لفعلت ، ولكنني أخشى الإطالة ، ومن المهم أن أشير إلى أن ثلثي قصائد الديوان لا تخرج عن معالجة موضوع الغياب ، من خلال مشاهد مكتملة ، أو إشارات عابرة ، بل إن بعض القصائد كان الغياب هو عمودها الفقري ، كقصيدة " أرتب فوضى الشجيرات " و " البنايات " و " امرأة " و " عندما كنت في الثانوية " و " غير رمل الطريق " .
أشكال الغياب وآلياته : اتخذ الغياب أشكالا عدة منها الرحيل والموت ، وكان يتحقق من خلال آليات متنوعة ، منها " التناقص " كما في " يقايض ما تبقى / من / ممالكه / لكي يبقى وسيما " ومن الآليات " التحول " كما في غياب فرح التلاميذ بتحوله إلى عبوس ، وفي غياب الطفولة حينما يتحول الطفل إلى فتى ، ومن الآليات الحجب ، كما في " يحجب الظل أسماءهم " وكذلك الهروب كما في " تهرب البنت إلى وحشتها " والاحتراق كما في " احتراق المواسم " ، وأيضا يتحقق الغياب من خلال الابتعاد ، والغروب ، والتلاشي ، والاحتجاب ، والخطف ، والأهم من ذلك أن هذه الآليات بعضها يتنفذ على الصعيد الزمني ، وبعضها الآخر يحتضنه المكان ، فـ ( نعش الصبا ) و ( احتراق المواسم ) وتلاشي تاريخ الهباء ، كل ذلك يحدث على مستوى الزمن ، بينما في : ( يا قابعا في الكهوف ) ، ( من خلف جدران الهشيم ) ، ( تهرب البنت إلى وحشتها ) فلا نملك إلا أن نقول بأن المكان هو الظرف الذي على صعيده تتنفذ آلية الغياب ، وكل ذلك سيدعو إلى موقف سلبي يتخذه الشاعر من الزمان والمكان بوصفهما الظروف التي سيتحقق على صعيدها الغياب ، وستأتي عن طريقها المعاناة ، ولهذه الفكرة ما يدعمها في الديوان ، فشاعرنا يقول عن المكان : ( في الحي الترابي الذي لا يعرف الرغبات ) ، ( الشوارع مأوى المجانين ) ، ( الشوارع قفر / بساتين أضرحة ) ، ( جسدي متعب / نازل في ظلام المسافة ) ، ( تخطف الطرقات ظلي ) وهو يقول أيضا عن الزمان : ( لا يستحم الفجر إلا / من خليج الصمت ) ، ( أقرأ التاريخ مكتوبا بحرف أعجمي ) ، ( لماذا الليل يأخذني بعيدا ) ولعل قصيدة " غانية " هي خير مثال لبيان موقف الشاعر من الزمان والمكان معا ، فهو يقول ، وسأذكر النص كاملا : ( تمشي على طرف / الرصيف / تتدافع الكلمات / تجلدها / وليل مالح / غابت ملامحه / يبللها / ينام / ممددا في عينها / كالموت / كالحزن الشفيف / تمشي على طرف الرصيف / تهوي / على / طرف / الرصيف ) فكما أن الزمان / الليل مالح .. غابت ملامحه .. يبلل تلك التي تسير ، وينام ممددا في عينها كالموت ، ليهيئها من خلال الفعل السلبي ( النوم ، الموت ) للغياب فكذلك المكان / الرصيف هو الظرف الذي على صعيده تسقط تلك الغانية ، أو تهوي .
مشاهد الحضور : ولا أنسى فهناك أيضا كانت حفاوة بموضوع الحضور بوصفه أداة التعويض التي ستكفل للذات توازنها ، وهناك شواهد عديدة في هذا الشأن غير أنها أقل من تلك التي موضوعها الغياب ، ومن تلك الشواهد ما جاء في نص " الأجساد تسقط في البنفسج " : ( من فيض لوعته / يجيء مكللا / بالشعر / يصغي للعذوبة / في غناء الحقل / يزهو وحده / كالصالحين ) وفي نص " الساعة يأتي البحر " يقول زولي : ( الساعة يأتي البحر / من نزهته / يرجمه الأطفال / بالحلوى / وبعض الغيم ) ويقول في نص " المزمل بالوحشة " : ( كحصان أتى / من / جبهات / القتال ) إلى أن يقول : ( وجئت على / فرس الريح / مثل الغزاة ) .
