لم يكن أحد ليتخيل الشكل الذي تبدو عليه سفينة تيتانيك الفاخرة الآن؛ إذ أصبحت هيكلاً يعتريه الصدأ يرقد في قاع المحيط الأطلسي، ولكن على الأقل، هناك شيء ما تبقى من السفينة رغم مرور أكثر من قرن على رحلتها المنكوبة عبر المحيط الأطلسي
[/rtl]
مع ذلك، يُرجح العلماء اختفاء هيكل السفينة بعد مرور عقود قليلة؛ بسبب أنواع من البكتيريا التي تنخر شيئاً فشيئاً في جسمها الفولاذي، حسب تقرير نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC.[/rtl]
غواصتان نوويتان
وكان إخصائي علم المحيطات بجامعة رود آيلاند في الولايات المتحدة روبرت بالارد، قد اكتشف حطام سفينة تيتانيك عام 1985
[url=http://www.huffpostarabi.com/2016/12/05/story_n_13429188.html]
ما كان مجهولاً على نطاق واسع حينذاك، هو أن عثور بالارد على
حطام تيتانيك[ كان بسبب ضلوعه في مهمة سرية تابعة للبحرية الأميركية تهدف إلى تحديد موقع حطام غواصتين نوويتين بالولايات المتحدة غرقتا خلال الحرب الباردة، حيث عُثِرعلى هيكل تيتانيك بين حطام الغواصتين.
في بداية اكتشاف حطام تيتانيك، كانت السفينة ترقد على بُعد 3.8 كيلو متر من سطح البحر، وكانت قلة الإضاءة وقوة الضغط عاملان حولاها إلى منطقة غير مسكونة طوال الوقت، وهو ما أبطأ من عملية تآكل السفينة. ورغم ذلك، سرعان ما مرت الثلاثون عاماً وأُصيب هيكل السفينة بالصدأ؛ بسبب البكتيريا التى تلتهم المعادن. وترجح أبحاث أخرى أن يستغرق حطام السفينة 14 عاماً قبل أن يختفي تماماً.
ما الذي نعرفه عن الميكروب المؤدي إلى ذلك؟
لقد بدأت القصة عام 1991 عندما جمع العلماء من جامعات كل من دالهاوسي في هاليفاكس ونوفا سكوشاب بكندا، عينات من كتل ثلجية تتدلى من السفينة وتشبه تشكيلات الصدأ من سلالة راستكلس rusticles وانتقلوا بها إلى المعمل، ليكتشفوا أنها كائنات تَعُج بالحياة .
ولم يمر عام 2010 حتى قررت مجموعة من العلماء بقيادة هنريتا مان، من جامعة دالهاوسي، التعرف على نوعية حياة هذه الكائنات
فصل فريق العلماء نوعاً واحداً من أنواع البكتيريا من العينة. وأصبح هذا النوع كشفاً علمياً جديداً أطلق عليه مان وزملاؤه من الباحثين، هالومانوس تايتانيكاي"Halomonas Titanicae
ويمكن لهذه الأنواع من البكتيريا أن تبقى على قيد الحياة في ظروف غير ملائمة تماماً لمعظم الكائنات على الأرض وهي؛ ماء حالك السواد وقوة ضغط عالية بقاع المحيط.
لكن، لم ينته الأمر عند ذلك، ثمة خدعة أكثر دهشة؛ وهي وجود بكتيريا الهالومانوس على قيد الحياة في ظل نوع آخر من البيئات القاسية، وهي المستنقعات المالحة، حيث تتفاوت ملوحة المياه بشكل كبير؛ بسبب عملية التبخر. وقد تطورت بكتيريا الهالومانوس بشكل كبير لتتلاءم مع المشكلة.
إذا كانت المياه التي تسبح فيها الخلايا مالحة للغاية، فإن المياه تندفع مُسرعة من الخلايا نحو المياه المالحة وستُسبب الغرق للخلايا، ومن ثم تتداعى وتموت. لكن يمكن فقط القليل من الملح أن يكون فتاكاً. على سبيل المثال، تتفجر خلايا الدم الحمراء التي استوطنت مياهاً عذبة؛ بسبب فيضان الماء.
ويحدث كلا الأمرين؛ لأن الماء "يريد" أن ينتقل من منطقة التركيز العالي للمياه إلى منطقة ذات تركيز مياه أقل؛ وهي الظاهرة المعروفة بـ"التناضح" أو "الأسموزية".
