الغزو الفكري : تعبير دقيق بارع ، يصور خطورة الآثار الفكرية التي قد يستعين بها كثير من الناس ، لأنها تمضي بينهم في صمت ونعومة ، مع أنها حرب ضروس لا تضع أقداها حتى تترك ضحايا بين أسير ، أو قتيل ، أو مسيخ ، كحرب السلاح وهي أشد فتكا ً .
(( وهذا التعبير على حداثة مباه إلا أنة قديم المداول والمعنى ، وتتفاوت الأمم والجماعات فيه من حيث الدرجة لا النوع ذلك لأن الجماعات البشرية تعيش أبدا ً متنافسة في سبيل هدف ما : كالاعتقاد حقا ً أو باطلا ً وكالتفوق المادي أو الأدبي ، وحب السيادة والاستئثار بالمناخ )) د . عبد الستار فتح الله سعيد ، الغزو الفري والتيارات المعادية للإسلام ، ص 20 .
وتبذل كل أمة غاية جهدها لكسب هذا الصراع باليد والسلاح ، أو بالفكر واللسان ، أو بأي من أنواع المؤثرات الأخرى التي زينت للناس ، كالمال هدية أو رشوة ..... الخ .
(( الغزو الفكري )) واحد من شعب الجهد البشري المبذول ضد عدو ما لكسب معارك الحياة منة ، ولتذليل قيادة ، وتحويل مساره ، وضمان استمرار هذا التحويل حتى يصبح ذاتيا ً إذا أمكن ، وهذا هو أقسى مراحل الغزو الفكري بالنسبة للمغلوب ، وإن كان – في نفس الوقت – هو أقصى درجات نجاح الغزاة .
وسلاح هذا الغزو هو : الفكرة ، والكلمة ، والرأي ، والحيلة ، والنظريات ، والشبهات ، وخلابة المناطق ، وبراعة العرض ، وشدة الجدل وتحريف الكلم عن مواضعه .
(( ويتميز الغزو الفكري بالشمول والامتداد ، فهو حرب دائمة ، لا يحصرها ميدان ، بل تمتد إلى شُعب الحياة الإنسانية جمعياً ، وتسبق حروب السلاح ، وتوابعها ، ثم تستمر بعدها لتكسب ما عجز السلاح عن تحقيقه ، فتشل إرادة المهزوم وعزيمته حتى يلين ويستكين ، وتنقض تماسكه النفسي حتى يذوب كيانه ، فيقبل التلاشي والفناء ، أو يصبح امتدادا ً ذليلا ً لهم ، بل وربما تبلغ حدا ً من الإتقان يصل بها إلى الأعماق النفس ، فتقلب معاييرها ومفاهيمها ، وتشكل لها أنماطا ً جديدة في السلوك والأخلاق والأذواق ، إلى الدرجة التي تجعل المهزوم يفخر فيها بتبعيته ، ويراها شرفا ً يستحق الرضا والشكران )) د . عبد الستار فتح الله سعيد ، الغزو الفري والتيارات المعادية للإسلام ، ص 23 .
ولا نبالغ إذا قلنا أن كل جماعي بشرية ( قبيلة ، أمة ، أو دولة ... الخ ) قد عرفت هذا اللون من الغزو ، وأستخدمه في سبيل كسب معارك حياتها الاجتماعية و الاقتصادية ، بل والعسكرية ذاتها .
ينبغي التنبيه إلى الفارق الخطير بين العلوم والثقافات فالعلم الذي يأتي نتيجة التجارب الصادقة ، والنظر الصحيح أمي يتأثر فيه الناتج بالسابق ، لينقله إلى غيرة بدورة ، والثقافات الفكرية النظرية هي ناج خاص بأمتها ، وقد تكون ضربا ً من الأساطير والخرافات ، أو تكون في أحسن صورها تعبيرا ً عن خصائص أمتها وظروفها ، لا تصح لغيرها ، بل ربما كانت أفسد ألأشياء لغير قومها وبيئتها وقد جمع الإسلام – بفضل وجهته العالمية – عباقرة الأمم في مستوى واحد ، فتضافروا على أخراج حضارة زاهرة ، واستفادوا من علوم السابقين بقدر ما أفادوا الدنيا بعد ذلك ، ولكن المسلمين دخلوا في مرحلة ( الجمود الحضاري ) الذي ظهر فيهم بوضوح في القرن العاشر الهجري وما تلاه نتيجة عوامل كثرة مثل : الاستبداد السياسي ، والمظالم الاجتماعية ، وإهمال التبصر و النظر و علوم الحياة ، مما عطل فيهم روح الابتكار ، وأفقدهم نزعة الحركة والتجديد ، وأفقدهم عن الاجتهاد والتفتح ، وجعلهم وقوفا ً في أماكنهم يجترون أثار حضارتهم القديمة ، و يدورون حول إرثهم العظيم ، ينفقون منة ، ولا ينمونه مع حاجات الحياة المتجددة ، حتى وصل الأمر إلى درجة احتقار ودراسة التواريخ ، ومراعاة البلدان والأقاليم ، وعدى ذلك بدعة في الدين ، أو مضيعة للوقت في عبث عقيم . ومن الناحية العلمية أدى هذا إلى ركود الفكر وخمول حركة النظر والبحث ، والاجتهاد .
