تجارب عجيبة لاختبار تأثير رحلات الفضاء على الإنسانفي الطوابق الفرعية لأحد المباني في ألمانيا، سيستلقي عدد من المتطوعين قريبا في أوضاع وزوايا غير طبيعية، بغية المساعدة على فهم أفضل لتأثيرات السفر عبر الفضاء على جسم الإنسان.
يبدو مركز "إينفي-هاب" للأبحاث الطبية، التابع لوكالة الفضاء الألمانية (دي إل آر)، والذي افتتح مؤخرا قرب مدينة كولونيا، كما لو كان مبنى ينتمي إلى المستقبل. ولكنه ربما مستقبل من تلك التي يسودها البؤس الإنساني، حيث يبدو كل شيء لامعاً من الخارج، بيد أن هناك شيء ما مشؤوم للغاية يدور تحت السطح.
ومما لا يبشر بخير؛ كون الجانب الأكبر من هذا المبنى يقع بالفعل تحت الأرض مباشرة. ويشبه ذاك المركز، المُحاط بمختبرات للأبحاث العلمية ومبان إدارية، لوحا مسطحا أبيض اللون على شكل مستطيل فوق الأرض، كما لو كان مكعبا ضخما من المكعبات المستخدمة في لعبة "الليغو".
دخلنا المكان عبر ممشى خرساني يقطع منطقة كثيرة العشب وذات جوانب منحدرة. فتح لنا حارس أمن الأبواب الزجاجية لنهبط على درج أوصلنا إلى متاهة من الممرات التي يسود اللون الأبيض جدرانها وأرضياتها وأسقفها. هناك؛ لا نوافذ أو صور أو مفروشات منزلية، أو أي لون كان، أو حتى مقابض للأبواب.
بمجرد أن أصبحنا في الداخل، أحسسنا بأننا يمكن أن نكون في أي بقعة من بقاع الأرض.. أو في الواقع؛ في الفضاء. أو شعرنا بأننا ربما في موقع بعيد للبشر في عالم ناء، أو في موقع أُعد لتصوير إحدى حلقات مسلسل "دكتور هو"، الذي بُث في سبعينيات القرن الماضي. وهنا لم أكن لأفاجئ لو رأيت دورية للمخلوقات الغريبة، التي أُطلق عليها في المسلسل اسم "دالِك"، وهي تسير على مقربة منا.
اختبار السفر إلى الفضاء
على أي حال، فإن إشاعة الشعور بأننا موجودون في عالم آخر كان أمرا مقصودا. فقد صُمم مركز "إينفي-هاب" لكي يكون بمثابة محطة فضائية، يتمكن في أروقتها العلماء والأطباء والمهندسون من محاكاة البيئات السائدة خارج كوكب الأرض.
كان مرشدي في هذه الجولة طبيبا متخصصا في أمراض القلب، يعمل في معهد طب الفضاء التابع لوكالة الفضاء الألمانية، ويدعى أولريش ليمبر. وقال لي: "بوسعنا التحكم في كل الظروف البيئية؛ الضوضاء، والضوء، ودرجة الحرارة، وحتى مزيج الغازات في الهواء".
ومضى ليمبر قائلا إن هذا المركز منح الباحثين الفرصة "لإجراء دراسات يمكن التحكم في الظروف التي تجري في إطارها، وهو أمر مهم لرحلات الفضاء، وكذلك للبحث العلمي على سطح الأرض".
وباستخدام سلسلة مفاتيحه المثبتة في ثيابه، فتح لنا ليمبر مجموعة من الأبواب المزدوجة، تلك التي لم تصدر سوى صرير خافت للغاية وهي تُفتح أمامنا. عبرنا مجموعة أخرى من الأبواب، لندخل عنبر مستشفى. هناك؛ كان على جانبي الممرات البيضاء 12 غرفة خالية من النوافذ، وبداخل كل منها سرير من تلك المستخدمة في المستشفيات.
ويقول ليمبر: "من داخل (هذه الغرف)؛ ما من سبيل لمعرفة ما إذا كان الوقت نهارا أم ليلا.. لا ساعات مثبتة على الجدران، وليس لديك أي فكرة عن أي ساعة الوقت الآن، أو أي فصل من العام ذاك".
لكن قبل أن يبدو الأمر مروعاً ليّ إلى حد مفرط، حرص ليمبر على التأكيد على أن كل من يقيمون في هذا المركز جاءوا طوعا، ويتقاضون أجرا. وقال: "نختارهم عبر عملية فرز منظمة ومكثفة، وهم على دراية بطبيعة التحدي" الذي سيواجهونه.
