كامل كيلاني
( 1 ) حَدِيقَةُ الذِّئْبِ
كانَ لِلذِّئْبِ حَدِيقَةٌ صَغِيرَةٌ وَرِثَها عَنْ أمُِّهِ، وكانَ يَزْرَعُ فِيها كَثِيرًا مِنَ الْكُرُنْبِ، وَيَتَعَهَّدُهَا بِعِنَايَتِهِ، (أَعْنِي: يَزُورُهَا، وَيَتَرَدَّدُ عَلَيْها — مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ — لِيُصْلِحَهَا)، حَتَّى امْتَلَأتَْ حَدِيقَتُهُ بِأَحْسَنِ أَنْوَاعِ الْكُرُنْبُ اللَّذِيْذِ.
(2 ) الْأرَْنَبُ فِيْ حَدِيْقَةِ الْذِّئْب
وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأيََّامِ دَخَلَ الْأرَْنَبُ حَدِيقَةَ الذِّئْبِ، وَرَأَى مَا فِيها مِنَ الْكُرُنْبِ الْشَّهِيِّ — وَكانَ قَدْ نَضِجَ (أَيِ: اسْتَوَى) — فَأَكَلَ مِنْهُ الْأرَْنَبُ حَتَّى شَبِعَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْحَدِيْقَةِ، وَعادَ إِلَىَ بَيْتِهِ فَرْحَانَ مَسْرُورًا.
( 3 ) عَوْدَةُ الذِّئْبِ إلَىَ حَدِيقَتِهِ
وَبَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ عَادَ الذِّئْبُ إلَى حَدِيقَتِهِ، لِيَتَعَهَّدَ مَا فِيها مِنَ الْكُرُنْبِ. فَلَمَّا رَأَى مَا أَصابَ الْكُرُنْبَ مِنَ التَّلَفِ، دَهِشَ أَشَدَّ دَهْشَةٍ، وَقَالَ فِيْ نَفْسِهِ مُتَعَجِّبًا:
«مَنْ — يا تُرَى— جاءَ إِلَى حَدِيقَتِي؟ وَكَيْفَ جَرُؤَ عَلَىَ أَكْلِ مَا زَرَعَتُهُ فِيها مِنَ الْكُرُنْبِ ؟ »
وَبَحَثَ الذِّئْبُ فِي أَرْضِ الْحَدِيقَةِ، فَرَأَى آثارَ أَقْدَامِ الْأرَْنَبِ، فَعَرَفَ أَنَّ جَارَهُ الْأرَْنَبَ هُوَ الَّذِي دَخَلَ حَدِيقَتَهُ، وأَكَلَ مِمَّا فِيها مِنَ الْكُرُنْبِ.
ثُمَّ فَكَّرَ الذِّئْبُ طَوِيلًا فِيٌ الْوَسِيلَةِ الَّتِي يَسْلُكُهَا لِلِانْتِقامِ مِنْ ذَلِكَ الْأرَْنَبِ الْجَرِيءِ.
وَأَخِيرًا اهْتَدَى إِلَى حِيلَةٍ نَاجِحَةٍ يَصِلُ بِهَا إِلَى غَرَضِهِ.
( 4 ) تِمثالُ الصَّبِيِّ
ثُمَّ ذَهَبَ الذِّئْبُ إِلَى مَكانٍ قَرِيبٍ مِنْ حَدِيقَتِهِ الْجَمِيلَةِ، فَأَحْضَرَ قَلِيلًا مِنَ الْقَطِرانِ، وَصَنَعَ — مِنْ ذَلِكَ الْقَطِرانِ — تِمثالَ صَبِيٍّ صَغِيرٍ، ثُمَّ وَضَعَهُ بِالْقُرْبِ مِنْ شُجَيْرَاتِ الْكُرُنْب، أَعْنِي: أَشْجَارَهُ الصَّغِيرَةَ. وَكَانَ مَنْظَرُ ذَلِكَ التِّمثالِ ظَرِيفًا مُضْحِكًا جِدٍّا. وَفَرِحَ الذِّئْبُ بِاهْتِدَائِهِ (أَيْ: تَوَصُّلِهِ) إِلَى هذِهِ الْحِيلَةِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْتَقِمُ مِنْ عَدُوِّهِ الَّذِي اجْتَرَأَ عَلَى دُخُولِ حَدِيقَتِهِ. ثُمَّ عَادَ الذِّئْبُ إِلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ فَرْحَانُ بِذَلِكَ أَشَدَّ الْفَرَحِ.
( 5 ) الْأرَْنَبُ يُحَيِّى تِمْثال الصَّبِيِّ
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي عادَ الْأرَْنَبُ إِلَى حَدِيقَةِ الذِّئْبِ لِيَأْكُلَ مِنَ الْكُرُنْبِ كَما أَكَلَ فِي الْيَوْمِ الْمَاضِي. وَلَمَّا رَأَى التِّمْثالَ بِجِوارِ شُجَيْرَاتِ الْكُرُنْبِ ظَنَّهُ صَبِيٍّا جَالِسًا، فَحَيَّاهُ (أَيْ: سَلَّمَ عَلَيْهِ) — مُبْتَسِمًا — وَقَالَ لَهُ:
«! صَبَاحُ الْخَيْرِ أَيُّهَا الصَّبِيُّ الظَّرِيفُ »
فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ التِّمْثَالُ تَحِيَّتَهُ، وَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ.
فَعَجِبَ الْأرَْنَبُ مِنَ سُكاتِهِ، وَحَيَّاهُ مَرَّةً ثَانِيَةً. وَلَكِن التِّمْثَال لَمْ يُرُدَّ عَلَيْهِ تَحِيَّتَهُ، وَلَمْ يَنْطِقُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَزَادَ عَجَبُ الْأرَْنَبِ مِنْ صَمْتِهِ (أَيْ: سُكَاتِهِ)، وَقَالَ لَهُ غَاضِبًا.
