إنجازات علماء المسلمين في الحسابعل من أهم الإنجازات ذات الأثر الحميد في علم الحساب استخدامَ المسلمين للأرقام في وقت مبكر، ومن ثم الصفر، الذي ظهر في كتب عربية قبل أن يظهر في الكتب الهندية، على الرغم من أن المسلمين أخذوا - كما ذكر آنفًا - الأرقامَ والصفر عن الهنود.
وقد حدد روسكا زمن استخدام المسلمين للصفر ما بين عامي 246هـ - 256هـ/ 760 - 770م.
وساعد استخدامُ الأرقام والصفر في تقدم الحساب وتطوره، حتى بلغ - على أيدي المسلمين - شأوًا رفيعًا، وكثر التأليف فيه؛ إذ كان لكتاب الخُوارزمي (ت 232هـ/ 756م) في الحساب - وقد استخدمت فيه الأرقام الهندية والصفر - أثرُه البالغ فيمن اشتغل بالحساب، وصار يُنظَر للحساب على أنه أرفعُ الصناعات درجةً، وأعمُّها مصلحةً، وأتمها فائدة، فصناعةُ الحساب يحتاج إليها جميعُ الناس على اختلاف طبقاتهم واختلاف أديانهم ولغاتهم؛ لِما فيه من صلاح الأجور وسدادِ الأمور.
وقد قسم علماءُ المسلمين الحساب العملي إلى قسمين: غباري، وهو الحساب الذي يحتاج استعمالُه إلى أدوات؛ كالقلم والورَق.
وهوائي، وهو الحساب الذِّهني الذي لا يحتاج استعمالُه إلى أدوات، وهو علمٌ يتعرف منه كيفية حساب الأموال العظيمة في الخيال بلا كتابة.
وقد وضع المؤلِّفون للحساب الهوائي قواعدَ وطرقًا ينتفع بها التجارُ في أسفارهم، وأهل السوق من العوام الذين لا يعرفون الكتابة، وينتفع به الخواص إن عجزوا عن إحضار آلات الكتابة.
وقسِّمت كتبُ الحساب إلى أبواب:
منها ما يتعلق بحساب الصحاح، ومنها ما يتعلق بحساب الكسور، ولكل منهما فصولٌ في الجمع والتضعيف، وفي التنصيف وفي التفريق، وفي الضرب والقسمة، وفي التجذير واستخراج الجذور.
وقد تعمق المسلمون في الأعداد، وفي نظرياتها، وأنواعها وخواصها، وقسموا الأعداد إلى ازدواجية وإفرادية، وبينوا معنى كل منهما، وقالوا: إن العدد يمكن أن يكون تامًّا أو زائدًا أو ناقصًا.
أما العدد التام، فهو كل عددٍ مجموعُ أجزائه يساوي العدد نفسه، مثل العدد "6" وأجزاؤه - أي الأعداد التي يمكن تقسيمُه عليها - "1، 2، 3"، ومجموعها يساوي: "6"، ومثل العدد: "28"، وأجزاؤه هي: "1، 2، 4، 7، 14" ومجموعها يساوي: "28".
والعدد الزائد ما كان مجموع أجزائه أقلَّ منه، وقالوا بالأعداد المتحابة، والعددان المتحابان عندهم: ما كان مجموع أجزاء أحدهما مساويًا للعدد الثاني، وما كان مجموع أجزاء العدد الثاني مساويًا للعدد الأول، وذكروا من الأعداد المتحابة "220 و284".
وعرَفوا المتواليات الحسابية والهندسية على أنواعها، وذكروا قوانين خاصة في جمعها، كما أتوا على قواعدَ لاستخراج الجذور، ولجمع المربعات المتوالية والمكعبات، وبرهنوا على صحتها، وتوصَّلوا إلى نتائجَ طريفةٍ، واشتغلوا بالمربعات السحرية التي هي صينية الأصل.
