الشاعر والناقد : شريف رزق
شِعريَّة الحِكايةِ، والبنيَةِ القصصيَّةِ
في تجربَةِ أحْمَد رَاسِم الشِّعريَّةِ
يُعدُّ ديوانُ أحمد راسِم العربيِّ الوحيدِ: "الحَديقة المَهْجُورة": 1922، الدِّيوانَ العربيَّ الطَّليعيَّ الأقدمَ في مَسيرَةِ القصِيْدِ النَّثريِّ العربيِّ، غيْرَ أنَّه لا يزالُ مَفقودًا؛ حيْثُ تخلَّصَ منْهُ راسم، في أعْقابِ ردِّ الفِعلِ العنيفِ الَّذي استُقبلَ بهِ عشيَّةَ إصْدَارِهِ، ممَّا حدَا براسم أنْ يُكرِّسَ تجربتَهُ الشِّعريَّةَ بالفَرنسيَّةِ، الَّتي سرعانَ مَا أصْبحَ منْ أبْرَزِ شُعرائِهَا.
وثمَّةَ نماذجُ قليلةٌ باقيَةٌ منْ أشْعارِ أحمد راسِم (1895- 1958) العَربيَّةِ - بعضُهَا من قصائدَ لمْ يتخلَّصْ منْهَا، وبعضُهَا قصائدُ لمْ تجمُعْ في كتابٍ بالعربيَّةِ - رُبَّمَا تأثُّرًا بمصِيْرِ: "الحَديقة المَهْجورة"- وقد أعَادَ كتابتها بالفرنسيَّةِ أيضًا - تعودُ إلى عِشرينيَّاتِ وثلاثينيَّاتِ القرْنِ المَاضِي، وتكشِفُ، في مُجْملِها، عنْ اهْتمَامٍ واضِحٍ بشِعريَّةِ الحِكايَةِ، وإقامَةِ البنيَةِ السَّرديَّةِ، والانفتاحِ على آليَّاتِ السَّرديَّاتِ المُتنوِّعَةِ؛ سَرديَّاتِ الأدَاءِ التَّوراتيِّ، وسَرديَّاتِ الحِكاياتِ الشَّعبيَّةِ، وسَرديَّاتِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ، في نبرَةٍ شِعريَّةٍ مُحَايدَةٍ، وخافتةٍ ومُرْهَفةٍ، يتجلَّى فيْهَا الحَدَاثيُّ رومانتيكيًّا في أحْيانٍ عديدَةٍ، وتكشِفُ، كذلكَ، عنْ جنوحٍ إلى مَزْجِ الشَّخصِيِّ بالتَّاريخِيِّ، وأسْطرَةِ السَّرديَّاتِ الحَياتيَّةِ، ففي نصِّهِ: "أوثيليا"، تتأسَّسُ بنيَةِ الحِكايَةِ، عَبْرَ أدَاءٍ سَرديٍّ مَشْهَديٍّ يجمَعُ بيْنَ شِعريَّةِ الأدَاءِ التَّوراتيِّ، وشِعريَّةِ نشيْدِ الإنْشَادِ، وشِعريَّةِ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ، في أدَاءٍ شِعريٍّ شِفاهيٍّ، وهو يَرَى المَعِيشَ بمَنظورِ المُقدَّسِ المَسِيحيِّ التَّاريخِيِّ، ممَّا يُؤسْطِرُ المَشْهَدَ، وقد توسَّعَ راسم في هذا الأدَاءِ في ديوانِهِ الفَرَنسِيِّ: "هيَ الابتسامَةُ الأخيرَةُ ليسوع":1931.
"أوثيليا
"في قلبِ المَدينَةِ كنيسَةٌ، وعلى مَقرُبَةٍ منْ البَابِ لوْحَةٌ وسِرَاجٌ. العتمَةُ تنسَجمُ، والجُدْرَانُ الصَّفرَاءُ، مَطليَّةٌ بالكلَسِ.
العَذرَاءُ مريم ذاتَ الوَجْهِ النَّقيِّ واللونِ "الفتيِّ" والنَّظرِ الطُّفوليِّ تتأمَّلُ ابْنَهَا المُحْتضَرَ المَثقوبَ البَدَنِ المُرْتعِشِ الأعْضَاءِ، وهيَ مُنْحنيَةٌ على صَدْرِهِ المَكشوفِ يجرِي مِنْه خيطٌ طويلٌ منْ الدَّم.
وكأنَّ العَذْرَاءَ مريمَ ذاتَ الوَجْهِ الصَّافي أكثر فتاءً منْ ابنِهَا يسوعَ؛ لأنَّ الابنَ هو أبو الأرْضِ، أبو الأحْيَاءِ، ولأنَّ الأمَ هيَ ابنَةُ الإلهِ يسوع، ابنِهَا.
كانَتْ الظِّلالُ الصَّافيةِ قد نفذَتْ إلى قلبِ مريم، فعينَا العَذْرَاءِ شبيهتانِ بعينيْ اللهِ، ولكنَّ جسَدَهَا شبيهٌ بجسَدِ المَرْأةِ.