محاكاة انعدام الوزن
في أول تجربة كبيرة في مركز "إينفي-هاب"، سيتمثل التحدي في أن يستلقي شخص ما في الفراش لستين يوما متواصلة، لبحث التأثيرات الناجمة عن رحلات الفضاء طويلة المدة. وستبدأ هذه التجربة الصيف المقبل، ويعكف الفريق الطبي حاليا على اختيار 12 شخصا للمشاركة فيها.
ويوضح ليمبر أن مثل هذه التجارب "تمنحنا الفرصة لمحاكاة التأثيرات الناجمة عن انعدام الوزن لفترة طويلة".
ويشكل فهم كيفية تكيف الجسم مع الحياة في وسط تنعدم فيه الجاذبية، أمرا ضروريا إذا ما كان للبشر أن يقوموا في يوم ما برحلات خارج الأرض، لفترة تتجاوز بضعة أشهر. فالرحلة إلى المريخ ذهابا وإيابا ستستغرق ما لا يقل عن عامين؛ 18 شهرا منهما على الأقل في الفضاء.
وأظهرت الدراسات التي أجريت على رواد الفضاء أن انعدام الجاذبية يؤدي إلى الإصابة بهشاشة العظام وضمور العضلات، ويفضي كذلك إلى أن تتجمع سوائل الجسم في الرأس، ما يؤدي إلى تورمها.
ويصف البعض رواد الفضاء بأنهم ذوو رؤوس كبيرة بالفعل، وهو وصف يُستخدم في اللغة الإنجليزية للإشارة إلى من يتسمون بالغطرسة أو الميل للتباهي. وكثيرا ما يشكو طاقم المحطة الفضائية الدولية من الشعور بنزلات البرد التي تؤثر على الجيوب الأنفية.
وقد بدأ رائدا الفضاء الأمريكي سكوت كيلي والروسي ميخائيل كورنينكو مؤخرا مهمة تستمر عاما لبحث التأثيرات التي تخلفها رحلات الفضاء طويلة المدة. رغم ذلك، فإن الدراسات الخاصة بـ"الاستلقاء في الفراش"، والتي تجري على الأرض في "إينفي-هاب"، ستتيح الفرصة للأطباء لدراسة حالات عدد أكبر من المتطوعين في ظل ظروف يمكن التحكم فيها بشكل كامل.
لكن لا تتصور أن مثل هذه التجارب ستكون مريحة لمن تُجرى عليهم.
أن تعيش مستلقيا في وضع غير مستقيم
قال ليمبر: "للتحايل على الجاذبية الأرضية؛ نُميل رؤوس المشاركين في الدراسة إلى الأسفل (وهم مستلقون على الأَسِرّة) بواقع ست درجات. هذا أمر مهم للغاية، حتى يكون الرأس في مستوى أسفل من باقي أجزاء الجسم".
وخلال بقائهم في هذا الوضع الغريب، يُتوقع من الأشخاص الذين تشملهم الدراسة كذلك اتباع نظام محكم للحمية الغذائية، يضمن وصول العناصر المغذية إلي أجسادهم، وقضاء حاجتهم باستخدام أوعية وقوارير خاصة للتبول. وسيُراقب هؤلاء على مدى الـ 24 ساعة، عبر دائرة تليفزيونية مغلقة، بل إنهم سيُنقلون إلى أَسِرّة خاصة مائلة ومقاومة للماء؛ بهدف الاستحمام وهم في نفس وضع الاستلقاء المائل.
وفي الماضي، أجرت وكالة الفضاء الألمانية العديد من دراسات "الاستلقاء في الفراش" بالشراكة مع وكالة الفضاء الأوروبية. ولم تقتصر الاستفادة بنتائج تلك الدراسات على شؤون الفضاء وحدها، بل استُخدمت في موضوعات تتعلق بالحياة على وجه الأرض، مثل الأبحاث الخاصة بأمراض العظام، وكذلك في وضع خطط لرعاية الأشخاص الذين تتطلب حالاتهم المرضية البقاء على أَسِرّة المرض في المستشفيات.
وتتطلب الدراسة المرتقبة الاستعانة بمتطوعين رجال يتمتعون بلياقة بدنية معقولة، وتتراوح أعمارهم ما بين 18 و40 عاما. يقول ليمبر: "إحدى المشكلات الكبيرة بالنسبة لنا، تتمثل في التباين ما بين المتطوعين. كما أن جنس الشخص الذي يخضع للبحث له أثر كبير، ولكن دراسات أخرى ربما تستخدم متطوعات" بدلا من متطوعين.