لكن ماذا يعني ذلك
يذوب الملح والسكر وغيره من الجزيئات الصغيرة بالماء ويسدها ويستهلك مساحة منها، وهو ما يعني تقلص المساحة المخصصة للماء نفسه. وعندما تتصل المنطقة ذات تركيز المياه المنخفض (المياه المالحة) بالمياه العذبة سيُسرع الماء من أجل إعادة التوازن، بالطريقة نفسها التي يندفع بها الهواء الدافئ من المنزل في فصل الشتاء عندما يكون الباب مفتوحاً. ولأن المياه تنفذ خلال أغشية الخلايا، فهذا يعني أن حساسية كل الكائنات الحية شديدة لمستويات الأملاح الداخلية والخارجية.
ولوقف الانفجار الذي سيؤدي بدوره إلى تقلص هذه الخلايا، تنتج العديد من الأحياء مركّبات مثل السكر والأحماض الأمينية التي تحفظ تركيز "المادة" داخل الخلايا قريباً في مستوى استقراره من الخارج، ما يوقف فيضان المياه وتدفقها.
لكن، لا تستطيع العديد من الكائنات إنتاج هذه المركبات بقُدرة بكتيريا الهالومانوس نفسها. وقد حلّل جو زكاي، من معهد لاو- انجيفين في غرونوبل بفرنسا، وهو أحد أفراد فريق البحث العالمي، كيف يمكن لهذه البكتيريا البقاء على قيد الحياة في مثل هذه الظروف القاسية والمتغيرة . ووجد فريق العلماء أن الهالومانوس تستخدم جزيئاً يسمى Ectoine لحماية نفسها مما يُسمى الضغط التناضحي .
وقال زكاي: "إذا كان يمكن للخلية أن تبقى على قيد الحياة في بيئة مُتغيرة الملوحة، فإن عليها أن تجد طريقةً للتعويض من خلال ضبط تركيز المحلول الداخلي"
ويضيف: "تنتج الهالومانوس ما يُسمي جزيء Ectoine؛ لموازنة الضغط الأسموزي الخارجي. وبحسب تقلب تركيز الملوحة الخارجي، يستجيب تركيز جزيء الـ Ectoine".
وكلما ازدادت المياه ملوحةً أنتجت هذه البكتيريا العديد من جزيئات الـectoine داخل خلاياها؛ لوقف سرعة خروج المياه من داخلها .
لكن، يعتبر هذا التكيُّف مخاطرة كبيرة تخوضها هذه الكائنات الحية. فكلما زادت "المادة" التي تتراكم داخل الخلايا، استطاعت جزيئات هذه المادة التوغل بين جزيئات المياه، معطلةً خصائص المياه الفريدة من نوعها .
كيف تعيش بهذا الماء القليل؟
إن سبب كون المياه ضروريةً جداً للحياة، هو الروابط الفريدة من نوعها بين الذرات المعروفة بالروابط الهيدروجينية التي تسمح لها بالتصرف كمذيب؛ إذ تستطيع غيرها من المواد الكيميائية الذوبان بها والتفاعل معها.
تحتاج تفاعلات الحياة أن تحل لنا هذا الأمر. لماذا تسبح الخلايا الخاصة بنا في مياه سائلة؟ والأكثر من ذلك، لماذا يحتاج الحمض النووي الريبي RNA والحمض النووي DNA، ولماذا تحتاج البروتينات والإنزيمات المسؤولة عن تنفيذ العمل اليومي للخلية والأغشية التي تمنحها البنية إلى أن تكون مُحاطة بطبقة مياه للقيام بوظيفتها؟
تُعرف هذه الطبقة من المياه باسم "Hydration Shell"؛ وهي طبقة بالغة الأهمية تُحافظ على الطي السليم للبروتينات، ما يساعدها على القيام بوظيفتها. وإذا عُطلت هذه الطبقة فقد تنهار البروتينات وتتداعى، وهو ما يعمل على قتل الخلية
وبإمكان هذه البكتيريا الغريبة أن تراكم تركيزات عالية للغاية من جزيء ectoine داخل خلاياها.
وكشفت الدراسة أن بكتيريا الهالومانوس تراكم الكثير من جزيئات Ectoine بنسبة تصل إلى 20% من كتلة الميكروب. ورغم ذلك، فإن تراكم هذه المادة بنسبة كبيرة يدع الخصائص الهامة للمياه في مكانها.