وأوجدوا طريقة في جمع متوالية عددية، حدودها مرفوعة إلى القوة الرابعة، وهي الطريقة - كما يذكر كارادي فو - التي لا يمكن الوصول إليها بقليل من النبوغ، ومن الإنجازات ذات الأثر كذلك الكتبُ التي وضعوها وتبحثُ في أصول حل المسائل الحسابية بطريق الخطأين.
ومن الإنجازات المهمة التي حققها المسلمون في علم الحساب أنهم استخدموا الكسور في أول الأمر على الطريقة الهندية بلا خط كسر بين الصورة والمخرج، ولم يظهر خطُّ الكسر إلا حوالي 605هـ/ 1200م.
وعرَف المسلمون فكرة الكسور العشرية في كتب الحساب منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وذلك في "كتاب الفصول في الحساب الهندي" للإقليديسي (ت بعد 341هـ/ 952م)، الذي ألفه في دمشق سنة 341هـ/ 952م، ودخلت الكسور العشرية الكتبَ على يد جمشيد غياث الدين الكاشي (ت 832هـ/ 1429م) في كتابه "مفتاح الحساب"، ويذهب Luck - نتيجة دراساته العميقة لتاريخ الرياضيات عند المسلمين - إلى أن الكاشي هو مكتشف الكسور العشرية.
أما الكاشي، فقد كان يكتب الجزء العشري لعدد على السطر نفسه مع قسمة الصحيح، وذلك بعد فصله بخط عمودي، أو كان يكتبه بحِبر ذي لون آخر، وذلك بعد تدوين اسم المرتبة فوق الرقم الذي يحتلها.
ومما يجدر ذكره أنه كان لاستخدام الكسور العشرية أثرُه العظيم في تطور الحساب في الشرق والغرب، وإن كانت الكسور العشرية لم تدخل أوربا إلا في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، أدخلها بونفيلس Bonfils. ولم يؤلَّف بالكسور العشرية في أوربا إلا في القرن الخامس عشر، حيث ألف فيها سيمون ستيفنSimon Stiven.
ومن الإنجازات الرائعة التي قام بها المسلمون، حسابهم الدقيق لقيمة ط (π) (
حاصل تقسيم محيط الدائرة على قطرها)، فقد افترض الكاشي مضلَّعين، أحدهما داخل الدائرة وآخر خارج محيطها، يبلغ عدد أضلاع كل منهما:
ثم حسب قيمة "ط" فحصل على الرقم: 3. 14159265358979325
علق الباحث Lucky - سالف الذكر - على هذا الإنجاز قائلاً: "لو عُرفت رسالة الكاشي في حساب محيط الدائرة في الوقت المناسب في الغرب، لادَّخر الغرب وقتًا طويلاً قضاه في إنجاز أمور وضيعة هزيلة، وفي شروح يسيرة في حساب الدائرة، ولو عرف الغرب ما أنجزه الكاشي في الكسور العشرية، لَمَا كان لازمًا ألبتة أن يمضي قرنٌ ونصف حتى قيِّض للكسور العشرية رجالٌ من أمثال فيتا وستيفن وبورغي، وجَّهوا عقولهم وقواهم العلمية حتى تمكنوا من اكتشافها"، من يدري، ربما أخذوها عن المسلمين، وادَّعوا اكتشافها.
ومما يذكر - كذلك - أن المسلمين مهَّدوا الطريق أمام نابير (ت 1027هـ/ 1617م) في اكتشاف جداول اللوغاريتمات، فلقد كان سبق العلماء المسلمين في استخدام الجمع والطرح مكان الضرب والقسمة في حل المسائل التي تتألف من أعداد كبيرة، وسبقهم في إدراك الصلة بين حدود المتوالية الهندسية وحدود المتوالية الحسابية - كان سبقهم لهذين العاملين الرئيسيين من أهم العوامل في الاهتداء إلى فكرة الجداول اللوغاريتمية.
