كيف وصل حزب "القراصنة" إلى السلطة في آيسلندا؟
رئيس آيسلندا يكلف رغيتا يونسدوتير، زعيمة حزب "القراصنة" بتشكيل حكومة جديدة في البلاد.
بي بي سي :
كُلفت رغيتا يونسدوتير، زعيمة حزب "بايرت بارتي" (القراصنة) في آيسلندا بتشكيل حكومة جديدة في البلاد. "بي بي سي فيوتشر" تجري مقابلة مع هذه الناشطة التي تحولت إلى سياسية، للتعرف على خططها المستقبلية.
في إطار أحداث رواية "عالم جديد شجاع" للكاتب ألدوس هكسلي، التي صدرت عام 1931، خصصت حكومة افتراضية عقوبةً للسياسين المنشقين عنها دون سواهم، تتمثل في نفيهم إلى آيسلندا.
تبدو تلك العقوبة ذات طابع كئيب وسوداوي، غير أن إحدى شخصيات الرواية اعتبرتها مكافأةً في واقع الأمر، فهؤلاء "المنشقون" يُرسلون إلى بقعة جديدة، يتسنى فيها لكل من سئم الأفكار والمعتقدات التقليدية أن تكون له أفكاره المستقلة والخاصة.
ويشكل ذلك توجهاً استلهمته يونسدوتير زعيمة حزب "القراصنة" الآيسلندي. وفي مشاركة نشرتها على إحدى المدونات عام 2001، كتبت: "حان الوقتٌ في آيسلندا لاحتشاد من يشعرون بوعي ذاتي، إلى حد يجعلهم غير قادرين على التكيف مع الحياة الاجتماعية".
وفي العام التالي، أسست هذه السيدة، التي تصف نفسها بأنها "شاعرة فوضوية"، حزبا سياسيا جديدا، بجانب عدد آخر من نشطاء الإنترنت.
أما الآن، فقد تحول من يشعرون بوعي ذاتي - على نحو سريع ومفاجئ - إلى حركة سياسية رئيسية. ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حل حزب "القراصنة" ثالثاً في الانتخابات التشريعية التي جرت في آيسلندا، بعد فوزه بعشرة مقاعد من أصل 63 مقعدا، ليزيد حصته من النواب بأكثر من ثلاثة أضعاف.
وفي الأيام الماضية، طلب الرئيس الأيسلندي من يونسدوتير تشكيل حكومة ائتلافية جديدة. وفي حالة نجاحها في تحقيق هذا الهدف، فسيحكم "القراصنة" البلاد بجانب أربعة أحزاب أخرى، يقود أحدها نجم في مجال موسيقى الروك.
وفي وقت يتطلع فيه الملايين في مختلف أنحاء العالم إلى الساسة ذوي التوجهات الشعبوية لإيجاد حلولٍ لمشكلاتهم، وقف الكثير من الناخبين الأيسلنديين وراء حزب "القراصنة" الراديكالي، الذي يركز على التكنولوجيا، ويتصف بصبغةٍ يساريةٍ، ويدعو للالتزام بالشفافية السياسية، وتوفير الرعاية الصحية المجانية، واتخاذ تدابير جديدة لحماية ما يُعرف بـ"الخصوصية الرقمية".
لكن البعض يشكك في قدرة أعضاء حزب "القراصنة" على الحكم، نظرا لافتقار غالبيتهم للخبرة السياسية، ولأنه أُسس في الأصل على أكتاف ناشطين ليس إلا. فما الذي يعدُ به هذا الحزب مواطني آيسلندا بالتحديد؟ وما الذي تؤمن به زعيمته يونسدوتير التي تحولت من ناشطة أناركية إلى زعيمة سياسية؟
التقى فريق "بي بي سي فيوتشر" هذه السيدة في المبنى المتواضع للبرلمان الأيسلندي، المعروف باللغة الإنجليزية باسم "ألثينغ"، وهو أحد أقدم المؤسسات البرلمانية في العالم، وتسيطر عليه حاليا واحدة من أحدث الحركات السياسية.
