تبقى النفس الإنسانية سراً من الأسرار التي تمنح الشخص إيماناً راسخاً بعظمة هذا الخلق وتفرده مع كل اكتشاف جديد يعلي من شأن التفكر فيها، فدقائق صنع المولى عز وجل عظيمة متناسقة، فمع كل ما اكتشف عنها طبياً وعلمياً يبقى هناك المزيد والمزيد مما لم يكتشف بعد، ولذا كان الإنسان شغوفاً متحفزاً وهو يطالع بين فينة وأخرى سراً من أسرار هذه الاكتشافات، ولعل من هذه الأسرار التي لها تأثيرها في بني البشر ما يتعلق بقواهم وقدراتهم وما يمكنهم أن يفعلوه لأنفسهم وللآخرين. من هنا حرص كثيرون ممن يبحثون عن معرفة أنفسهم أولاً وفهم الآخرين ثانياً على تتبع كل ما من شأنه تقديم كشف أكثر لهذا اللغز الرباني الكبير، وكانت البرمجة اللغوية العصبية NLP مما يفي ويقوم بتلبية هذا المطلب، وتلقفها الكثيرون هنا كما تلقفها قبلنا العالم بغية الاستزادة والتعرف أكثر وأكثر عن كنه النفس الإنسانية، وبغية الخلاص إلى النفس أو إلى الآخرين من الآلام الناشئة عن إحباطات الحياة وصعوباتها.
وهنا في "مجلة الجزيرة" نفتح صفحات هذا العلم الجديد على بلادنا والذي أخذ حيزاً من الاهتمام سواء على صفحات الإنترنت أو من خلال الأرقام الكبيرة التي التحقت في دوراته المتعددة، وذلك من خلال عدد من المختصين في البرمجة ومن التحقوا فيها بدورات متنوعة بتنوع مستوياتها.
ظهر هذا العلم في العام 1975م على يد عالمين استطاعا أن يرسما الخطوات الأولى لهذا العلم، الأول هو عالم الرياضيات "ريتشارد باندلر" والثاني عالم اللغويات "جون جرندر" مستفيدين في ذلك من تجارب قام بها الطبيب النفسي الكبير "ميلتون اريكسون" والدكتورة "فرجينا ساتير" من خلال مراقبة طرقهم العلاجية، وغيرهما من علماء اللغويات وعلم النفس.
فقد بدأ الاثنان اكتشافهما من خلال السؤال الذي قادهما لاكتشاف العلم وهو "كيف يكون لفرد مهارة دون الآخر رغم الاتفاق في البيئة والظروف"؟ فكان اهتمامهما ب"كيف" أكثر من اهتمامهما ب"ماذا"، وبدآ بمراقبة سيرة الناجحين والعظماء كما راقبا عن كثب الدكتور ميلتون اريكسون وكيفية علاجه للآخرين، وكذلك راقبا طريقة فرجينا ساتير في العلاج النفسي، مركزين على كيفية الأداء، حتى قاما في العام 1975م بتأليف كتابهما وهو من جزأين والذي اعتبر أول كتاب في علم ال"NLP".
علم البرمجة اللغوية العصبية: أسس وأهداف
وضع العلم اهتمامه بشكل كبير على اكتشاف الإنسان لنفسه وقواه الحقيقية وما يملكه من قدرات خارقة يستطيع معها أن يغير من أنماط حياته سلوكاً وتفكيراً.
اهتم العلم بكشف اختلاف الناس في التفكير والسلوك والإحساس، واختلافهم في الاهتمامات وغيرها، وتوصل إلى أنه بالإمكان ان "تقود" الآخرين بعد ان "تجاريهم" بأن تفهمهم بشكل تام.
العلم يستهدف كل من لديه رغبة في التغيير والتطوير وتغيير نمط حياته للأحسن، ويستفيد من ذلك في الغالب من يحتاجون للاختلاط والالتقاء بالمجموعات، من المربين أو رجال الأعمال.
رصد العلم الحالات الذهنية للإنسان واستطاع التعرف عليها، وتغييرها من حالات سلبية إلى حالات إيجابية.
أفاد العلم في علاج عدد كبير من الحالات، مثل الفوبيا والاكتئاب والوهم والصرع وغيرها.