وقد برعت الحضارة الغازية في أساليب الغزو الفكري وتأصيل المناهج الضالة ، وعرضها عرضا ً مغريا ً ، واستخدام تجارها العلمية وطرائقها الحضارية في تزيين ذلك وتدعيمه ، وحتى لتعد وسائل الأمم والحضارات السابقة فنونا ً ساذجة إذا قيس بما استخدمته – ولا تزال تستخدمه - الجاهلية المعاصرة من فنون المكر والخداع والتظليل ،و التي تقف وراءها أجهزة مدربة لتأصيلها ، وفلسفتها ، والتخطيط لها ، وإعداد برامجها ومناهجها ومتبعتها بالتنفيذ والرصد والتعديل ، و هذا الغزو المنظم المدروس يستخدم القصة ، والتمثيلية ، والمريح ( السينما ) ، والإذاعات بأنواعها ، والكتب و المجلات والصورة والمقالة .
ولقد كانت نتائج هذا الغزو - فعلا ً ضارية ومروعة ، إذ نجحت في تنشئة الأجيال على حب الغرب والتبعية العميقة في مناهجه وأساليبه ( وطريقة عيشة ) .
هناك اصطلاحات كثيرة لمعنى الغزو أي دخول بلد عن طريق شيء غريب أو أجنبي فمصطلح الغزو الفكري يعني دخول فكر إنسان أو مجتمع ما فكر وعقيدة للمجتمع أو لزعزعة فكر من الداخل عن طريق وسائل الفكر الأجنبي وأساليبه (( يقصد بالغزو الفكري : الوسائل غير العسكرية التي أتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام ، مما يتعلق بالعقيدة ، وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط وسلوك )) د . محمد قطب ، واقعنا المعاصر . ص 195 .
بدأ الغزو الفكري الصليب للفكر الإسلامي بعدما فشل الصليبون بالغزو العسكري للدول الإسلامية ، وقد أنطلق ذلك الغزو الفكري عن وصية لويس التاسع ، ملك فرنسا وقد أتضح من وصيته أن من أهم أهداف الغزو الفكري ما يأتي :ت
1- تحويل الفكر الإسلامي من منطلقاتة وأهدافه .
2- تزييف عقيدة الإسلام التي تحمل فكرة الجهاد بهدف القضاء على روح الجهاد .
3- تحويل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملات صليبية فكرية ، سلمية تستهدف تدمير الإسلام و أهلة .
4- تفريغ علماء صليبين لدراسة الحضارة الإسلامية ليأخذوا منها السلاح الجديد الذي يغزون بة الفكر الإسلامي .
وقد تطورت الأهداف الكبرى للغزو منذ لويس حتى الآن إلى الآتي :ـ
1- كل الهدف هو تدمير المسلمين ولم يفلحوا في ذلك .
2- تحويل الهدف إلى إخراج المسلمين من إسلامهم ، كي يبقوا بدون دين وتتلقفهم الأديان و الاتجاهات الأخرى .
3- تم تحويل الهدف أخيرا ً إلى إخراج المسلمين عن فكرهم دينا ً وعقيدة وسلوكا ً وإبقاء الدين عندهم عبادة وتراثا ً وبركة وهو ما نجحوا فيه الآن وهو التيار العلماني في جميع شئون الحياة أي أن الدين لا يدخل في أي شأن من شئون الحياة السياسية أو الاقتصادية أو التعليمية أو العملية و العسكرية ..... الخ .