وهناك قصائد بأكملها كان موضوعها الرئيسي هو الحضور ، كقصيدة " المزمل بالوحشة " و " رأيتك في ضمد " و " مطر يتخفى " كما إن هناك بعض القصائد آثرت أن تعالج الموضوعين معا كقصيدة " قمر واحد في السماء " ولعلنا نتأمل النص كاملا ، وهو نص قصير ، يقول فيه شاعرنا : ( قمر واحد / في السماء / يحوِّم مثل الفراشة / فوق الخبوت / البساتين / حيطان منزلنا / العالية / - العصافير غافية - / أيها القمر / المتسلل في / الليل / لا أحد في المدينة / غادرها الصحب / من سوف يأتيك / باللهب / القروي / يرمم مائدة / الضوء / يا أيها القمر / المتسلل / ليس طريقك / يا سيدي / من هنا / العناقيد في / شجري / بالية ) ففي حين يحضر القمر متسللا ، يغيب الصحب ، ليحضن المكان ممثلا في الفضاء ، و المدينة ، كلا من الحضور والغياب في لحظة واحدة .
|
|
عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17865 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قراءة نقدية في ديوان إبراهيم زولي الأخير 8/10/2009, 05:33 | |
| تكملة
ما الذي يحضر وما الذي يغيب ؟ بات من الواضح أن الغياب والحضور هما الموضوعين اللذين شكلا روح تجربة " الأجساد تسقط في البنفسج " ومن خلال جدلية العلاقة بينهما تتشكل رؤية الديوان ، وقبل أن أتحدث عن تلك العلاقة ، وعن طبيعتها ، وعن آفاق الرؤية ، وموقف الشاعر من العالم ، يجدر بنا أن نتساءل ما الذي يحضر وما الذي يغيب ؟ أهو الزمان ، أم المكان ، أم الإنسان ، أم القيمة ؟ أم هو غير هذا وذاك ؟ وللإجابة على هذا التقليدي المهم ، قمت بعملية إحصاء مشاهد الحضور والغياب ، لدراستها وتبين ما الذي يحضر أو يغيب فيها ، ولقد برزت في موضوع الغياب أربعة حقول دلالية تمثل أسماء الأشياء التي تغيب ، وأول تلك الحقول مفرداته ( الصبا ، الطفولة ، فرحة التلاميذ ) وثانيها ( الوسامة ، الحسن ، الملاحة ) وثالثها ( الأب ، البنت ، امرأة ، الصحب ، الشاعر نفسه ) ورابعها ( المواسم ، الأوراق ويقصد بها أوراق العمر ) وهذه الحقول يمكن جمعها في حقل واحد يمثل الإنسان في طفولته ، ووسامته ، وقوته ، ومواسم فرحه ، وإذن فالغياب إنما هو غياب الإنسان الطفل ، ولا غرابة فتجربة " الأجساد تسقط في البنفسج " إنما هي تجربة الأربعين . وبالمقابل كانت أسماء الأشياء التي تحضر ، هي : ( المطر ، البحر ، القمر ، حصان ، صباح ) ونلاحظ أنها جميعها تتحدى الغياب بما اتصفت به من الديمومة ، أو تجدد الولادة ، ونلاحظ أن القمر والمطر هي أكثر الأشياء التي كانت تحضر ، وعليه فإن هذه الأشياء هي المعادلات التي يستحضرها الشاعر بدافع الاحتياج ؛ ليستمد منها طفولته ، ووسامته ، وقوته ، ومواسم فرحه ، التي يراها تغيب ولا تحضر .
كيف يتأثر زولي بالغياب ، وكيف يتمظهر ذلك في لغته ؟ أحب أن أقف قليلا لدى كيفية تأثر الشاعر واستجابته النفسية عند تحقق الحضور والغياب ، بوصف ذلك سينعكس حتما في لغته ، ونلاحظ - أول ما نلاحظ - أن زولي لدى الغياب يستغرق في حالة التذكر كما في : ( هنالك كان أبي / يطعم الليل / والأرق / المتكبر / بعض رغيف / السهر ) ، ( عندما كان في الثانوية / .................... / كانت له الأرض سوسنة ) ، ( ألمحك الآن عابرة / شارع الروح ) ، وفي مواضع أخرى ، قد يرد اللفظ الصريح الذي يصف حالة التذكر هذه كما في : ( أذكر ذلك الحسن / المطوق بالرياحين ) ، ( أتذكر الأجساد / تسقط في البنفسج ) ، ( لم يعد يتذكر / ذاك الفتى / غير رمل الطريق / الذي كان في / ثوبه / عالقا ) .
وحينما يعيش شاعرنا فداحة الغياب ، فإنه ينادي ، وهذا شكل آخر من أشكال استجابة الشاعر لموضوع الغياب ، إنه ينادي ما كان غائبا كما في : ( ليس لي أحد / يا أبي / فلمن سوف / أفتح صدري / يقاسمني الشاي / بعد الظهيرة ) ، ( يا بنت قفي شاهدة / كي أجلد الأشجار ) ، ( من تكونين يا امرأة / لا تجيء سوى في الغياب ) ، ( يا مهرة تستحث الغواية والإفك ) ، ( يا زمان الوصل ) ، ( يا أحلى الصبايا ) ، ( أيها الظل يا قابعا / في الكهوف ) .
