الداخل والخارج في حياة اللغة والرواية
طارق غانم
إلى جانب المجاهدات والمعارك الصغيرة الحياتية المختلفة التي نمر بها في المحروسة، يجتذبني، ولعل القارئ يشاركني في هذا، حدة الصراع وتجدده على شيء أساسي ووجودي -للأسف- هو "اللغة". والصراع المقصود هو الصراع على اللغة بوصفها أداة للفكر والخيال، ولكن الأهم، بوصفها أداة لفهم الواقع والتعبير عنه. أنظر مثلاً إلى الصراع والنقاشات في المجال العام على معان ومفردات بعينها، أو استخدام العامية في الإعلام أو الروايات الحديثة، أو النقد الموجه للغة المدونات.
في محاولة لاستشراف الحياة الداخلية للأدب، أود البدء بالإشارة إلى ما يقرره غالبية مختصي النظرية الأدبية، وهو كون العملية الأدبية نتاجاً لثلاثة عوامل 1- لسانية/سيميائية 2- نفسية، تقوم على عالم الوعي والوعي الباطني 3- الواقع الاجتماعي/الاقتصادي المعيش، وبالأخص وفقاً للرؤية الماركسية (على الرغم من القيود التي قد يضعها هذا الأخير على الأبداع).
في محاولة لاستكشاف إجابات عن تفاعلات اللغة، وحياتها الداخلية وتداخلها مع الأعمال الروائية، نُظمت مؤخراً ندوة بالتعاون مع "مدى مصر" حول "الحياة الداخلية للغة"، وهي نتاج لمشروع متعدد التخصصات للفنانة ملك حلمي، شمل أعمالاً بحثية ومقابلات تحضيرية ومجموعة قراءة. شرفتُ بإدارة النقاش في الندوة، والتي لم تمر أيام على إقامتها، حتى أغلقت السلطات مؤسستي "التاون هاوس جاليري" و"روابط"، اللتين احتضنتاها، في مفارقة دالة على علاقة السلطة بالثقافة.
جاءت الندوة ومركباتها بشكل طبيعي مستجيبة للعوامل الثلاثة السابقة، وقد ركز المشاركون في الندوة على الرواية والسياقات الاجتماعية والسياسية المحيطة بالإبداع السردي في مصر.
بين الدبوس والعفوية السيكولوجية
يرى العديد من مختصي علم النفس أن الوعي بمستوييه، الظاهر والباطن، يتشكل وفق قواعد اللغة وبناها، ولهذا تأثير عميق على طرق التفكير والتشكيل الثقافي، أي أن طرق تفكيرنا ووعينا، بوصفنا عرباً، متأثرة ببنية لغتنا العربية، شئنا أم أبينا. ووفقاً لمقولة هايدجر الشهيرة: "اللغة بيت الوعي والوجود"، أي أن ما لم يدخل في حيزها لا وجود له، بل أن اللغة، سواء كانت مكتوبة أم منطوقة، هي ما يشكل الواقع.
قدم الروائي نائل الطوخي في الندوة أطروحة قائمة على فكرة الـ vodoo doll (الدمية التي تثقب بالدبابيس لدرء الحسد، كما في ثقافتنا الشعبية). الطوخي، والذي قال إنه بوصفه كاتباً، لديه هاجس فكرة الخلود ومع هذا يدرك حتمية التخلص من هذا الهاجس، يتناول فكرة "الإيلام" ويستخدمها في إيصال المعنى والشحنة العاطفية التي تصاحبه، عبر اختيار مفرداته وأسلوبه السردي وتفضيله "الكتابة المستثيرة"، يحاول الطوخي اقتناص المفردة التي تشبه "دبوساً" يخز عاطفيّاً بدقته وبكثافته (لذا فـ "نسوان عرقانة" أجدى من "نساء عارقات"). كان هذا مدخله للتأكيد على أن هذا هو أسلوبه في اختياراته السردية، وحتى في التأرجح بين الكلمات الدارجة العامية والفصحى، سواء في لغة السرد (صوت المؤلف)، أو الحوار (صوت الشخصية). يتجلى أسلوب الطوخي بوضوح في روايته الأخيرة "نساء الكارنتينا"، وهي رؤية درامية ملحمية، (أو ملحمية مضادة)، مكتوبة برؤية بديلة للسرد والتوظيف الدرامي واللغة، وأبطالها وشخوصها ينتمون للعوالم الاجتماعية الدنيا المهمشة. ورغم تركيزها الكامل على إمتاع القارئ، فلم يمنعها هذا من أن تتضمن بعفوية أفكاراً عميقة عن التاريخ، الرسمي منه والشعبي، والذاكرة، والهوية الجنسية، وتعليقات مهمة على الشأن العام.
