بعد الله نحن مدينون إلى الكشوفات العربية - لوحة بريشة ادلوف شرايرمن تؤكد الدراسات الحديثة أن الحصان العربي هو وليد الصحراء، ونتاجها الطبيعي. وقد خضع في الصحراء لعملية انتقاء طبيعية صارمة، فلم يصمد أمام قسوة الطبيعة إلا الأجود والأقوى والأصلح من الخيول، حتى إن بعض الخبراء بالخيل يرى أن كل سلالة كريمة من الخيل لا تضمن لنفسها البقاء دون اختلاطها بالسّلالة العربية الأصيلة.
ومن كافة سلالات الخيل الموجودة، فإن السلالة العربية وحدها هي التي تستوفي بدون أدنى شك، مفهوم "الدم النقي"، وبسبب ذلك، فهي قادرة، وبصورة لا تقبل المقارنة مع جميع السلالات الأخرى، على توليد خصائصها ومميزاتها، ومن ثم تحسين كافة السلالات الأخرى. وفي هذا السياق يمكن القول أن أصالة الجياد العربية لا تتطلب البراهين؛ إنها قد اختبرت علميًّا، فبدم الجواد العربي تم تحسين وإعادة إنتاج عشرات من مختلف أنواع السلالات.
لقد أطلق العرب على أصائل الخيل اسم الخيل العراب والخيل العرايب والخيل العريبة والخيل المعربة نسبةً إلى العرب. فاهتمامهم بالمحافظة على أنساب خيولهم كاهتمامهم ومحافظتهم على أنساب أبنائهم وبناتهم. يقولون: "فلانة مهرة عربية" أو "عربية الأبوين والجدين" أو "معربة الأبوين والجدين"، ويقولون للفتى العربي الأصيل: "عريب الأبوين والجدين". ويطلقون على أصائل الخيل وأصائل النساء اسم: "كرائم الخيل" و"كرائم النساء" و"نجائب الخيل" و"نجائب النساء".
شهادة نسب لأحد الخيول العربية الأصيلة من الدلائل على اهتمام العرب بأنساب الخيل
وحرص العرب كل الحرص على أن لا تختلط دماء خيولهم بدماء غيرها من الخيول الهجينة، فذكروا مرابطها، وأصولها، إلى درجة أنهم عرفوا كل فرس ومشجّرات آبائه. فهم لا يقفون عند الآباء فحسب، بل يحرصون على حفظ نسب الخيل من الأمهات؛ لأنها تحمل الصفات النقية الأصيلة، وقد اشتهرت كثير من الخيول بنسبتها إلى الجد الأكبر، وبقيت أنسابها متوارثة في مكان نشأتها في جزيرة العرب فكان العرب قديمًا يقطعون المسافات الطويلة مع خيلهم؛ ليصلوا بها إلى فحل ماجد العرق معروف النسب والحسب؛ فيلقحونها منه وهم مطمئنو البال مرتاحو الخاطر.
ومن اهتمام العرب بالخيل أنهم كرّسوا لها بعض مؤلفاتهم؛ مثل: كتاب "أنساب الخيل" لابن الكلبي، وكتاب "أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها" للغندجاني ، وكتاب "الخيل" للأصمعي ، وكتاب "الأقوال الكافية والفصول الشافية في الخيل" للغساني ، وكتاب "حلية الفرسان في شعار الشجعان" لابن هذيل لابن هذيل الأندلسي ، وكتاب "الخيل" لابنلابن المثنى ، وكتاب "الحلبة في أسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام" للصاحبي ، وكتاب "الاحتفال في استيفاء تصنيف ما للخيل من الأحوال" للنميري الأندلسي ، وكتاب "فضل الخيل" للدمياطي ، وكتاب "أصول الخيول العربية الحديثة" لحمد الجاسر وغيرها.
غلاف كتاب أنساب الخيل لأبن الكلبي طبعة دار الكتب 1946
ولكن يأتي على رأس تلك الكتب كتاب "أنساب الخيل" لابن الكلبي. ويعتبر هذا الكتاب أساسًا لجميع المراجع التي تعالج موضوع أنساب الخيل العربية، والكلبي هو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، الذي طارت شهرته في الشرق والغرب كضابط لأنساب الخيل العربية منذ أن اشتهر أول فرس عربي كفحل للسفاد ، وقد ألف الكلبي كتابه ذائع الصيت "أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام" سنة 876 ميلادية، طبع أكثر من مرة الأولى في ليدن (هولندا) سنة 1928م، والثانية في القاهرة بمطبعة دار الكتب المصرية سنة 1948م بتحقيق أحمد زكي باشا المتوفى سنة 1934م في 136صفحة، وقد أضاف إليه المحقق حواشي إضافية، رجع فيها إلى "أسماء خيل العرب وفرسانها" لابن الأعرابي و"أسماء خيل العرب" للحسن بن أحمد الغندجاني المعروف بالأسود الأعرابي وغيرهما من مختلف الكتب. وكان في نيته أن يلحق به معجمًا بأسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام، فمات قبل إتمام طبع الكتاب وقبل وضع المعجم الذي وعد به في حواشيه. والطبعة الثالثة في بغداد سنة 1406هـ (1985م) بتحقيق الدكتورين نوري حمودي القيسي، وحاتم صالح الضامن.