وجدير بالذكر أن أول حزب يُطلِق على نفسه اسم "القراصنة"، كان قد أُسس في السويد عام 2006، في خطوة بدت احتجاجاً على قوانين حماية الملكية الفكرية.
وسرعان ما انتشرت أحزابٌ مناظرةٌ له في أنحاء أوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة، وأستراليا. ورغم أن لكل من هذه الأحزاب طابعه الخاص، فإنها جميعاً تشترك في الالتزام بضمان التبادل الحر للمعلومات والخصوصية الرقمية، والإصلاح السياسي، بما يتضمن إقامة نظام ديمقراطي مباشر، يمنح المواطنين الحق في المشاركة في الحكم.
غير أن حزب "القراصنة" الآيسلندي يتميز عن أقرانه بأنه الوحيد الذي فاز بأصوات في انتخابات عامة، بالإضافة إلى تكليفه بتشكيل حكومة.
وعندما تصدر الحزب نتائج استطلاعات الرأي التي جرت في الشهور السابقة للانتخابات الأخيرة، قالت يونسدوتير إن حزبها يحظى بشعبية تفوق كثيراً شعبية الأحزاب الأخرى، وإنها كانت ترى دائماً أن ذلك أمراً غريباً.
واختلفت النتائج عن استطلاعات الرأي، ما يشير إلى أن الأخيرة بالغت في قوة "القراصنة"، إلا أن النتائج النهائية للانتخابات تشكل بحق دفعةً كبيرةً لهذا الحزب الناشيء.
وتؤمن زعيمة الحزب بأنه سد فراغاً في الحياة السياسية، ووفر للناخبين الساخطين بديلاً عن الأحزاب القائمة. وتقول في هذا الشأن إن هناك "الكثير من المهمشين، ممن لا يكترث بهم أحد، ومن يشعرون بأن النظام القائم لا يلبي احتياجاتهم، بدأوا بالفعل في التواصل والعمل معنا".
حزب "القراصنة"، بزعامة رغيتا يونسدوتير في آيسلندا، هو الوحيد الذي فاز بمقاعد في البرلمان أكثر من مرة مقارنة بأحزاب أخرى تحمل نفس الاسم في أوروبا
وقد استحدث الحزب آليةً تتيح للمواطنين فرصة طرح سياسات من بنات أفكارهم ليجري التصويت عليها، وتسمح لهم بتنظيم اجتماعٍ واحدٍ على الأقل لمناقشة هذه السياسات المقترحة.
كما صاغ "القراصنة" مشروعَ دستورٍ جديدٍ لآيسلندا يجسد الأفكار التي جُمعت من المواطنين. وتقول يونسدوتير في هذا الصدد: "إننا نأخذ السلطة من أصحاب النفوذ ونمنحها للشعب، ولنصبح بذلك مثل روبن هود" الذي يعيد توزيع السلطة والقوة هذه المرة، وليس الأموال.
ومن بين الأسباب التي جعلت أحزاب "القراصنة" تستحوذ على اهتمام الناس في شتى أنحاء العالم، هو أن سياساتها تشكل في غالبية الأحيان ردود فعل مباشرةً على بعض السياسات الحكومية، مثل المراقبة واسعة النطاق التي تنفذها الحكومات، وكذلك مسألة الشفافية المعلوماتية، وهي قضايا تأخر الكثير من الأحزاب التقليدية في التعامل معها.
وحتى وقت قريب، كان أكثر ما تُعرف به يونسدوتير هو المساعدة التي قدمتها من قبل لموقع التسريبات الشهير "ويكيليكس". ففي عام 2010، كوّن جوليان أسانج فريقاً في آيسلندا عمل معه لعدة شهور.
