المشكلة الهومرية والشعر الجاهلي
الشك في الأدب القديم، الذي أنشأته الأمم في جاهليتها وبداوتها، ظاهرة لا تقتصر على الشعر العربي وحده، ولكنها عامة تكاد تشمل الأدب القديم كله عند جميع الأمم التي كان لها أدب معروف مدروس. ولعل خير ما نمهد به بين يدي بحثنا هذا عن النحل والوضع في الشعر العربي الجاهلي أن نعرض في إيجاز الملامح الأساسية لجهود الدارسين الأوربيين الذين عنوا بدراسة الشعر الإغريقي القديم، وخاصة هومر وملحمتيه. ولسنا، في هذه الدراسة المقارنة، بدعاً بين الدارسين، فقد لجأ إليها الأوربيون أنفسهم حين تعرضوا لدراسة الشعر الإغريقي وهومر، وحاولوا أن يتلمسوا في آداب الأمم الأخرى ما يعينهم على المضي في سبيلهم وينير لهم بعض دياجيها. فنراهم يبحثون في شعر الأمم البدائية ونشأته وطرق حفظه وروايته، ويوازنون بين ملحمتي هومر والملحمتين السنسكريتيتين: المهابهارتا والرامايانا من جانب، والقصائد والأغاني الشعبية في العصور الوسطى عند الأمم الأوربية نفسها من جانب آخر، ثم يوازنون آخر الأمر بين ملحمتي هومر والملاحم الأوربية التي نظمت في عصور أكثر حضارة وأوفر علماً من عصر الإلياذة والأوديسة من مثل إنيادة فرجيل، والفردوس المفقود لملتون، من جانب ثالث.
ولم يعتسف جلة هؤلاء الدارسين سبيل تلك الموازنات اعتسافاً، وإنما صدروا عن بينة، وأقدموا على بصيرة، ومضوا يقظين متنبهين، مدركين أنهم بهذه الموازنات لا يصح أن ينخدعوا بالمشابه الظاهرة والوشائج الواضحة، بل لا بد لهم من أن يتنبهوا لوجوه الخلاف ومناحي الافتراق. فهم يوضحون، فيما يوضحون، الخلاف بين ملحمتي هومر والملحمتين الهنديتين في الوحدة والاتساق اللذين ينتظمان الأوليين ويفتقدان في الأخريين، والخلاف بين ملحمتي هومر والأغاني الشعبية في الخطة والنسق والنظام، والخلاف بينهما وبين الملاحم التالية في مظاهر العصر وما يتبع هذه المظاهر من مصادر علمية وفنية نهل منها شعراء الملاحم التالية وتأثروا بها، ولم ينل منها ناظم الإلياذة والأودية نصيباً.
وبعد، فسأعرض في هذه الصفحات بعض وجوه الشبه بين الشعر العربي الجاهلي والشعر الإغريقي القديم، وسأخلص من هذا العرض الموجز إلى الحديث عن ثلاث نقاط تتصل اتصالاً وثيقاً بما قدمت وما سأقدم من حديث عن الشعر الجاهلي ومصادره. أولاها: من نظم الإلياذة والأوديسة وصحة نسبتهما إلى هومر؟ والثانية: وسيلة حفظ الشعر الهومري، أكانت الرواية الشفهية أم الكتابة؟ والثالثة: المدارس اللغوية القديمة التي درست شعر هومر ونقدته بعد أن جمعته ودونته.
أما التشابه بين الشعر الجاهلي والشعر الإغريقي، في ملامحهما العامة وأوائل تطورهما ووسائل تحملهما وتاريخ العناية بهما ودراستهما عند القدماء، فتشابه قد اتضحت صورته في نفسي منذ أن اتصلت، شيئًا ما، بالشعر الإغريقي وتتبعت قدراً صالحاً مما كتبه الدارسون عنه. وأراني في حل من بسط القول بسطاً يستقصي الأمور ويلم أطرافها ويحتاط لمزالقها في هذا الموضوع، ما دمت سأعرض للأمر من أصوله العامة وأتجنب الخوض في فروعه ودقائقه، وما دمت متخذاً من هذا التشابه مدخلاً لبيان النقاط الثلاثة التي ذكرتها دون تحميله من النتائج ما يتجاوز ذلك.
فالشعر الجاهلي وشعر هومر هما أقدم شعر وصل إلينا من العرب والإغريق، وهما ـ على ذلك ـ ليسا أول شعر قالته هاتان الأمتان؛ بل لقد سبقتهما مراحل تطور فيها الشعر حتى استوى في هذه الصورة التي وصلت إلينا. غير أن هذا الشعر المبكر عند العرب واليونان معاً قد ضاع ولم يحفظ لنا منه شيء قائم بنفسه منفصل عن غيره. ومع ذلك فإننا نستطيع أن نعرف وجود هذه المراحل السابقة من أمرين، أولهما: أن هذه الصور الشعرية التي وصلت إلينا صور فنية كاملة، متسقة، تامة التكوين، سوية البناء، ثابتة الأسس، حتى لقد أصبحت، بعد، نماذج فنية تُحاكى وتُحتذى ويُتخذ منها عمود للشعر يحرص على التزامه شعراء العصور التالية في البيئات المتعددة التي صارت أزهى حضارة وأرقى ثقافة وأغزر معرفة. وليس يصح في الأفهام أن تنبت هذه الصورة الكاملة السوية من العدم، أو تقوم من الفراغ، أو تولد فجأة يافعة تامة التكوين. وثانيهما: أن في كلا الشعرين إشارات واضحة حيناً ومبهمة أحياناً إلى شعراء سابقين لا نكاد نعرف عنهم شيئاً.