وقد جاء في "كتاب الأقوال الكافية والفصول الشافية" للغساني، في شأن عروبة الخيل في أن أصالتها وقدمها أمر تؤكده المصادر العربية، والأحاديث النبوية الشريفة؛ أن الخيل سُميت عرابًا لأنها عربية.
وكتاب الأقوال الكافية والفصول الشافية يعد من أوسع الكتاب في أمور الخيل؛ فقد شمل كل ما يتصور بأمور الخيل والفروسية والبيطرة، وقد أتيح للمؤلف ما لم يتح لغيره من المؤلفين، فقد ورث عن آبائه وأجداده عشرات الخيول الأصيلة النفيسة، وقد أضاف إليها مما اقتناه في عهده الكثير من أصائل الخيل العربية، وقد سجل المؤلف شغفه بالخيل في مقدمة كتابه، في مثل قوله: "وإني لما أشرب في قلبي من محبة الخيل والإعجاب بها، والاستحسان لها، ومقاناتها، واختبار أخلاقها، واختيار عتاقها، وتعرف أحوالها، وإدمان ركوبها، لم أزل أرتبطها في مجالسي، وآنس بها كأنسي بمجالسي، وأباشر علفها ومرابطها، وأعاني رياضتها وتأديبها وتمرينها وتعليمها، وتفقد آلتها، وتغيير لجمها وإصلاحها، وإسراجها وإلجامها، في ليلي ونهاري، وإقامتي وأسفاري، من لدن حداثة السن، وقرب المولد، ولم تزل الأيام تجدد حبي لها، في كل يوم جديد، وأقول للذة النفس: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد".
وقد عرض المؤلف الدوافع التي جعلته يؤلف هذا الكتاب، هي: ما رآه من جهل الناس بمعرفة الخيل، وقلة خبرة المعنيين بها، وقد ساءه أن يرى الخيل تهان بجهل المدّعين بمعرفتها، فقال: "وقد رأيت في زماننا من يتعاطى معرفة الخيل، ويكثر التفيهق والثرثرة في الكلام عليها، ويوهم العامة أنه في الغاية القصوى في العلم، ولو سئل عن دائرة من دوائرها، أو شيء من أحوالها وأوصافها لم يعرفه، أو لو أريد منه إصلاح فساد فرس أو تعليمه شيئًا مما يراد به، أو رياضة مهر، أو تذليل صعب، لم يحُسن شيئًا من ذلك، وربما أفسد ما هو صالح".
صفحة من مخطوط الأقوال الكافية والفصول الشافية للملك المجاهد علي بن داوود بن يوسف بن عمر الرسولي
والمؤلف في هذا الكتاب يتقصى كل الأعضاء ويصف ويدقق في كل موضع وجزء فيه، ويعالج كل حالة ويصفها من حيث السعة والضيق والكبر والصغر، ويذكر أسماء المحاسن وأسماء العيوب فيها، وعلامات العتق والهجنة في كل حالة، ويبين العيوب ويصف العلاج، ويدعم كل ذلك بآراء السابقين وبيان اختلافهم، وما أصاب تلك المسميات من تبديل وتحريف في العصور التالية، ويوثق كل هذه الآراء بنصوص من كتب الخيل واللغة والأدب.
كذلك فقد عُني المؤلف في هذا الكتاب عناية خاصة بعلاج الخيل وبيطرتها، ولذلك فهو يفرد بابًا كبيرًا هو: (القول الرابع في ذكر أمراض الخيل وأسبابها ومداواتها).
