نبت شعر الطبيعه في ادبنا نباتا حسنا،كان يؤذن برؤيه رائعه لمشاهد الجمال في الكون.فهو- مثل شعر الطبيعه الرائع في جميع الاداب-لم يكتف بالوصف الظاهر مجمدا للصوره.باحثا لكل شي عن شبيهه في اللون او الشكل ليشبهه به،ولكنه لمس احلى ما في الطبيعه وادقه وهو في الوقت ذاته جوهرها وروحها،ذلك هو عنصر((الحركه))فيها .
فالطبيعه حولنا ليست ثباتا مطلقا.ولكنها تغير مستمر،وهذا التغيير هو دليل النماء والحياه فيها.فالشجره بنت الذره،وام الثمره.والبرق شنيق الرعد والمطر،ورغم ما قد يصبغ طبيعه الصحراء من تكرار المشاهد الا ان الشاعر العربي القديم قد استطاع ان يجعل لكل قطعه من الرمل يتوقف عندها سحرا خاصا لا يشركها في غيرها من قطع الرمال.ومن الواضح ان الطبيعه لا تكتسب الحياه الا اذا اصطبغت برؤيه الشاعر وحالته النفسيه،فقد يرى احدنا المطر حبات لؤلؤ منثور،بينما يراه اخر دموعا على صفحه الكون؛وذلك الاختلاف مرده الى رؤيه الفنان الانسان ومزاجه.واضرب لك مثالا على الحركه في الطبيعه ابياتا من معلقه امريء القيس،
أصاح ترى برقا اريك وميضه يضيء سناه في حبي مكلل
كلمع اليدين،او مصابيح راهب امال السليط بالذبال المفتل
قعدت له،وصحبتي،بين(ضارج) وبين العذيب)،بعد ما متاملي
على (قطن)بالشيم ايمن صوبه وايسره فوق الستار،فيذبل
فاضحى يسح الماء حول كتيفه يكب على الاذقان دون الكنهبل
الى ان يقول:
كأن مكاكي الجواء غديه صبحن سلافا من رحيق مفلفل
كأن السباع فيه غرقى عشيه بارجائه القصوى انابيش عنصل
تلك صوره رائعه من الطبيعه المتحركه،وقد يندفع الشاعر فيجري لونا من الحوار بين الطبيعه وبينه،كما يحدثنا(اوس بن حجر)او(عبيد بن الابرص)انه كاد يلمس اطراف الضباب بيديه ليدفعه عن وجه الارض:
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه في عارض كمضي الصبح لماح
دان مسف فويق الأرض هيدبه يكاد يدفعه من قـام بالراح
او كما يفول شاعر قديم مجهول،وقد يكون ذلك في احدى حالات النشوه بالخمر،ولكن اليست نشوه السحر بالكون كنشوه السكر بالخمر:
وبت ارى الكواكب دانيات تنال انامل الرجل القصير
ادافعهن بالكفين عني وامسح قره القمر المنير
غير ان الشاعر الجاهلي قد درج على ان يمزج بين حاله النفسيه وبين الطبيعه.فهي حزينه اذا كان حزينا،مبتهجه اذا كان مبتهجا،فليس للطبيعه لوحدها كيان في نفسه الا بمقدار ما تنعكس على صفحه احساسه.ولعل ولع الشاعرالجاهلي بالاطلال بعض من هذا الاحساس.فالاطلال لا توصف لذاتها،ولكن لما تثيره في النفس من خلجات،فهي التذكار الباقي للحب،كما تثير العاشق المعاصر ورده في كتاب او صوره في مناسبه.
نعم هكذا تظل الطبيعه صامته حتى تتحدث بلسان الفنان ووجدانه،او بقلمه وألوانه،فتتجلى عندئذ ألوانها وظلالها،ونورها وظلامها،وتتفتح روائحها وتطير،وينبت لها قلب كقلب الانسان،يحيا ويشعر،ويندفع ويتراخى،ويكتسب همودها حياه وعنفوانا...
منقول عن
عبد حامد