ولئِنْ يكُنْ نظرُهَا الطَّافي على الجرَاحِ المفتوحَةِ احْتفظَ بنعومَةِ الحَريْرِ كظِلِّ غيْمٍ على السَّهلِ فلأنَّ مريم العَذْرَاءَ القِدِّيسَةَ أكثر فتاءً منْ ابنِهَا يسوعَ.
•
يا مريمُ القِدِّيسَةُ، يا أمَّ الرَّبِّ، أيَّتُهَا المَرْأةُ الغريبَةُ بيْنَ النِّسَاءِ، أيَّتُهَا العَذْرَاءُ الَّتي تُسْكِرُ عذوبتُهَا الحَوَاسُ كخَمْرَةٍ صَافيَةٍ، اسْمَعِي هذِهِ الكلمَاتِ البَسِيطَةِ الطَّافحِ بهَا قلبي:
كمَا أنَّ النِّسَاءَ التَّقيَّاتِ يحببنَ ابنَكِ الَّذي سيبقَى حبيبهنَّ الوحيْدَ على الأرْضِ، أُحبُّكِ يا مريمُ، ذلكَ الحُبَّ الإلهيَّ الَّذي يستنزِفُ دَمَ الجَسَدِ؛ فهَلاَّ أحببتِني أنْتِ كذلكَ؟
بمَا أنَّه يبذرُ في القلوبِ بذورَ حنانِهِ المُحْتويَةِ على طمأنينَةِ المَسَاءِ فهلاَّ وَضَعْتِ يَا مريمُ يدَكِ على كتفِي لتُسْكِني نفْسَاً عذَّبتْهَا الحَيَاةُ؟
هَلاَّ خَرَجْتِ هَذا المَسَاءَ منْ إطَاركِ القديْمِ فجئْتِ إليَّ كأخْتٍ مُعذَّبةٍ، أنْتِ الَّتي يُخْفي وَجْهُكِ الهَادئُ قلبًا هائجًا، أنْتِ الَّتي لا تزاليْنَ تُحبِّيْنَ الصَّليْبَ والحِجَارَةِ، أنْتِ الَّتي تعرفيْنَ آلامَ الَّذين يَظهرونَ بمَظْهَرِ السُّعدَاءِ.
هَلاَّ نزَلْتِ منْ إطَارِكِ الصُّوفيِّ مَادَامَ لا يستطِيْعُ الصّعودَ إليْكِ إلاَّ كلمَاتِي، وهَلاَّ أتيْتِ تقوليْنَ لي وأنْتِ تبتسِمِيْنَ: " الألمُ ثقيْلٌ يرسُبُ في قعْرِ القلْبِ، والألمُ الحَقيقيُّ مَا جَهَّمَ قطُّ وَجْهًا."
فأُصْغِي إليْكِ، ورُبَّمَا مُبتسِمًا...وتأتِي إليَّ رأفتُكَ كالنَّسمَةِ الَّتي تُلاطِفُ وهيَ عابرَةٌ سكونَ النَّخيْلِ. وأعْلَمُ أنَّ قلبي يذوقُ عندئذٍ الطَّرَاوةَ والطُّمأنينَةَ اللتيْنِ تطفوَانِ في كنائسِكِ، وبياضَ الثَّلجِ المُسْتريْحِ على الأكوَاخِ، وغِبْطَةَ الفقيْرِ الجَالِسِ إلى مَوْقدِ نارٍ، والعَاطِفَةَ الوالديَّةَ الحَارَّةَ الَّتي أجْهلُهَا.. وقدْ يذوقُ قلبي عَذَابَ اللذَّةِ الحَادِّ.
•
على أنَّ أُعْجُوبَةً مُخيِّبةً تمَّتْ هذِهِ المَرَّة؛ فالعَذْرَاء ذاتَ النَّظَرِ الليلكِيِّ واللونِ "الفتيِّ" والوَجْه اللمَّاعِ لمْ تترُكْ إطارَهَا الرِّيفيَّ .. وخَرَجَ الشَّاعرُ وَحْدَهُ منْ الكنيسَةِ القديمَةِ وسَلَكَ الطَّريْقَ المُشْرِقَ المُؤدِّي إلى مَأواهُ.
ولكنَّهُ شَعَرَ بشَيءٍ كالنَّظرِ ينحطُّ عليْهِ؛ فالسَّمَاءُ كانَتْ زَرْقاءَ.
•
على مقرُبَةٍ منْ الكنيسَةِ حَانةٌ مَنْحُوتةٌ بدِقَّةٍ كضَرِيْحٍ. خَزَانَةٌ، أقدَاحٌ، صُحونُ "كافيار" وعلى الجُدْرَانِ غِرْبَانٌ مُصَوَّرَةٌ.
كانَتْ عَذْرَاء سَوْدَاءُ المُقلتيْنِ، كامِدَةَ اللوْنِ، ذاتَ قبضتيْنِ، كقبضتيْ الولدِ تُديرُ بيديْهَا العاجيتيْنِ آلةً نحيفةً لـ"كسبريسُو" ضَخْمَةً. وتُعَاينُ الثُّقبَ الجَامِدَ تجري منْه قهوةُ لذَّةٍ.
