لماذا يعتقد الناس أن الألمان غير مرحين؟
هناك صورة نمطية معروفة عن الألمان بأنهم شعب لا يعرف الفكاهة
انسابت دموع الفرح على وجهي وصفقت بحرارة حتى أحمرت يداي. لكنني كنت مندهشا من رد فعلي هذا، لأنني كنت أشاهد فنانا كوميديا ألمانيا في برلين في ملهى "كاتش كوميدي"، وكان ذلك موقفا قد يعتبره كثيرون غريبا.
يقدر الألمان بوضوح إظهار روح الدعابة، وهي حقيقة تتضح من خلال الشهرة الواسعة التي حققتها تلك الملاهي الليلية الكوميدية.
وفي الواقع، للكوميديا جذور عميقة في الثقافة الألمانية، وخاصة في ظل تقدير كبير في ألمانيا للسخرية السياسية، بالإضافة إلى كوميديا "سلابستيك"، وهي نوع من الكوميديا يشمل نشاطا بدنيا حركيا مبالغا فيه، وأشهر فناني هذا النوع من الكوميديا هو تشارلي تشابلن.
لكن مع ذلك، حصل الألمان في استطلاع أجري عام 2011 على موقع "بادو دوت كوم" للتواصل الاجتماعي، على المرتبة الأخيرة كأقل الشعوب مرحا، وهو ما يعزز الصورة النمطية التي تُعرف عن الألمان بأنهم لا يعرفون الفكاهة.
لكن نيكول ربلينغر، وهي مدرسة ألمانية لكل من الإنجليزية والفرنسية من مدينة ساربروكن غربي ألمانيا، تقول: "لم أكن أسمع مطلقا عن تلك الصورة النمطية، لكنني أدركت ذلك عند الحديث مع من يتحدثون اللغة الإنجليزية كلغة أم".
وتضيف ربلينغر: "لا أعتقد أننا نعتبر أنفسنا غير مرحين، فأنا عن نفسي أحب الدعابة كثيرا، وخاصة تلك التي تنطوي على سخرية وموضوعات تنتقد الجوانب الاجتماعية".
النكات والجمل الفكاهية التي تستخدم كلمات مركبة من كلمتين أو أكثر تكون أكثر صعوبة على الأجانب في فهما
ما تتحدث عنه ربلينغر له تقاليد قديمة في ألمانيا، حيث يعد استخدام المحرمات السياسية والاجتماعية كأساس للكوميديا مثالا نموذجيا للبرامج التلفزيونية الساخرة، مثل بعض البرامج التلفزيونية التي تشبه اليوم برامج المنوعات، لكنها تزخر بالسخرية السياسية بشكل ملحوظ.
لكن إذا كان الألمان يتمتعون هكذا بروح الدعابة، فكيف ظهرت تلك الصورة النمطية المؤسفة عنهم؟
تعتقد الألمانية نيكولا ماكليلاند، أستاذة اللغويات بجامعة نوتنغهام البريطانية، أن بنية اللغات المختلفة يمكن أن تؤثر على الطريقة التي تستقبل بها الثقافات المتنوعة الفكاهة وكذلك طريقة إنتاجها.
وتقول ماكليلاند إن الدعابة تستخدم في الغالب الغموض في تفسير بعض الألفاظ، وتكوين بعض الجمل من أجل خلق معان بديلة يمكن أن تضيف مكونات كوميدية لموقف ما.
إذ أن بنية اللغة الألمانية تختلف كثيرا عن بنية اللغة الإنجليزية. فالأسماء في الألمانية على سبيل المثال يمكن أن تتخذ ثلاث صور مختلفة من حيث النوع (مذكر، أو مؤنث، أو محايد)، وأربعة حالات مختلفة. كما أن الأفعال تتخذ شكلا من بين العديد من الأشكال المختلفة.
ولذا، فإن المعنى الدقيق لجملة ما يتوقف على الاستخدام الصحيح لنوع الاسم، والحالة التي تتعلق بالمعنى النهائي له، مما يؤثر على طريقة إنتاج الجمل الفكاهية أو الساخرة.
ويعد الأمر أكثر صعوبة في استخدام التورية أو ما يعرف باللعب بالكلمات في اللغة الألمانية مقارنة باللغات الأخرى، لأن قواعد اللغة الألمانية الصارمة تجعل الجملة أقل غموضا.
لكن ما تملكه اللغة الألمانية هو القدرة على خلق كلمات طويلة مركبة من أكثر من كلمة.
