إذا كانت السياسة في نظر المحللين السياسيين هي فن الممكن فإن الأمر بالنسبة للشهيد الرمز ياسر عرفات هي فن تحقيق المستحيل ...
ياسر عرفات و إن بدا واضحاً مكشوفاً للجميع فلا شك أنه أكثر القادة و الثوار غموضاً و حذراً و حيطة أثارت دهشة كل المراقبين ، إذ حتى مكان ولادته تضاربت المعلومات حوله بين مولده في القدس و الحجاز و القاهرة ، و قد تعمد ذلك ليحظى بهوية الشعوب العربية كلها ، و إن كان من الثابت أنه من مواليد القاهرة في غشت 1929 ميلادية و هو الإبن السادس لأب كان يشتغل بالتجارة حيث قام بالهجرة من القدس إلى القاهرة عام 1927 ميلادية ، و قد تزوج والده رحمهم الله جميعا من السيدة فاضلة التي قيل إنها تنتسب إلى أسرة الحسيني الشهيرة بالقدس و التي رحلت إلى دار البقاء و سن ياسر ابنها لم يتجاوز السنة الرابعة .. ما دفع والده إلى إرساله إلى القدس قصد العيش هناك بجوار أهله ، ثم عاد ياسر مرة أخرى إلى القاهرة سنة 1939 للبقاء بجوار والده الذي لحقه بعد سنوات لتحصيل الدراسة في كلية الهندسة في جامعة الملك فؤاد حيث التحق بقسم الهندسة المدنية .... قضى ياسر سنوات الدراسة ثائراً مناضلاً ضد العصابات الصهيونية إذ تمكن من تأسيس رابطة الخريجين الفلسطينيين ثم انطلق بهم للمشاركة في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ميلادية . عقب انتهاء الحرب انتقل إلى دولة الكويت للإشتغال في مجال الهندسة ، و بدأ في العمل السري و نجح في تكوين خلية حركة فتح الأولى بعد ضم خليل الوزير " أبو جهاد " و صلاح خلف " أبو إياد " و خالد الحسن و فاروق قدومي ، و سمحت له السلطات الكويتية بإصدار مجلة " فلسطيننا " التي استمرت في الصدور مدة عشرة سنوات و تمكن خلالها من استقطاب أنصار جدد إلى خليته التي بدأت في الإنتشار و التوسع داخل جميع بلدان العالم العربي ....
بعد هذه المرحلة انتقل ياسر عرفات للعمل بالجزائر و تمكن بتعاون مع الرئيس الجزائري آنذاك ( الزعيم أحمد بن بلا رحمه الله ) من إنشاء أول مكتب للحركة داخل الجزائر سنة 1964 ... و في أوائل العام نفسه تقدم القائد عبد الناصر باقتراح مؤتمر القمة العربي بالعاصمة الرباط بالمغرب يقضي طبعاً بإنشاء كيان مستقل تحت إسم منظمة التحرير الفلسطينية على أن يرأسه حينها أحمد الشقيري بحكم علاقاته المتينة بعدد من الرؤساء و الحكام العرب ، بينما كان ياسر عرفات أسير الشباب على حد تعبير الحكام العرب آنذاك ....
لم يشأ القائد الرمز البقاء خارج أسوار وطنه ، تسلل إلى - إسرائيل - مستخفيا في أعقاب هزيمة 1967 و قد أشاع جواً من الإرهاب داخل الثكنات الإسرائيلية بعد شنه لهجوم ضخم بالإشتراك مع رجال فتح و لمع بذلك نجمه في سماء الأمة العربية ، بعد مطاردته من قبل أجهزة أمن العدو إذ أجبروه على التوجه إلى عمان في بداية عام 1967 ، و استقر به المقام في بلدة الكرامة التي شهدت معركة قوية مع قوات العدو الإسرائيلي و التي تكبد فيها العدو خسائر فادحة في العتاد و الأرواح مما رفع من شأن عرفات و أصبح مثار إعجاب لشباب الأمة الإسلامية ، فأعلن الرمز عبد الناصر في أعقاب معركة الكرامة اعترافه بالزعيم ياسر عرفات ممثلاً عن الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت الإحتلال الإسرائيلي داخل الأراضي المحتلة و التقى عرفات بعبد الناصر أواخر سنة 1968 ، و بعد هذا اللقاء التاريخي كان ميلاد الرئيس ياسر حيث انتخبه المجلس الوطني رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية خلفاً ليحيى حمودة الذي لم يستمر على كرسي الرئاسة سوى بضعة شهور ....
و في عام 1970 نشبت خلافات رهيبة هددت استمرار نضال المنظمة ضد العدو خاصة أن هذه الخلافات كانت مع الملك حسين رحمه الله الذي أمر قواته بالإشتباك مع قوات المقاومة الفلسطينية و هي الإشتباكات الدامية التي أودت بحياة العديد من شباب المنظمة في مذابح شديدة و هي ما عرفت آنذاك بمذابح ( أيلول الأسود ) و قد عاش عرفات في تلك الأثناء محاصراً بدبابات و مصفحات الملك حسين ، و تمكن من الهروب متخفياً في زي ولي عهد الكويت بمساعدة الرئيس جعفر النميري الذي حمله في طائرته الخاصة .... و في 1974 ألقى عرفات خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وسط معارضة شديدة من أمريكا و إسرائيل و قد برع عرفات في الإعلان عن نفسه و عن شعبه و قضيته ، و قال أمام العالم من خلال منصة الجمعية العامة : " جئتكم بغصن زيتون مع بندقية الثائر ، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي ، الحرب تندلع من فلسطين ، و السلام يبدأ من فلسطين " .
جدد الله رحمته عليك أيها الشهيد و أسكنك فسيح جنانه .......