كيفية استيفاء المال المأخوذ ظلما
السؤال: رجلٌ استأجر أُجَرَاءَ ليُنْجِزوا له عملاً ثمَّ لم يُوَفِّهِم حقَّهم، فهل يجوز لهم أخذُ حقِّهم بالقوَّةِ إن استطاعوا أو يأخذونه خُفيةً إن كانوا ضعفاءَ، ومِن إخواننا من خرَّج هذا الصنيعَ على حديثِ هندٍ عندما شكتْ زوجَها إلى رسولِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم ونَسَب ذلك إلى ابنِ حزمٍ -رحمه الله- وشكرًا.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:
فإنَّ ما تضمَّنه فحوى السؤالِ يُعْرَفُ بمسألةِ الظَّفَرِ، و للعلماءِ فيها أقوالٌ، والجمهورُ على استحبابِ عدمِ مجازاةِ مَنْ أساء بالإساءةِ لحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»(١)، والحاملُ على القول الاستحبابِ آياتٌ تدلُّ على جواز مجازاة السيئة بمثلها، كقولِه تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوْقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦]، وغيرِها.
والرأيُ المعتبَرُ في هذه المسألةِ القولُ بوجوبِ الأخذِ قدْرَ حقِّه من مالٍ ظَفِرَ به عند ظالمٍ سواء كان من جنسِ ما أُخِذَ منه أو من غيرِه مع إنصافِ المظلومِ الظالم، وذلك باستيفاءِ حقِّه بعد البيعِ فما زاد عن حقِّه ردَّه له أو لورثتِه، وإن كان دون حقِّه بقي مطلوبًا في ذمَّةِ الظالمِ، ولا يخرج عن هذا الحكمِ إلاَّ بالتحليلِ والإبراءِ.
والمعتمدُ في ذلك قولُه تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: ٤١]، وقولُه عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: ٣٩]، وقولُه تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤]، وقولُه عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]، أمَّا مِن الحديثِ فبقولِه صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم) لهندٍ زوجةِ أبي سفيان: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»(٢) لِحقِّها في النفقةِ، ولما رواه البخاريُّ: «إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ»(٣).
هذا، وحديثُ أبي هريرةَ المتقدِّم: «وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» فعَلَى تقديرِ صحَّتِه فلا وجهَ للاحتجاجِ به في مثلِ هذهِ المسألةِ لأنه لا يُعَدُّ انتصافُ المرءِ خيانةً بل هو حقٌّ وواجبٌ وإنما الخيانةُ أن يخونَ بالظلمِ والباطلِ من لا حقَّ له عنده، كذا قرَّره ابنُ حزمٍ الظاهريُّ وتبعه الصنعانيُّ فقال: «ويؤيِّدُ ما ذهب إليه حديث: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»(٤)، فإنَّ الأمرَ ظاهرٌ في الإيجابِ ونصرُ الظالمِ بإخراجِه عن الظلمِ وذلك بأخذِ ما في يدِه لغيرِه ظلمًا»(٥).
قلت: وهذا كلُّه فيما إذا لم يترتَّبْ على استيفاءِ حقِّهم بهذا الطريقِ مفسدةٌ مساويةٌ للمصلحةِ المرادِ تحقيقُها أو أقوى منها، فإنْ ترتَّب على فعلِهم مفسدةٌ فلا يجوز عملاً بقاعدةِ: «دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ».
والله أعلم، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله و صحبه والتابعين لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٩ رمضان ١٤١٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٨ جانفي ١٩٩٧م
(١) أخرجه الترمذي في «البيوع» (١٢٦٤)، وأبو داود (٣٥٣٥) في «الإجارة» باب في الرجل يأخذ حقَّه مَن تحت يده، والدارمي في «البيوع» باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة (٢٦٥٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (٤٢٤).
(٢) أخرجه البخاري في «النفقات» باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه: (٥٣٦٤)، ومسلم في «الأقضية» (٤٥٧٤)، وأبو داود في «الإجارة» باب في الرجل يأخذ حقَّه مَن تحت يده (٣٥٣٤)، والنسائي في «آداب القضاة» باب قضاء الحاكم على الغائب إذا عرفه (٥٤٣٧)، وابن ماجه في «التجارات» باب ما للمرأة من مال زوجها (٢٣٨١)، وأحمد (٧/ ٦٠) رقم: (٢٣٥٩٧) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٣) أخرجه البخاري في «المظالم» باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه (٢٤٦١)، ومسلم في «اللُّقطة» (٤٦١٣)، وأبو داود في «الأطعمة» باب ما جاء في الضيافة (٣٧٥٤) وابن ماجه في «الأدب» باب حقِّ الضيف (٣٨٠٧)، وأحمد (٥/ ١٤٥) رقم: (١٦٨٩٤)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(٤) أخرجه البخاري في «المظالم» باب: «أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» (٢٤٤٣)، والترمذي في «الفتن» (٢٤٢١)، وأحمد: (١٣٤٢١)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ومسلم في «البرِّ والصلة والآداب» (٦٧٤٧)، من حديث جابر رضي الله عنه.
(٥) «سبل السلام» للصنعاني (٣/ ٦٩).