ولقد توحدت -من خلال عقيدة الإسلام الصافية- الأمة، في أمة إسلامية واحدة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى عصرنا الحاضر، على تفاوت في قوة تلك الوحدة وتماسكها، ولكن الشيء الذي لا شك فيه، هو أنها امتدت قروناً متطاولة ومن دروس الحج: الوحدة الإسلامية
أولاً: أعظم مدرسة في الحج، دلالته على وحدة الأمة الإسلامية. وقد تجلت هذه الحقيقة في الحج من خلال عدة أمور:
أحدها: قبلة واحدة يتجهون إليها في صلاتهم من مشارق الأرض ومغاربها.
وهذه القبلة هي التي يجتمعون عندها ليؤدوا شعائر مناسك الحج. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27].
الثاني: عقيدة واحدة. فالجميع يلبون تلبية التوحيد لله لا شريك له. فهي عبودية لله وحده، وليست لفئة ولا لقوم ولا لمصالح مادية مشتركة، بل ولا للغة أو قبيلة أو تراب.
الثالث: في إحرامها: فالجميع يلبسون في ا لإحرام لبساً واحداً، وتزول الفوارق بين الناس التي قد تصنعها أحياناً بعض أنواع اللباس ليقال: هذا أمير أو وزير أو غني أو شيخ كبير... إلخ.
الرابع: وفي الاجتماع في صعيد عرفات- مكاناً وزماناً- تتوحد الأمة الإسلامية كلها، حجاجاً وغير حجاج.
وليس الحج إلا مظهراً واحداً من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية، وهناك مظاهر أخرى كثيرة؟ من أبرزها: وحدة كتابها القرآن الكريم، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فرق بين هذين المصدرين فليس من الأمة الإسلامية في شيء.
ثانياً: بين كل آونة وأخرى يتباكى بعض المثقفين العرب على وحدة الأمة العربية، ونحن في العصر الحديث سمعنا بدعوات عديدة إلى وحدة الأمة الإسلامية، والجامعة الإسلامية، ولكن ما سمعنا بدعوة تفرد العرب وحدهم بوحدة عامة، إلا من القوميين العرب- ملحدين، ونصارى، ومنتسبين إلى الإسلام:
1- فجاءت جامعة الدول العربية، وكان وراء إنشائها الانجليز، ولستُ بصدد تفصيل الأدلة على ذلك، ولكن أشير إلى الآتي:
أ- أن الإنجليز وهم يهيئون لجامعة عربية قومية تكون بديلاً عن الخلافة أو الجامعة الإسلامية، وذلك في أوائل هذا القرن الميلادي. وقد وعدوا بعض الزعماء العرب بذلك. كانوا قد اتفقوا مع اليهود على تحقيق أهدافهم بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.
ب- يقول (لورانس) الإنجليزي- ولا أظن أحداً يجهله-، يقول وهو يهيئ لقومية عربية بديلة عن الجامعة الإسلامية: "وأخذت طول الطريق أفكر في سوريا... وفي الحج، وأتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقاد الديني؟ وبمعنى أوضح: هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام، وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني؟... هذا ما كان يجول بخاطري طول الطريق" (انظر: الثورة العربية (14))
2- قامت الجامعة العربية ولكن وحدة الأمة العربية لم تتحقق، وإنما جاءت محاولات للوحدة، من أبرزها:
أ- ما قامت به الناصرية من وحدة بين مصر وسوريا وكانت وحدة قصيرة الأجل حيث فشلت في أقل من عامين.
ب- وطبقها حزب البعث بالقوة- أخيراً- ففشلت. وكان من آثار ذلك أزمة وحرب الخليج.
ثالثاً : وإذا كان الحج من معالم وحدة الأمة الإسلامية، فإننا نقول: في الكلام على الوحدة، لا بد من إرجاع الأمور إلى أصولها الشرعية، ومن خلال المنهج الإسلامي، تبرز قضيتان كبيرتان:
إحداهما: أن العقيدة هي التي تجمع بين الشعوب والأمم، وهي التي تقضي على عوامل التفرق، مهما كانت عميقة الجذور، وأمثلة وأدلة ذلك، لا تحتاج إلى بيان:
فالقبائل العربية المتناحرة في الجزيرة العربية قبل الإسلام، لم يوحد بينها ويزيل ضغائنها وأحقادها المريرة إلا الإسلام.
والبلاد التي فتحها المسلمون- وقد اختلفت لغاتها وعادتها ودياناتها وبلادها- لم يوحد بينها إلا عقيدة الإسلام.
