ليبرالي في غرفة العمليات
يُحكى في قديم الزمان أنَّ رجلاً ما يُسمى ليبرالي دخل غرفة العمليات ليجري عملية جراحية , وقد كانت غرفة العمليات مجهزة بأحدث الأجهزة والوسائل والطرق التي تقود بإذن الله إلى نجاح العملية الجراحية , فهذا هو القناع , وذاك اللباس , وتلك هي الأدوات الجراحية معقمة بأحدث الأدوات التعقيمية , وهناك نظام وقائي شديد الصرامة في طريقة غسل اليدين وطريقة اللباس وطريقة التحرك وغيرها من الأمور حتى يضمن بإذن الله التقليل من مضاعفات وإلتهابات خطيرة لاسمح الله ...
وهذا النظام الوقائي هو استباق واستكشاف للأحداث قبل وقوعها , ونظرة عميقة للمستقبل , ونظرة واقعية لمسببات الأمور ومآلاتها لتنأى بالعملية الجراحية عن معضلات كارثية قد تودي بحياة المريض أو تصيبه بعاهة مستديمة , فالوقاية خير من العلاج ...
وحين نظر الليبرالي إلى ذلك القناع الأزرق أخذه ورماه على الأرض مدعياً أنه من العادات الطبية التقليدية الجامدة , ويتساءل قائلاً : لِمَ هذا الخوف غير المبرر من ميكروبات لاترى بالعين المجردة ...!!
ثم يمزَّق اللباس الطبي المخصص للجرّاح ساخراً منه بأنه لباس يشبه القمامة ولايصلح في عصر العلم والانفتاح ... ويرمق القفزات الجراحية من بعيد , وينظر إليها باستحقار وازدراء , وهو يردد بكل ثقة عنها : وسوسة وتشدد وتنطع لايقبل بها العقل الليبرالي المتفتح ..
ثم أخذ يستخف ويهزأ بنظام التعقيم للجراثيم والميكروبات ويصفه بالنظام المستبد المتسلط زاعماً بأن نجاح العملية الجراحية مرتهن بإطلاق الحريات والثقة الكاملة بجميع الكائنات الحية ومن ضمنها الميكروبات والجراثيم , وأن سياسة المنع لم تعد مُجدية في هذا العصر , وأنَّ مناعة المريض الذاتية كافية في نجاح العملية الجراحية , ولاداعي لكل هذه الوسائل الوقائية , فمن يتجرأ من الميكروبات الضارة على مهاجمة جسد المريض , فسوف يعاقب عقاباً شديداً , ولهذا فيكفي أن نسن نظام وقانون رادع للمتجرأين على الناس ...
وبإزاء هذا وذاك , فنحن أمام منطقين اثنين :
المنطق الأول يتبنى سياسة الوقاية خير من العلاج ويأخذ بمبدأ سد الذرائع المفضية إلى الفساد ...
والمنطق الثاني يتبنى سياسة فتح الحريات على أوسع نطاق , ويكتفي بالمناعة الذاتية ...
والمدرسة الطبية أخذت بالمنطق الأول , وكانت شديدة الحساسية في ذلك , والسؤال هنا :
هل يصح أن نأخذ بغير المنطق الأول في الطب ؟!
وهل يتمنى أحد منا أن يكون ممداً على سرير العمليات , وقد طُبق عليه المنطق الثاني المنادي بالحريات المطلقة والفوضوية فيها ؟
وهل يتمنى أحد منا إذا مُدد على سرير العمليات المزيد من الإجراءات الاحتياطية والاحترازية والوقائية أم سيرضى بأقل القليل منها ؟!
إذن :
1- المنطق الأول هو منطق يتطابق مع العقل الصحيح , والثاني يخالف العقل والواقع ...
والمنطق الأول هو المنطق الذي جاءت به شريعة الإسلام في أحكامها , فحرم الوسائل المفضية إلى الشرك والفساد , وجاء بنظام اجتماعي بديع يستبق الأحداث قبل وقوعها ويحمي ويقي المجتمع بتشريعات عظيمة , فدعى إلى حجاب النساء والمباعدة بين الرجال والنساء قدر المستطاع وغيرها من الأحكام العظيمة ...
2- الليبرالية بمعنى الفوضوية في الحرية والحرية بلا ضوابط ولا قيود , منهج هدام بدليل العقل الصحيح ...
ختاماً ... نخلص من ذلك إلى نتيجة في غاية الأهمية , ألا وهي الانسجام العجيب بين الأمر الكوني والأمر الشرعي مما يدل دلالة قاطعة أن للكون ربا عظيماً حكيماً هو وحده المستحق للعبودية والاذعان والتسليم , وصدق الله ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين )
وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام "تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك "
وأتت عظمة الإسلام أنه جاء بأمر فيه صلاح الدنيا والآخرة والفوز بهما جميعاً ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )
shobohat
د. محمد الحميد