ولمعرفة كيفية حدوث ذلك، أمطر فريق العلماء الذي يقوده زكاي البكتيريا بحزمة من النيوترونات. ومن خلال النظر في النمط المبعثر المُنتج من قِبل النيترونات المرتدة من ذرات ميكروب أغشية خلايا وبروتينات هذه البكتيريا، استطاع العلماء النظر في الهياكل أو البنى على المستوى الجزيئي أو الذري
هناك أماكن قليلة بالعالم مُجهزة لمثل هذه التجارب. لقد عمل الباحثون داخل معهد لاو أنجيفين في فرنسا، وهو واحد ضمن قلة من المراكز البحثية لأبحاث النيوترون في العالم
وقال زكاي: "عبر النظر في كيفية تبعثر النيوترونات من قِبل عينات مختلفة، نجحنا في تحديد كيف يعمل الـ Ectoine على بروتينات وأغشية الخلايا والأكثر أهمية كيف يعمل على المياه".
وأوضح أنه بدلاً من عملية التخلل يعزز الـ ectoine خصائص مذيبات المياه التي لا غنى عنها في علم الأحياء.
لقد أصبح من غير المهم معرفة كم عدد جزيئات الـectoine التي تذوب داخل الخلية؛ إذ يحافظ على وعاء المياه الذي يحاوط البروتينات وغشاء الخلية المياه بنسبة 100%، ما يسمح باستمرار عملية التمثيل الغذائي للخلية بشكل طبيعي.
يرجع ذلك إلى أنه عندما يشكل الـectoine روابط هيدروجينية مع المياه، فإنه يشكل بذلك مجموعات كبيرة لن تستطيع أن تجد لها مكان على أسطح بروتينات وأغشية الخلية ـ لذا فإن المياه النقية فقط هي التي ستبقى.
أظهرت التحقيقات الأولية التي أُجريت على بكتيريا هالومانوس، أن بإمكانها النمو في المياه بنسبة تركيز قليلة للكتلة تصل إلى ـ0.5% وبنسبة تركيز كبيرة للكتلة تصل إلى 25%. ورغم ذلك، فإنها تبذل ما بوسعها في ظل نسبة تركيز ملوحة تتراوح بين 2% و8% فقط.
لكن من غير الواضح، كيف ساعدت الملوحة المتفاوتة بكتيريا هالومانوس في استيطان جسد السفينة الغارقة.
يذكر أن بكتيريا هالومانوس ليست وحدها هي التي تحب استيطان حطام السفن . تستوطن العديد من الميكروبات حطام السفن بعدما تستقر السفينة بقاع البحر. وسريعاً ما تبني طبقات لزجة على كل الأسطح المتاحة وتُسمى هذه الطبقات "أغشية حيوية "، وتُشكل هذه الأغشية الحيوية مأوىً للشعاب المرجانية والإسفنج والرخويات والتي بدورها تجذب الحيوانات الكبيرة.
وسرعان ما يُصبح حطام السفينة شِعاباً اصطناعية ومكاناً لحياة العديد من الكائنات.
تحميها وتأكلها في الوقت ذاته!
تنجذب الميكروبات إلى حطام السفن الخشبية القديمة بينما تجذب السفن المصنوعة من الصلب والأكثر حداثة بكتيريا مثل الهالومانوس والتي تحب أكل الصلب. لكن بكتيريا الهالومانوس قد تدمر تيتانيك في نهاية المطاف.
ي المقابل، تحمي العديد من أنواع هذه البكتيريا السفن من التآكل، وهو أحد أسباب بقاء حطام سفينة يرجع تاريخها للقرن الرابع عشر قبل الميلاد حتى الآن
ي عام 2014، أجرى فريق من مكتب الولايات المتحدة لإدارة طاقة المحيط دراسة، ربما هي الأكثر تعمقاً في مجال تاريخ الحياة الميكروبية، على حطام السفن. نظر الباحثون في حطام 8 سفن بشمال خليج المكسيك. تضمن الحطام أجسام سفن شراعية خشبية يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر. ترجع واحدة من جدران السفن الشراعية الخشبية إلى مطلع القرن السابع عشر. كما تضمن الحطام 3 سفن بجدار صُلب غرقت عبر القوارب الألمانية في الحرب العالمية الثانية.
