قراءة في ديوان "حكاية كرز" للشاعر أحمد البلوشي
بقلم : مسعود الحمداني :
حيانا ترتحل النورس إلينا، واحيانا أخرى نتبعها، نتقصّى مسافاتها، ونرتبك لحضورها، هكذا تأتي القصيدة مسافرة على جناح طائر، تتنفّس الهواء الطلق، والحرية من أقصاها إلى أقصاها، فإنْ قُيّدت أصبحت سجينة الفكرة والصورة والنمطية..والشاعر أحمد البلوشي أطلق عنان الفكرة والقصيدة، مارس معها أجمل لحظاتها، أعطاها من وقته ونزفه، وأسبغ عليها سؤالها اللامتناهي، وارفة كنخيل الأرض، وباسقة كشجرة صنوبر، هكذا هي القصيدة حين ننتهي من قراءتها، أو حين تنهينا قراءتها.
يأتي الشاعر أحمد البلوشي في ديوانه الأول، متوشّحا بتجربة قصيرة زمنيا، ولكنها عميقة وخصبة، تجربة تسندها قراءة واضحة، وثقافة تكاد تطالعك في لحظاتها الأولى، حيث تعطيك ميزة التحلّي بالجمال، ينوّع في إيقاعات قصيدته، وأفكارها، وأوزانها، ولكنها رغم ذلك تحتفظ بوهجها الساطع، ورومانتيكية طرحها، فالأشجار، والعصافير، والنور، والمطر، وغير ذلك من مفردات توحي بالانتعاش والهدوء النفسي، تجدها (ثيمة) حاضرة في معظم قصائده، ولذلك تراها تخترق جدار الفكرة، وتزرع بهجتها الذاتية في متلّقيها.
ربما يحسب لهذا الإصدار تنوّع مصادر ثقافته، وفكرته، فمن المجرّد، إلى المطلق، إلى المحسوس، إلى المعنوي، وهي توليفة تأخذك عبر عوالم المتعة والدهشة، وتجرّك جرّا في أحيان كثيرة للإمساك بخيوطها الرهيفة. خذ مثالا من قصيدة (حرف ومدينة للمطر):
(وأرجع أنا أقلّب أوراقي سفر، وأبعثر أوراقي عطر، يمكن الاقي في الضياع وجه المطر)
فالبحث هنا عن المادي (المطر) هو بحث عن الأمل والحياة، حيث يتحوّل المطر إلى وجه يدّل المسافر على وجهته!!. وفي قصيدة (المطار) نجد صوتا آخر، صوتا يحاكي مادة صماء هي المطار، وكأنه يقف على طلل يحفر في الذاكرة، وهو ما كان يفعله كل شاعر جاهليّ، ولكن اختلف المكان والصورة الشعرية..
مساء الخير يا وجه المطار وبابك الوردي
مساء الطائرة والكرسي الأسود وكوب الشاي
إنّ هذا التداخل في الألوان وتنافرها الظاهر، هو الذي يشكّل سمة المكان، ويهييء المتلّقي لما سيأتي بعده، وهو الذي يدخلنا في التفاصيل الصغيرة لمشهد كلّي وعام.
في قصيدة (أسافر والوهن أوراق) يتضح بشكل أكبر تدرّج نضج التجربة الشعرية لأحمد، حيث يمازج بين العمودي والتفعيلة، بشكل يكاد يصيبك بالإرباك، ولكنّك أمام مقطوعة موسيقية، ووحدة عضوية لا تتجزأ، خذ مثلا:
مسافر في صباحاتك حمام بدربك الفضي
أسافر ما بقى لو تنزفيني غير طعناتك
أسافر بك وانادي يا عيوني..لا كفى غضّي
أبد لا ما وهبتي أي جناح بها سماواتك
ثم ينتقل إلى التفعيلة مباشرة:
واسولف للمسا أوراق
قصيدة وجهها جرحي،
قصيدة بوحها موتي
إنّ هذا الانتقال يمهد له بـ (فرشة) أولية، ليدخل المتلّقي في جوّها، ويجعله يتعايش مع الفكرة، لذلك تسير القصيدة، كوحدة واحدة، تسيطر عليها فكرة الغربة والانتظار، ويتناوب النص بين العمودي والتفعيلة بشكل متّسق، وهارمونية عالية.
ورغم ما تكتنف معظم نصوص أحمد البلوشي من حداثة على مستوى الصورة الشعرية، والشكل الخارجي، نجد أن نصوصا أخرى تتخذ من التقليدية بابها، لذا تجدها ذات صورة نمطية عادية، ولكنها لا تصل إلى درجة النثرية، والتقريرية، خذ مثالا قصيدة (عنا) والتي تتضح فيها قرءاة الشاعر القديمة، وطريقة (الإتباّع) العادية، ورغم ذلك لا تخلو من بيت مدهش كما هو االحال في:
لكن غديتي ساحلٍ قفر أبكيه
همْ ف حياتي صار، مَر بعجاجه
فرغم غلبة النمط التقليدي حتى في البيت السابق إلا أنّ هناك ما يمكن قراءته.
إنّ ثيمة (لغربة والفراق والمعاناة الذاتية والارتحال)هي العناصر الغالبة على القصيدة الجديدة للشعراء الشباب، والتي لا ينفصل أحمد عنها، بل يراها من زاويته الخاصة، ويتمسّك بها في معظم قصائده، ورغم ذلك لا ينسى الوطن، والمجتمع في حكاياته الصغيرة، من بوابة نصوص تراوح بين النمطية والتحديث، للإمساك بطرفي المتلّقي العادي والمثقف في نفس الوقت، وهذا حق مشروع للاحتفاظ بصدى قصيدته الخارجي، ورسم علاقة دافئة بالآخرين خارج النص.
إنّ مغامرة الإصدار الأول مغامرة خطرة، ولكنّها رغم ذلك مخاطرة تستحق العناء، وهذا ما يفعله الشاعر أحمد البلوشي، والذي يركب سفينة السندباد، عارضا تجربته الأولى، وبداياته التي تستحق القراءة والمتابعة، والتي بالتأكيد ستصقلها الأيام، وتزيدها قوة وصلابة ووضوحا. أتمنى للشاعر أحمد البلوشي كل توفيق وتألق، وهو بلا شك أحد الأصوات الشعرية الشابة التي سيكون لها شأنها مستقبلا، وهذا ما يثبته هذا الديوان. .