قد تقدَّمَ الكلامُ على الهمزةِ ، وذكرنا أنَّه ليس لها صورةٌ ثابِتةٌ . وإذْ كانت الهمزةُ تقعُ أولاً ، ووسَطًا ، وآخِرًا ، فسنعرِضُ للتفصيلِ في أحوالِها هذه جميعًا بإذن الله .
أولاً :
الهمزةُ في أوَّل الكلمة
اعلمْ أنَّ الهمزةَ إذا وقعت في أوَّل الكلمةِ ، لزِمت الألفَ ؛ فإن كانت مفتوحةً ، كـ ( أَحمد ) ، أو مضمومةً ، كـ ( أُجاج ) ، كُتِبت فوقَها . وإن كانت مكسورةً ، كـ ( إيمان ) ، كُتِبت تحتَها . وإنَّما لزِمت الألفَ ، لأنَّ الهمزةَ لا تُخفَّف إذا كانت في أوَّل الكلمةِ ؛ فلذلك بقِيت صورتُها واحدةً .
وقد يَلحق بها في أوَّلها بعضُ الحروفِ ، فلا تُغيِّر حكمَ أوَّليَّتِها . وذلك إذا كانت تلكَ الحروفُ في حُكم المنفصِلةِ ، كحُروف الجرِّ ؛ نحو ( بِأمنٍ ) ، وحروف الاستفهام ؛ نحو ( أَأَنت ؟ ) ، وحروف التنفيسِ ؛ نحو ( سأُصلّي ) .
واعلمْ أنَّ الأصلَ في الهمزةِ أن تُنطقَ في البدءِ ، والوصلِ ؛ أي : إذا بدأتَ بها كلامَك ، وإذا تقدَّمَها كلامٌ ؛ حالُها في ذلكِ حالُ سائرِ الحروفِ ؛ فتقولُ مثلاً في الاسمِ : ( هذا أمرٌ ) ، وفي الفعلِ : ( لا أفعلُ ) ، وفي الحرف : ( لي أو لكَ ) ؛ فقد رأيتَ بالتجرِبةِ أنّك نطقتَ الهمزةَ في الحالينِ ، حالِ الوصلِ ، وحالِ البَدءِ . وتسمَّى حينَ إذٍ ( همزةَ قطعٍ ) .
-ولكنهم ربَّما احتاجوا أن ينطقُوا الهمزةَ في بعضِ المواضعِ إذا ابتدءُوا بها كلامَهم . فإذا وصلوها بكلامٍ قبلَها ، حذَفوها ، ويرسُمونها ألفًا من غيرِ همزةٍ ( ا ) ، ويسمُّونَها حينَ إذٍ ( همزةَ وصلٍ ) . وإنَّما فعلوا ذلكَ لثلاثِ عللٍ :
الأولى : التوصُّلُ إلى النطقِ بالساكنِ .
وذلك أنَّ مِن الكلمِ كلِمًا أوَّلُها حرفٌ ساكِنٌ لعللٍ يأتي ذكرُها . ولمَّا كانتِ العربُ لا تبتدئ بساكنٍ ، اجتلبت همزةً متحرِّكةً ، لتتوصَّلَ بها إلى النُّطقِ بالسَّاكنِ . فإذا ابتدأتْ بكلامٍ قبلَها ، حذفتْها ، لزوالِ الغرضِ منها . وهذا من لطيفِ حكمتِها ، وسلامةِ علِلِها .
ويطَّرِدُ هذا في موضعينِ :
الأوَّلُ : أمرُ الفِعل الثلاثيِّ ؛ نحو : ( اُكتُبْ ) ، وماضي الفِعل الخماسيّ ، والسداسيِّ ، وأمرُهما ، ومصدرُهما ؛ فالخماسيُّ نحوُ : ( انطلقَ ، انطلِقْ ، انطِلاق ) ، والسداسيّ نحوُ : ( استغفرَ ، استغفرْ ، استغفار ) . وحِسابُ الحروفِ إنَّما هو للماضي ؛ فـ ( اكتبْ ) ثلاثيَّة ، لا رباعية ، لأن ماضيَها ( كتبَ ) .
فلمّا سكنت أوائلُ هذه الأفعالِ ، احتاجوا إلى همزةِ وصلٍ قبلَها .
فإن قلتَ :
كانَ يُمكِنهم أن يفتحوا أوائلَها ؛ فيستغنوا عن اجتلابِ همزةِ وصلٍ لها ؛ فيقولوا مثلاً : ( نَطَلَقَ ) في ( اِنطلقَ ) ، وكانَ يُمكِنُهم أيضًا أن يجعلوا همزةَ الوصلِ همزةَ قطعٍ ، كما فعلوا في الرباعيِّ ، مثلِ : ( أكرمَ ) ؟
قلتُ :
إنَّما صدفُوا عن الفتحِ فرارًا من ثِقَل توالي أربعِ حركاتٍ في الخماسيِّ ؛ نحو : ( نَطَلَقَ ) ، وكراهيةً لاجتماعِ أربعِ حركاتٍ بينها ساكنٌ في الصحيحِ اجتماعًا لا يبرَحُ في السداسيِّ ، خِلافًا للمبدوء بتاء المطاوعةِ ؛ نحوِ ( تباعدَ ) ، و ( تقطَّعَ ) ؛ فإنهما بناءان فرعيَّانِ ؛ أصلُهما ( باعدَ ) ، و ( قطَّعَ ) .
وأمَّا لِمَ لمْ يجعلوها همزةَ قطعٍ ، فذلك أنَّهم لو جعلوها كذلكَ ، لكانَ يجِبُ أن تفيدَ معانيَ ، كالتعديةِ ، والاعتقادِ ، وغيرِها . وهذا مناقِضٌ للمعاني التي تُفيدُها صيغتا الخماسيِّ ، والسداسيِّ ، كالمطاوعةِ في نحو : ( انطلقَ ) ، والطلبِ في نحو : ( استغفرَ ) .
وإذا ثبتَ وجهُ العلّةِ في ماضي الخماسيِّ ، والسداسيِّ ، فاعلمْ أنَّ الأمرَ منهما ، والمصدرَ محمولٌ عليهما . وذلكَ أنَّ القاعدةَ توجِب اشتقاقَ فعلِ الأمرِ من المضارعِ بحذفِ ياء المضارعة ؛ فإذا أردنا أن نصوغَ الأمرَ من ( ينْطلِقُ ) حذفنا ياءَ المضارعةِ ؛ فتصبح الكلمة ( نْطَلِقْ ) ساكنةَ الأوّل ؛ فنجتلبُ لهما همزةَ وصلٍ . ومثلُ هذا أمرُ السداسيّ ، وأمرُ الثلاثيِّ . أمَّا المصدَر ، فمن شأنِهم أن يُعِلّوه بإعلالِ الفعلِ ، كما قالوا : ( لذتُ لِياذًا ) .
الثاني : الألفاظُ المحكيَّة [ أي : التي يُراد كتابتُها كما تُنطَق ] إذا كان أولُها ساكنًا ، كحكايتك لفظَ ( اِمْحمَّد ) في كلامِ العامَّةِ ، وكلمةَ ( اِقْرُوب ) [group ] في الإنجليزيةِ مثلاً . وإن شئتَ حذفتَ همزةَ الوصلِ ، وحكيتَها مبتدأةً بساكنٍ ، لأنَّ الصحيحَ أنَّ الابتداءَ بساكنٍ ممكنٌ في الواقعِ . وهو كثيرٌ في اللغاتِ الأعجميَّةِ