البنية النفسية الثلاثية للشخصية عند فرويد في ميزان القرآن
إن العلوم الإنسانية تدرس الواقع الإنساني بحوادثه المختلفة لتجلو ثوابته وتتفهم اتجاهاته، ومن أقسام العلوم الإنسانية الثلاثة علم النفس الذي يدرس سلوك الإنسان كفرد.
ومن مظاهر عناية القرآن بالعلوم الإنسانية عامة وعلم النفس خاصة قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم(فصلت-53). فالإنسان هو محور اهتمام القرآن، فالقرآن الكريم كله إما حديث إلى الإنسان أو عن الإنسان، على هيئة حقيقة أو وصف مرتبط بموصوف.
وفي القرآن الكريم دراسات مستفيضة للشخصية والصراع النفسي، فحينما تكون شخصية الإنسان في أدنى مستوياتها الإنسانية; بحيث تسيطر عليها الأهواء والشهوات والملذات البدنية والدنيوية، فإنها تكون في حالة ينطبق عليها وصف النفس الأمارة بالسوء، يقول تعالى: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم(يوسف-53).
وحينما تبلغ الشخصية أعلى مستويات الكمال الإنساني حيث يحدث التوازن التام بين المطالب البدنية والروحية فإنها تصبح في الحالة التي ينطبق عليها وصف النفس المطمئنة، يقول تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة(الفجر-27).
وبين هذين المستويين مستوى آخر متوسط بينهما يحاسب فيه الإنسان نفسه على ما يرتكب من أخطاء، ويسعى جاهدا عن الامتناع عن ارتكاب ما يغضب الله ويسبب له تأنيب الضمير، ولكنه لا ينجح دائما في مسعاه، فقد يضعف أحيانا ويقع في الخطيئة، ويطلق على الشخصية في هذا المستوى النفس اللوامة، يقول تعالى: لا أقسم بالنفس اللوامة(القيامة-2).
بعد نزول القرآن بنحو أربعة عشرة قرنا من الزمن جاء سيغموند فرويد (1856-1939Sigmund Freud/) طبيب ومفكر نمساوي مؤسس التحليل النفسي الذي يقوم على مسلمة أساسية وهي كون النفس الإنسانية تتكون من الشعور ومن اللاشعور وهو جزء من النفس لا تعيه الذات، وأن الجانب الشعوري ليس إلا الجانب الظاهر من البنية النفسية. من مؤلفاته: تأويل الأحلام، /18991900. ثلاثة دراسات حول الجنس، 1905. ومدخل إلى التحليل النفسي، 1917.
يؤسس فرويد لنظرية نفسية تربط الأفعال النفسية الواعية بدوافع دفينة ولا شعورية. فقد قادته ملاحظاته العيادية، وقراءاته الشخصية وتشخيصه لنفسيته، إلى التأكد من مشروعية فرضية وجود منطقة لا واعية في الحياة النفسية.
ويؤكد فرويد على أن أفعالنا ليست كلها صادرة عن وعينا وإرادتنا الحرة، بل إن جزءا كبيرا منها يرجع إلى اللاشعور، أي إلى تلك الحياة النفسية اللاواعية التي ترتبط بتاريخ الفرد منذ طفولته المبكرة.
فاللاوعي أو اللاشعور هو ذلك الجانب الخفي من النفس الذي يضم صورا ورغبات دفينة ومكبوتة. أي تلك الميول والدوافع التي تم كبحها ولم تتمكن من تحقيق الإشباع المباشر بالنظر إلى تعارضها مع مبدأ الواقع، أي مع قيم المجتمع وعاداته وأعرافه.
ويحلل فرويد بنية النفس الإنسانية بتقسيمها إلى ثلاث تشكيلات أو مواقع: (الهو) وهو موطن الغرائز والدوافع والحاجات وهو منطقة لا تخضع للمنطق أو لمقتضيات العقل. أما (الأنا) فهو حصيلة الصراع بين (الهو) وبين (الأنا الأعلى) المثالي المجسد للقيم والمثل، ف(الأنا) هو جماع الشخصية وحصيلة توازنها.