فلقد ألَّف سنان بن الفتح الحراني الحاسب نحو عام 210هـ/ 825م كتابه "الجمع والتفريق"، شرَح فيه الطريقة التي يمكن أن تحل بها المسائل القائمة على الضرب والقسمة بالجمع والطرح، فضلاً عن ذلك فقد ألَّف كتابًا آخر سماه: "كتاب المكعبات" شرَح فيه طريقة توزيع الأعداد وتصنيفها بالإضافة إلى جذورها مع حساب مكعباتها.
وفي القرن العاشر للهجرة/ السادس عشر للميلاد لمع نجمُ العالم الرياضي ابن حمزة المغربي الذي تكلم عن الصلة بين المتوالية الحسابية والمتوالية الهندسية كلامًا يؤهله أن يكون واضعًا لأصول اللوغاريتمات، والممهد الحقيقي لاكتشافها، وإذا أضيف إلى ما سبق العلاقة المثلثية التي وضعها ابن يونس المصري (ت 399هـ/ 1008م) وهي:
وما قدمته من خدمات كبيرة لعلماء الفلك؛ إذ مكَّنتْهم من تحويل عمليات الضرب إلى عمليات جمع، وفي هذا بعض التيسير في حل المسائل الطويلة المعقدة، تبين بوضوح كيف مهد الطريقَ لنابير وغيرِه في اكتشاف اللوغاريتمات.
ومن الإنجازات الأخرى الجديرة بالذكر استخراجُ الرياضيين المسلمين للجذور؛ فقد ورد في كتاب التلخيص لابن البناء المراكشي (ت 721هـ/ 1321م) أن الجذر التربيعي
له قيمتان، بحسب قيمة
بالنسبة لـ (ا)، فإذا كانت
أصغر من (ا)، كان الجذر مساويًا لـ
، وإن كانت
أكبر من (ا)، كان الجذر مساويًا لـ
ويذكر بهذا الصدد أن الغرب اقتبس هذه الطريقة وطريقة إيجاد الجذر التكعيبي التي توصل إليها العلماءُ المسلمون؛ أمثال: كوشيار بن لبان (ت نحو 350هـ/ 961م) وأبو الحسن النسوي[1] خلال القرن الرابع/ العاشر:
إذا كانت قيمة
صغيرة مقابل (ا).
ومما يُذكر آخِرًا شهادةُ مؤرخ العلوم جورج سارطون: "إن أعظم الابتكارات العربية في الرياضيات والفَلك كانت شيئين: علم الحساب الجديد، وعلم المثلثات الجديد... وقد جمع العلماءُ المسلمون بين المصدرين اليوناني والسنسكريتي، ثم ألقحوا الآراء اليونانية بالآراء الهندية، وإذا لم يكن هذا الذي فعله العرب ابتكارًا، فليس في العلم إذًا ابتكارٌ على الإطلاق؛ فالابتكار العلمي في الحقيقة إنما هو حياكة الخيوط المتفرقة في نسيج واحد، وليس ثمة ابتكاراتٌ مخلوقة من العدم".
[1] علي بن أحمد النسوي (ت نحو 420هـ 1030م)، من أهل نسا (بخراسان)، كان - كما يقول عنه البيهقي - من حكماء الرَّي، وله الزيج الذي يقال له الزيج الفاخر، وكان حكيمًا مهندسًا، ذا أخلاق رضية، وقد قرب عمره من مائة سنة وقواه سليمة، من كتبه كتاب "المقنع في الحساب الهندي"، عرَّف به فوبكه (Woepcke) عام 1280هـ/ 1863، مما دعا مؤرخ الرياضيات كانتور (Cantor)، أن يفصح أن نموراريوس يوردانوس (Jordanus Nemoraius) ربما اعتمد على النسوي في استخراج جذر المربع، وللنسوي كتبٌ أخرى غير المقنع، منها كتاب: "الإشباع في شرح الشكل القطاع"، موجود - كما يذكر سزكين - في سراي أحمد الثالث، ومنها كتاب: "التجريد في أصول الهندسة" في المكتبة الظاهرية.
منقول