من عجائب هدايا الملوك والخلفاء
روائع وعجائب من الهدايا نراها حيثما نظرنا في متاحف الفن الإسلامي حول العالم.
فمن الكتب المزينة بالذهب والرسومات والتي صُنعت خصيصاً للأمراء، مروراً بالمجوهرات والمنسوجات والأواني والمستلزمات الشخصية والتحف، وليس انتهاء بالأسلحة والمعدات الترفيهية والقتالية.
كلها قد صُنعت بجودة عالية ليس لتؤدي وظيفتها الأساسية الخاصة بها فقط، بل أيضاً لتضيف عليها وظيفة جمالية مستقلة وقائمة بذاتها، للإمتاع الفكري والبصري.
بل لعل القسم الأكبر من مقتنيات متاحف الفن الإسلامي هي عبارة عن هدايا متبادلة بين أفراد الشعب والأمراء، أو بين النبلاء والأمراء أنفسهم.
المتحف "المفتوح" وهدايا الملوك
إنّ عرض الهدايا للعموم ليس أمراً جديداً، فقد أورد مؤلف كتاب "الذخائر والتحف" خبراً عما يشبه مفهوم "المتحف المفتوح" في عصرنا، أي عرض الأعمال الإبداعية في الهواء الطلق.
ففي عام 896 م، وصلت هدية خاصة إلى قصر الخليفة المعتضد (الذي حكم لعشرة سنوات بين عامي 892/279 و903/289).
كانت الهدية عبارة عن صنم على مثال امرأة لها أربع أيدٍ وعليها وشاحان مرصعان بالجوهر ومعها أصنام لها أيدٍ ووجوه عليها جوهر (كتماثيل الآلهة الهندية)، وذلك بحسب فرات حمدان عبدالمجيد في دراسته "هدايا الخلفاء العباسيين من خلال كتاب الذخائر والتحف للقاضي ابن الزبير".
يقول الخبر بأنّ عمرو بن الليث، الذي كان حاكماً على ولاية "بلاد ما وراء النهر" (وهي أوزبكستان وأجزاء من كازاخستان وقيرغيزستان اليوم)، قد حصل عليها من مدن افتتحها جُنْده في بلاد الهند، وأرسلها للمعتضد.
أعجبت الهدية الخليفة، فأمر بأن تنصب في مجلس الشرطة في بغداد، ليراها الناس، و لُقّبت "شغلاً" لاشتغال الناس بالنظر إليها.
ويُعتبر كتاب "الذخائر والتحف" من أهم وأشمل الكتب المتخصصة بأخبار تبادل الهدايا والتحف، وذكر الكنوز وغرائب المقتنيات، وتوريث الثروات، ونفقات الأموال بالمناسبات السعيدة عند العرب من العصر الساساني إلى العصر الفاطمي، في كامل العالم الإسلامي، من السند حتّى الأندلس.
دوّن الكتاب في القرن الخامس الهجري، وقد ألّفه القاضي الرشيد بن الزبير (من القرن الخامس الهجري)، ولم ُيطبع غير طبعة واحدة، وهي طبعة الكويت عام 1995، ضمن "سلسلة التراث العربي"، وهي سلسلة إصدارات كانت تصدرها دائرة المطبوعات والنشر لدى حكومة الكويت في حينها.
والكتاب قد حققه الدكتور محمد حميد الله، عن مخطوطة وحيدة في تركيا، وراجعه الدكتور صلاح الدين المنجد، كما تم إرفاق ملحق بآخره يتضمن صوراً لتحف وأعمال فنية من العصر الفاطمي.
ولعل تخصيص كتاب لهذا الموضوع منذ ما يقارب ألف عام، يُظهر لنا مدى تقدير العرب لفكرة تبادل الهدايا والإحتفاء بالجوائز. وهذا جزء مكمّل لثقافة الإنسان العربي المشهور منذ القدم بصفات السخاء والجود والكرم.
