حاول القادة المسلمون منذ عهد الصحابي معاوية بن أبى سفيان، أول ملوك الدولة الأموية، وفي زمن الدولة العباسية، فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، حتى يكون فاتح المدينة، صاحب البشارة النبوية التي بشر بها النبي، بقوله: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»، حتى كتب الله للسلطان محمد الفاتح، الخليفة العثماني، أن يكون صاحب البشارة، في عام 1553.
ويقول الدكتور علي الصلابي، في كتابة «الدولة العثمانية النهوض وأسباب السقوط»، إن «محمد الفاتح قضى نهائيًّا على الإمبراطورية البيزنطية بعد أن استمرَّت أكثر من أحد عشر قرنًا، بعد فتحه القسطنطينية، وحَكَمَ ما يقرب من ثلاثين عامًا، وتابع السلطان محمد فيها فتوحاته في آسيا، فوحَّد ممالك الأناضول، وتوغَّل في أوربا حتى بلجراد».
مولده
ويضيف «الصلابي»: «وُلد محمد الفاتح في 27 من رجب 835هجريًا، 30 من مارس 1432ميلاديًا) في مدينة أدرنة، عاصمة الدولة العثمانية آنذاك، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سادس سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهَّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسؤولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلَّم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلَّم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية».
ويوضح «الصلابي»: «عهد إليه أبوه بإمارة مغنيسيا وهو صغير السن ليتدرَّب على إدارة شؤون الدولة وتدبير أمورها، تحت إشراف مجموعة من كبار علماء عصره؛ مثل: الشيخ آق شمس الدين، والمُلَّا الكوراني، وبرز دور الشيخ آق شمس في تكوين شخصية محمد الفاتح، وبثَّ فيه منذُ صغره أمرين؛ هما: مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، والإيحاء دومًا لمحمدٍ منذُ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي (لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الجَيْشُ ذَلِكَ الجَيْشُ)».
توليه الحكم
ويشير «الصلابي» إلى أن «محمد الفاتح تولَّى السلطنة بعد وفاة أبيه في 5 من المحرم 855هـ، 7 من فبراير 1451م، وبدأ في التجهيز لفتح القسطنطينية، ليُحقِّق الحُلم الذي يُراوده، وفي الوقت نفسه يُسَهِّل لدولته الفتية الفتوحات في منطقة البلقان، ويجعل بلاده متصلة لا يفصلها عدوٌّ يتربَّص بها، وليكون هو محلَّ البشارة النبوية».
التجهيز للفتح
ويذكر «الصلابي» تجهيزات «الفاتح» لفتح «القسطنطينية»، قائلًا: «بذل السلطان محمد الفاتح جهودًا خارقة في مجال التخطيط لفتح القسطنطينية، كما بذل جهودًا كبيرة في دعم الجيش العثماني بالقوى البشرية، حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد، كما عنى بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة، وبمختلف أنواع الأسلحة، التي تؤهلهم للجهاد المنتظر، كما اعتنى الفاتح بإعدادهم إعدادًا معنويًّا قويًّا، وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول على الجيش الذي يفتح القسطنطينية».
ويستكمل «الصلابي»: «السيطرة على مضيق (البسفور) حتى يمنع القسطنطينية من وصول أية مساعدات لها من أوروبا، فبنى قلعة كبيرة على الشاطئ الأوروبي من المضيق، واشترك بنفسه مع كبار رجال الدولة في أعمال البناء، ولم تمض 3 أشهر حتى تم بناء القلعة التي عرفت بقلعة (الروم)، ولم يعد ممكنًا لأي سفينة أن تمر دون إذن من القوات العثمانية».
ويضيف: «في أثناء ذلك نجح مهندس نابغة أن يصنع للسلطان محمد الفاتح عددًا من المدافع، من بينها مدفع ضخم عملاق لم يُرَ مثله من قبل، كان يزن (700) طن، وتزن القذيفة الواحدة (1500) كيلو جرام، وتسمع طلقاته من مسافات بعيدة، ويجره مائة ثور يساعدها مائة من الرجال الأشداء وأطلق على هذا المدفع العملاق اسم (المدفع السلطاني)، وأعطى الفاتح عناية خاصة بالأسطول العثماني، وعمل على تقويته، وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، وذُكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة».
فتح القسطنطينية
ويوضح «الصلابي»: «زحف السلطان محمد الفاتح إلى القسطنطينية فوصلها في 26ربيع الأول 857هـ، 6أبريل سنة 1453م، فحاصرها من البر بمائتين وخمسين ألف مقاتل، ومن البحر بأربعمائة وعشرين شراعًا، فوقع الرعب في قلوب أهل المدينة؛ إذ لم يكن عندهم من الحامية إلا خمسة آلاف مقاتل، معظمهم من الأجانب، وبقي الحصار 53 يومًا، لم ينفك العثمانيون أثناءها عن إطلاق القنابل».
ويضيف: «لجأ العثمانيون في المراحل المتقدمة من الحصار إلى طريقة جديدة ومبتكرة في محاولة دخول المدينة؛ حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من أماكن مختلفة إلى داخل المدينة، التي سمع سكانها في 16 مايو ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريج، فأسرع الإمبراطور البيزنطي بنفسه ومعه قُوَّاده ومستشاروه إلى ناحية الصوت، وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، وإلى جانب ذلك لجأ العثمانيون إلى طريقة جديدة في محاولة الاقتحام، وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وشحنت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار».