وكانَ الغَضَبُ السَّمَاويُّ يُضْرِمُ حدقتيْهَا.
فهلْ عَرِفَ جَسَدُهَا الظِّلالَ الصَّافيةَ؟
وكانَ هديرٌ أعمقُ منْ هديْرِ البحَارِ ينطلقُ منْ الآلةِ الضَّخمَةِ، هديرُ زفرَاتٍ شبيهَةٍ بالهديْرِ والزَّفرَاتِ الَّتي تصنعُهَا اللذَّة، ولكنَّ المُقلتيْنِ السَّوداويْنِ الطَّافحتيْنِ بالتواءَاتٍ مُنْسَجمَةٍ كانتا تضْحَكانِ بشكْلٍ يُثيرُ القلقَ. وهكذا كانَ النَّظرُ يُشبهُ اللهَ ولكنَّ الجَسَدَ يُشبهُ المَرْأةَ. وكانَ طِيْبٌ منْ المَناطِقِ الحَارَّةِ يفوحُ منْ "الاكسبريسُو" الَّتي تتطايرُ حوْلَهَا يدَاهَا، يدَاهَا المُختَّمتانِ الشَّبيهتانِ بحَمَامتيْنِ قلِقتيْ النَّظر.
•
ولكنَّ أُعجوبَةً مُدْهشةً تمَّتْ هذِهِ المَرَّة؛ فمَا لبثتْ العَذْرَاءُ السَّودَاءُ المُقلتيْنِ أنْ تركتْ إطارَهَا المَعْدنيَّ لتسلُكَ الطَّريقَ المُظلِمَ المُؤدِّي إلى مَأواهَا، ولمْ يكُنْ أحدٌ ينتظِرُ في زاويةِ الشَّارعِ، فأحسَّتْ منْ بعيْدٍ بأنَّ شيئًا كالنَّظرِ ينحطُّ عليْهَا، كانَتْ السَّمَاءُ زَرْقاءَ، أعْرِفُ أنَّ الشَّاعرَ سيكتُبُ كتابًا لكي يصِلَ إلى الأزمنةِ المُقبلةِ اسْم أوثيليا الخَادمَةِ؛ المَرْأةِ الَّتي يُشبهُ نظرُهَا نظرَ "محرمة" العَذْرَاءِ ذاتَ اللونِ " الفتِيِّ"، ذاتَ الوَجْهِ الصَّريحِ كالحِقدِ.(1)
إنَّ خطابَ السَّردِ الحِكائيِّ، هُنَا، يُنوِّعُ، آلياتِهِ الشِّعريَّةَ؛ فمِنْ بنيَةِ الوَصْفِ، إلى بنيَةِ المُناجَاةِ الحِكائيَّةِ، إلى بنيَةِ السَّردِ الحِكائيِّ، عَبْرَ سَرْدٍ شِعريٍّ أُسْطوريٍّ.
ويجنحُ أداءُ السَّردِ الحِكائيِّ أحيانًا إلى سَرْدِ الحِكايَةِ الشَّعبيَّةِ، كحِكايَةٍ داخِل الحِكايَةِ الأساسيَّةِ، الواقعيَّةِ المَعِيشَةِ، كمَا في قصيدتِهِ: أُغنية حزينة؛ الَّتي جاءَتْ على هذا النَّحو:
"أعْرِفُ ابنَةً صَغيرَةً ذاتَ عينيْنِ كبيرتيْنِ سوداويْنِ ويديْنِ مُغْريتيْنِ، صَغيرتيْنِ ناعمتيْنِ.
"أتى غُلامٌ صَغيرٌ يُحبُّ الابنةَ الصَّغيرَةَ، ذو عينيْنِ كبيرتيْنِ سَوداويْنِ ويديْنِ مُغريتيْنِ صَغيرتيْنِ ناعمتيْنِ.
"وفي أحَدِ الأيَّامِ أتى عجوزٌ صَغيْرٌ منْ عائلةٍ نبيلةٍ ولكنْ طاهرَةٍ، فعكَّرَ سَعَادَةَ الغُلامِ الصَّغيْرِ الَّذي يُحبُّ الابنَةَ الصَّغيْرَةَ، الغُلامِ ذِي العينيْنِ الكبيرَتيْنِ السَّوداويْنِ واليَديْنِ المُغْريتيْنِ الصَّغيرَتيْنِ النَّاعِمتيْنِ.
"وخُيِّلَ إلى الصَّغيْرِ المَسْكيْنِ أنَّ العَجُوزَ الطَّاهرَ قدْ مَاتَ، وأنَّهُ سيكونُ لهُ بعدَ اليوْمِ السَّعادَة الَّتي يسْتحِقُّهَا، سيكونَ له الابنَة الصَّغيْرَة ذاتَ العينيْنِ الكبيْرَتيْنِ السَّوداويْنِ، و"الرَّبوتيْنِ" الصَّغيرتيْنِ واليديْنِ المُغْريتيْنِ، الصَّغيرتيْنِ النَّاعِمتيْنِ.