وقد ساعدت يونسدوتير على إنتاج عمل مصور يحمل اسم "جريمة إضافية"، يعتمد على مجموعة لقطات مٌسربة لغارة جوية أمريكية أوقعت قتلى بين المدنيين في العراق.
ولكنها تقول إنها قطعت علاقتها بهذه المجموعة بعد ذلك بوقت قصير. وأشارت مؤخراً إلى أن تسريبات ويكيليكس "بالغت في التجاوز"، وذلك عندما سُئِلت في مقابلة مع قناة تليفزيونية نرويجية حول ما يُثار حو تدخل أسانج في الانتخابات الأمريكية.
ويبدو أن العلاقة بموقع "ويكيليكس" ليست من بين الأمور التي تريد هذه السيدة العودة إليها، فقد قالت لنا إنها لا ترغب في التطرق إلى هذا الموضوع.
ثم تحدثت باستفاضة عندما سُئِلت عن الأساليب التي تتبعها أجهزة الاستخبارات لمراقبة أعدادٍ كبيرة للغاية من الأشخاص، وقالت: "هذا هو الموضوع الذي يثير حماستي".
وتطالب زعيمة حزب "القراصنة" الآيسلندي بمنح إدوارد سنودن، كاشف أسرار وكالة الأمن القومي الأمريكي، والمقيم حالياً في روسيا، حقوق المواطنة في بلادها، مُعتبرةً ذلك أفضل من منحه حق اللجوء، الذي ترى أنه لا يوفر له ضماناتٍ أو حمايةً كافية. لكن الحكومة السابقة في آيسلندا عرقلت تفعيل مثل هذا المقترح.
وبوجه عام، تناصر يونسدوتير كل من يمضون على درب كشف الأسرار وفضحها، كما تدعم حرية الصحافة. وتشيد، على سبيل المثال، بمن وقفوا وراء موجة التسريبات التي عرفت باسم "وثائق بنما".
وأحد أسباب هذه الإشادة هو هو أن التسريبات تضمنت الكشف عن أصولٍ موجودةٍ خارج البلاد، ترتبط برئيس الوزراء الأيسلندي، وهو الأمر الذي دفعه إلى تقديم استقالته في وقتٍ سابقٍ من العام الجاري.
تعود جذور موجة تأسيس أحزاب باسم "القراصنة" إلى أنشطة كان يقوم بها نشطاء على الإنترنت بجانب الاحتجاج على قانونٍ لحماية الملكية الفكرية الرقمية
وتشعر يونسدوتير بالقلق إزاء إمكانية إساءة الحكومات استخدام المعلومات التي تجمعها عن مواطنيها، وذلك في ظل لجوء العديد منها في مختلف أنحاء العالم إلى أنشطة المراقبة واسعة النطاق وبشكل متزايد، على غرار القانون الجديد الذي طرحته الحكومة البريطانية ويحمل اسم "صلاحيات التحقيق".
ويسمح هذا القانون للسلطات بجمع قدر هائل من المعلومات الخاصة بالمواقع التي يتصفحها مستخدمو شبكة الإنترنت.
وتقول زعيمة الحزب الآيسلندي: "أنا واثقة من أنهم لا يقرأون كل رسالة بريدٍ إليكتروني، لكنهم يعرفون كيف يستخلصون الأشياء".
وتضيف: "لديهم كلمات مفتاحية، ويعرفون الأشخاص الرئيسيين، ومن ثم يمكن أن يَصْدُفَ أن تكون أنت عنصراً" يخضع للمراقبة بالتبعية.
رغم ذلك، تدرك هذه السيدة تماماً أنه لا يمكن للتقنيات التي تُستخدم في المراقبة أن تُمحى من الوجود، كما تعلم أن الناس لا يمانعون على الإطلاق في أن تنزع الخصوصية عن البيانات الشخصية الخاصة بهم.