درجات البرمجة العلمية:
تنقسم مراتب البرمجة اللغوية إلى "دبلوم" ومقرر له 30 ساعة، و"ممارس" ومقرر له ما بين 70 80 ساعة و"ممارس أول" ومقرر له 120 ساعة، و"مدرب" ويشترط للحصول عليها الانتظام في دورة لمدة 21 يوماً، و"مدرب أول" ويشترط للحصول عليها الانتظام في دورة وتقديم مشروع مفيد ومتميز للبرمجة، ومحليا يوجد الآن شخصان يحملان صفة المدرب الأول، وخمسة أشخاص يحملون صفة المدرب بينما يصل عدد من يحملون مرتبة ممارس أول إلى أكثر من 500 شخص، ومن يحملون الممارس والدبلوم يقدرون بالآلاف. وحسب الأرقام فإن أكثر الملتحقين بدورات البرمجة هم من المعلمين ورجال الأعمال، وحسب أحد المدربين فإن نسب المعلمين أو المنتسبين لقطاع التعليم الذين قام بتدريبهم يفوقون نسبة 90%.
بعد البداية
كأي علم ناشئ، اختلف مؤسساه في بدايته وافترقا مؤسسين لكل منهما مدرسته المستقلة والتي انسحبت فيما بعد على متبعي هذا العلم، حتى ان الخلاف نشب بين باندلر وزوجته، والخلاف لم يكن في منهج العلم، ولكن كان في الرغبة في احتكاره والتفرد فيه، ومع انتشار العلم عالمياً أنشأ روبرت دلتس جامعة البرمجة اللغوية العصبية GTC، كما نشأ اتحاد عالمي يمثل مرجعية لتصديق الشهادات والاعتراف بها والمتمثل في الNLPTA والذي ترأسه وساهم في تأسيسه وايت وود سمول، ثم أنشأ الدكتور ابراهيم الفقي أثناء اقامته في كندا ما عرف بالاتحاد الكندي، وكان للدكتور ابراهيم الفقي اليد البيضاء في التعريف الأولي بهذا العلم من خلال دوراته التي ألقاها في المملكة او الكويت في بدايات العام 1998م، تبعه في ذلك مراكز أخرى متخصصة في بعض دول الخليج العربي.
محلياً كان للدكتور محمد التكريتي قدم السبق في التعريف بهذا العلم من خلال كتابه الذي عرف بهذا العلم لأول مرة "آفاق بلا حدود" مما دفع مجموعة من الأكاديميين السعوديين وعددهم 13 شخصاً لمخاطبة د. محمد التكريتي لتنسيق لدورة في هذا العلم استضافتها العاصمة البريطانية مقر إقامته، ومنها بدأ عدد من هؤلاء الأشخاص في إقامة دورات لهذا العلم في عدد من مناطق المملكة.
ولأن الصورة لم تكن واضحة آنذاك لكثيرين ممن أحبوا التعرف على هذا العلم فقد أخذه بعضهم تبعا للاتحاد الكندي من خلال د. الفقي، وبعضهم أخذه من خلال مدرسة باندلر وبعضهم تبعا لمدرسة قرندر، ورغم أنه لا خلاف في أساسيات هذا العلم، إلا ان التميز كان لمدرسة قرندر التي تمنح بموجبها شهادات من الاتحاد العالمي للبرمجة اللغوية العصبية.
الدورات
كانت تقام وفي فترات متقطعة دورات لمرحلة "الدبلوم" في هذا العلم، وكانت قليلة جداً ومحدودة بأسماء متفق عليها سلفاً، ولكن ومع انتشار الانترنت وسهولة التواصل أصبح بالإمكان الإعلان عن هذه الدورات، وقامت منتديات متخصصة تشرح وتؤصل وتناقش هذا العلم، مما ساهم بالتحاق كثيرين فيها بغية تحقيق ما تعد به الإعلانات من خلال الوصول بالمتدرب للتميز في حياته العملية والوظيفية والأسرية، وقدرته على معالجة عدد كبير من السلوكيات الخاطئة، والقضاء على حالات متعددة من الاكتئاب والقلق والرهاب وغيرها.
