اللباس والفطرة
سُمي الإنسان بشرا لتميزه ببشرته، قال الله تعالى {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} (ص، 71) والبشرة: ظاهر الجلد، وجمعها: بشر وأبشار، وعبَّر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر، بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر، واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع[1]. وتجرُّد بشرة الإنسان عن الكساء الطبيعي يجعلها محتاجة إلى الكساء الذي يجتهد الإنسان في الحصول عليه وارتدائه، ذلك أنَّه المتفرِّد من بين المخلوقات بالعقل، والعقل مقتضى التَّكليف، وتفرُّد الإنسان به عن سائر المخلوقات مظهرٌ من مظاهر تكريم الله تعالى إياه، وإيراد التَّكليف بصيغة الإنزال بقوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} (الأعراف، 26) يفيد التمنُّن والتفضل من الله على عباده، لذا على كل عاقل أن يعيَ أهميّة اللباس بعيدا عن كلِّ قول أو فكر يقلِّلُ من أهميته.
فاللباس إذن مطلبٌ فطريٌّ في الدَّرجة الأولى، كما أنَّه مطلبٌ شرعيٌّ؛ ذلك أنَّ الدِّين هو القسم المتعلِّق بالتَّكليف من الفطرة التي هي النِّظام العام الحاكم لكل الموجودات. قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم، 30)
الحكمة من الأمر باللباس
من خلال تدبُّر الآيات المتعلِّقة نستطيع تلمُّس الحكمة من إيجابه على الرَّجل والمرأة على حدٍّ سواء، ويمكننا تقصِّي ذلك في النِّقاط التَّالية:
1_ الانسجام مع الطبيعة: ونقصد بذلك أن لا يكون الإنسان منفردا من بين مخلوقات الله بالتعرِّي، ومن ينظر إلى ما خلق الله من الحيوان فيجدها مخلوقة بالسِّتر الذي وهبها الله تعالى إياه، ولأنَّها دون عقل فقد خلقها الله تعالى مستورةً ممِّا يقيها الحرَّ والبرد، أمَّا الإنسان فيلزمه أن يلبس ما يحفظ به نفسه. قال الله تعالى {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} (النحل، 81) وسرابيل جمع سرْبال، وهو القَمِيصُ، أَو الدِرْعُ، أو كُلُّ مَا لُبِسَ[2]، والآية تلفت النَّظر إلى واحدٍ من وظائف اللباس، وهو الوقاية من الحرِّ، ومثله الوقاية من البرد والتأثيرات الجويَّة الأخرى. وقوله تعالى في نهاية الآية {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} يؤسس للعلاقة بين اللباس والإسلام، وكأنَّه يقول أنَّه شرط الاسلام، بمعنى أنَّه لا يُقبل كون الإنسان مسلما إذا تجرَّد من اللباس. وربما يكون قوله تعالى {لعلكم تسلمون} من السَّلامة، أي أنَّ اللباس يحقِّق لكم سلامة أبدانكم من الحرِّ والبرد والبأس وغير ذلك، وبما أنَّ جذرَ الإسلام هو السِّلم فإنَّ كلا المعنيَيْن محتمل، بل إن أحدهما يدعو إلى الآخر.
2_ كمال اللباس يدلُّ على تحضّر الإنسان، كما أنَّه عنصر جماليّ مهمّ، كما أشار إليه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف، 26) وقد ذكرت الآيةُ وظيفتين للباس، هما:
أ_ تغطية السوءات {لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}. والآية تشير إلى اللباس الداخلي الذي يُقصد منه تغطية السواءت فقط.
ب_ إضفاء المظهر الجمالي الحضاري على الإنسان وذلك بقوله تعالى {وريشا}، وكلمة الريش تدل على اللباس الخارجي الذي يلبسه الإنسان فوق لباسه الدَّاخلي بقصد الزينة.
3_ للباس الساتر دورٌ في الوقاية من الوقوع في فتنة الزنا التي يترتب عليها فساد في العرض والنَّسب. فبعد أن ذكر الله تعالى الحكمة من إيجاب اللباس الساتر في الآية السابقة جاء في الآيتين اللتين تليها التحذير من الفتنة والوقوع في الفاحشة. حيث قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف، 27_28) لقد كان نزع اللباس عن آدم وحواء هدفا مباشرا لإبليس، وهو هدفٌ كذلك لشياطين الإنس ممن يدعون إلى التَّعري والتبرُّج.