"ولكنَّ الحُلْمَ لمْ يكُنْ إلاَّ حُلمًا، فبَكَى الصَّغيْرُ، وظل يبكِي حَالِمًا بالمَعْبُودَةِ؛ ذاتَ العَجُوزِ الصَّغيْرِ واليَدَيْنِ المُغْريتيْنِ، الصَّغيرتيْنِ النَّاعِمتيْنِ..
حتَّى مَاتَ منْ البُكاءْ.."
لمَّا أنْشَدْتُ هذِهِ الأغنيَةَ لـ"نِيسَان" قالتْ:
"أنَا لا أُحبُّ العَجَائزَ الصَّغارَ، وأُوثرُ خُبْزًا ومِلْحًا، وأنْتِ في فندقٍ ذي أطعِمَةٍ شهيَّةٍ معَ آخرٍ."
ووَضَعَتْ "نِيسَانُ" قبلةً بيْنَ عينيَّ. ثمَّ أرْدَفَتْ قائلةً:
"ولا أُحبُّ تلكَ القُصُورَ الكبيْرَةَ الفخمَةَ."
ومَا قالتْهُ "نِيسَانُ" كانَ حقًّا!.
ولكنْ إنْ تكُنْ "نِيسَانُ" اكتفت يومًا بأنْ تُقِيمَ بقصْرٍ فليسَ الذَّنبُ عليْهَا؛ ففي ذلكَ الزَّمنُ الَّذي ارْتفعَتْ فيْهِ أسْعَارُ المَعِيشَةِ، كُنَّا عاجزيْنِ عنْ الاهْتدَاءِ إلى خُبْزٍ ومِلْحٍ وفندقٍ..
فالحُلْمُ لمْ يكُنْ إلاَّ حُلمًا بَلْهُ المَصِيْرُ.
ولئِنُ يشق أحْمَدُ أحْيانًا حَالِمًا بـ"نِيسَان" فلأنَّ أحْمَدَ ما يزَالُ يحملُ في حَلْقةِ مَفاتيحِهِ خاتمًا مَحْفُورًا عليْهِ تاريخٌ عزيزٌ؛ فعلى مَكتبِهِ سَاعَةٌ تُشِيْرُ إلى الوَقْتِ!.
أمَّا أنْتَ الَّذي يَجْهَلُ حقيقةَ قصتِهِمَا ففيْمَ تبكِي حِيْنَ تُعِيْدُ قرَاءَةَ هذِهِ الأغنيَةِ؟(2)
إنَّ البناءَ الحِكائيَّ للنَّصِّ يكشِفُ عنْ وجودِ بِنيتيْنِ حِكائيَّتيْنِ، في مَتْنِ الخِطابِ؛ الأُولى بنيَةٌ حِكائيَّةٌ شَعبيَّةٌ، هيَ أُمثولةٌ رمزيَّةٌ، دالةٌ على الحِكايَةِ الكُبْرَى المُتضمِّنَةِ الأُولى؛ حكايَةِ أحْمد ونِيسَان، والبناءُ الحِكائيُّ هُنا بناءٌ مُزْدَوجٌ؛ حيْثُ يروي النَّصُّ قصَّتيْنِ، في إطارِ قصَّةٍ واحدَةٍ كبيرَةٍ.
ونِيسَان منْ أكثرِ الشَّخصيَّاتِ حضورًا في خِطابِ رَاسِم الشِّعريِّ، وهيَ حبيبتُهُ الَّتي تعلَّقَ بهَا، وانْتهَتْ علاقتُهُ بهَا نهايَةً مأسويَّةً؛ حيْثُ تزوَّجتْ شقيقتُها "منْ الملكِ فؤاد مَا جَعلَهَا مَلِكةَ مصْرَ، ومَا حالَ دونَ تواصُلِ علاقتِهِمَا.. ثمَّ أُجْبرَتْ نِيسَانُ على الزَّواجِ منْ أحدِ الباشوَاتِ، ووافتْهَا المنيَّةُ بعدَ أشْهُرٍ، كانَتْ هذِهِ الحَادثةُ بمثابَةِ الصَّدمَةِ العنيفَةِ؛ الَّتي قضَّتْ حياةَ الشَّاعِرِ الشَّابِ، ولمْ يغِبْ أثرُهَا عنْ شِعرِهِ طِوَالَ أعْوَام، وظلَّ طيْفُ "نِيسَان" يسكنُهُ، حتَّى عِندَمَا كانَ يكتُبُ عنْ نِسْوَةٍ أُخْرَيَاتٍ عَبَرْنَ حياتَهُ، وظلَّتْ قصَائدُ الحُبِّ لديْهِ تقولُ في مُعظمِهَا عُزْلةَ الحبيْبِ المَجْرُوحِ والمَنْسِيِّ والكئيْبِ، إنَّهَا صُورَةُ العَاشِقِ الَّتي كانَتْ تتبدَّى في "المَوَاويْلِ" الرَّائجَةِ حينذَاكَ، وقدْ اسْتوحَاهَا أحْمد رَاسِم كثيرًا"(3) وقدْ كتَبَ فيْهَا ديوانَهُ الفَرَنْسِيَّ: كتاب نِيسَان، ومنْه نصوصٌ كتبَهَا بالعربيَّةِ ومنْهَا هذا النَّصُّ؛ أُغنيَة حزينَة، ونصُّ: تأبيْن، وفي النَّصِّ الأخيْرِ يجنَحُ أداءُ السَّردِ الحِكائيِّ إلى السَّردِ الغِنائيِّ، معَ جنوحٍ إلى تكثيْفِ الصُّورِ الشِّعريَّةِ الطَّازَجَةِ، على هذَا النَّحوِ:
"كانَتْ تحبُّنِي...ورُبَّمَا كنْتُ أُحبُّهَا أنَا كذلكَ
ولكنَّ "نِيسَانَ" مَاتَتْ،
تارِكةً إيَّايَ وَحْدِي، أنَا ذُو القلبِ السَّريْعِ العَطَبِ كحَبْلِ المَسَاكيْنِ.