يختلف الحال مع ما قدمته الكاتبة إيمان عبد الرحيم، التي فازت مجموعتها القصصية "الحجرات" بجائزة ساويرس لهذا العام. وفقاً لإيمان، فإن الشخصية ومنطقها هما ما يمليان وبشكل طبيعي الاختيارات اللغوية والسردية، وهو ما تمثل في "الحجرات"، والتي حاولت فيها الكتابة والسرد وتشخيص العالم من منظور شخصية فصامية، فنرى فيها كيف تتعامل الشخصية مع الأشخاص والواقع، وما الأدوات التعبيرية التي تستخدمها هذه الشخصية إلا بغرض التعبير عن الداخل والخارج والتفاعل معهما.
تجد الأفكار الحديثة رابطاً بين الفعلين الأساسيين في الصناعة الأدبية والصناعة النفسية لعالم الأحلام، وهو ما يظهر في أعمال ما عرف بـ"تيار الوعي"، والذي يظهر جلياً في كتابة إيمان، بلغتها الملأى بالتهويمات والإشارات النفسية، والانتقال باقتدار وبساطة بين الداخل والخارج. لإيمان أسلوب مميز في التعامل مع الأفكار النفسية، فالباطن يتشكل في حجرات حقيقية، والواقع سيال لا يعرف فواصل الزمان والمكان، والدخول والخروج بينهما سلس وسهل، بسبب قوة الشعور أو المرض النفسي الذي يخترق الأحداث مختاراً لغة نفسية للسرد.
الدولة كإله للثقافة
ولكن من ناحية أخرى، وبما أن الثقافة لغة مجتمعية، تقوم على الحرية، والقدرة على التقييم والنقد، كان لا بد من الوقوف في التاريخ الثقافي المصري الحديث على ما تَبِعَ ثورة ١٩٥٢ مِن توغُّل الدولة المصرية بمركزيتها الشديدة على الشأن الثقافي. وإذا كانت الدولة الحديثة هي الإله على الأرض، فالدولة المصرية إله أبوي محافظ، يرى نفسه راعي القيم الأوحد، ولذا لا ترضى الدولة بأقل من بسط يدها على سلطان اللغة للتحكم في الفكر والخيال، بل والأهم من هذا، للتحكم في الواقع وتوصيفه.
فقد ظهرت جماعات تفسيرية من مؤرخي الدولة، ومفكريها وصحفييها وأكاديميها وأدبائها ومبدعيها، ونتج عن عملهم تفريغ كلمات ومفاهيم عديدة من معانيها، أو تحويل المعاني إلى أضدادها أحياناً، فصارت مضامين "المعاناة" و"الفساد" و"الوطنية" و"الاستقرار" و"الجمال" شعارات وخطابات، يملك النظام وممثلوه مفاتيحها، وذلك بهدف تحجيم العقل واللسان المتمرد عليه. كان المقصد الأسمى ولا يزال فرض قيم الدولة أو منظوراتها، وبالتالي ترسيخ سلطتها، مثلما أن للدولة والأمن تأثيراً هائلاً في تقديم الكتاب، واختيار من تُسلَّط عليه الأضواء، ومن يُلقَى خارج دائرة الاهتمام.