والشبه كبير بين الشعرين العربي الجاهلي والهومري في الصفات العامة للتعبير الشعري، فهما يتسمان بالنضارة والغضارة والبساطة، وبالفتنة التي نعزوها إلى «طفولة العالم» عند اليونان، و»سذاجة البداوة» عند العرب. ومع ذلك فما أشبه الشعر الجاهلي العربي بالشعر الهومري الذي تعالى عن خشونة الشكل، وتجنب الصراع الناشب بين المعنى واللفظ، وارتفع عن الحوشي المبتذل من أساليب القول، واستطاع أن يحتفظ بمستواه الرفيع حفظًا متزناً، وبذلك تجنب هذه الخصائص التي يتصف بها الأدب في عصره البدائي .
ولقد اختلف العلماء من دارسي الأدب في تدوين هذين الشعرين: الجاهلي العربي والهومري الإغريقي. فذهب فريق منهم إلى أنهما لم يكتبا منذ أن نُظما، بل بقيا محفوظين في صدور الرجال ترويهما الأجيال المتعاقبة وينشدهما الأفراد في المجالس والمحافل قروناً طوالاً قاربت الثلاثة عند العرب وأربت على ذلك عند الإغريق. وذهب فريق آخر منهم إلى أن هذا الشعر قد كتب منذ أن قاله شعراء العرب في الجاهلية وهومر عند اليونان.
عن «مصادر الشعر الجاهلي»، 1955
سليل ديوان العرب
ولد العلامة الأردني (1922 ـ 2015) في العقبة، لأب أردني وأمّ لبنانية؛ ثمّ كانت دراسته في الكلية العربية، أفضل معاهد القدس حينذاك، قد أضافت بُعداً فلسطينياً على شخصيته، وعرّفته على زملاء سوف يشتهرون معه، أمثال إسحق موسى الحسيني وأحمد سامح الخالدي ونيقولا زيادة. ولكي تكتمل شخصيته أكثر، فتكتسب المزيد من عناصرها العروبية، كما كان يحلو له أن يقول؛ سافر الأسد إلى القاهرة، سنة 1943، وانتسب إلى جامعة فؤاد الأول، فدرس الأدب العربي، وقدّم أطروحة ماجستير حول «القيان والغناء في العصر الجاهلي»؛ كذلك دافع، سنة 1955، عن أطروحة دكتوراه متميزة، موضوعها «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية». ليس أقلّ أهمية، في سياقات حياته القاهرية، أنه تعرّف على كبار أدباء مصر ونقّادها يومذاك، من طه حسين وعباس محمود العقاد، إلى أمين الخولي ومحمد محمود شاكر، فضلاً عن شوقي ضيف الذي أشرف على أطروحته للدكتوراه.
وكان الأسد قد آمن بأنّ العصر الجاهلي هو أوّل عصور التاريخ العربي، ولا يستطيع العربي معرفة قومه إلا إذا عرف مراحل تطورهم، ومواطن انتشارهم في موطنهم الأصيل وفي عصرهم الأول. وما دام «الشعر الجاهلي هو الأصل الذي انبثق منه الشعر العربي في سائر عصوره، وهو الذي أرسى عمود الشعر، وثبت نظام القصيدة، وصاغ المعجم الشعري العربي عامة»، كما كتب الأسد؛ فكيف يمكن الحكم على «ما في شعر العصور الإسلامية من تطور وتجديد، إذا لم نصل من أمر الشعر الجاهلي إلى مفصل نطمئن عنده؟». وبهذا المعنى فإنّ أطروحة الأسد، التي ستُطبع فيما بعد، كانت تدخل بقوّة في سجالات ذلك الزمان حول الشعر الجاهلي، مما أسفر عن خصومة شخصية بين الأسد وطه حسين شخصياً، انتهت لاحقاً إلى صداقة متينة رغم تمترس كلّ منهما في موقفه.
والحال أنّ حماس الأسد لدراسة الشعر الجاهلي كان مبعثه ذلك الانحياز الخاصّ للشعر عموماً، ولكتابة الشعر تحديداً؛ حتى أنه صار الأكاديمي العلاّمة الأكثر إغراقاً في التصوير الرومانسي لشخص الشاعر، والإصرار على أنّ الله خصّ الشاعر بما لم يخصّ به سواه، و»حباه بنعمتَيْ الشعور الفياض والإحساس المرهف».
إلى جانب كتابه الأبرز عن الشعر الجاهلي، أنجز الأسد أكثر من 70 مؤلفاً في حقول شتى؛ بينها «الحياة الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى سنة 1950»، «تحقيقات لغوية»، «نحن والعصر، مفاهيم ومصطلحات إسلامية»، «نشأة الشعر الجاهلي وتطوره (دراسة في المنهج)»، «خليل بيدس، رائد القصة العربية الحديثة في فلسطين».
ناصر الدين الأسد
القدس العربى