يهـود الـدونمة من سباتاي حتى أتاتورك .. أصل الحكايةتتردد كلمة الدونمة كثيراً على الألسنة، دون أن يدرك الكثيرون أن هذه الكلمة هي أساس سقوط الخلافة الإسلامية في الثالث من مارس عام 1924م على يد «كمال أتاتورك»، من يهود الدونمة، فما حكاية الدونمة؟ ومتى وجدوا؟ وماذا فعلوا؟
الدونمة في اللغة التركية تعني «الهداية»، أو العودة إلى الحق، وأطلقت على مجموعة اليهود الذين هربوا من «محاكم التفتيش» بالأندلس على يد الكاثوليك، ورفضتهم كل الدول الأوروبية، فلجؤوا إلى دولة الخلافة الإسلامية، فقبلتهم وهيأت لهم عيشة آمنة، وتظاهروا باعتناق الإسلام، لكنهم أبقوا على عقيدتهم اليهودية، وكانوا يمارسون كل طقوس ديانتهم، ليس هذا فحسب، بل كان منهم «كمال أتاتورك» ابن «زبيدة» الغانية - لا يعرف له أباً - الذي أسس «جمعية الاتحاد والترقي» أو «تركيا الفتاة»، والتي كانت بداية النهاية لدولة الخلافة الإسلامية، وبعدها غيَّر حروف اللغة التركية من العربية إلى اللاتينية، ثم كتب القرآن بالتركية، ورفع الأذان بالتركية، وكانت هذه أول سابقة في التاريخ أن يرفع الأذان بغير العربية، ثم جعل العلمانية هي أساس الدولة، وسنَّ دستوراً يجرم كل ما هو إسلامي.. إلخ مما نعرفه.
يسمى يهود الدونمة أيضاً بـ«السباتائيون» نسبة إلى «سباتاي سيفي»، المولود بأزمير عام 1626م، وهو ابن «المفتش الأسود»، في وقت كان يظن فيه اليهود والمسيحيون بأن المسيح المنتظر سيظهر عام 1648م، مما حفزه للتخطيط للادعاء بأنه هو المسيح المنتظر، مستغلاً ذكاءه وثقافته الدينية الواسعة في التغلب على من يناقشه، وخداع المقربين إليه، وبالفعل ادعى النبوة عام 1648م.
وأصدر «سباتاي» بياناً قال فيه: «سلام من ابن الله سباتاي مسيح إسرائيل، لقد نلتم شرف معاصرة منقذ بني إسرائيل، ومخلصهم الذي بشر به أنبياؤنا وآباؤنا، فعليكم أن تجعلوا أحزانكم أفراحاً، وصيامكم إفطاراً ولهواً، فلن تحزنوا بعد اليوم، فأعلنوا عن فرحتكم بالطنبور وبالأورج والموسيقى، واشكروا الذي وعدكم فأوفى بوعده، وواظبوا على عباداتكم كما في السابق، أما في أيام المصائب والمآتم؛ فاجعلوها بسبب بعثي أيام شكر ومسرة.. ولا تهابوا شيئاً، فإن حكمكم لن يقتصر على أمم الأرض، بل سيتعداها إلى جميع المخلوقات، في أعماق البحار، فكل هؤلاء مسخرون لكم ولرفاهيتكم.. سباتاي سيفي».
وحينما نشر «سباتاي» بيانه المكذوب كان يدرك خطورة ادعاء النبوة في بلد إسلامي، فترك أزمير ورحل إلى إسطنبول عام 1650م، وهناك لقي العون والمساعدة من حاخام مزيف استقبله بترحاب، كما عجز عن تأسيس قاعدة له، فرحل إلى أثينا، ثم عاد إلى أزمير وإسطنبول عام 1659م، ثم رحل إلى القاهرة عام 1663م ومنها إلى القدس، لكنه خاف على نفسه ولم يبشِّر أحداً بما يدعيه.
على جانب آخر، ظهرت في أمستردام فتاة على قدر كبير من الجمال اسمها «سارة»، كانت تهوى المغامرات، ولما سمعت بأن شاباً وسيماً في أزمير ادعى أنه المسيح طمعت في أن تستغله لتكسب شهرة، فاختلقت رؤيا نشرتها بين اليهود فحواها بأن نوراً سيسطع عام 1666م، وأنها ستتزوج من المسيح الذي سيظهر في ذلك العام.
طرق الخبر مسامع «سباتاي» بعد مدة، فعمد إلى استغلاله واختلق هو بدوره رؤيا أوحت إليه بالزواج من فتاة بولونية، واعتبر اليهود السذج هذا الحديث معجزة من معجزات «سباتاي».
أرسل «سباتاي» في طلب «سارة»، وكان وقتها في القاهرة، فحضرت إليه وتزوجها، وأقاما لذلك حفل زواج أسطورياً، كان له أثر إيجابي في تعزيز دعوته لما يبشر به، فتشجع وذهب عنه الخوف، ثم عاد إلى أزمير عام 1666م، وأصبح له أنصار كثيرون، ولم تمضِ مدة كبيرة حتى أصبح يهود أزمير طوع يديه، وبدأت شهرته تنتشر في الآفاق إلى أن وصلت رودس وأدرنة وصوفيا، وصارت الوفود تشد إليه الرحال من ألمانيا.
