أسطورة طائر الفينيق Phoenix
ماذا عن طائر الفينيق... هل هو حقيقة أم رسم من خيال...؟ هل هو طائر فعلاً..؟ من هي الأقوام التي كانت تؤمن به أو بوجوده؟؟... ماذا عن أسطورته أو حكايته المعبِّرة التي مازالت تظهر ملامحها في ثقافة سكان سوريا الساحلية والمجوفة بمختلف أديانهم وطوائفهم حتى اليوم....؟ لا ريب أن قصته من الأساطير الأشهر في العالم.. ولا شك أيضاً أنها ذات طابع سوري محلي بامتياز وفيما يلي بعض مفاصلها وفصولها:
طائر الفينيق طائر أسطوري آمن به شعب شرق البحر المتوسط –السوري – الكنعاني - أو الفينيقي- كلها أسماء لمسمَّى واحد، ولا نعرف بدقة مَن أعطى اسمه للآخر الطائر أم الشعب.وللطائر الأسطوري هذا تسميات عدة منها (العنقاء) عند العرب وهو ثاني المستحيلات لديهم (الغول والعنقاء والخل الوفي) ويطلق عليه البعض في بلادنا بالعامية (الرخ).. وفي الماضي القريب كان يطلق على بيض النعام الذي يعلق في الكنائس الشرقية اسم بيض الرخ.. كرمز للتجدد والحياة بعد الموت.
وصلت إلينا أسطورة أو حكاية الفينيق من عدة مصادر مختلفة .... مختلفة ليس فقط باختلاف ثقافة كاتبها بل بزمانه ومكانه فأسطورة الفينيق بقيت من معتقدات شعب شرق البحر المتوسط أكثر من ألفي عام. وكتب عنها الفينيقيون واليونان والرومان والمصريون وغيرهم وكل له أسلوبه ولغته وزمانه..
تقول الأسطورة: طائر الفينيق طائر جميل، جماله لا يوصف ضخم الجسد، نسري الشكل، عظيم الجناحين، طويل العنق.. يزيِّن رأسَه تاجٌ من ريش يشع نوراً ذهبياً نارياً مبهراً ويكسو جسده ريش ناعم ملائكي ملون بألوان الطيف لكن لمعانه الذهبي الناري يعطيه روعة فريدة. له ذنب طويل من الريش الأحمر البرتقالي والأصفر وكأنه لسان نار... يعيش ويقتات على العطور والعنبر فإذا مرَّ من مكان ترك وراءه رائحة أحلى من رائحة المرّ واللبان فتنتعش النفوس..
يحس الفينيق بآلام البشر.. وكانت دموعه تشفي العليل فإذا بكى على الجرح يبرأ. وحدهم الحكماء والكهنة وأصحاب البصيرة يبصرونه حياً يطير لكن الشعب يستطيع رؤية لهيبه في لحظات احتراقه وموته فقط.. وعند ذلك كانوا يقيمون الاحتفالات بطقوس محددة في انتظار بعثه حيًّا من جديد... ولأن الفينيق لا يظهر سوى مرة كلَّ خمسمئة ربيع، فإن الشعب الكنعاني الفينيقي كان يحتفل بعيده مرة كل خمس سنين.
يعيش الفينيق في الجنة خلف الأفق الشرقي حيث الهدوء والأمان والمسرة الدائمة والخلود فلا موت في الجنة ولا مرض.. لكن الفينيق مختلف قليلاً عن أهل الجنة... إنه فريد.. وحيد.. لا شريك له ينادمه ويشاطره متع الحياة، وهو يهرم أيضاً ويكبر ويشيخ ولا يولد له ولد إلا من ذاته مرة كل خمسمئة عام.. وولادة الابن تكون رهناً بموت الأب..
عندما يمضي على ولادته خمسمئة عام.. ويشعر بالتعب والملل كما يشعرُ كلُّ شيخ هرم على الأرض.. يقرر الفينيق الذهاب برحلته العظيمة ليتجدد...فينطلق من الجنة في المشرق حيث تولد الشمس متجهاً إلى الغرب حيث تموت وتختفي خلف الأفق... يسافر متغرباً تدفعه في رحلته الرغبة في اللحاق بالشمس والغوص معها حيث تذهب وتختفي في الأفق فهو أيضاً يريد أن يختفي ليولد من جديد... يرتحل الفينيق فوق سهول أور ما بين النهرين ويعبر الفرات وسوريا المجوفة ليصل إلى جبال لبنان الشاهقة حيث يصبح الأفق من بعدها ماءً بماء ولا شيء غير الماء.. فتشده رائحة غاباتها العطرة، رائحة صنوبرها وأرزها التي لا يضاهيها عطرٌ في دياره الجنة.. فيحط على إحدى أشجارها ويشرع في بناء عشه من الأعشاب العطرة والعود والعنبر التي لمّها وجمعها في مسيرة طيرانه الطويلة.
وتقول الأسطورة: ولمّا انتهى من بناء عشه واستكانَ فيه نظرَ إلى الشمس وودّعها بتغريده الذي يشبه الصدى... وفي الصباح، عندما لاحت خيوط الشمس، شاهد شروقـًا لم يبصر له نظيرًا في جماله خلال جميع أسفاره، فبدأ يُنشد الأغاني السماوية بصوته العذب الملائكي. ولما سمعه إله الشمس، خرج إليه وهو على عربته التي تجرُّها أربعة أحصنة نارية ليشكره، عندئذٍ سأله الفينيق عن البشر وحياتهم وهمومهم فأجابه إله الشمس على طلبه وأخذ يقصّ عليه ويريه آلام الناس وعذاباتهم... لقد نقل إلهُ الشمس لطائر الفينيق صورةً حية وحسية عن الحياة الأرضية... فبدأ الطائر الأسطوري في الصراخ من الغضب والألم لِما أحس به من عذاب وظلم بين الشعوب.. وبدأ يضرب بجناحيه داخل العش، فبدأ العنبر يُطلقُ ومضاتٍ ولمعات. أجفلت الأحصنة، فضربت حوافرها بقوة، فطارت شرارات نارية إلى العش كانت كافية لإحراق الفينيق داخله.
لم يغادر الطائر عشَّه وبقي ملتصقاً به فاحترق باختياره، مشاركاً أهل الأرض آلامهم وعذاباتهم، وتحوَّل إلى رماد. لكن لم تكن هذه نهاية الفينيق، بل البداية. إذ بزغ في اليوم الثالث من رماد الطائر المُحترق طائرُ فينيقٍ صغيرٌ دبّت الحياة فيه بفعل حرارة أبيه المحترق فنفَّض عن جناحيه الرّماد، وطار حاملاً عشَّه البخوري، إلى مدينة الشمس (بعلبك)، حيث قدَّمه هناك على مذبح الإله. ثم طار من جديد إلى الجنة. حيث سيبقى خمسمئة سنة أخرى ليعود بعدها إلى جبل لبنان الشاهق ويولد من موته فينيقٌ جديد.
ومنذ ذلك الحين أصبح (الفينيق) رمزاً للخلود والبعث والتجدد.
نهاد سمعان