ولكن هذا لم يمر بلا مقاومة. ومن أهم مظاهرها الظهور والاختفاء المتكرر للمطبوعات البديلة مثل المجلات الأدبية التي تعنى بالقصة القصيرة والنقد الأدبي، وظهور دور نشر مستقلة منها في الوقت الحالي دار "ميريت" و"الكتب خان"، وغيرها. كما تجزأت اللغة الأدبية والفنية وتحولت إلى جزر منعزلة، فصارت هناك لغات للشعر والمسرح والأفلام القصيرة والروائية، وخرجت الأعمال الأدبية، مثلما في مجال القصة القصيرة، على هيئة "فورات"، كما يسميها محمود الورداني في مقدمته الممتعة من كتابه "مئة عام من الحَكْي"، وزاد التقوقع والتبحر في الخيال الغارق في الذاتية في الأعمال الروائية. كما ظهرت كتابات أدبية تركز على الجسد والتجارب الجسدية، الأنثوية (استغلال الجسد الأنثوي) والذكورية (أدب التعذيب والمعتقلات)، وأدب الهجرة على سبيل المثال.
ينطبق هذا على ما قبل ثورة يناير، أما الثورة فيصفها الكاتب محمود الورداني في الندوة بأنها "زلزال" أدى إلى تغييرات حاسمة في المشهد الإبداعي، كتلك التي تبعت ١٩١٩. وصحيح أن الكتابة الحقيقية كما يرى الورداني متعدية للواقع، وترفض التأثر إلا بما ينفعها ويزكيها، ولكنه يرى أيضاً أنه لم تأت بعدُ كتابة تعكس ثورة يناير بعفويتها، والتي اندلعت في وقت عبقري لتحرير اللغة ولإحياء العديد من المحاولات الجادة لكتابات تنسف الواقع الإبداعي الحالي.
يرى البعض رواية الورداني "بيت النار"، الحائزة على جائزة ساويرس للرواية في ٢٠١٣، أهم ما كتب عن وضع ما بعد الثورة وشروطه الحياتية، على الرغم من كون أحداثها تجري في الستينيات والسبعينيات. نبه الورداني الجمهور الشاب للندوة أن معظم الإشكاليات اللغوية المثارة، مثل ثنائية العامية والفصحى، والواقع والخيال، تجاوزها الواقع، وحلَّتها المدونات بأريحية واقتدار، بتلقائيتها، وعدم خضوعها لإملاءات الصفوة الأدبية، أو الخطاب الرسمي، أو الشبه الرسمي. يجد الورداني أن المدونات، وخاصة الكتابات المتميزة بها، وجدت حلولاً لمشاكل اللغة والعمل السردي داخل عالمها البديل والخاص، مضيفاً: "أنا تجاوزت ثنائية الفصحى والعامية من ساعة ما ربنا هداني للاستمتاع بلغة المدونات". كما يرى أن العامية ليست كياناً واحداً، وإن مستوياتها تتراوح هي أيضاً بين الرقي والابتذال. وألا مهرب في الوضع الحالي من استخدام العامية الراقية، ودلل على هذا بمثال: "هو مين اللي كتب مقدمة المجموعة القصصية الثانية ليوسف إدريس؟ مش طه حسين برضه؟"
للواقع إذن وعوالمه الاجتماعية والاقتصادية أثر في الكتابة، منذ ما قبل البدء فيها، حتى أبعد العمليات الثانوية المرتبطة بالقراءة واقتصادياتها. نزع الكاتب اليساري تامر وجيه عن فعل الكتابة القداسةَ التي تحفه، محاولاً تحليل سياقه في الندوة. استخدم وجيه أفكار والتر بنجامين ومدرسة فرانكفورت في عملية تحليل السياقات التي تؤثر في الكتابة الإبداعية، فإذا كانت عملية النشر الميكانيكية هي الطفرة الأهم في تاريخ البشرية، فإن القرن العشرين بلا شك هو قرن الثقافة الجماهيرية؛ وذلك بسبب عمليات الانتشار والنسخ، والتوالد الجماهيري للنقاشات حول المكتوب أو المرئي المشترك. لم تكن السلطة لتترك هذا بالطبع دون عمليات اجتماعية للسيطرة، مثل رقم الإيداع والعمليات التعاقدية، وصناعة النشر وتدخل الرقابة، وآلية السوق ومحدد "الأكثر مبيعاً" best seller الاستهلاكي، إلخ. كما نرى من حولنا الآن التجاذب بين هذه العوالم وعوالم الكتابات البديلة والتحتية، والتي يشغلها أيضاً كتّاب هدفهم اجتذاب "اللايكات"، وهو ما يدعوه إلى التعبير عن خوفه من تحول الكتاب الحاليين إلى الوحوش التي يصارعونها، في حال ما تركوا أنفسهم سلعاً لآليات الربح والجماهيرية، سواء على الإنترنت أو خارجه.