وبالإضافة إلى قضاء المتطوعين وقتهم مستلقين في وضع مائل، وهم يقرءون وينامون ويشاهدون الأفلام ويمارسون ألعاب الفيديو، سيشارك هؤلاء في مجموعة متنوعة من التجارب. فعلى مدار ثلاثة أسابيع سيقضونها داخل المركز، يمكن أن يُتوقع من المبحوثين الخضوع لقياسات معينة، والتعرض للوخز، والفحص بالأشعة، في إطار تجارب على الدم والعظام والعضلات.
برغم ذلك، ستكون هناك بعض فترات الراحة في إطار هذه المنظومة، التي تشمل "الاستلقاء في الفراش" والخضوع للتجارب. ففي ضوء أن أحد أهداف الدراسة يتمثل في بحث سبل مواجهة الآثار المدمرة الناجمة عن الحياة في ظل وسط تسوده جاذبية أرضية ضعيفة، سيُطلب من المتطوعين القيام بتدريبات معينة للتعرف على تأثيرات ذلك على الصحة والعضلات.
وستستخدم دراسات تالية جهازا موجودا في قلب مركز "إينفي-هاب"، وهو جهاز طرد مركزي مخصص للبشر. ويتألف الجهاز، الموضوع في غرفة أسطوانية كبيرة جدرانها بيضاء وخالية من النوافذ، من أربع أذرع يصل طول كل منها إلى نحو ثلاثة أمتار، وضعت على شكل صليب حول محور مركزي. ويوجد فراش متصل بإحدى هذه الأذرع، ما يُمَكّن الأطباء من تدوير المتطوعين بشكل سريع لمحاكاة السرعات المختلفة.
وقد عمد مصممو ذلك الجهاز إلى أن يكون أصغر حجما من غالبية الأجهزة المماثلة له. ويقول ليمبر: "نعتقد – بشكل أو آخر - أن ذلك الحجم، هو ما يمكننا استخدامه في محطة فضائية".
العودة العسيرة إلى الواقع
ويعد الهدف من وراء ذلك هو تطبيق التقنية المستخدمة في جهاز الطرد المركزي البشري في محطة فضاء مستقبلية، أو خلال رحلة لمركبة فضائية تقصد أعماق الفضاء، بهدف تمكين الرواد من ممارسة التدريبات في ظل ظروف جاذبية أرضية صناعية.
لكن من شأن أي شخص يتطوع للاستلقاء شهرين في الفراش، مستجيبا لكل ما يطلبه الأطباء منه، أن يشعر عند نهاية الدراسة بالتشوش والارتباك. ولمساعدة هؤلاء الأشخاص على التكيف مع عملية الانتقال للعودة إلى العالم الواقعي، توجد في المركز الطبي منطقة "أحياء سكنية"؛ يتسنى للمتطوعين الإقامة فيها والتواصل اجتماعياً مع بعضهم البعض، بمجرد انتهاء المرحلة الخاصة بـ"الاستلقاء في الفراش".
غير أن المرء سيظل يشعر بأنه لا يزال بعيدا للغاية عن أجوائه الطبيعية. فرغم أن هذا القسم مزود بشاشة فيديو عملاقة ومقاعد مريحة (يمكن للإنسان هنا أن يتصور شعوره بأنه بات بوسعه الجلوس أخيرا، بعد كل هذه الفترة التي قضاها مستلقيا)، فإن جدران المكان تخلو من النوافذ أو الصور. العنصر الزخرفي الوحيد يتمثل في شعار (دي إل آر) المُثبت على أحد الجدران، وطفاية حريق حمراء اللون موجودة في الزاوية.
من يمكنه أن يتصور أن عدم القيام بأي شيء – كما هو الحال في هذه التجربة – يمكن أن يكون عسيرا للغاية هكذا؟ لكن، وعلى الرغم من التحدي المتمثل في التطوع للبقاء 60 يوما في الفراش؛ يقول ليمبر إنه من النادر أن ينسحب أي من المتطوعين للمشاركة في تلك التجربة، وذلك بفضل عملية الانتقاء الدقيقة التي اختيروا من خلالها.
أما بالنسبة لي، فقد فقدت كل صلة لي بالزمن والوقت، رغم أنني لم أقض تحت الأرض سوى 90 دقيقة فقط. وعند خروجي مع ليمبر إلى ضوء النهار ثانية، سألته إن كان يمكن أن يشارك في تلك التجارب بنفسه، ليرد قائلا :"لم أكن لأقوم بذلك.. كلا".