وقد حرص الإسلام على هذه الصفات، وحثّ على تبادل الهدايا، فقد ورد عن النبي (ص) أنه قال: "تهادوا تحابّوا". كذلك، ذكر كتاب "الذخائر والتحف"، أنه: "كان عليه الصلاة والسلام لا يرد الهدية من أحد، ويكافىء عليها".
أنواع الهدايا
لأن الهدية سفير لكل معاني المودة والتقدير والشكر والاعتذار والثناء، فقد استخدمها العرب لعدة غايات، على سبيل المثال : للتعبير عن المحبة والولاء خاصة بين الأصحاب والأقارب والعشاق والأزواج، أو بهدف التقرب والاسترضاء والتعارف خاصة بين الأنداد.
وقد تكون الهدية للمكافأة على عملٍ حسن فعله المُهدى إليه، كما تأتي أحياناً على أمل الحصول على الجوائز، كالهدايا التي تُرسل للخلفاء والملوك.
وكل تلك الغايات مقبولة في الأعراف العربية، حتى لو كانت الهدية من عدو.
وفي كثير من الأحيان، تكون الهدية على قدر المعطي، لا على قدر المُهدى إليه. نستطيع أن نلاحظ ذلك في الخبر الذي أورده المؤلف، حيث يقول: "أهدى بعض ملوك الروم إلى الخليفة المأمون هدية. فقال المأمون: اهدوا له ما يكون مئة ضعف لها، كي يعلم عز الإسلام ونعمة الله علينا به".
وبعد أنْ تمّ ذلك، كما تقول القصة، سأل المأمون: "ما أعز الأشياء عندهم؟" فقيل له: "المسك والسمّور (حيوان من القوارض ،يُستخدم جلده وفروه)"، فأمر أنْ يرسلوا مع الهدية مائتي رطل مسكاً، ومائتي جلد سموراً، ولنا أن نفهم القصة بشكلها الرمزي.
إلا أن العباس بن علي الرسولي الغساني قد تبنّى بروتوكولاً آخر في كتابه نزهة الظرفاء وتحفة الخلفاء، عندما تناول "واجبات الملك نحو من أهدى إليه".
ففيه تتنوع طرقُ الردّ على هدية الحاكم، تبعاً لقيمة الهدية التي أُهديت إليه، وهنالك موظف خاص في الديوان للاهتمام بالهدايا والرد عليها بعد إعلام الملك بها مهما كبرت أو صغرت قيمة الهدية التي وصلته.
أما عن نوع الهدايا، فتشترك كل أخبار التراث العربي في تحديد أبرز الهدايا عند العرب والمسلمين في القرون الوسطى، وهي الأموال بالدرهم والدينار، وقطعة أرض، والذهب والفضة واللؤلؤ والأحجار الكريمة.
والكتب الأدبية والعلمية بكل أجناسها، والطيب والعطور على أنواعها كذلك كانت من أهمّ الهدايا.
وكذلك الكسوة والثياب الفاخرة، المجوهرات والتحف والتماثيل والأسلحة والأواني والقطع المزينة على أنواعها.
كما تذكر الأخبار الدواب للركوب وأبرزها الخيول والبغال (التي توازي السيارة في عصرنا هذا)، وأنعام للمأكل كالطيور وحيوانات أخرى للصيد واللهو كالصقور والكلاب والفهود.
ولا ننسى طبعاً الهدية المفضلة عند القدماء ألا وهي الجواري والغلمان، فإهداء الرقيق كان مقبولاً وشائعاً في كل الحضارات القديمة.
هدية برثا ملكة روما إلى الخليفة المكتفي
ومن عجائب ما أورده القاضي ابن الزبير في كتابه عن الهدايا، هي هدية الملكة برثا ابنة لوثر الثاني، للخليفة المكتفي بالله عام 905 م، وقد سجل اسمها بصيغة عربية "برثا بنت الأوتاري ملكة الفرنجة"، كما وردت في كتاب يحمل عنوان التحف والهدايا، لمؤلفين من القرن العاشر.