أثار طرح وجيه، عن العلاقة بين العالم الافتراضي على الفيس بوك والواقع الأدبي، نقاشاً داخل الندوة. نوهت مداخلة الكاتب أحمد ناجي أن اليد العليا الحقيقية في صناعة الأدب والأدباء لا تبالي بالحرية المتاحة والممارسة في العالم الافتراضي، فمن يصنع مقروئية الأدب والنقاشات حوله، وكذلك اختيارات القراء، قوى سياسية وقوى سوق، أكبر من التأثير الفردي أو فكرة الكتابة لاجتذاب اللايكات مهما عظم تأثيرها، فهناك المليارات التي تكوّن صناعة النشر، وسوق الأدب ودور النشر وقدراتها الإعلامية في اختيار كتاب وكتابات بعينها، ودعم هذا كله بالإعلانات، وتحويل الأعمال المختارة إلى أفلام ومسلسلات. كما أن هناك أيضاً اقتصاديات الجوائز الادبية القادمة من الخليج والآخذة في التضخم، والسياسات التي تؤثر في الاختيارات وصناعة شهرة كتّاب بعينهم والمواضع الجاذبة على رفوف الكتب.
موت المؤلف وخلود القراءة
إذا كان الطوخي قد ذكرنا بهاجس الخلود في ذهن الكاتب، فإن ثنائية الكتابة (فعل فردي) والقراءة (فعل فردي وجمعي مشترك) تأخذنا إلى سؤال "سلطة المؤلف" -أو الأديب القاص هنا- وفقاً لميشيل فوكو، والذي يعني به صعوبة أو استحالة تجاوز الكاتب للبنى اللغوية أو الفكرية المحددة سابقاً. قال فوكو هذا في خضم حالة تمرد جارف على فكرة "السلطة" بشكل مطلق، وانتفاضات ١٩٦٨ الطلابية، والاحتجاجات الصارخة على حرب فيتنام، مما نجده شبيهاً، مع الفارق، بوضعنا الحياتي والفكري الآن بعد الثورة، والنقاشات الأدبية والفكرية المنتشرة حول الصراع على الأفكار والصراع مع "السلطة" بشكل مطلق.
ولكن الأهم هنا هو الفكرة العبقرية لرولان بارت بخصوص "موت المؤلف"، وكون السلطة هي من تريد أن يكون هناك "مؤلفاً" لوضع نهاية لفعلَيِ القراءة والنقد، وأن الأدب "في رفضه وضع معنى سري ونهائي للنص وللعالم، بوصفه نصّاً، يحررنا نحن القراء من سلطة المؤلف أو الراوي". هذا ما يذكرنا به الباحث محمد عزت فيه في مقاله “الفن والثورة المصرية: قصة خذلان”. وهو يعلن الموت "السريري" لشاعر وروائيين من أصحاب التأثير، ممن شكلوا وجدانه اللغوي والمعنوي. يمكننا التفكير أيضاً في فكرة الثورة في كتابات نجيب محفوظ، وتفسيراتها المختلفة، وفي كوننا دائماً ما نصطدم بتأويلات أدباء النخبة له بوصفه كاتباً محافظاً، أي أن السلطة هنا تضع معنى نهائياً للنص وتريد منا الامتثال له.
في الوضع المصري الذي تملأ فضاءه حالة من الاضطراب والسيولة، وإذا كان اقتناء المرء لرواية لغسان كنفاني قد يؤدي إلى احتجازه، وإذا كنا شهدنا في العام الماضي حرق كتب في مدرسة حكومية، يصير فعل القراءة -بوصفه فعلاً يقصد الوعي بالواقع، والقدرة على تشكيل آراء أوسع، خاصة من خلال الأدب، ويسعى وراء المعنى، وفهم المبنى- أمراً مطلوباً متمرداً في ذاته، وتصير محاولات فك اللغة وفهم عملياتها وحياتها الداخلية أهم من أي وقت مضى.