بعد خروج المستعمرين من البلاد العربية والإسلامية وإيجاد الجيل العلماني و الأنظمة العلمانية في العالم الغربي والإسلامي ، أصبحت أهداف المستعمرين تنحصر في الأتي :،
أولا ً :- أهداف الغزو الفكري و العسكري :
إضعاف الأمة في مجالات الحياة عندما شعر المستعمرون الصليبيون بخروجهم المحتوم من البلاد العربية و الإسلامية في منتصف هذا القرن وصنعوا خطة تهدف إلى أن تبقى الأمة الإسلامية ضعيفة تابعة للغرب ، كما تهدف الخطة إلى إبقاء وجودهم العسكري في المنطقة ولكن غية منظور ومشاهد أمام الشعوب حتى لا يثير الاستنكار والثورات على الحكام بعد نيل الاستقلال ، وهي المرحلة التي سميتها بالحرب الصليبية الخامسة ومن أهداف هذه المرحلة الآتية :ـ
1) إضعاف الأمة الإسلامية العربية عقائديا ً عن طريق الفرق والطوائف .
2) إضعاف الأمة العربية والإسلامية فكريا ً عن طريق التيارات الفكرية .
3) إضعاف الأمة الإسلامية والعربية تعليميا ً عن طريق أنظمة التعليم .
4) إضعاف الأمة الإسلامية والعربية ثقافيا ً عن طريق أجهة الثقافية و الإعلام .
5) إضعاف الأمة الإسلامية والعربية اقتصاديا ً عن طريق القروض والديون .
6) إضعاف الأمة الإسلامية والعربية عسكريا ً عن طريق الحروب والاضطرابات .
7) إضعاف الأمة الإسلامية والعربية تضامنيا ً عن طريق الصراعات .
يقول أحد المسئولين من وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952م إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدا ً مباشرا ً عنيفا ً هو الخطر الإسلامي ، ثم يقول (( فلنعط هذا العالم ما يشاء ، ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني ، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة وتحرر العملاق من عقدة عجزة الفني والصناعي وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً واهما ً ينتهي بة الغرب ، وينتهي معه دورة القيادي في العالم )) . سعيد حوى ، جند الله ثقافة وأخلاق ، معتوق إخوان بيوت عام 1971م ـ 21 .
ويقول مورو بيرجر في كتابة ( العالم العربي ) : (( لقد ثبت تاريخيا ً أن قوة العرب تعني قوة الإسلام ، فليدمروا العربي ليدمروا بتدميرهم الإسلام )) طلال العالم ، دمروا الإسلام وأبيدوا أصلة ، ص11 .
وخلاصة ما قد سلف ، أن الغزو الفكري داء يجب تشخيصه ومعرفة أسبابة ومضاعفاته ، حتى يمكن تطبيب هذه الأمة على بصيرة ، ووصف الدواء الناجح لها , لذا نحن نختم هذا التحليل ببعض المقترحات ، ومنها :ـ
1- دعوة أصحاب الاتجاه الإسلامي – على اختلاف مواقعهم – إلى العمل الجاد لإبراز ( خطة بديلة ) في مجال التربية والتعليم ، والفكر والثقافة ، يمكن بواسطتها إعادة صياغة الفرد المسلم ، والبيت الإسلامي ، والأمة الإسلامية ، وفق معايير الإسلام . وأساس هذه الخطة / أخذ الإسلام مأخذ ا ً شموليا ً باعتباره منهاجا ً كليا ً كاملا ً للحياة ، أي من حيث هو عقيدة وشريعة ونظام وروح هذة الخطة : تربية الأجيال على الاعتزال المطلق بدينها و استشعار عظمته وسموه .
2- ضرورة إبراز مادة علمية دراسية جديدة باسم ( الغزو الفكري ) أو ما شاكلة من الأسماء ، تشرح دور هذا الغزو وتاريخه ، وظروفه ومدى تأثيره في حياة المسلمين المعاصرة : فكريا ً وقانونيا ً .
3- دعوة المتاب والأدباء والقصصيين الإسلاميين ، وأمثالهم إلى التركيز على إبراز هذا لجانب ، بمختلف القنوات حتى لا يحدث تيارا ً مضادا ً لآثار الغزو الفكري ، كاشفا ً دورة التخريبي المدمر .
4- ندعو المؤسسات الإسلامية كالجامعات والهيئات إلى تنظيم هذا وإخراجه إلى حيز الوجود .