وأيضا مما يحرض عليه الغياب ، فيظهر كاستجابة لدى الشاعر ، هو التساؤل المرير كما في : ( أتأمل / هذي / البنايات / ممهورة بالزبرجد / أسأل أين / الذي / شيدا ) ، ( لماذا التلاميذ / لا يخرجون / من / البيت / إلا وهم عابسون ؟ / ............. / ............. / من اللص / يسرق / أفراحهم ؟ ) ، ( يجوع الجياع / علانية / يحجب / الظل / أسماءهم / من هو المستبد / الذي يتحكم / في / خبزهم ؟ ) .
وقد يدفع الإحساسُ بالغياب الشاعرَ إلى استحضار الغائب من خلال الفعل المضارع ، وضمائر الخطاب ، كما في قول الشاعر لأبيه : ( ليس لي / غير وجهك من سماوات السكينة / في جنح الليل / يشرق / والعالمين / نيام / نيام ) ، ( من تكونين يا امرأة / لا تجيء سوى في الغياب / وعند / احتراق / المواسم / ألمحك الآن عابرة / شارع الروح / تنتظرين / لقائي ) والألفاظ الشواهد هي : ( وجهك ، يشرق ، ألمحك ، تنتظرين ) وفي المثال المذكور أخيرا خطاب وتذكر ونداء وتساؤل ، وفي الحقيقة فهذه المناحي الأسلوبية إنما هي تمظهرات المتخيل الغائب في الملفوظ الحاضر .
كيف يتأثر زولي بالحضور ، وكيف يتمظهر ذلك في لغته ؟[/size]
عندما يعيش زولي لحظات الحضور فالملاحظ أنه يستقطب الرموز المذكورة سابقا والتي هي ( المطر ، البحر ، القمر ، حصان ، صباح ) لغرض أن يتحد بها الغائب فتتمازج صفاتهما ، ويصبحان شيئا واحدأ ، له ما له من الديمومة والقدرة على الولادة المتجددة ، وبهذا تتخلص ذاتُ الشاعر مما كانت عانته عند إحساسها بالغياب .
ومن الأمثلة على ذلك أنه حينما يتذكر المليحات الغائبات اللاتي كان يعاشرهن ، فإنه في لحظة التذكر يحولهن على المستوى اللغوي إلى مطر ، ليكتسبن من هذا الرمز صفة التجدد والاستمرار ، يقول : ( أنت الذي غسلتك المليحات / وكنت تعاشرهن / كما يحتفي الخبز بالملح / والأرض / بالمطر / الموسمي ) ، ويفعل الشاعر مثل هذا حينما يستحضر أباه ، فيحوله إلى قمر : ( ليس لي / غير وجهك من سماوات السكينة / في جنح الليل / يشرق / والعالمين / نيام / نيام ) ، وفي خطابه للفتى الغائب الذي أتى من الورد المخبأ يقول متخيلا ذلك الفتى قمرا : ( سهرت / سهرت / حتى جئت / ساقتك التعاويذ / التمائم / أنت لي الوهاج / في الظلماء ) ، وفي موضع آخر من الديوان يقول : ( سوف يأتي كما مطر / يتخفى / وراء الضواحي / البعيدة / كالعاشقين ) ، وبناء على هذه الرؤية يقاوم شاعرنا غيابه الشخصي أيضا بكونه قمرا : ( وحده الشاعر / يبقى في الأعالي / صاعدا من خلف / جدران / الهشيم ) .
إضاءات : وإذن نخلص من هذا إلى عدة قضايا مهمة ، أولها أن موضوع التجربة ، تجربة ديوان " الأجساد تسقط في البنفسج " فيما يبدو ، وبحسب ما وصلت إليه هذه القراءة في خطواتها التفسيرية ، هو الغياب والحضور .
وثانيها أن إحساس الشاعر بالغياب ، إنما هو إحساس حقيقي وواقعي ينبع من الظرف العمري ، الذي يعيشه شاعرنا .
وثالثها أن ذلك الغياب ، الذي يدركه الشاعر ، ويعاني وجوده ، يتحقق من خلال آليات متعددة ومتنوعة ، والأهم من ذلك أن هذه الآليات هي في الحقيقة وسائل الزمان والمكان ، أو قل طريقة العالم ، في السلب والتغييب ، لذا نرى شاعرنا يتخذ موقفا سلبيا من العالم ، يتمثل ذلك الموقف في عدم الرضى عن الزمن الذي هو في منظور الشاعر ليس سوى ليل ( لماذا الليل يأخذني بعيدا ) - ولليل حضور ملفت في ديواننا موضوع هذه القراءة - وكذلك يتمثل ذلك الموقف في تشكيل صورة المكان الذي هو على الدوام طرقات وشوارع للسفر والخطف والتغييب ، والملاحظ أن للشوارع أيضا حضور كثيف يجب أن يلتفت إليه ، وأن يدرس .