ويتابع: «وفى فجر يوم الثلاثاء الموافق 20من جمادى الأولى 827 ﻫ = 29 من مايو 1453 م، نجحت القوات العثمانية في اقتحام الأسوار، وزحزحة المدافعين عنها بعد أن عجزوا عن الثبات، واضطروا للهرب والفرار، وفوجئ أهالي (القسطنطينية) بأعلام العثمانيين ترفرف على الأسوار، وبالجنود تتدفق إلى داخل المدينة».
ويستكمل: «دخل السلطان محمد الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون: ما شاء الله، فالتفت إليهم وقال: لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية، الذين أخبر عنهم رسول الله، وهنأهم بالنصر، ونهاهم عن القتل، وأمرهم بالرفق بالناس، والإحسان إليهم. ثم ترجل عن فرسه، وسجد لله على الأرض شكرًا وحمدًا وتواضعًا، ثم قام وتوجه إلى كنيسة آيا صوفيا، واجتمع بها خلقٌ كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان، الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، فلما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها ووجلوا وجلاً عظيمًا، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له، فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس، وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة، فلما رأوا تسامح محمد الفاتح وعفوه، خرجوا وأعلنوا إسلامهم».
استكمال الفتوحات
بعد إتمام هذا الفتح الذي حَقَّقه محمد الثاني -وهو لا يزال شابًّا لم يتجاوز الخامسة والعشرين- اتَّجه إلى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان، ففتح بلاد الصرب، والمورة باليونان، وبلاد الأفلاق والبغدان (رومانيا)، وألبانيا، البوسنة والهرسك ودخل في حرب مع المجر،، كما اتجهت أنظاره إلى آسيا الصغرى، ففتح طرابزون.
ويشير «الصلابي» إلى أنه «كان من بين أهداف محمد الفاتح أن يكون إمبراطورًا على روما، وأن يجمع فخارًا جديدًا إلى جانب فتحه القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية؛ ولكي يُحَقِّق هذا الأمل الطموح كان عليه أن يفتح إيطاليا، فأعدَّ لذلك عُدَّتَه، وجهَّز أسطولًا عظيمًا، وتمكَّن من إنزال قوَّاته وعدد كبير من مدافعه بالقرب من مدينة (أوترانت)، ونجحت تلك القوات في الاستيلاء على قلعتها، وذلك في (جمادى الأولى 885هـ= يوليو 1480م، لكن وافته المنية قبل أن يكمل ما بدأه».
ويذكر «الصلابي» أن «من عادة الفاتح أن يحتفظ بالجهة التي يقصد فتحها، ويتكتَّم أشدَّ التكتُّم، ويترك أعداءه في غفلة وحيرة من أمرهم، لا يدري أحدهم متى تنزل عليه الضربة القادمة، ثم يتبع هذا التكتُّم الشديد بالسرعة الخاطفة في التنفيذ؛ فلا يدعُ لعدوِّه مجالًا للتأهُّب والاستعداد، وذات مرَّة سأله أحد القضاة: أين تقصد بجيوشك؟ فأجابه الفاتح: (لو أن شعرة في لحيتي عرفت ذلك لنتفتُها وقذفتُ بها في النار)».
وفاته
ويقول «الصلابي»: «في شهر ربيع الأول من عام 886هـ= 1481م، غادر السلطان الفاتح القسطنطينية على رأس جيش كبير، وكان السلطان محمد الفاتح قبل خروجه قد أصابته وعكة صحيَّة، إلَّا أنه لم يهتمّ بذلك لشدَّة حُبِّه للجهاد، وشوقه الدائم للغزو، وخرج بقيادة جيشه بنفسه، وقد كان من عادته أن يجد في خوض غمار المعارك شفاءً لما يُلِمُّ به من أمراض، إلَّا أن المرض تضاعف عليه هذه المرَّة، وثقلت وطأته فطلب أطباءه، غير أن القضاء عاجله؛ فلم ينفع فيه تطبيب ولا دواء، ومات السلطان الفاتح وسط جيشه يوم الخميس (4 من ربيع الأول 886هـ= 3 من مايو 1481م)، وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم إحدى وثلاثين عامًا».
ويوضح «الصلابي»: «يُقال: إن السلطان محمد الفاتح قد قُتل بالسم عن طريق طبيبه الخاص يعقوب باشا بعد أن حرضه أهل البندقية على أن يقوم هو باغتياله، ولم يكن يعقوب مسلمًا عند الولادة، فقد وُلِدَ بإيطاليا، وقد ادَّعى الهداية وأسلم، وبدأ يعقوب يدسُّ السُّمَّ تدريجيًّا للسلطان، ولكن عندما علم بأمر الحملة زاد جرعة السمِّ؛ حتى توفي السلطان، اكتشف أمر يعقوب فيما بعدُ، فأعدمه حرس السلطان، ووصل خبر موت السلطان إلى البندقية بعد 16 يومًا؛ حيث جاء الخبر في رسالة البريد السياسي إلى سفارة البندقية في القسطنطينية، واحتوت الرسالة على هذه الجملة: (لقد مات النسر الكبير) انتشر الخبر في البندقية ثم إلى باقي أوربا، وراحت الكنائس في أوربا تدقُّ أجراسها لمدَّة ثلاثة أيام بأمر من البابا».
ووصه ولد بايزيد الثاني، خليفته، قبل وفاته قائلًا: «خذ منِّي هذه العبرة: حضرتُ هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، واحذ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله، ولا تصرف أموال الدولة في ترفٍ أو لهوٍ أو أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ اللزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك».
almasryalyoum.com