اللقاء الأول
السؤال الذي طرحناه على مجموعة كبيرة من مدربي البرمجة اللغوية العصبية ومتدربيها هو عن الكيفية التي علموا من خلالها لأول مرة عن البرمجة، ويشير المهندس سمير بنتن "مدرب أول" إلى أنه علم عن البرمجة قبل أربع سنوات تقريباً من خلال دورة ألقاها المحاضر العالمي ابراهيم الفقي في المملكة، فيما يشير الأستاذ عبدالرحمن الفيفي إلى أنه تعرف عليها بعد قراءته لكتاب "آفاق بلا حدود" لمحمد التكريتي وهو ما قاده لاحقا للالتحاق بدورة ويوافقه في ذلك عبدالمحسن الزهراني والمدرب عبدالسلام الحمدان الذي أضاف أنه طبق عدداً من تقنيات البرمجة إثر قراءته للكتاب في ذات الليلة، بينما يرى الدكتور سلطان الحازمي "أستاذ لغويات تطبيقية بجامعة الملك خالد" أن تخصصه في اللغويات جعله يهتم بهذا العلم خصوصا أن جزءاً منه قائم على الجانب اللغوي مشيراً إلى أنه حضر دورة تعريفية قصيرة منه في العام 1996م في بريطانيا.
مدارس البرمجة
أدى التنوع في مدارس البرمجة إلى ظهور "خلاف" بين مؤسسيها وامتد الخلاف حتى يومنا الحالي، ويرى المهندس "سمير بنتن" أن البرمجة تنهل جميعها من محتوى علمي واحد وعلى أساس هذه المفاهيم بدأت مدارس البرمجة تدرب هذا العلم، ونفى أن يكون هناك خلاف في تقنيات العلم ولكنه أرجع الخلاف إلى الخلاف في مفردات المنهج، بسبب الاختلاف في المعايير من مدرسة لأخرى وشخص لآخر فبعضها اتجه لهدف ربحي مادي، ولذا بدأوا يتنازلون عن المعايير العلمية ويقدمونها بمعايير أقل، لكن تظل نواياهم للعلم كعلم وللمعرفة كمعرفة، لكنها تأثرت بتقليص الأيام، فيما يرى الأستاذ "علي شراب" أن الاختلاف أثمر بلا شك عن خلاف وهو بدوره أثر على سمعة البرمجة في الخارج، فنحن مما نعلمه وجوب أن نحترم الآخرين بأخطائهم وعيوبهم سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وينبغي أن ننظر إلى الأهداف والوسائل، ونحن إذا وقعنا في هذا المطب الاختلافي سيقلل من مصداقيتنا أمام الآخرين، فيما يرى المدرب "أيمن حداد" أن الاختلاف ظاهرة صحية لأي علم خصوصاً علم البرمجة فهو مهارة إنسانية والمهارات يكون المنطق فيها تعدد الآراء.
المدرب العربي
وعن الإضافات التي تحسب للمدربين العرب في هذا المجال خاصة وأنه كان غربي المنشأ، يقول المدرب "سمير بنتن" أنها وإن كانت محدودة فهي مثمنة وجوهرية من حيث أنه بدأ ينطلق في مساحات الحركة في هذاالعلم من خلال الهوية العربية والسمت الإسلامي، فيما يرى المدرب "أيمن حداد" ان المدربين باختلاف طاقاتهم مازالوا في طور التعلم وهذا من باب الاعتراف أن ما نحن بصدده هو علم يجب أن يحترم ويدرس بشكل كاف لكن هناك ما يمكن أن يضاف، ويضيف الأستاذ عوض مرضاح أن المدرب العربي بذل جهده في التعليم والتدريب بما يتوافق وقيمنا وعاداتنا، ورأى الأستاذ عبدالسلام الحمدان أن أهم ما أضافه المدرب العربي هو اللمسات الإيمانية وربط العلم بالشواهد الشرعية من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية، لكن يجب أن يكون دون أن يلجأ لتعسف النصوص لتأكيد نظرياته، فيما عدد الأستاذ علي شراب جهود عدد كبير من المدربين العرب الذين أفادوا في نشره وترسيخه كإبراهيم الفقي ود. صلاح الراشد ود. نجيب الرفاعي مشيرا إلى أنهم صبغوا العلم بالصبغة الإسلامية.
وعن أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها المدرب العربي يقول المهندس سمير بنتن أن أهم شيء هو المعرفة والإلمام الجيد بهذا العلم حتى يتكلم عن دراية تامة بما يقوله للناس، والأمر الآخر الالتزام بالمعايير، مشيداً بكفاءة المدرب العربي من حيث الإمكانات وتميزه وأنه يتكلم من خلال لغة ولهجة صادقة فيما يعلم الناس