فالألمانية لغة من لغات قليلة يشيع فيها استخدام كلمات مركبة، وهي كلمات تتشكل من عدة كلمات فردية أخرى. فكلمة schadenfreude على سبيل المثال، والتي تعني "شماتة"، تتكون في الأصل من كلمتين، وهما schaden بمعنى ضرر، و freude بمعني سعادة (ليكون المعنى: الفرح بضرر الآخرين، أو الشماتة فيهم).
تعتز الثقافة الألمانية بالسخرية السياسية بشكل كبير، بالإضافة إلى الكوميديا التي تعتمد على الحركة المبالغ فيها
وفي غالب الأحيان لا يمكن ترجمة مثل تلك الكلمات المركبة بشكل مباشر إلى لغات أخرى، وبالتالي فإن النكات التي تُستخدم فيها كلمات مركبة لن تُفهم كذلك، ولن تكون مضحكة بالنسبة لغير الناطقين بالألمانية.
ولذا، فإن دقة اللغة الألمانية ربما تفسر السبب في تمتع الألمان الذين يتحدثون الإنجليزية جيدا بقدرة واضحة على الحفاظ على دقة لغتهم الإنجليزية أيضا. وهذه الدقة اللغوية تضيف إلى الانطباع الذي يُعرف عن الألمان بأنهم أكثر جدية من كونهم أكثر مرحا.
ويرى كريستيان باومان، وهو محام من مدينة نورمبرغ أكسبه السفر لبلدان عديدة فرصة التعرف على ثقافات مختلفة حول العالم، أن الاختلافات اللغوية تلعب دورا كبيرا في الصورة النمطية السائدة عن ألمانيا بأنها بلد غير محب للدعابة والمرح.
وفي إحدى رحلاته الأولى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كان يضطر باستمرار إلى ترجمة أفكاره أولا إلى اللغة الانجليزية حتي يتمكن من التعبير عنها بشكل صحيح، حتى عندما كان يريد أن يحكي طرفة أو مزحة.
وكانت النتيجة أن بعض الناس لم يفهموا ماذا كان يقصد، لدرجة أن بعضهم وصل به الأمر إلى اتهامه بالوقاحة بسبب كلامه المباشر والصريح. ويقول باومان: "أعتقد أنه عندما تحاول أن تتحدث من خلال ترجمة الكلام بصورة حرفية من الألمانية إلى الانجليزية، فإنك ستفقد كثيرا من المعنى المقصود الذي يمكن أن يجعل طرفة ما مضحكة بالنسبة للآخرين. وعندما تحاول أن تشرح معنى طرفة ما، فإنها لن تظل مضحكة".
ويعتقد باومان أيضا أن الاختلافات الثقافية تلعب دورا كبيرا في هذا السياق أيضا.
ويقول: "أنت في اللغة الانجليزية تتحدث دائما بلغة مهذبة، حتى لو كنت تنتقد شيئا ما. لكن الأمر مختلف في اللغة الألمانية، إذ أننا نقول ما يدور في عقولنا بشكل مباشر، ولذا، أعتقد أن متحدثي اللغة الإنجليزية لديهم انطباع بأن الألمان أشخاص منطقيون، وغير مهذبين أيضا، (لكنهم مهندسون أكفاء)، ولا يستطيعون أن يمزحوا".
أصبحت النوادي والمؤسسات التي تستضيف العروض الكوميدية تنتشر بصورة كبيرة في ألمانيا
ويتفق الكوميديان الألماني كريستيان شولت-لوه مع هذا الرأي، وقد ذكر في كتابه الجديد بعنوان "إلى انجلترا مع الضحكات"، معبرا عن إدراكه لتلك الصورة النمطية عن الألمان، أن الناطقين بالألمانية صرحاء جدا لدرجة لا تجعلهم مهذبين، وأن الناطقين بالانجليزية مهذبون جدا لدرجة لا تجعلهم صرحاء.
لكن شولت-لوه، الذي يؤدي عروضا كوميدية بانتظام في ملهى "كاتش كوميدي" في برلين، ويجوب دولا عديدة أيضا لتقديم تلك العروض، يقول إن تلك الصورة النمطية عن الألمان تخدمه كثيرا في عمله.فعلى سبيل المثال، عندما يؤدي عرضه الكوميدي في لندن في نادي "توب سيكريت كوميدي" أمام حشد من الجمهور اشترى جميع التذاكر المتاحة، فإنه يفتتح العرض بانتقاده لجنسيته الألمانية، قائلا: "أهلا بكم، أنا كريستيان، وأنا فنان كوميدي ألماني!"
ثم يتوقف أثناء ضحكات المشاهدين وسخريتهم، ويقول بعدها: "يا إلهي، أرى توقعاتكم قد تراجعت، لكن حسنا، ليس أمامي سوى أن أبذل كل ما في وسعي!"
bbc