يقدم فرويد تصورا ديناميا للشخصية باعتبارها جماع صراع بين الغرائز (الهو) والمثل الأخلاقية (الأنا الأعلى) وضغوط الواقع الاجتماعي. ف(الأنا) هو من جهة نتاج للتوازن والتوفيق بين هذه القوى مثلما هو أداة تحقيق هذا التوازن والتوفيق. فوحدة الشخص، هنا، وحدة دينامية عسيرة ولا متناهية التحقيق.
ف(الأنا) يمثل عند فرويد المستوى الواعي الإدراكي في الحياة النفسية الذي طرأ عليه تعديل بحكم تأثره بالعالم الخارجي. ووظيفة الأنا تكمن في التحكم في المستوى الإدراكي والحركي، وتمثيل العالم الخارجي. ف(الذات) عنده حالة تشبه ما يسمى بالنفس المطمئنة في القرآن.
بينما (الهو) يشكل البعد الغريزي الطبيعي في الشخصية. أي مجموع الدوافع الحيوية الغريزية اللاواعية الكامنة لدى الفرد في عمق النفس والتي تتطلب إشباعا مباشرا للحاجات العضوية والنفسية. وعالم الهو عالم مبهم يسوده منطق الإشباع واللذة وليس مبدأ الواقع. ف(الهو) عنده حالة تشبه ما يسمى بالنفس الأمارة بالسوء في القرآن.
أما (الأنا الأعلى(فهو مجموع القيم والمثل الأخلاقية التي يتعلمها الفرد من المجتمع ونظامه الأخلاقي والتي تضغط باستمرار على بنيته النفسية ليستجيب لها. ف(الذات العليا) عنده حالة تشبه ما يسمى بالنفس المطمئنة في القرآن.[1]
لقد ميز فرويد في نظرية الشخصية بين ثلاثة أقسام للنفس (الهو-الذات-الذات العليا)، ونلمس في بعض وظائفها بعض أوجه الشبه بمفاهيم النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة الواردة في القرآن، وإن كانت توجد أيضا اختلافات كبيرة بين هذه المفاهيم الثلاثة للنفس في القرآن، وبين أقسام النفس الثلاثة في نظرية فرويد.
فمفاهيم النفس; (الأمارة بالسوء)، و(النفس اللوامة)، و(النفس المطمئنة)، حالات مختلفة تتصف بها النفس أثناء صراعها الداخلي بين الجانب المادي والجانب الروحي في شخصية الإنسان، وهي ليست أقساما مختلفة للنفس، كما أنها لا تتكون أثناء مراحل نمو معينة يمر بها الإنسان، لقوله تعالى: ونفس وما سواها، ألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دسها(الشمس: 7-10). ويمكن أن نتصور هذه المفاهيم الثلاثة للنفس، وهي النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة على أنها حالات تتصف بها شخصية الإنسان في مستويات مختلفة من الكمال الإنساني التي تمر بها أثناء صراعها الداخلي، بين الجانبين المادي والروحي من طبيعة تكوينها لقوله تعالى: فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى(النازعات:37-40).
أما مفاهيم (الهو) و(الأنا/الذات) و(الأنا الأعلى/الذات العليا)، فهي في نظرية فرويد أقسام مختلفة للنفس، كما أنها تتكون في مراحل مختلفة من نمو الطفل ف(الهو) هو نفس الطفل عقب ميلاده مباشرة إذ يكون الطفل واقعا كليا تحت تأثير متطلباته الغريزية، ثم تحت تأثير العالم الخارجي يبدأ يتكون من (الهو) جزء متميز عنه هو ( الأنا)، وهو الذي يقوم بالتحكم في الغرائز المنبعثة من (الهو)، مراعيا مقتضيات الواقع والعالم الخارجي.[2]
_________________
[1]مباهج الفلسفة مقرر مدرسي للسنة الأولى والثانية بكالوريا.
[2]آيات الحقائق العلمية في القرآن الكريم ومنهج العلماء في تفسيرها، بحث لنيل الإجازة في الدراسات الإسلامية، اعداد امصنصف كريم، 2004م، ص: 12-14، بالتصرف.
منقووول