كيف تنجح كلمات قليلة
في حث الناس على دفع ملايين الجنيهات؟
كانت الولايات المتحدة تعاني من انتشار الجريمة بشكل كبير في سبعينات القرن الماضي. ووصل العنف والسطو على الممتلكات وتعاطي المخدرات إلى أعلى مستوياته على الإطلاق بدءا من الساحل الشرقي وحتى الجزء الغربي من البلاد. وفي ولاية نيوجيرسي، قررت الشرطة أن تفعل شيئاً إزاء هذا الوضع.
توصلت الشرطة إلى أن القدوة الحسنة هي أفضل وسيلة لإبعاد الشباب عن التورط في الجريمة. وبالتأكيد، لو عرف هؤلاء كيف يعيش السجناء لاختاروا السلوك الحسن لتجنب حياة السجون.
لذلك نظمت السلطات سلسلة من الزيارات لسجن راهواي، حيث تم تقديم الأحداث المنحرفين للسجناء المحكوم عليهم بالإعدام لارتكابهم جرائم تتراوح بين إعداد المتفجرات إلى بيع المعلومات للمافيا.
وأعدت الزيارات بحيث تكون صادمة بقدر الإمكان، إذ كان السجناء يتلفظون بألفاظ نابية ويصرخون ويخبرون الزوار من الشباب روايات شخصية عن الحياة داخل السجن بما في ذلك قصص منمقة عن الاغتصاب والانتحار والقتل. وبات البرنامج معروفاً باسم "الملتزم الخائف".
ولم يمض وقت طويل حتى جرى استنساخ هذا البرنامج على مستوى العالم بما في ذلك أكثر من 30 ولاية في أستراليا وبريطانيا وألمانيا وكندا.
كان البرنامج لطيفاً ومقبولاً ورخيصاً وواسع الانتشار، لكن كان هناك مشكلة واحدة فقط وهي أنه لم تكن هناك دراسة لما إذا كان البرنامج سيحقق النتائج المنتظرة منه أم لا. في عام 1982، كشفت دراسة أجريت على الشباب الذين خضعوا لهذا البرنامج عن الحقيقة وهي أن البرنامج زاد من احتمال تحول هؤلاء الشباب إلى الجريمة بدلاً من الابتعاد عنها.
ولم يكن برنامج الملتزم الخائف هو السياسة الوحيدة التي أتت بنتائج عكسية، فعندما أصبح حزام الأمان، على سبيل المثال، إلزامياً في الثمانينات توقع كثيرون أن يؤدي ذلك إلى إنقاذ أعداد لا حصر لها من الأرواح. فكيف يمكن لإجراء من إجراءات الأمان والسلامة أن يكون ضاراً؟ قال البعض إن وضع حزام الأمان أنقذ حياة 1000 شخص في السنة الأولى.
وعندما طبق نظام الإلتزام بحزام الأمان، أشارت تقديرات إلى أن من قتلوا من راكبي الدراجات ارتفع بنسبة 40 في المئة، بينما زاد عدد الذين ماتوا من المارة بنسبة واحد من بين كل خمسة أشخاص.
وتوصل تحليل لقانون حزام الأمان في 18 بلداً مختلفا إلى أن تطبيق حزام الأمان نتج عنه إما زيادة في قتلى حوادث الطرق أو لا تغيير في عدد هؤلاء الضحايا. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الناس في العادة يغيرون سلوكهم تجاوباً مع مستوى متوقع من الخطر، فعندما يكون الخطر أقل، يكون الناس أكثر تهوراً.
يقول مايكل هالسوورث الذي يعمل في "وحدة التنبيه والتحفيز" التابعة للحكومة البريطانية: "ما يبدو أنه خطة جيدة يصبح أحياناً إشكالاً بسبب عوامل لم تكن على دراية بها."
في العالم حقيقي، أفعالنا عبارة عن حقل ألغام لدوافع مخفية ومراوغات نفسية. يقول هالسوورث: "كنا نعتقد أن الناس يأخذون بعين الاعتبار جميع المعلومات المتوفرة ومن ثم يقدرون كلفة وفوائد الخيارات المختلفة، لكن تشير أدلة متزايدة خلال السنوات الأربعين الأخيرة على أن ذلك ليس صحيحاً."
التحيزات النفسية قد تقلل من فعالية تدابير السلامة - بدءا من أحزمة الأمان وحتى أدوية الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية - عن طريق تشجيعنا على مواجهة المزيد من المخاطر
ربما جعلت زيارات سجن راهواي الأحداث المنحرفين يشعرون بأن دخول السجن أمر حتمي، أو أنها أفقدتهم الإحساس بأهواله. الأسوأ من ذلك، ربما ساعد البرنامج على رسم صورة لطيفة للمحكوم عليهم بالإعدام، أو أنه صور الأوضاع الصعبة في السجن كتحديات تتطلب عزيمة وقوة لمواجهتها.
