المصري اليوم لايت
يعرض المؤرخ جمال بدوي في كتابه «كان وأخواتها.. مشاهد حيّة من تاريخ مصر الحديث» مشاهد من صفحات التاريخ المصري، اتسمت بالطرافة منها حكاية العنزة المقدسة في ربْع السيدة نفيسة، تلك الدابة التي فتنت الناس في مالهم ومعتقداتهم، وكيف تعامل معها الأمير عبد الرحمن كتخدا في ذلك الوقت.
منذ مطلع القرن الثامن عشر، تداولت الألسنة قصة خرافية تزعم أن عنزة صعدت مئذنة مسجد السيدة نفيسة بالقاهرة، وراحت تكلم الناس، وتحثهم على فعل الخيرات، وسرعان ما انتشرت الخرافة في مجالس العامة حتى اكتملت عناصر طبختها، من إثارة وتشويق وجماهيرية، لتستقر جذورها في الشارع المصري.
أسند المؤرخ المصري جمال بدوي، رواية الجبرتي للواقعة، فيقول الأخير: «ذات يوم، اشترى بعض الجند المصريين المأسورين في بلاد الفرنجة، عنزة ليذبحوها في مجلس الذكر الذي عقدوه قربانا إلى الله كي يفك أسرهم، ولكن الحارس القائم على أمرهم رفض ذلك، واستولى على الدابة وذهب بها إلى بيته، فلما راح في النوم جاءته رؤيا مزعجة، فأدرك أن العنزة مباركة. وفي الصباح أعادها إلى الجند، ثم أُطلق سراحهم، ورجعوا إلى مصر مع العنزة. ولمّا نزلوا القاهرة، قصدوا مسجد السيدة نفيسة وقضوا ليلتهم بجوار ضريحها. وفي الصباح وجدوا العنزة وقد اعتلت المنارة لتكلم الناس».
أدرك خادم المسجد الفائدة التي قد يجنيها من ترويج قصة العنزة، فأشاع بين الناس أن السيدة نفيسة كلمته من مقصورتها وأوصته بالعنزة، وانتشرت الخرافة بين أهل العاصمة، وتوافدوا على المسجد للتقرب منها، والتبرك بها، والتبرع لها بما تجود به طاقاتهم. وهكذا صدق حدس الشيخ، وانهال عليه الرزق من كل جانب، لهذا أقر تسعيرة لكل درجة من درجات القرب من العنزة، أبعدها الرؤية المجردة، وأقربها المسح على جسمها للتبرك.
واستغل الخادم شغف الناس وتعلقهم بالدابة، فأخبرهم بأنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق، ولا تشرب إلا ماء الورد المحلى بالسكر. كما بلغت الخرافة مسامع الأميرات وزوجات الكبار، فبعثن إلى الشيخ ليزين بها جسد العنزة.
وعندما علم الأمير المملوكي عبد الرحمن كتخدا الذي يكره الخرافات والخزعبلات التي سادت عصره، أرسل طلبًا إلى خادم المسجد يدعوه إلى زيارة القصر مع العنزة، حتى يتمكن أهل بيته من رؤيتها والتبرك بها.
وافق خادم المسجد على الدعوة وحدد يوما للرحلة، فتجمع أرباب الطرق الصوفية في موكب مهيب لمصاحبة الشيخ والعنزة من مسجد السيدة إلى قصر الأمير في الدرب الأحمر.
ولما بلغ الموكب باب القصر، نهض الأمير وضيوفه من الوجهاء لاستقبال العنزة المباركة، واستأذن الأمير أن تمضي العنزة إلى جناح الحريم، فحملها الخدم إلى المطبخ، لتنهال عليها سكين الجزار، وتسابق الطباخون إلى سلقها وتحميرها. وفي الوقت نفسه، جلس خادم المسجد بين ضيوف الأمير يروي لهما ما رآه من كرامات العنزة.
لما حان موعد الغداء، أمر الأمير بمد الموائد، فدخل الخدم يحملون أطباق الفتّة تعلوها قطع اللحم، وتعاونت الأيدي والأسنان في إنجاز المهمة، وكان الأمير بين الحين والآخر يحث الشيخ على تناول المزيد من اللحم، وسرعان ما يستجيب الأخير، حتى فرغ الجمع من الطعام والشراب، فنهض خادم المسجد مستأذًا في الانصراف ومعه العنزة، فقال الأمير: «أي عنزة تقصد؟»، فرد الشيخ: «العنزة المباركة التي دخلت جناح الحريم!»، ليقول الأمير كتخدا: «العنزة لم تدخل جناح الحريم مطلقا، ولكنها دخلت بطنك با كاذب.. يا فاجر.. يا أفّاق.. وهذا دليل على ضلالك المبين».
وهكذا، بهت خادم المسجد الضال، وحاول الإفلات من قبضة الأمير، ولكن الأخير أمسك به، وأمر بضربه 60 عصا على رجليه.