المطلوب ستره من الجسم
أمر الله تعالى الرِّجال والنِّساء بحفظ فروجهم، وزاد للنِّساء ضرورة ضرب الخمر على الجيوب وعدم إبداء الزِّينة لغير المحارم بقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور، 31)
الفروج جمع فرج، والفرج: الخلل بين الشيئين[3]. والفَرْجُ: العَوْرَةُ، فَهُوَ اسْم لجَمِيع سَوْآتِ الرَّجال والنِّسَاءِ والفِتْيَانِ وَمَا حَوالَيْهَا، كُلُّه فَرْجٌ، وكذلك من الدَّوابِّ ونحوِها. وَفِي (اللِّسَان) : الفَرْجُ: مَا بَين اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْن[4]
وقد جاءت كلمة الفروج بالجمع بقوله تعالى {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وأقل الجمع بالعربية ثلاثة، والآية تشير إلى وجوب حفظ الفروج، وسترها لازم لحفظها، كما أشار إليه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (الأعراف، 26)
وقد ورد في الآية أمر زائد للنِّساء بضرب الخمر على الجيوب.
والخمار للمَرْأَة: النَّصِيفُ، وقِيل: كُل مَا سَتَرَ شَيْئاً فَهو خِمَارُه، وَمِنْه خِمَارُ المَرْأَةِ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَها، وجمعه أَخْمِرَةٌ وخُمْرٌ، بضمّ فَسُكُون، وقد ورد في الحديث «أَنَّ النبي كَانَ يَمْسَح عَلَى الخُفّ والخِمَار» أَرَادَ بِهِ الْعِمَامَةَ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يُغَطّي بهِا رأسَه، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تغطِّيه بِخِمَارِهَا[5]
والجيب للقَمِيص: طَوْقُه، وجِبْتُ القَمِيصَ بِالْكَسْرِ أَجِيبُه: قَوَّرْتُ جَيْبَه، وجَيَّبْتُه: جَعَلْتُ لَهُ جَيْباً، وَفِي حديثِ عليّ رَضِي الله عَنهُ (أَخَذْتُ إِهاباً مَعْطُوناً فَجَوَّبْتُ وَسَطَهُ وأَدْخَلْتُه فِي عُنُقي). يقال هُوَ نَاصِحُ الجَيْبِ أَيِ القَلْبِ والصَّدْرِ يَعْنِي أَمِينَهُمَا[6]. فالجيوب المذكور في الآية هو ما حول العنق وأعلى الصدر، أي ما يظهر من تلك المنطقة عند لبس القميص الخالي عن القبَّة، والقبَّة قطعة القماش المُقوَّاة التي في أعلى القميص، تُنسج لتجميل مظهره ولتغطية الرَّقبة وأعلى الصَّدر. ولم تكن تُنسج في القِدم لذا كان أعلى الصدر والعنق مكشوفا لا يُستر إلا بخمار الرأس.
وستر الفروج هو أحد معاني حفظها، وهو مطلوب من الرجال والنساء على السواء، وقد زاد للنساء ضرب الخمر على الجيوب كما ذكرنا، أي إسدال غطاء الرأس على ما حول العنق والصدر، ومقصود الآية تغطيتهما. فإن كان القميص ساترا للصَّدر والجيب فحينئذ يكفي أن يغطيَ الخمارُ الرأسَ دون ضرورة إسداله فوق القميص.
لماذا كان التَّستُّر مطلوبا من المرأة أكثر من الرجل؟
وصف الله تعالى المرأة بأنَّها زينة مرغوب فيها بقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران، 14) ولأن بدن المرأة زينة مرغوب فيه كان لا بدَّ من ستره حتى يُدرأ عنه العبث، وليس المقصود من أمرها بالاحتشام صدُّ الرغبة عنها، بل صونها ودفع من يراها من الرِّجال لاحترامها وتقديرها. نفهم هذا من قوله تعالى {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب،59) والمقصود أن يعرفن بالعفة والبعد عن الفاحشة فلا يتعرض لهن أحد بالأذى.
