البابُ الأول
الذوات
وهي ضربانِ :
الضربُ الأول
ما ليس له رسمٌ ثابتٌ
ويشملُ حرفينِ :
الحرف الأول
الهمزة
قد علمتَ أنَّ حروفَ العربيةِ تسعةٌ وعشرونَ حرفًا - على الصحيح - ؛ لكلِّ حرفٍ منها صورةٌ خاصَّةٌ بهِ لا تتغيَّرُ ؛ فالعينُ مثلاً صورتُها ( ع ) ، و الميم ( م ) . والياءُ صورتُها على التحقيقِ ( ي ) ، لا ( ى ) كما يَرسمُها بعضُ أهلِ الأقطارِ ، لأنَّها إذا كانت تُنقَط في الوصلِ ، فالقياسُ نَقطُها في الانفصال أيضًا . ولأنَّ في تركِ نَقطها التباسًا لها بالألف المقصورة ، والرسمُ مبنيٌّ على إزالةِ اللَّبسِ .
وذلكَ في ما خلا الهمزةَ ، والألفَ ؛ فإنَّه ليس لهما صورةٌ ثابتةٌ ؛ فأما الألف ، فيأتي التفصيلُ فيها . وأما الهمزةُ ، فإنها تُكتبُ مرَّةً ( أ ) ، وأخرَى ( ؤ ) ، وثالثةً ( ئ ) ، ورابعةً ( ء ) ؛ فهي كما رأيتَ غالبًا ما تحتاجُ إلى كرسيٍّ تستوي عليهِ . وهذه صِفةُ ضَعفٍ فيها .
ولعلَّكَ تسَّاءَلُ :
ولِمَ كانت ضعيفةً ؟
فأقولُ :
ذلكَ أنَّ من العربِ - وهم أهلُ الحجازِ - من يبدلُها غالبًا إلى حرفِ مدٍّ ؛ فيقولُ مثلاً : ( راس ) في ( رأس ) ، و ( مُوَن ) في ( مُؤَن ) ، و ( بير ) في ( بئْر ) . فلمَّا ابتدعَ الخليل ( 175 هـ ) صورةً للهمزةَ ، وإذْ كانَ المصحفُ مبنيًّا على مذهب أهل الحجاز في التخفيفِ ، وضعوها فوقَ ما تُخَفَّفُ إليهِ ؛ فـ ( مومنون ) [ بدون نقط ] أصبحت ( مؤمنون ) ، ولو رُسِمت على مذهبِ من يُحقّقُ الهمزةَ ؛ أي : ينطقُها ، لوجَب أن تُرسَم على ألفٍ في كلِّ حالٍ ، وتكون صورتُها أبدًا واحدةً ، كسائرِ الحروفِ ؛ فتصبح ( مؤمنون ) ( مأمنون ) ؛ ولكنهم اتّبعوا في رسمِ الهمزةِ في المصحفِ مذهبَ التخفيفِ ، حتى لا يغيِّروا في رسمِ المصحفِ بعد ما استقرَّ . ثمّ غلبَ هذا في سائرِ خطوطِ الناسِ ، لأن رسم المصحف هو الأعرفُ ، والأشهرُ ؛ فكان لذلكَ أحقَّ بالاتّباعِ . وهذا هو الأصلُ الأولُ من أصولِ الإملاءِ ؛ وهو أنَّ الهمزةَ تُرسَمُ بحسبِ ما تئولُ إليهِ إذا خُفِّفتْ . ثمَّ إنَّ المتأخِّرينَ خصّصوا هذا الأصلَ بأصلٍ آخرَ يأتي – إن شاء الله - ؛ ولكنهم لم يُحسِنوا تطبيقَه . وعلى هذا ظلّتِ الهمزةُ تُرسَمُ على صُوَرٍ مختلِفةٍ ، ولم يخالفْ في ذلك إلا ما حكاه الفرَّاءُ ( 207 هـ ) - كما سيأتي - .
وربَّما تسألُ :
وما فرقُ ما بينَ الهمزةِ ، والألفِ ؟
فأقول :
هما حرفانِ متباينانِ ، لكلِّ واحدٍ منهما مَخرجٌ ؛ فأمّا الهمزةُ فمخرجُها كما يَرى علمُ الأصواتِ الحديثُ : الحَنجرةُ ، لا أقصَى الحلقِ ، وربما سمَّوها ( الألفَ اليابسةَ ) إذا رُسِمت على ألفٍ . والألفُ مخرجُها من الجوفِ . ثمَّ انبنَى على اختلافِ حقيقتيهما أن اختُصَّ كلٌّ منهما بخصائصَ ؛ فالهمزةُ لها رسمها الذي ذكرنا ، والألف تُرسَم في الأصلِ ( ا ) ، وربَّما رُسِمت ( ى ) – كما سنبينه إن شاء الله - ، والهمزة تكون في الكلِمِ أصليةً ، وزائدةً ، ومنقلبة عن أصل ، والألفُ لا تكون إلا زائدة ، أو منقلبةً عن أصل ، ولا تكون أصليةً . والهمزة يمكن تحريكها ، والألف لا تكون إلا ساكنةً مفتوحًا ما قبلها ؛ ولذلكَ لا تقعُ في أولِ الكلمةِ ، لامتناعِ الابتداء بساكنٍ .
وإذا عرفتَ حقيقةَ الهمزةِ ، فاعلمْ أنها تقعُ أولَ الكلمة ، ووسطَها ، وآخرَها ؛ مثَلُها مثَلُ سائرِ الحروفِ