وكانت الهدية "خمسين سيفاً وخمسين ترساً وخمسين رمحاً فرنجية وعشرين ثوباً منسوجة بالذهب وعشرين خادماً صقلبياً وعشرين جارية صقلبية حساناً لطافاً، وعشرة كلاب كباراً لا يطيقها السبع ولا غيره (في قوتها)، وسبعة صقورة ومضرب حرير (خيمة عظيمة)، وعشرين ثوباً معمولة من صدف البحر، يتلون لوناً في كل ساعة من ساعات النهار".
بالإضافة إلى "ثلاثة أطيار تكون ببلاد الفرنجة إذا نظر للطعام والشراب المسموم صاحت صياحاً منكراً وصفقت بأجنحتها حتى يُعلم ذلك، مع كتاب (رسالة) في حرير أبيض والخط يشبه الخط الرومي وكانت الرسالة طلب التزويج بالمكتفي".
كانت الرسالة، بحسب الكتاب، باللغة اللاتينية، ترجمت منها إلى العربية عن طريق اليونانية.
كما ذكر الغزولي فقرة من الرسالة في كتابه مطالع البدور، ومنها أنّ الملكة كتبت للخليفة: "وعرفت أن بينك وبين ملك القسطنطينية صلة وأنا أوسع منه سلطاناً وأكثر جنداً وأشد سطوة، وملكي على أربعة وعشرين مملكة لسانها لا يشبه الآخر"، داعية إياه إلى ما يشبه الحلف ضد ملك القسطنطينية.
وعلى الرغم من أن القاضي ابن الزبير قد شاهد وسمع بعض ما سجّله، خاصة مع فرضية كونه عمل كدبلوماسي في دائرة استقبال السفراء في الدولة الفاطمية، فالمعروف عن السفراء كثرة حملهم للهدايا لتحسين العلاقات، إلا أننا نرى بعض المبالغة ببعض الأخبار خاصة تلك التي نقلها من كتب أقدم.
كما أن بعض المرويات تحتاج إلى مقارنة مع مصادر أخرى.
فقد ذكر ابن الزبير أنّ "دهمي" ملك الهند والبنغال أهدى إلى المأمون عدة هدايا من بينها كتاباً ترجمته "صفوة الأذهان"، فرد عليه المأمون بإهدائه كتاباً من جملة الهدايا سماه "ديوان الألباب وبستان نوادر العقول".
إلا أنه من الغريب جداً أننا لا نجد أثراً لهذين الكتابين في كتب التراث ولا نجد ذكرهما، فهل يُعقل أن يرسل المأمون كتاباً للملك غير معروف المؤلف؟
وكيف لا يحظى الكتاب بشهرة في مصادر التراث إلا في رسالة المأمون؟ قد يكون الكتاب ضائعاً فعلاً لكننا نتوقع أن يُذكر اسمه على الأقل في عدة مراجع أخرى وهذا ما لم نجده.
أياً تكن الحال، يقدم كتاب الذخائر والتحف صورة عن "إيتيكيت" الإهداء وأجواء الإبداع الفني والترف الاقتصادي في الحضارة الإسلامية، والصلات الدبلوماسية بين الحكام في حينها.
فقد أسهم تبادل الهدايا بين العائلات الحاكمة بالدول القديمة في دعم وتشجيع الحراك الفكري والإبداعي والفني والتجاري والثقافي.
فكلما وصلت تلك الأعمال الإبداعية من دولة إلى دولة أخرى، استلهم الفنانون المحليون أفكاراً وأساليب فنية جديدة يضيفونها إلى أساليبهم المحلية، مما يخلق إضافة جديدة للصناعات الإبداعية.
وهذا هو سر تطور القيم الفنية الإسلامية عبر القرون، فكلما تغيرت المؤثرات السياسية والاجتماعية والثقافية للنظام الحاكم سواء بتغير العلاقات الدبلوماسية أو بالاحتلال، تمتزج المدارس والأساليب لتخلق مساحة إبداعية أوسع وأغنى.
raseef22
جمال باكير