وكحَبَلِ المَسَاكيْنِ أحْتاجُ إلى عَرِيشٍ.
كُنْتُ حَبْلَ المَسَاكيْنِ وكَانَتْ العَرِيشَ أزْهَرَ عليْهِ.
ولكنَّ آلهَاتِ الجَحِيْمِ جَاسَتْ أحْلامَنَا الصِّبيانيَّةَ
فبكيْتُ أيَّامًا طويلةً وسَأبكِي أيَّامًا طويلةً أُخْرَى.
فهَلاَّ ابتُلِيْتَ يَا صَدِيقِي بمَا ابتُلِيْتُ بِهِ أنَا وشَعُرْتَ بمَا أشْعُرُ بِهِ...
فتُدْرِك عِنْدئذٍ بُطْلانَ الحَيَاةِ بعْدَ تلكَ اللذَّاتِ كلِّهَا.
وتُدْرك شقائِي..
ومَعَ هذَا
أتمنَّى أنْ يكونَ لي عَذْرَاء شَابَّة ألعَبُ بنهديْهَا...
فإنِّي أسْأمُ حَيَاتِي
فضَجَرِي المُضْنَى يتثاءَبُ كصَدَفٍ آسِنٍ أوْ إذَا شِئْتَ، أيُّهَا القارئُ الرِّثائيُّ، كوَرْدَةٍ مَنْسِيَّةٍ تذبُلُ بهدوءٍ في جَوٍّ كئيْبٍ باردٍ يُخيِّمُ فيْهِ السُّكونُ، يَحْلُمُ السُّكونُ فيْهِ كوَرْدَةٍ مَنْسِيَّةٍ!
أودُّ أنْ أقبِضَ على نَهْدِ عَذْرَاء؛ فيشرئِبّ في قبضتِي ككلْبٍ صَغيْرٍ
يُلاطِفُ حِيْنًا ويعتدِي حِيْنًا وينبحُ على القَمَرِ.
ذَلكَ أنِّي أكادُ أختنقُ حيْنَ يقعُ نظرِي على زَهَرَاتِ شِفاهِ الفتيَاتِ
وإنِّي لكذَلكَ النَّسرِ المَحْطُومِ الجَنَاحِ الَّذي يموْتُ منْ العَطَشِ بجوارِ ينبوعٍ حَيٍّ.
إنِّي لأودُّ أنْ أُقيْمَ
بقلبِ كلِّ مَنْ يقولُ لي جَمَالُهَا: اسْمَعْ
بقلبِ كلِّ مَنْ جَعَلتْ قلبي وَطَنَها
وأنْ أكونَ موضوعَ أحلامهُنَّ في المَسَاءِ، في القَمَرِ المُعَطَّرِ منْ أسِرَّتهِنَّ حِيْنَ ينسلُّ الحُبُّ حتَّى إلى أطْرَافِ أناملهنَّ الحَسَّاسَةِ...
أودُّ أنْ أكونَ هذَا الرَّجُل!
ولكنَّنِي أودُّ اليومَ أنْ يكونَ إلى جَنْبِي فتاةٌ مُورَّدَةٌ مُذهَّبَةٌ كالدَّرَاقةِ، عذبْةٌ كصَبَاحِ الرَّبيْعِ، وأودُّهَا بلهاءَ طريَّةً ليِّنَةً كسُنبلةٍ في الهَوَاءِ...
فإنِّي أسْأمُ حَيَاتِي.(4)
وقدْ ظلَّ طيْفُ "نيسان" مَاثلاً أمَامِ راسِم، يراها في أشيائِهِ، وفي الأمَاكِنِ الَّتي رَآهَا فيْهَا، وهُو مَا يبدو وَاضِحًا في مُدوَّنتِهِ الشِّعريَّةِ، يقولُ في قصيدَةِ: الصُّورَة القديمَة:
"وَجَدْتُ هذَا الصَّبَاح صُورَةً لكِ قديمَةً مَنْسِيَّةً في كِتابِ، كانَ وَجْهُكِ بلوْنِ الذِّكريَاتِ القديمَةِ، وكُنْتِ تنظرِيْنَ إليَّ بعينيْنِ مُغْرَورِقتيْنِ بالدِّموعِ...