وتقول في هذا الشأن: "أعلن أن الخصوصية قد لفظت أنفاسها الأخيرة، وانتهت إلى الأبد، وأنه لن يكون بوسعنا استعادتها أبداً. يتعين علينا البدء في النظر إلى واقعنا من هذا المنظور".
وتبدو قضايا مثل هذه أكثر وضوحاً من غيرها أمام أعين يونسدوتير، فبلادها آخذةٌ في التحول إلى مستقرٍ لمزيد من البيانات والمعلومات الخاصة بأشخاص من مختلف أنحاء العالم، في ظل نقل شركات عاملة في مجال التكنولوجيا لـ"مراكز البيانات" الخاصة بها إلى آيسلندا للاستفادة من مناخها البارد ومواردها المتجددة.
ويطلق مصطلح "مراكز البيانات" على المنشآت التي تضع فيها شركات التكنولوجيا أنظمة الكمبيوتر الخاصة بها، وما يرتبط بذلك من مكوناتٍ مثل نظم الاتصال والتخزين.
تتحول آيسلندا إلى مركزٍ للمزيد والمزيد من البيانات التي تخص أشخاصاً من مختلف أنحاء العالم، في ظل نقل شركاتٍ عاملةٍ في مجال التكنولوجيا "مراكز البيانات" الخاصة بها إلى أراضيها
وترحب هذه السيدة بالأساليب التي تتبعها بعض الشركات لتعزيز حق عملائها في الخصوصية، مثل رفض شركة "آبل" طلباً من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي)، لمساعدته في فك الشفرة الخاصة بهاتف "آي فون" يخص مشتبهاً به في وقتٍ سابقٍ من العام الجاري.
وتنتقد يونسدوتير في الوقت نفسه حماسة شركات أخرى لبيع بيانات عملائها.
كما تشعر زعيمة حزب "القراصنة" بالقلق إزاء تأثير الشركات المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي على تشكيل رؤى الناس للعالم، قائلة: "إننا مثل دجاج في المزارع الصناعية. نحن لا نكف عن النقر على الروابط والضغط على زر الإعجاب والبحث، دون أن تكون لدينا أية فكرة عن الكيفية التي يوجهوننا بها".
وبوسع الزمن وحده تحديد ما إذا كان بوسع هذه السيدة القيام بأي شيء حيال تلك القضايا. وعلى أية حال، فإن النجاح الذي حققه حزب "القراصنة" في آيسلندا يشكل جزءاً من موجة صعود التأييد للأحزاب الشعبوية في أوروبا، مثل "بوداموس" في إسبانيا، وحركة "خمسة نجوم" في إيطاليا، وحزب "سيريزا" في اليونان.
لكن لا يزال منتقدو مثل هذه الحركات يشككون في إمكانية أن يصبح بوسع ناشطين سابقين في مجال تكنولوجيا المعلومات التحول إلى ساسة من الطراز الأول.
ويقول معارضو يونسدوتير إن حزبها يفتقر للثقل السياسي، ويعتبرون أن حزباً مثله، تشكل من حفنة من الفوضويين المولعين بمطاردة المُثل العليا، لن يكون أهلاً لمعالجة مشكلاتٍ مثل ارتفاع أسعار المنازل، والديون المستحقة على الطلاب، والتغير المناخي.
ويتمثل الموقف الرسمي لحزب "القراصنة" في أنه يتعين ترك أمر اتخاذ العديد من القرارات المهمة للمواطنين أنفسهم.
ويرى الآخرون من غير المؤمنين بأفكار الحزب أن هذا التوجه ليس إلا رفضاً لتحمل المسؤولية، وإلقاءً لتبعة المشكلات على الغير، في حين تعتبره يونسدوتير السبيل الأمثل لضمان تمثيل مصالح وآراء أي تجمع بشري يتسم بالتنوع؛ قائلة: "يتعين على طرفٍ ما وضع معايير جديدة".