لكن هناك جوانب إيجابية، فربما كان هناك طريقة لاستخدام هذه الخصوصيات لمصلحة العامة. ابحث عن "التدخل النفسي الحكيم"، والمعروف بشكل شائع بتقنية التنبيه والتوجيه، أي توجيه صناعة القرار في الاتجاه الصحيح عن طريق عدم إبقاء طريقة تفكيرنا مغلقة.
تتسم هذه التقنيات بأنها هادئة وعادية ولا تشكل مادة وثائقية مقنعة لكن الشيء الأهم هو أن كل منها جرى اختبارها بدقة للتأكد من أنها تفضي إلى النتائج المتوخاة منها. وكانت النتيجة هي وجود طريقة غاية في القوة يمكن بواسطتها جمع أموال طائلة أو إنقاذ أرواح.
تستغرق كثير من التنبيهات دقائق معدودة فقط، لكن أثرها قد يستمر لأجيال. في إحدى الدراسات تبين أن إكمال تمرين واحد لمدة ساعة أدى إلى تحسين درجات الطلاب لمدة ثلاث سنوات.
وفي دراسة أخرى طرح سؤال على المواطنين عن دوافع تصويتهم في اليوم السابق للانتخابات. وكان لتغيير بسيط في صياغة السؤال أثر على زيادة أعداد المشاركين في التصويت بنسبة 11 في المئة.
وفي انتخابات الرئاسة الأمريكية العام 2016، قدرت دراسات حجم الإنفاق على الإعلانات الانتخابية المتلفزة بأربعة مليارات دولار. لكن حتى بالنسبة لأولئك الذين يقضون معظم أوقاتهم في مقاعدهم، فقد رفعت الإعلانات المتلفزة إقبالهم على المشاركة في التصويت بنسبة 10 في المئة فقط.
وبالعودة إلى 2010، أنشأ رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون "وحدة التنبيه والتحفيز" التي تضم فريقا من العلماء وعلماء النفس وخبراء في السياسات تتلخص مهمتهم في استخدام هذه الطريقة لتحسين التعليم والصحة ووضع الإنفاق الحكومي.
ولحل مشكلة الإنفاق الحكومي، وجد الخبراء أنفسهم يدرسون مشكلة مزمنة وقالوا إن الحياة فيها شيئان مؤكدان: الموت والضرائب. لذلك، ما هو السبب الذي يجعل كثيراً من الناس يتأخرون في دفع ضرائبهم وكيف يمكن إقناعهم بالدفع؟
يقول جون ليست، الخبير الإقتصادي بجامعة شيكاغو والذي شارك في الدراسة: "تواجه الحكومات صعوبة في حث الناس على دفع ضرائبهم منذ آلاف السنين. كل حضارة من الحضارات واجهت هذه المسألة".
في روما القديمة، كان المزارعون الذين عانوا من الضرائب الباهظة يهجرون أرضهم ويفروا إلى مدينة القسطنطينية (والتي أصبحت الآن جزءاً من تركيا)، والتي كانت في ذلك الوقت المبكر ملاذاً ضريبياً. وفي العصور الوسطى، لجأ كثير من الرجال إلى الالتحاق بالأديرة مفضلين حياة العبودية ليس بدافع التجرد الديني ولكن رغبة منهم في تجنب دفع الضرائب.
وقرر الفريق الذي يعي هذا التاريخ الطويل، أن يتبع طريقة جديدة في جمع الضرائب. في ذلك الوقت كان مواطنو المملكة المتحدة المدينون للدولة بالضرائب يتلقون رسالة تخبرهم كم عليهم من الديون وطريقة الدفع.
لكن ذلك لم ينجح. وعلى الرغم من أن بريطانيا تفرض ضرائب أقل من كثير من غيرها من البلدان، إلا أن حجم الضرائب التي لم تدفع العام الماضي وصل إلى 43 مليار جنيه استرليني، وهو ثلاثة أضعاف المساهمة المالية البريطانية في الاتحاد الأوروبي.
كان يمكن لمصلحة الضرائب البريطانية أن تحاول استرداد هذه المبالغ بإرسال موظفين يطرقون الأبواب أو حث المخالفين عبر الإذاعات أو إرسال فيض من رسائل التهديد، لكنها لم تفعل ذلك، ووضعت بدلا من ذلك إضافات بسيطة على الرسالة المعتادة التي ترسل لجميع المواطنين المدينين لمصلحة الضرائب.
كانت الطريقة التقليدية في تشجيع الأطباء على الحد من استخدام المضادات الحيوية هي أن يدفع لهم فوق راتبهم
في أغسطس / آب 2011، استيقظ 100 ألف بريطاني على رسالة ألقيت على عتبات بيوتهم. وكانوا جميعا قد اختاروا تسوية ضرائبهم بأنفسهم بدلاً من خصمها مباشرة من رواتبهم، وبات مجموع ما يستحق على كل منهم دفعه لمصلحة الضرائب يتراوح بين 400 - و100,000 جنيه استرليني. وكان غالبية المدينين رجال في الخمسينات من أعمارهم.