سَاعَاتٌ مَاضِيَةٌ، مُضْمَحِلَّةٌ، شقيَّةٌ وثمينَةٌ.
أيْنَ أنْتِ الآنَ أيَّتُهَا الحبيبَةُ الصَّغيرَةُ الحَنُون؟
لئِنْ وَجَبَ عليَّ أنْ أختارَ أُمنيَةً لهذَا النَّهارِ لرَغِبْتُ أنْ أعْرِفَ مَاذَا حَلَ بكِ.
لقدْ جلْتُ اليومَ بالقُرْبِ منْ بابِكِ ونظرْتُ طويلاً إلى نافذَةِ الغُرْفةِ الَّتي كُنْتِ فيْهَا تُفكِّريْنَ بنا، منْ غيْرِ أنْ تعْرِفي أنَّ ظِلَّ وَجْهِكِ يَحْجُبُ منْ العَابرِ الحَالمِ كلَّ مَاضِيْهِ. (5)
ويحفلُ شِعرُ رَاسِم بسرديَّاتٍ منْ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ، وبشَخصِيَّاتٍ أبرزُهَا: نِيسَان، والجدَّةُ "رنججل"، والخادِمَةُ "زنبل"، ومنْ أبرَزِ الأمَاكِنِ: جَبَلُ عتاقة، وتتبدَّى مَرْكزيَّةُ هذِهِ الأسْمَاءِ في خِطابِهِ الشِّعريِّ، منْ عناوينَ مثلَ: "وجدَّتي تقول": 1931، و" زنبل تقول أيضًا": 1932 ،" مجنون عتاقة": 1941، وأحيانًا يتجاوزُ المُحِيطَ الأُسَريَّ إلى المُحِيطِ الاجتماعيِّ المُحِيطِ بالأسْرَةِ، كمَا في نصِّهِ: الجار الفقير، وهو أحدُ النُّصوصِِ الَّتي أعَادَ كتابتَهَا بالفَرنسِيَّةِ، ونشرَهُ في مجموعتِهِ: "الحَديقة العَتيقة": 1941، ومنْهُا:
"كانَ ينظُرُ منْ نافذتِهِ إلى الأشْجَارِ، كأنَّهُ يَرَاهَا للمَرَّةِ الأُولى، وكانَتْ حَضَرَاتٌ غيْرُ مَنظورَةٍ تُحوِّمُ حوْلَهُ.
أتعرِفُ لوْنَ الأوْرَاقِ في الصَّبَاحِ، ولونَهَا عِنْدَ الغَسَق؟
أتعرِفُ شَكْلَ الأغْصَانِ الَّتي تحْمِلُ الأوْرَاقِ المُشْرقةِ، وشَكْلَ الأغْصَانِ الَّتي تحْمِلُ الأوْرَاقِ المُشْربَةِ الألوَان؟
وهلْ رَأيْتَ، عِنْدَ المِغيْبِ، أشْجَارًا حمرَاءَ مُحمَّلةً أوْرَاقًا شبيهَةً بتلكَ القلوبِ المُسِنَّةِ، الَّتي تدْمَى فيْهَا الذِّكريَاتُ؟
أتعرِفُ مَا هُو التّذكارُ؟
كانَ الرَّجُلُ الشَّاحِبُ ينظُرُ إلى الأوْرَاقِ الخَضْرَاءِ، ولكنَّهُ كانَ يُفكِّرُ في الأوْرَاقِ الصَّفرَاءِ، ويُفكِّرُ في الأشْجَانِ الَّتي بقيَتْ فيْهِ، وكأوْرَاقِ الطَّريقِ سَقَطَتْ يومًا منْ شَجَرَةِ قلبِهِ.
هلْ اتَّفقَ لكَ أنْ رَأيْتَ في عينيْ جارِكِ الفقيْرِ، انْعكاسَ صورتِكَ، حِيْنَ يرْتَعِشُ نظرُهُ المُتردِّدُ كوَرَقةٍ لدَى سقوطِهَا، كوَرَقةٍ تسقُطُ بعدَ أنْ كانَتْ الوَرَقةَ الَّتي عطَفَهَا النَّسيْمُ، على زَهْرَةِ الوَرْدِ الوَحِيْدَةِ؟.
فإنْ يكُنْ نظرُهُ بقيَ مَمْسُوحًا بصِبْغَةِ الحُلْمِ، بعْدَ أنْ ابْتلَعَ المَقدُورُ الصَّارمُ جميْعَ كلِمَاتِهِ، وإنْ تكُنْ نفسُهُ لا تزَالُ تلمَعُ كزُجَاجِ الجَوَامِعِ القديمَةِ الَّتي تحْرِقُهَا الشَّمسُ، فلأنَّهُ احْتفظَ تحْتَ أهْدَابهِ، بصُورَةِ الحَدِيقةِ القدِيمَةِ، مُشْرِقةً وزَاهيَةً؛ الحَدِيقةِ القديمَةِ الَّتي كانَ يَرَى على مِقْعَدٍ حَجَريٍّ فيْهَا جارَةً لهُ، حَجَبَتْ خُصْلَةٌ منْ شعورِهَا جانبًا من صَدْغِهَا، تبتسِمُ بعذوبَةٍ حِيْنَ ترَاهُ.