وجد العلماء أن العامل الحاسم في الأمر هو المادة التي بُنيت منها السفينة، فهي التي تُحدد نوعية الميكروب الذي ينجذب إلى الحطام. على سبيل المثال، تعُج السفن الخشبية بالبكتيريا التي تهجم وتتغذى على السليلوز وهيميسيلولوز، أو اللجنين الموجودة في الخشب، أما السفن المصنوعة من الصلب فتنجذب إليها البكتيريا المحبة للمعادن
الغريب في الأمر، أنه رغم أن البكتيريا كانت تتغذى بشكل أساسي على السفينة، فإنها كانت تعمل على حمايتها في الوقت نفسه من التآكل، كيف ذلك؟
"في حقيقة الأمر، إن أي سفينة تغرق، سواء كانت سفينةً خشبيةً ترجع إلى القرن التاسع عشر أو ذات قشرة معدنية ترجع إلى الحرب العالمية الثانية، بمجرد أن تصطدم بالأرض تصبح فريسة للميكروبات التي تندفع لتغطية جميع الأسطح بها"، هكذا أوضح ميلاني دامور، عالم الآثار البحرية بجامعة ولاية فلوريدا في تالاهاسي، وهو المسؤول عن البعثة.
يقول دامور: "في البداية، ستبدأ السفينة في التآكل عند اتصالها بمياه البحر، ولكن بمجرد أن يبدأ الميكروب في استعمار حطام السفينة سيبدأ تشكيل غشاء حيوي يُسمي biofilm، وهو ما يكون طبقة واقية بين السفينة ومياه البحر".
ويضيف: "إذا كنت قد رأيت من قبلُ حطام سفينة أصابه الصدأ، فإن مقدار التآكل يحدث في البداية، وتحديداً قبل أن تسنح الفرصة للغشاء الحيوي بالتكون".
هذا يعني أن أي نوع من الآثار الميكانيكية، مثل سحب مرساة السفينة عبر الحطام، سيحطم القشرة الواقية ويجعل الجسم المعدني للسفينة عارياً أمام مياه البحر، ما يُسرع عملية التآكل
محبة للنفط
وليس فقط التأثير الميكانيكي الذي بإمكانه تسريع عملية التآكل، فإن كارثة كديب ووتر هورايزون التي حدثت عام 2010 عندما قذفت ملايين من غالونات النفط في خليج المكسيك، ما أدى إلى تسلُل الكثير من النفط إلى أعماق المحيط.
ووجد فريق الباحثين أن تسلل النفط ضمن كارثة ديب ووتر هورايزون سرّع من عملية تآكل حطام السفينة في قاع البحر، وكان يقتل البكتيريا التي تحمي السفينة من التآكل.
يقول دامور "أي نوع من البكتيريا والفطريات والميكروبات له وظيفة مُحددة، فهو يؤدي مهمته التي تطورت على مدى ملايين السنين"
"وتنجذب البكتيريا التي تتغذي على كبريتات الحديد إلى حطام السفن الصلبة، لكن يُفضل غيرها من أنواع البكتيريا الهيدروكربونات التي تُشكِل النفط. وازدهرت هذه الأنواع من البكتيريا بعد حادثة سكب النفط، لكن ما اكتشفناه هو أنه ليس كل أنواع الميكروبات يمكنها التعامل مع النفط والمشتتات الكيميائية؛ إذ تراها بعض الميكروبات سامة للغاية. وحتى بعد مرور 4 سنوات، لا يزال النفط موجوداً في البيئة المحيطة، وكان المقصود بأثره المدمر على البكتيريا والأغشية الحيوية هو تعرُض السفن المباشر لمياه البحروتعرُضها لتآكل بمعدل أسرع بكثير"
ويُعد هذا الاكتشاف مثيراً للقلق؛ إذ ترقد أكثر من 2000 سفينة في قاع الخليج، بما فيها أنواع عديدة؛ بدءاً من السفن الإسبانية التي يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر، نهاية بحطام الحرب العالمية من قوارب البحار الألمانية. وتعتبر هذه الحطام آثاراً تاريخية هامة؛ تقدم لنا رؤية فريدة عن الماضي وتوفر لنا موطناً للحياة في أعماق البحار
لكن في نهاية المطاف سيتآكل كل حطام السفن بشكل كامل، بما فيه حطام تيتانيك، في المحيط الأطلسي، سواء كان ذلك عبر بكتيريا مضغ المعادن أو ستتآكل عبر مياه البحار
وسينتهي الأمر بحديد السفن، البالغ 47.000 طن، إلى المحيط وسيدخل بعض منه في أجساد الحيوانات البحرية والنباتات.. في النهاية سيُعاد تدوير تيتانيك.
huffpostarabi.com