مواصفات لباس المرأة
ورغم أهمية اللباس إلا أنّ الإسلام لم يشرِّع لباسا موحدا ومحدَّدا للمرأة المسلمة، حتى لا يدخلها في حرج عند انعدامه مع وجود البديل، ولا يخفى ما في الأمر الموسع من سهولة بأخذه والتزامه، عدا عن حكمة التَّشريع التي تركت لأمزجة الناس اختيار لباسهم. وقد اهتم القرآن الكريم بلباس المرأة خاصة؛ تحقيقا لمبدئه في حفظها على وجه العموم، فقد خلق الله تعالى المرأة بطبيعة تدفعها للمحافظة على نفسها وعرضها: قال الله تعالى {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء، 34) فالمرأة الصالحة تحفظ نفسها لزوجها فقط دون أن تتوق نفسها لمعاشرة غيره، وذلك بما أودعه الله تعالى فيها من الطبيعة المحافظة على الذّات.
وصونا لتلك الطبيعة المحافظة شرع الإسلام _من جملة ما شرع_ اللباس الساتر الذي ينمِّي فيها روح المحافظة على نفسها كما يدرأ عنها الطامعين والعابثين. وقد وضع الإسلام مواصفات ينضبط من خلالها لباس المرأة. وهذه المواصفات هي:
1_ أن يكون اللباس ساترا لجسدها كاملا غير الوجه والكفَّين، لقوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} فبدن المرأة كله زينة لا يجوز أن يظهر منه إلا ما يظهر غالبا للحاجة إلى ذلك، كالوجه والكفان كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ)[7] وقد أضاف بعض الفقهاء جواز ظهور القدمين لأنَّ مدلول الآية {إلا ما ظهر منها} يشملهما، خاصة للنِّساء العاملات في المزارع والحقول وما شابه.
2_ أن يكون اللباس فضفاضا لا يصف العورة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب،59) والآية تبين العلة من الأمر بإسدال الثياب وعدم لبس الضَّيِّق منها بقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} فمعرفة تفاصيل الجسد من خلال الملابس الضَّيِّقة يؤدي إلى وقوع الأذى بالمرأة. ولا بد من الإشارة إلى أن الكثير من الدراسات العلمية المتعلقة باللباس الصحِّي تحذر من اللباس الضيِّق لأنَّه يتسبب بآثار سلبية على صحة الإنسان.
3_ أن لا يكون شفافا تُرى العورة من خلاله، لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} (الأعراف، 26)، فكلمة {يواري} في الآية تشير إلى ضرورة أن لا يكون اللباس شفافا، ولأن الشرع يأمر بالفعل حقيقة لا مجازا، فاقتضى ذلك أن يكون اللباس ساترا لا يشفّ.
4_ أن يخلو اللباس من التشبّه بالجنس الآخر، ذلك أن الله تعالى خلق الرِّجال والنِّساء بميِّزات جسديَّة مختلفة، فمن الفطرة أن لا يعمد الرَّجلُ للبس ما تعارفت عليه النِّساء، وكذلك المرأة لا تلبس ما تعارف أنَّه لباس للرجال، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه ذمَّ تشبُّه الرِّجال بالنِّساء أو النِّساء بالرِّجال[8]
5_ أن يخلو اللباس من التَّشبه بالكافرين، والتشبُّه المحرم هو ارتداء ما كان خاصَّا بالكافرين ويُعرَفون به؛ كالملابس التي عليها إشاراتٌ دينيَّة لأقوامٍ آخرين كالصَّليب ونحوه. قال الله تعالى بلسان إبراهيم عليه السلام:
{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (العنكبوت، 25)
وعن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه قال: “أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديُّ اطرَح عنك هذا الوثن”[9]
5_ أن يخلو اللباس من مظاهر التَّرف والإسراف، فالمسلم جميلُ المخبر بإيمانه وتواضعه، وهو جميل المنظر بهيئته ولباسه، قال تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف، 32) أما لباس فوق العادة والعرف يعكس جوهرا على عكس مراد الشارع من خفض الجناح للمؤمنين والاقتصاد في النفقة. وهذه المقاصد منصوصٌ عليها بشكل عام، فلا بدَّ أن تراعى في كل مناحي الحياة، يقول الله تعالى:
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر، 88) هذا الخطاب موجه للنبي، ومن باب أولى أن يلتزم به المسلم تجاه إخوانه.