وهَكذَا في سُكونِ الأشْيَاءِ، سَيَبْقَى بَعْدُ طويلاً يبتسِمُ في الليْلِ.(6)
ويجنَحُ أداءُ السَّردِ الحِكائيِّ أحْيَانًا إلى رمزيَّةِ الصُّوفيَّةِ الفارسيَّةِ، رمزيَّةِ حافظ الشِّيرازيِّ تحديدًا، في سَرديَّاتٍ شِعريَّةٍ رمزيَّةٍ، صُوفيَّةِ الطَّابَعِ، تميلُ كذلكَ إلى التَّشكُّلاتِ الحواريَّةِ، والطَّابَعِ الأسْطوريِّ، كَمَا يجنَحُ إلى أجْوَاء رومانيكيَّةٍ، ويبدو هذَا في نصوصِهِ الَّتي كتبَهَا عنْ جبل عتاقة - يكتب:"عتاقة"، دائمًا: "عتقة"- أثناءَ إقامتِهِ بالسِّويسِ، وهيَ النُّصوصُ الَّتي ضَمَّنَهَا ديوانَهُ الفَرنسِيَّ: "مجنون عتاقة": 1941، ومنْ النُّصوصِ العربيَّةِ الَّتي وُجِدَتْ منْ هذِهِ المَجْمُوعَةِ نصُّ:" ناسك العتقة" ، ومنْهُ:
(1)
على جَبَلٍ في مِصْرَ يتنفَّسُ شكلٌ رَمْسِيٌّ، مُتَجَاوزَ الحَدِّ، نحتتْهُ الشُّموسُ والرِّياحُ؛ هُوَ "المُومياء المُضْطَجِعَة"، امْرَأة العَتقةِ الَّتي يُعِيدُ جانبُ وجهِهَا إلى الذَّاكرَةِ العَذَارَى المِصْريَّاتِ بذلكَ الافتتانِ السَّاذَجِ بالحَيَاةِ؛ الَّذي يُنيرُهَا منْ الدَّاخلِ، ويدورُ حولَهَا خَيْطٌ مَا سِرْدَابيٌّ مَخْنُوقُ الخَرِيْرِ.
وهذَا الشَّكلُ ينعكِسُ على أُفقِ المَغِيبِ، كأنَّهُ يُزينُ، على مَدَى العُمْرِ، حَالةً فريدَةً؛ هيَ الاندثارُ.
السَّمَاءُ دائمًا زَرْقَاءُ.
•
هندسَةٌ مُؤنَّسَةٌ تتَّخذُ شكْلاً جَسَديًّا؛ لِتُصْبحَ قلوبُنَا أشدَّ تأثُّرًا بهَا
وهذِهِ المَرْأةُ ليسَتْ ميِّتةً؛ بدليْلِ أنَّهَا تتنفَّسُ كالحِجَارَةِ عنْ حَيَاةٍ دَاخليَّةٍ
ولكِنْ مَحْظُورٌ عليْهَا أنْ تفتَحَ شفتيْهَا، مَحْظُورٌ عليْهَا أنْ تنْهَضَ؛ لِتختلِطَ بالأحْيَاءِ
وتحْتَ قدمَيْهَا يَدْمَى وادٍ ذو تُرَابٍ أحْمَر مُوْحِلٍ
وقدْ قصَّ عليَّ رَجُلانِ اجْتَمَعْتُ بهِمَا يومًا قصَّتَهَا، فأحْبَبْتُ قصَّةَ الجَبَلِ، ذي القلبِ المَسْحُوقِ.
(2)
في الجَبَلِ الأحْمَرِ قالَ لي النَّاسِكُ، الَّذي اجْتَمَعْتُ بهِ بعْدَ أنْ اسْتشَارَ قبْضَةً منْ الرِّمالِ:
"إنَّ مَطَرَ الغيومِ الوَرْدِيِّ المُشْتعِلِ بالمَغِيْبِ، حَمَلَكَ يوْمًا على الاعْتقادِ بأنَّ الجَبَلَ يَدْمَى؛ لأنَّ قلبَكَ المَحْطُومَ مَشْقوقٌ كرُمَّانةٍ مَجْرُوحَةٍ، سَقطَتْ منْ الشَّجَرَةِ على حَجَرٍ..
" اصْغِ في ضَوْءِ المَسَاءِ إلى النَّباتِ المُتنفِّسِ، وانْظُرْ إلى يدِ الَّذي يُدِيرُ الكَرَى ويَجْذِبُ الحبَّ في الفَضَاءِ..
" فتتعرَّف إلى ضَوْءٍ منْ الحُلْمِ، كأنَّكَ في ليلةٍ قَمْرَاءَ، وتشعُرُ بطرَاوَةِ الشِّفاهِ العَارفةِ تمرُّ بأعْرَاقِكَ..