وبينما تلقى نصف هذه المجموعة الرسالة المعتادة، فإن آخرين تلقوا نسخة تحتوي على جملة إضافية. وقد جرب الفريق عدة خيارات، كل منها هدفه استدعاء عامل نفسي مختلف.
إحدى هذه الخيارات كان يتمثل في جعل الشخص يشعر بالخسارة أكثر من المكسب. وقد سببت هذه المسألة معاناة للسياسة العامة لسنوات طويلة، إذ أن المواطنين الذين سيخسرون 100 دولار كنتيجة للتشريع الجديد من المرجح أن يكونوا أكثر اعتراضاً بنسبة كبيرة من الذين يتوقع أن يكسبوا 100 دولار نتيجة نفس التشريعات.
وعندما أضيفت جملة "عدم دفع الضريبة يعني أننا جميعاً نخسر في مجال الخدمات العامة مثل التأمين الصحي الوطني والطرق والمدارس"، زادت معدلات الدفع بنسبة 1.6 في المئة، أي ما يعادل 760,000 جنيه من أموال الضرائب.
وحدثت هذه الزيادة المتواضعة أيضاً عندما جرى تذكير الناس بمكاسب دفع الضرائب عبر إضافة جملة "دفع الضرائب يعني أننا جميعا نكسب من...".
وركزت المنظومة التالية على جعل المواطن يشعر بالخوف من أن يكون مختلفاً، ويعتقد أن هذا الإحساس ينبع من الرغبة في تجنب الرفض من قبل المجموعة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد. وأضاف العلماء ملاحظة تقول إن "تسعة من كل عشرة أشخاص يدفعون ضرائبهم في وقتها".
لكن التغير الكبير الحقيقي جاء من جعل هذه العبارات أكثر دقة. ففي تجربة لاحقة، لاحظ الفريق أن معظم الناس دفعوا ضرائبهم، ليس ذلك فحسب، بل إن مدفوعات الناس الذين يقطنون في نفس المنطقة أي جيرانهم قد زادت. فإضافة عبارة تقول إن معظم المدينين بضرائب مشابهة دفعوا أيضاً ما عليهم، قد أدى إلى زيادة إضافية في المبالغ التي تم تحصيلها.
وبالمقارنة بالمجموعة التي تلقت الرسالة التقليدية المعتادة، أدى زيادة 26 كلمة إلى هذه الرسالة إلى زيادة معدلات الدفع بنسبة 15 في المئة، أي ما يعادل 15.4 مليون جنيه إضافية خلال 23 يوماً.
وعندما وزعت الرسائل في كافة أرجاء بريطانيا، أدت الرسائل إلى زيادة 210 مليون جنيه لترتفع عادئات الضرائب حتى اليوم إلى 630 مليون جنيه.
يقول جون ليست: "الجديد في هذه الطريقة ليس فقط معرفة نفسية الإنسان ولكن معرفة تأثيرالعوامل النفسية وفعاليتها في صناعة السياسات".
ومنذ تجربة الضريبة، طبق الفريق طريقة الرسائل لحل عدد من المشاكل الأخرى، بما فيها الوصفات الطبية الزائدة عن الحد للمضادات الحيوية من قبل الأطباء، والتي يعتقد أنها تساهم في زيادة المقاومة للمضادات الحيوية.
كانت الطريقة التقليدية في تشجيع الأطباء على الحد من استخدام المضادات الحيوية هي أن يدفع لهم فوق راتبهم. يقول هالسوورث: "هذا ما نفعله عندما نريد من الأطباء القيام بشيء الآن، أن ندفع لهم". لكن بدلاً من ذلك تساءل الفريق ما إذا كان بالإمكان التوصل إلى نتائج مساوية باستخدام طريقة الرسائل التي طوروها. يضيف هالسوورث: "كتبنا إليهم في بداية فصل الإنفلونزا وأخبرناهم بأنهم يبالغون في عدد الوصفات الدوائية".
وبشكل لا يصدق، أدى اكتشافهم لارتفاع نسبة وصفاتهم الدوائية من المضادات الحيوية إلى انخفاض عدد هذه الوصفات بنسبة 3.5 في المئة في ذلك الشتاء، أي ما يعادل 1 في المئة على مدار العام. يضيف ولسوورث: "في تلك السنة نفسها صرفنا 23 مليون جنيه على الأطباء في العيادات العامة لكي نحصل على نفس النتيجة".
ومنذ عام 2016، أقيمت وحدات تتنبيه وتحفيز في كل من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وسنغافورة وألمانيا. وعلى عكس برنامج الملتزم الخائف، لن يكون هناك أي مفاجآت هذه المرة.
BBC