وقال تعالى في الحضِّ على الاقتصاد في الإنفاق: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (الإسراء، 29) وبعد أن أمر بأخذ الزِّينة عند كل مسجد نوَّه سبحانه أن لا يكون ذلك بإسراف: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف، 31)
إظهار المرأة لزينتها
بيّن الله تعالى أصناف الرجال الذين يجوز للمرأة أن تُظهر زينتها أمامهم، وهم زوجها، وبنات جنسها من النِّساء، ومحارمها من الرِّجال، أي الذين لا يجوز لها الزواج منهم على التَّأبيد، وهم المذكورون في قوله تعالى:
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (النور، 31)
ويضاف إلى المذكورين في الآية العمّ والخال؛ لأنهما من محارم المرأة كما بيّنه قولُه تعالى في آية أخرى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (النساء، 23) يُفهم من الآية أنه يجوز للمرأة أن تظهر زينتها أمام عمها وخالها لأنهما محرمان عليها على التأبيد.
ونفهم من مجموع الآيات في الكتاب أن زينة المرأة من حيث ما يجوز ظهوره منها يكون على ثلاث درجات:
الأولى: الزِّينة الظاهرة؛ وهي الوجه والكفَّان، وهذه يجوز أن تظهرها المرأة على جميع الرِّجال دون استثناء، وهو المفهوم من قوله تعالى في الآية السابقة {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور، 31)
الثانية: الزِّينة أمام المحارم، إذ يجوز للمرأة أن تكشف شعرها وأن تتخفَّفَ باللباس أمامهم دون ابتذال أو مبالغة. وهذا المفهوم من قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (النور، 31) ولقوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب، 59).
أما الأقارب الآخرون كأبناء العمّ والعمّة وأبناء الخال والخالة فإنهم أجانب عن المرأة، فلا يجوز للمرأة البالغة أن تظهر عليهم إلا بلباس كامل ومن ضمنه غطاء الرأس، والأجنبي بالنسبة للمرأة هو كلُّ رجل يحلُّ لها الزواج منه أصلا.
الثالثة: الزِّينة الكاملة، وهي جميع البدن، إذ لا يجوز إظهارها إلا لزوجها، وكذلك الزوج لزوجته، وهو المفهوم من قوله تعالى {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لهنَّ} (البقرة، 187)
مخاطر انتشار التبرج والسفور
ولا يخفى ما يتركه عدم الاحتشام من تسريع في وتيرة الفساد الأخلاقي الذي يهدِّد النِّظام الاجتماعيَّ العام. إن انتشار الزنا والعلاقات غير المشروعة المترتِّبة على السُّفور والتبرُّج يؤدي إلى العزوف عن الزواج والهروب من تحمل المسؤولية، مما يؤدي إلى تناقص الأسر المستقرِّة، وبالتَّالي انخفاض نسبة المواليد. وهذا يعني انخفاض نسبة الشباب في المجتمع ليصبح مجتمعا عجوزا منخفض الانتاج، حيث تبدأ الأمَّة حينئذ تصارع في سبيل البقاء.
الخلاصة
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحتاج إلى اللباس، ذلك أنَّه متميِّز ببشرته التي تخلو من الكساء الطبيعي، وهي ميزة اختُصَّ بها من بين الكائنات الحيَّة، وقد كلَّف الله تعالى الإنسان بأن يحفظ بشرته بلبس الساتر من الثياب، وهذا الأمر يلتقي مع فطرته التي تطلب ذلك، ذلك أنَّ كتاب الله تعالى هو آيته المنزَّلة، والكون وما فيه هو آيته المخلوقة، لذا نجد التوازن التَّام بين ما خلق وبين ما أمر به ونهى عنه. وصدق الله إذ يقول في توصيف صدقِ كتابه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء، 82)
[1] انظر مفردات الراغب، مادة بشر
[2] العين للفراهيدي، مادة س ر ب ل
[3] المحكم والمحيط الأعظم المؤلف، مادة ف ر ج
[4] تاج العروس، الزبيدي، مادة فرج.
[5] النهاية في غريب الحديث والأثر ، الجزري ابن الأثير، المكتبة العلمية – بيروت، 1399هـ – 1979م مادة خمر، 2/78
[6] تاج العروس، الزبيدي، مادة جيب وجوب، القاموس المحيط، الفيروزآبادى، 1/70
[7] رواه أبو داوود مرسلا، 3580
[8] رواه البخاري، 5435
[9] رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب سورة التوبة.
المصدر/hablullah
جمال نجم