المخلوق لابد له من خالقيحتجّ القرآن على المكذّبين المنكرين بحجة لا بدّ للعقول من الإقرار بها ، ولا يجوز في منطق العقل السليم رفضها ، يقول تعالى : ( أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون – أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) [ الطور : 35-36 ] .
يقول لهم : أنتم موجودون هذه حقيقة لا تنكروها ، وكذلك السماوات والأرض موجودتان ، ولا شك .
وقد تقرر في العقول أنّ الموجود لا بدّ من سبب لوجوده ، وهذا يدركه راعي الإبل في الصحراء ، فيقول : " البعرة تدلّ على البعير ، والأثر يدلّ على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ، ألا تدل على العليم الخبير " . ويدركه كبار العلماء الباحثين في الحياة والأحياء .
وهذا الذي أشارت إليه الآية هو الذي يعرف عند العلماء باسم : ( قانون السببية ) . هذا القانون يقول : إن شيئاً من ( الممكنات ) (( لا يحدث بنفسه من غير شيء )) ؛ لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ، (( ولا يستقل بإحداث شيء )) ؛ لأنّه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه هو .
ولنضرب مثالاً نوضح به هذا القانون :
منذ سنوات تكشفت الرّمال في صحراء الربع الخالي إثر عواصف هبت على المنطقة عن بقايا مدينة كانت مطموسة في الرمال ، فأخذ العلماء يبحثون عن محتوياتها ويحاولون أن يحققوا العصر الذي بنيت فيه ، ولم يتبادر إلى ذهن شخص واحد من علماء الآثار أو من غيرهم أن هذه المدينة وجدت بفعل العوامل الطبيعية من الرياح والأمطار والحرارة والبرودة لا بفعل الإنسان .
ولو قال بذلك واحد من الناس لعده الناس مخرّفاً يستحقّ الشفقة والرحمة ، فكيف لو قال شخص ما : إنّ هذه المدينة تكونت في الهواء من لا شيء في الأزمنة البعيدة ، ثم رست على الأرض ؟ إنّ هذا القول لا يقلّ غرابة عن سابقه ، بل يفوقه .
لماذا ؟ لأنّ العدم لا يوجد شيئاً هذا أمر مقرر في بدائه العقول ، ولأن الشيء لا يستطيع أن يوجد نفسه .
والمدينة على النحو الذي نعرفه لا بد لها من موجد ، والفعل يشي ، ويعرّف بصانعه ، فلا بدّ أن تكون المدينة صناعة قوم عقلاء يحسنون البناء والتنسيق .
ولو رأينا إنساناً انتقل من أسفل بناية إلى أعلاها فلا نستنكر ذلك ، ولا نستغربه ، لأنّ الإنسان لديه القدرة على ذلك .فإذا رأينا حجراً كان في ساحة البناية قد انتقل إلى أعلاها ، فإنّنا نجزم بأنّه لم ينتقل بنفسه ، بل لا بدّ من شخص رفعه ونقله ؛ لأنّ الحجر ليس لديه خاصية الحركة والصعود .
ومن الغريب أنّ الناس يجزمون بأنّ المدينة لا يمكن أن توجد من غير موجد ، ولا يمكن أن تبني نفسها ، ويجزمون بأنّه لا بدّ للحجر من شخص صعد به إلى أعلى ، ولكن يوجد فيهم من يجيز أن يصنع الكون من غير صانع ، ويوجد من غير موجد ، مع أنّ بناء الكون أشدّ تعقيداً وأعظم خلقة ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) [ غافر : 57 ] .
ولكنّ المنكرين عندما يواجهون بذلك بمنطق علمي يخاطب العقل ، لا يستطيعون إلا أن يقروا أو يكابروا .
وبهذا الدليل كان علماء الإسلام ولا يزالون يواجهون الجاحدين ، فهذا أحد العلماء يعرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق ، فيقول لهم : ما تقولون في رجل يقول لكم : رأيت سفينة مشحونة بالأحمال ، مملوءة من الأنفال ، قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة ، ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ، ليس لها ملاح يُجريها ، ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز في العقل ؟ .
قالوا : هذا شيء لا يقبله العقل .