وفي هذه الفترة جرت له مراسيم لبس التاج، فصار يستقبل زواره بمواعيد ومراسيم معينة، وبموجب عقيدته التي آمن بها، قسم «سباتاي» العالم إلى 38 منطقة، وعين لكل منطقة ملكاً، وغير بعض العادات اليهودية، وصار يوجه رسائله ويزيلها بتوقيع: «ابن الله الأول والوحيد.. سباتاي سيفي»!
كانت الدولة العثمانية في ذلك الحين وعلى رأسها السلطان محمد الرابع، وصدره الأعظم فاضل باشا، مشغولة بحرب كريت، لكن لما كان الأمر في طريقه إلى تجاوز اليهود إلى فئات أخرى، فقد عرض قاضي أزمير على الصدر الأعظم ضرورة اعتقال «سباتاي»، فأمر بإلقاء القبض عليه، وأرسل عن طريق البحر إلى إسطنبول، وفي التحقيقات التي جرت معه أنكر «سباتاي» كل ما نُسب إليه، لكنه تعرض للتعذيب، ثم نقل إلى سجن «زندان فابي».
في هذه الأثناء ظهر حاخام يهودي آخر في بولونيا اسمه «ناحيم كوهين»، وكان مطلعاً على علوم استحضار الأرواح، وذهب لزيارة «سباتاي» في سجنه، وأبلغه بأنه هو الآخر مسيح، وأن الكتب المقدسة تبشر بمسيحيَّيْن اثنين وليس بمسيح واحد!
ازدادت الأمور تعقيداً، وبدأ الناس يتوافدون على السجن لرؤية هذين المدعيين كنوع من الفضول، فأمرت الحكومة بنقله إلى قصر أدرنة، وفي القصر واجه المسيح المزيف الامتحان الصعب، حيث كان يجلس مصطفى باشا، القائم بأعمال الصدر الأعظم، وشيخ الإسلام يحيى أفندي منقري زاده، وإمام القصر محمد أفندي وانلي، أما السلطان فكان يجلس في غرفة مجاورة يسمع ما يُقال.
بواسطة ترجمان خاص، قيل لـ«سباتاي»: تدعي أنك المسيح، فأرنا معجزتك، سنجردك من ثيابك ونجعلك هدفاً لسهام المهرة من رجالنا، فإن لم تغرز السهام في جسمك فسيقبل السلطان ادِّعاءك.
فهم «سباتاي» معنى ما سمعه، فأنكر كل ما ادعاه، وكان السلطان محمد الرابع يسمع كل ما يقال في المجلس، فطلب بأن يعرضوا عليه الإسلام، فلما رأى المسيح المزيف أنه أصبح بين خطر الموت وبين الإسلام، اختار اعتناق الإسلام، ودخل في شخصية المسلم المزيف، وتسمى «محمد عزيز أفندي».
لكن قصة «سباتاي» لم تنتهِ بدخوله في الإسلام، بل ربما تكون بدأت مع بدء تسميته «محمد أفندي»، فبعدما أنقذ حياته بهذا الاسم، أرسل إلى مريديه تعميماً قال فيه: لقد جعلني الله مسلماً، أنا أخوكم «محمد البواب»، هكذا أمرني فامتثلت، لقد ذكرت الكتب اليهودية المتقدمة بأن المسيح سيتبع من قبل المسلمين، وأعلن «سباتاي» في تعميمه هذا إلى أتباعه بأنه سيستمر في مهمته بالتكيف مع الوضع الجديد، وأشاع مريدوه بأن الجسم القديم لـ«سباتاي» قد صعد إلى السماء، فعاد بأمر من الله في شكل ملاك يلبس الجبة والعمامة، ليكمل رسالة المسيح، وتجلى الخبث اليهودي هنا، فقد أراد «سباتاي» جمع مريديه تحت كسوة جديدة، فتقدم إلى مفتي دار الخلافة للسماح له بدعوة اليهود إلى الإسلام، ولما حصل على ما أراد استأنف دعوته السابقة، واستهدف هذه المرة تأسيس مذهبه المسلم في الظاهر، «السباتائي» في الباطن.
وهكذا جاء أتباع المسلم المزيف من كل مكان، ولبسوا العمائم والجبب، فأطلق الأتراك على أتباع هذا المذهب الجديد «الدونمة»، أي الذين رجعوا إلى الحق، أو المهتدون، ولم يكن يخطر ببالهم أنهم أمام فئة يهودية خطيرة ستهدم الخلافة، وتهدم معالم الدين في مقر الخلافة، وهذا ما حدث في المرحلة التي تلت وفاة «سباتاي» عام 1675م، فقد بدأ التخطيط المنظم لهدم الإمبراطورية الإسلامية، ونجحوا في ذلك.
المصدر : mugtama