وما هزم اليهود- وكانوا في قلب جزيرة العرب- ولا النصارى، ولا الملاحدة الوثنيون، إلا لما واجههم المسلمون من خلال راية العقيدة، لا راية العروبة أو الوطنية أو غيرها.
وفي الحروب الصليبية رد النصارى -حملة الصليب - على أعقابهم بالجهاد الإسلامي، الذي كان من أبرز قواده الكرد والأتراك.
ولقد توحدت -من خلال عقيدة الإسلام الصافية- الأمة، في أمة إسلامية واحدة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى عصرنا الحاضر، على تفاوت في قوة تلك الوحدة وتماسكها، ولكن الشيء الذي لا شك فيه، هو أنها امتدت قروناً متطاولة.
قد يقول قائل: ولكن الوحدة لم تدم طويلا، فسرعان ما نشأت دول مستقلة في المشرق وفي المغرب. بل وفي مصر والشام بإزاء الخلافة العباسية في بغداد. وكذا الشأن أيام الدولة العثمانية.
وأنا لا أجيب جوابا تقليديا، لأقول: ولكنها تجربة امتدت لقرون من الزمن، وما حدث من تفرق كانت له عوامل داخلية وخارجية....
ولكن أقول: أيام التنقل على الإبل، وعدم وجود وسائل الاتصال التي نشاهد نماذج عجيبة لها في هذه الأيام.
كيف كان عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان رضي الله عنهما يدير الأمور في مشارق الأرض ومغربها من قلب جزيرة العرب في المدينة النبوية؟!
أم كيف كان معاوية رضي الله عنه أو عمر بن عبد العزيز رحمه الله يدير مشارق الأرض ومغاربها من قلب الشام ودمشق؟!
وكيف استطاع هؤلاء أن يحكموا سيطرتهم على تلك البلاد البعيدة الشاسعة المتعددة في أعراقها ولغاتها؟!
إنها العقدة التي حملها الرجال الأمناء، من أمراء وقواد الأقاليم، فصار كل واحد منهم نموذجا للخليفة العادل في دار الخلافة، ثم إنها المحاسبة القوية- ذات الميزان الشرعي- التي يحاسب بها هؤلاء. ولو تحققت هذه الوسائل الحديثة لعمر ابن عبد العزيز أو لهارون الرشيد رحمهما الله تعالى كيف ستكون النتائج بعد استخدامها؟
إن الشيء الذي أردت أن أقوله هنا: إنها وحدة قامت على عقيدة صافية انبثقت منها شريعة كاملة طبقها رجال أمناء يريدون بأعمالهم وجه الله والدار الآخرة.
وأي وحدة تبنى على غير هذا، فلن تكون إلا وحدة مصالح سرعان ما يُقضى عليها إذا تبدلت المصالح.
الثانية: من القضايا الكبار أن العقيدة تجمع ولا تفرق.
فتأصيل العقيدة وجعلها أساسا في الدعوة إلى الله تعالى وذلك على منهاج السلف الصالح، كما أنه واجب دلت على وجوبه النصوص، وهو منهاج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه أيضا من أعظم وسائل جمع الكلمة.
والمدعوون إذا ما وحدت بينهم عقيدة صحيحة صافية فلن تجد أسباب التفرق إليهم من سبيل؟ لأن تلك الأسباب ستتكسر أمام صخرة العقيدة الصلبة. ولكم يحزنني حين أسمع- أحيانا- مقولة مثل: لا تركزوا على العقيدة أولا؟ لأنها تسبب الفرقة، بل اقتصروا على الدعوة العامة إلى الإسلام. ومما يزيد في حزن الإنسان، أنه قد يسمع مثل هذا الكلام من أناس فضلاء ومن دعاة إلى الله.
ونحن نقول: على أي أساس ستقوم الدعوة، إذا لم تقم على العقيدة؟!
ولأي شيء يدعو الداعية إلى الله؟ إن هناك عددا من الحقائق:
أولها: أن اجتماع المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، لم يكن إلا على عقيدة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران من الآية:103] ، وقال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
فما هو حبل الله، وعلى أي شيء ألَّف بين تلك القلوب؟ إنه العقيدة القائمة على إخلاص التوحيد ونبذ الشرك.
ثانيها: إننا إذا أردنا الوحدة الحقيقة الباقية فلنؤصل دعوتنا على العقيدة، وأعني العقيدة السلفية الصافية المبرأة من بدع المبتدعين وانحرافات المنحرفين.
ثالثها: أن القبول بالانحراف في البداية. هو بمثابة دق مسمار في نعش الوحدة المطلوبة.
المصدر: موقع الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود