تامر أبو عرب
في الربع الأخير من القرن الماضي أرسلت جامعة الإسكندرية تستعجل عودة أحد معيديها الذي طال به المقام في منحة علمية بالولايات المتحدة، وعندما أرسل المعيد للجامعة يؤكد له أنه في حاجة إلى وقت أطول لإتمام مشروعه، اتخذت الجامعة قرارا بفصله وطالبته برد الرواتب التي حصل عليها منذ تعيينه والتي لم تتجاوز حينها الألفي جنيه.
أنهى المعيد ارتباطه بالجامعة المصرية التي لم يطلب منها سوى مد إجازته ليقرر البقاء في بلد يقدر العلم، وهناك تنافست الجامعات الأمريكية على الفوز بخدماته، وكان يحصل من الجامعة التي التحق بها هناك على 50 ألف دولار ميزانية لبحث واحد، كما وفرت له سكنًا وسكرتيرة خاصة، وغامر رئيسها بعشرات الآلاف من الدولارات لاستئجار كل الأجهزة التي كان يحتاجها.
بعد هذا التاريخ بأقل من 20 عاما حصل المعيد المصري الذي هو الدكتور أحمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء، ولو أن لميس الحديدي كانت موجودة وقتها وسمعت بنبأ تفضيله البقاء في جامعة أمريكية على العودة لجامعته المصرية، لعقدت حاجبيها وأسندت قبضة يدها على المنضدة واقتربت برأسها من الكاميرا قائلة: «في ستين سلامة مصر فيها تسعين مليون زيك، إنت شايف إن مصر متستاهلش إنشالله ما عنك رجعت، ولا تستاهل مليم للبحث عنك».
هذا ما قالته لميس الحديدي فعلًا عندما علمت بتفضيل المخترع الصغير عبدالله عاصم البقاء في الولايات المتحدة على العودة لمصر، رغم أن الدولة لم تطالبه فقط برد أموال أو تفصله من عمله كما فعلت مع «زويل» من قبل، بل حبسته على ذمة التحقيق ومنعته من السفر وهو الذي لا يتجاوز عمره الـ17 عامًا لاتهامه برفع إشارة رابعة العدوية والاعتداء على مقر أمن الدولة وحيازة سلاح وحرق سيارة شرطة.
لا تحاسبوا المخترع الصغير لأنه آثر السلامة، حاسبوا من جعل العيش في مصر تهديدًا للسلامة.
***
ربما ينتظر حسن فريد فرصة كالتي حصل عليها عبدالله ليثبت للسيدة لميس أن وطنًا يهين علماءه يستحق أن يستفيد بهم غيره.
حسن طالب مصري آخر بكلية الهندسة، اخترع «روبوت مقاتل» يمكن الاستفادة به في الأغراض الحربية لتنفيذ العمليات عن بعد، وحصل على براءة اختراع وشهادة تقدير من القوات المسلحة قبل عزل الرئيس السابق محمد مرسي؛ تشجيعا له على اختراعه.
حسن أدى امتحاناته بملابس السجن الاحتياطي وحوله عدد من رجال قوات الأمن بعدما أُلقت الشرطة القبض عليه واتهمته بحيازة «روبوت مقاتل» ليكون سبب تكريمه هو نفس سبب حبسه.
يقبع حسن في ظلمات السجن منذ شهور ومعه من الوقت ما يكفي لمراجعة اختراعاته.
***
لا يقول من يهاجم عبدالله الآن إنه موجود خارج السجن بصفة مؤقتة وإنه مهدد بالعودة إليه في أي لحظة، فهو لم يحصل على براءة من التهم الموجهة إليه، بل خرج على ذمة القضية بكفالة 5 آلاف جنيه، وصادر ضده قرار بالمنع من السفر تم تعليقه ليشارك في المعرض الأمريكي ثم يعود.
من كان يضمن للشاب النابه ألا يلقى مصير صديقه حسن؟ من يضمن له أن يعود إلى مصر ثم يتمكن من مغادرتها مرة أخرى؟ من يضمن له أن النيابة ستستمع لمداخلات وزير التعليم في الفضائيات التي يدافع فيها عنه، وتتجاهل محاضر لا تخر الماء أعدتها الشرطة لتدينه بحرق سيارات واقتحام مقرات وحيازة أسلحة والتسبب في الحرب العالمية الثانية؟
نحن في بلد يسير من يحكمونه خلف نزواتهم، لا يعيرون العلم اهتمامًا، ويفرحون بأغنية تمجدهم أكثر من فرحتهم باختراع ينفعنا، فمن الطبيعي أن يختار شاب في مقتبل عمره بلدًا يقدر مواهبه ليعيش فيه، على بلد يستحل حبسه وقتله لمجرد أنه ولد فيه.
لكن كل ما سبق ليس مبررًا لتترك مصر يا عبد الله، انظر لنصف الكوب الملآن، فهناك علماء يلقون فيها تكريمًا عظيمًا ولك في اللواء دكتور إبراهيم عبدالعاطي عبرة وعظة، فالرجل أصبح لواء مكلفا في القوات المسلحة في عمر الـ67، وأصبح دكتورًا رغم أنه فني معامل، بعدما اخترع جهازا يحول مرض الإيدز إلى كفتة.
العيب فيك إذن يا صغيري وليس في الحكومة، لأن اختراعك الذي يساعد مرضى الشلل الرباعي على التواصل لا يفتح الشهية!