فيمَ لا تُعاشِرُ مَحْظيَّةً حَسْنَاء؟؛ فتنظُر إليْكَ بفمٍّ مُخَضَّبٍ، وتمتزجُ الغيومُ تحْتَ دفعةِ الرِّياحِ، وتتعرَّفُ إلى هَيَجانِ النَّفسِ اللطيْفِ الشَّادِي الرَّصيْن..
"وتنسَى اللؤلؤةَ الشَّابَّةَ الَّتي تُصَاحِبُ أحْلامَكَ، اللؤلؤةَ المُسْتديرَةَ الحَيَّةَ.."
هَكذَا تكلَّمَ ناسِكُ العَتقةَ، وهو رَجُلٌ مُسِنٌّ، ذو وَجْهٍ كوَجْهِ الوَعْلِ، يُحِبُّ حَفِيْفَ الرِّيحِ في المَسَاءِ على الكُثبَانِ، ثمَّ صَمَتَ.
(3)
وقالَ المَجْنونُ:
" كانَتْ العَذْرَاءُ الشَّابةُ ذاتَ الذَّقنِ المَحْفُورَةِ بابْتسَامَةٍ عذْبَةٍ كحَجَرٍ أبْيَضَ، الثَّرثارَةُ كحَقْلٍ منْ الشَّقيقِ حيْنَ يقرَعُ ألوانَهُ في الشَّمسِ..
"وكانَ صَوْتُهَا ينسجُ لي في مَخْمَلِ الليْلِ وَشيًا دقيقًا كالوَشْي الَّذي كانَ على أرديَةِ أمِّي، وكانَ ذلكَ عذْبًا، كذلكَ النَّهرِ الَّذي نبَضَ فيْهِ انْعِكاسُ الشَّجَرِ، ذاتَ مَسَاءٍ..
"وكانَ لشُعورِهَا لوْنُ رَمْلِ الشَّاطئِ بلَّلَهُ المَوْجُ.
"ولئِنْ كانَ جبينُهَا شاحِبًا فلأنَّ كآبَةَ النُّجومِ أقامَتْ بشُعورِهَا، ذاتَ مَسَاءٍ.
"وكانَ صَوْتُهَا ينسَابُ في العُروقِ كدَويِّ الأمْوَاجِ، في أُمْسِيةِ العَوَاصِفِ.
"وحتَّى عِنْدَمَا تُضْرِمُ قهقهَةُ ضَحِكِهَا القاعَةَ، كانَ الجَانبُ المُظْلِمُ منْ نفسِهَا يُرَى دائمًا في عَينيْهَا.
"وفي عَينيْهَا اللازوردِيتيْنِ كأنَّ غابةً تتنفَّسُ فيهِمَا، خُيِّلَ إليَّ أنِّي أرَى آيَةً منْ القُرْآنِ بأحْرُفٍ كُوفيَّةٍ كأنَّهَا في جذْعِ شَجَرَةٍ.
(6)
كانَتْ السَّاقيةُ المَهْجُورَةُ فرِحَةً باشَّةً كخَرِبَةٍ
وليْسَ على النَّاعورَةِ إلاَّ غُرَاب
وكانَتْ بضْعُ أشِعَّةٍ كأنَّهَا تسْتطِيْبُ التَّأخُّرَ على قمَّةِ شَجَرَةِ الجُمَّيزِ
وكانَ الظِّلُ أزْرَقَ
يخفقُ فيْهِ شَيءٌ منْ الحُنوِّ
كتذكارِ حُبٍّ مَجْهولٍ، كتذكارِ ضَمَّاتٍ
فأيْنَ أنْتِ أيَّتُهَا القُرويَّةُ الشَّابةُ الَّتي كانَتْ تُطرِبُ فتَاها
بمَوَّالٍ سَاحرٍ في يوْمِ قيظٍ فيْمَا السَّاقيَةُ تدورُ؟"(7)
ولعلَّهُ منْ الوَاضِحِ هُنَا، في هذِهِ السَّرديَّاتِ الشِّعريَّةِ المُتنوِّعَةِ، أنَّ خِطابَ رَاسِم الحَدَاثيَّ الطَّليعيَّ، يتبدَّى وِجْدانيًا، في حَالاتٍ عديدَةٍ، وإنْ كانَ الوَعْيُ الحَدَاثيُّ هُنَا يقومُ بضَبْطِ التَّدفُّقِ الوْجْدَانيِّ، بمَا يُميِّزُ شِعريَّةَ هذَا الخِطابِ عنْ شِعريَّاتِ الشِّعرِ المَنْثورِ المُحيطَةِ بهِ؛ وبهذَا يتقاطَعُ شِعرُ رَاسِم معَ وِجدانيَّةِ الشِّعرِ المَنْثورِ، ويتجاوزُهَا، بوَعْيهِ الحَدَاثيِّ الطَّليعيِّ، وإنْ ظلَّ يُطِلق على هذَا الشِّعرِ: "شِعر مَنثور"(8 )