ورابعها أن إحساس الشاعر بالغياب يتمظهر في أساليب فنية مختلفة ومتعددة ، فعندما يتذكر شاعرنا ذلك الشيء الغائب نجده – أي الشاعر – يقف لدى الغائب واصفا إياه ، وهذا ما يفسر وجود الوصف التذكري – إن جاز التعبير - كملمح سردي في النصوص الشعرية لدى زولي ، وكذلك فمن تلك الأساليب الفنية التي وجودها يمثل استجابة للحظة الإحساس بالغياب ، المناداة ، والتساؤل ، واستحضار الغائب من خلال الفعل المضارع ، وضمائر الخطاب ، وهناك أساليب فنية أخرى أغفلتها لكونها لم تتواتر على نحو يسمح بالحديث عنها كظاهرة لغوية أو أسلوبية أفرزها إحساس شاعرنا بالغياب .
وخامسها أن لحظة الشعور بالغياب شكلت المعاناة التي أرغمت الشاعر على مجابهة الغياب الدلالي باحتضان حضور لغوي وفني ، تمثل في استخدام حروف النداء ، والفعل المضارع ، وضمائر الخطاب ، ثم أخيرا في الرموز الفنية التي لها صفة الديمومة كالبحر أو القوة كالحصان ، أو الولادة والتجدد كالقمر والمطر ، وعند ذلك يصبح الغائب له قدرة اللغة على الحضور الموضوعي ، وقدرة الرمز على قهر الغياب وتحديه ، وعند ذلك أيضا تتحقق للشاعر فرصة الاتزان الشعوري ، والتغلب على المعاناة الغيابية - إذا جاز لنا التعبير – وإلى هنا أجدني ألتقي مع من يعتبر اللغة " وسيلة الإنسان في التعبير أَوجدها لينزل المجهول مرتبة المعلوم ... ويصارع بها قوى النسيان والتكتم وجعل ما وراء الطبيعة معطى طبيعياً موضوعياً " وأنها – أي اللغة - جهاز " مزدوج المرجع أحدهما معدوم والآخر معلوم وأن الكلمات حضور والمعنى غياب " .
ولا يفوتني فلهذه الأفكار أو المقولات ما يدعمها في الديوان ، وربما كانت هي المفتاح الذي سيضيء لنا ما كان غامضا ، أو متناقضا فيما يبدو ، وعليه سنفهم قول شاعرنا : ( من تكونين يا امرأة / لا تجيء سوى في الغياب ) فعندما تحضر المرأة المناداة على مستوى الدال ، فإنها غائبة في الحقيقة على مستوى المدلول ، وكذلك أوراق العمر التي سقطت وغابت ، تحضر الآن في الكلام وإن كانت في حقيقتها غائبة ، يقول شاعرنا : ( تهبط الأوراق / في ماء الكلام / الرحب / في نبض / المغيب ) ومن الأمثلة على ذلك أيضا : ( أقسم المجنون / أن يفتح أسر / الكلمات / فتلاشى كل / تاريخ / الهباء ) ومن الأمثلة على ذلك قول شاعرنا : ( زامر الطرقات / هزته القصيدة / خاشعا في حضرة الكلمات ) وفي هذه الأمثلة جميعها نلاحظ الجمع ما بين الغياب الذي يمثله المدلول ، والحضور ممثلا في الدال .
هذا و أتمنى أن أكون في هذه العجالة كشفت موضوعا مهما من مواضيع التجربة الشعرية في ديوان " الأجساد تسقط في البنفسج " للشاعر القدير إبراهيم زولي ، وأتمنى أن أكون وفقت في عرضي للغياب والحضور في تمظهراتها اللغوية ، والأسلوبية ، والرؤيوية ، والفكر أدبية على أمل ألا تكون هذه القراءة هي الأخيرة ، فالديوان ما زال مكتنزا بالأسرار ، والفنيات ، والرؤى الجمالية الرحبة .
|
|
هويدا رأفت الجندى مراقب عام
عدد الرسائل : 4821 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 10155 ترشيحات : 11 الأوســــــــــمة :
| |
عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17865 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قراءة نقدية في ديوان إبراهيم زولي الأخير 27/10/2009, 09:43 | |
| أختى الغالية هويدا يسعدنى مرورك الطيب واطلالتك الرائعة لا حرمنى الله منها دمتى بكل الخير |
|