فقال ذلك العالم : يا سبحان الله ، إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر ، فكيف يجوز قيام هذه الدّنيا على اختلاف أحوالها ، وتغيّر أعمالها ، وسعة أطرافها ، وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ ؟! فبكوا جميعاً ، وقالوا : صدقت وتابوا .
هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو الذي تشير إليه الآية الكريمة : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) [ الطور : 35 ] وهو دليل يُرغم العقلاء على التسليم بأنّ هناك خالقاً معبوداً ، إلا أن الآية صاغته صياغة بليغة مؤثرة ، فلا تكاد الآية تلامس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها .
روى البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية ( أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون – أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون – أم عندهم خزائِن ربك أم هم المصيطرون ) [ الطور : 35-37 ] كاد قلبي أن يطير " . (1)قال البيهقي (2) : قال أبو سليمان الخطابي : " إنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية لحسن تلقيه معنى الآية ، ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة ، فاستدركها بلطيف طبعه ، واستشف معناها بزكي فهمه ... " .
واختار الخطابي في معنى ( أم خلقوا من غير شيء ) [ الطور : 35 ] " فوجدوا بلا خالق ، وذلك ما لا يجوز أن يكون ، لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر ، فلا بدّ له من خالق ، فإذ قد أنكروا الإله الخالق ، ولم يجز أن يوجدوا بلا خالق خلقهم ، أفهم الخالقون لأنفسهم ؟ وذلك في الفساد أكثر ، وفي الباطل أشد ، لأنّ ما لا وجود له كيف يجوز أن يكون موصوفاً بالقدرة ، وكيف يخلق ؟ وكيف يتأتى منه الفعل ، وإذا بطل الوجهان معاً قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً ، فليؤمنوا به .
ثم قال : ( أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ) [ الطور : 36 ] وذلك شيء لا يمكنهم أن يدّعوه بوجه ، فهم منقطعون والحجة قائمة عليهم " .
وهذا الذي قرر الخطابي أن الكفار لا يمكن أن يدعوه فائدة ذكره والسؤال عنه قطع الحجاج والخصام ؛ إذ قد يوجد جاحد مكابر يقول : " أنا خلقت نفسي " كما زعم مثيل له من قبل بأنه يحي ويميت ( ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتَاهُ الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أُحْيِي وأميت ) [ البقرة : 258 ] .فماذا كان الجواب ؟ سؤال آخر أبان عجزه وأكذبه في زعمه الأول ( قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) [ البقرة : 258 ] فكانت النتيجة : ( فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظَّالمين ) [ البقرة : 258 ] .
وهنا هَبْ شخصاً قال : " أنا خلقت نفسي " فهل يستطيع أن يزعم أنّه خلق السماوات والأرض ؟! فإذا كان العدم لا يُوجِد سماء ولا أرضاً ، وإذا كانت السماء والأرض لم توجدا نفسيهما ، وإذا كان هؤلاء لا يستطيعون الادعاء بأنّهم أوجدوا ذلك كله ، فإنّه لا بدّ لهذا كله من موجد ، وهذا الموجد هو الله سبحانه وتعالى .
موقف العلوم التجريبية من هذا القانون :
إنّ طاقة البشر وطبيعة المخلوق ، أعجز من أن تحصي مراحل الأسباب مرحلة مرحلة ، وتتابع سلسلتها حلقة حلقة ، حتى تشهد بداية العالم ، ولذلك يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء ، وأعلنت عدولها عن هذه المحاولة ، وكان قصاراها أن تخطو خطوات معدودة إلى الوراء ، تاركة ما بعد ذلك إلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلاء .
لا بدّ للعقل من الاعتراف
ولكنّ هذا اليأس الإنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلاً في ماضيها ومستقبلها ، يقابله يقين إجمالي ينطوي كلّ عقل على الاعتراف به طوعاً أو كرهاً ، وهو أنّه مهما طالت الأسباب الممكنة ، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية ، فلا بدّ لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إثبات شيء آخر يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه ، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء ، وإلا لبقيت كلّ هذه الممكنات في طيّ الكتمان ( إن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل ) .