وقد خصص ابن الكلبي كتابه "أنساب الخيل" مرجعًا للخيول العربية جميعًا إلى خمسة أصول تفرعت عنها بعض الأنساب والفروع، ويسوق في ذلك القصة الآتية: فقد روى أنه عقب انهيار سد مأرب، نتيجة لسيل العرم، وقد جاء في أخبار العرب أن أهالي اليمن قد بنوا سدًّا في وادي مأرب، حتى إذا انحدرت السيول اجتمعت خلفه كالبحر، وكانوا إذا أرادوا سقي أراضيهم فتحوا من ذلك السد على مقدار حاجتهم بأبواب محكمة، ثم خرب هذا السد في أوائل التاريخ المسيحي وسال الماء منه؛ فخرب البلاد وهو المعروف بسيل العرم، وقد جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة سبأ:
(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)
ففرت الخيل إلى البراري وتوحشت. فخرج ذات يوم خمسة أعراب هم: جُذْران، وشُوَيّة، وسِّباح، والعجوز، وشِّراك، إلى بلاد نجد، فشاهدوا خمسة من جياد الخيل وكرائمها؛ فاحتالوا لصيدها وكمنوا لها بالقرب من مورد الماء حيث نصبوا الفخاخ الخشبية. فلمّا سقطت في الكمين تركوها حتى أخذ منها الجوع والعطش مأخذًا، وهم في غضون ذلك يترددون عليها ويتقرّبون منها حتى تألفهم وتتعود عليهم، حتى استأنسوها وركبوها قاصدين مضاربهم. وخلال عودتهم نَفَدَ ما لديهم من زاد، وبلغ منهم الجوع مبلغًا؛ فاتفقوا أن يتسابقوا باتجاه خيامهم ويذبحوا الفرس التي تتأخر. ولكن عقب السباق رفض راكب الفرس الأخير ذبح فرسه، وأبى إلا أن يُعاد السباق. ثم تأخرت أخرى غير الفرس الأولى، فرفض فارسها ذبحها، وهكذا حتى رفضوا جميعًا ذبح خيولهم. وفي اليوم الخامس ظهر قطيع من الظباء، فأغناهم عن الذبح، وهكذا سَلِمَت الأفراس الخمسة.
فسُميت الفرس التي كان يركبها جُدْران الصقلاوية؛ لصقالة شعرها. وسميت التي كان يركبها شُوَيَّة أم عرقوب. لالتواء عرقوبها، أما فرس سّباح فقد أطُلق عليها اسم شويمة؛ لشامات كانت بها. وسميت الرابعة كحيلة؛ لكحل عينيها وكان يركبها العجوز. أمّا الخامسة التي كان يركبها شراك، فسميت عبية؛ لأن عباءة شِّراك سقطت على ذيلها، فظلت ترفعها بذيلها وتردها طيلة السباق.
صفحة من مخطوط نهاية الأرب في فنون الأدب للـ نويري
وقد نقل لنا النويري في موسوعته "نهاية الأرب" قصة عن انتقال الخيل من اليمن إلى بلاد العرب لا تقل طرافة عن سابقتها. فمن الجدير بالذكر أن نبي الله داوود كان يحب الخيل حبًّا جمًّا، فلم يكن يسمع بفرس يذكر بعرق أو عتق أو حسن أو جري إلا بعث إليه حتى جمع ألف فرس لم يكن يومئذ غيرها، فلما قبض الله داوود وورث سليمان ملكه وجلس في مقعد أبيه، قال سليمان: ما ورثني داوود مالاً أحب إلي من هذه الخيل، وضمرها ودربها ولم يزل سليمان معجبًا بها حتى قبضه الله كما ورد في القرآن الكريم. ووفقًا لقصة النويري، فإن أول ما انتشر في العرب من خيل سليمان بن داود -عليهما السلام- هو أن قومًا من الأزد من اليمن قدموا على سليمان وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من أمر دينهم ودنياهم وهموا بالانصراف، قالوا: يا نبي الله، إن بلدنا شاسع، وقد أنفضنا من الزاد، فمُرْ لنا بزاد يبلغنا إلى بلادنا؛ فأعطاهم فرسًا من خيله من خيل داود وقال هذا زادكم، فإذا نزلتم فاحملوا عليه رجلاً وأعطوه مطردًا وأوروا ناركم، فإنكم لن تجمعوا حطبكم وتوروا ناركم حتى يأتيكم بالصيد. فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلاً إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلت شيئًا تقع عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار، فيكون معهم منه ما يكفيهم ويشبعهم ويفضل إلى المنزل الآخر إلى أن قدموا بلادهم، وقالوا: ما لفرسنا هذا إلا زاد الركب فسموه به. وكان ذلك حوالي سنة 100ق.م فأصل فحول العرب من نتاجه. فلما سمعت بنو تغلب أتوهم -أي بني أزد- فاستطرقوهم؛ فنتج لهم من "زاد الركب" "الهجيس"، فكان أجود من زاد الركب، فلما سمعت بذلك بنو "بكر بن وائل" أتوا "بني تغلب" فاستطرقوهم؛ فنتج من الهجيس "الديناري"، فكان أجود من الهجيس، فلما سمعت بذلك "بنو عامر" أتوا "بكر بن وائل"؛ فاستطرقوهم على "سبل"، وقيل أيضًا: إنها فرس "غني بن أعصر بن مسعد بن قيس بن عيلان"، وكانت أجود ما أدرك، فأنتجت "الأعوج الأكبر"، وليس للعرب فحل أشهر ولا أكثر نسلاً منه.
<<<<<<< أنساب الخيل عند العرب >>>>>>>