«؟ كَيْفَ أحَُيِّيكَ فَلا تَرُدَّ التَّحِيَّةَ عَلَى مَنْ يُحَيِّيكَ »
وَلَكِن التِّمْثَال لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا!
( 6) الْأرَْنَبُ يَقَعُ فِي الْفَخِّ
فَاغْتاظَ الْأرَْنَبُ مِنْ سُكَاتِ ذَلِكَ الْصَّبِيِّ، وَقَالَ لَهُ، وَقَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ:« سَأرُْغِمُكَ عَلَى رَدِّ التَّحِيَّةِ، أَيُّها الصَّبِيُّ الْجَرِيءُ »
ثُمَّ اقتَرَبَ الْأرَْنَبُ مِنَ التِّمْثَالِ، وَضَرَبَهُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَلَزِقَتْ بِالتِمْثالِ، وَحَاوَلَ الْأرَْنَبُ أَنْ يَنْتَزِعَها مِنْهُ — بِكُلِّ قُوَّتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ. وَذَهَبَ تَعَبُهُ كُلُّهُ بِلا فَائِدَةٍ. فَصَاحَ الْأرَْنَبُ مُغْتاظًا: «لَا تُمْسِكُ بِيَدِي أَيُّها الصَّبِيُّ الْعَنِيدُ! أَطْلِقْ يَدِي، وَإلَّا لَطَمْتُكَ بِيَدِي الْأخُْرَى» .
فَلَمْ يُجِبْهُ التِّمْثالُ، فَاشْتَدَّ غَيْظُ الْأرَْنَبِ مِنْهُ، وَلَطَمَهُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، فَالْتَزَقَتْ بِالتِّمْثال — كَمَا الْتَزَقَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى — مِنْ قَبْلُ — وَعَجَزَ عَنْ نَزْعِهَا مِنْهُ أَيْضًا. وَهكَذا أَوْثَقَ التِّمْثَالُ يَدَيْهِ (أَيْ: رَبَطَهُمَا). فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْأرَْنَبِ عَلَى التِّمْثالِ، وَأَرادَ أَنْ يَرْكُلَهُ (أَيْ:يَضْرِبهُ بِرِجْلِهِ) قَائِلًا: « أَتَظُنُّ أَنَّنِي عَجَزْتُ عَنْ ضَرْبِكَ بَعْدَ أَنْ أوُْثَقْتَ يَدَيَّ؟ إِنَّنِي أَسْتَطِيعُ أَنْ أرْفُسَكَ!»
فَلَمْ يُجِبْهُ التِّمْثَالُ، فَرَكَلَهُ الْأرَْنَبُ (أَيْ: رَفَسَهُ) بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَلَزِقَتْ رِجْلُهُ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخَلِّصَهَا مِنْهُ، فَرَكَلَهُ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى رَكْلَةُ عَنِيفَةً، فَالْتَصَقَتْ بِهِ.
فَصَرَخَ الْأرَْنَبُ — مُتَأَلِّمًا — وَقَالَ : «اتْرُكْنِي أَيُّها الْوَلَدُ الْعَنِيدُ. دَعْنِي أَذْهَبْ مِنْ حَيْثُ جِئْتُ، وَإِلَّا نَطَحْتُكَ بِرَأْسِي»
وَلَكِنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْأرَْنَبِ وَغَيْظُهُ. ونَطَحَهُ بِرَأْسِهِ، فَالْتَصَقَ رَأْسُهُ بِالتِّمْثالِ أَيْضًا. وَهكَذا أَصْبَحَ جِسْمُ الْأرَْنَبِ كُلُّهُ مُلْتَصِقَا بِالتِمْثَالِ،
وَلَمْ يَجِدْ سَبِيْلًا إِلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ.
( 7 ) مُحَاوَرَةُ الذِّئْبِ وَالْأرَْنَبِ
وَبَعْدَ قَلِيْلٍ مِنَ الزَّمَنِ عَادَ الذِّئْبُ إِلَى حَدِيقَتِهِ، فَرَأَى الْأرَْنَبَ مُلْتَصِقًا بِالتِّمْثالِ، فَفَرِحَ بِنَجَاحِ حِيلَتِهِ وَظَفَرِهِ بِعَدُوِّهِ الَّذِي أَكَلَ الْكُرُنْبَ مِنْ حَدِيقَتِهِ. وَقَالَ لَهُ سَاخِرًا: «صَبَاحُ الْخَيْرِ يَا أَبا« نَبْهانَ » آنْستَنا يَا سَيِّدَ الْأرَْانِبِ، وَمَرْحَبًا بِكَ أَيُّها الضَّيْفُ الْعَزِيْزُ! لَقَدْ زُرْتُ حَدِيقَتِي أَمْسِ وَالْيَوْمَ، وَلَنْ تَزُورَها — بَعْدَ ذَلِكَ — مَرَّةً أخُْرَى »
فَذُعِرَ الْأرَْنَبُ (أَيْ: خافَ) حِينَ رَأَى الذِّئْبَ أَمَامَهُ. وَزادَ رُعْبُهُ (أَيْ: خَوْفُهُ) حِينَ سَمِعَ مِنْهُ هذا التَّهْدِيدَ، وَأَيْقَنَ بِالْهَلاكِ، وَنَدِمَ عَلَى مَجِيئِهِ أَشَدَّ النَّدَمِ. وَقَالَ لَهُ مُتَوَسِّلًا، مُعْتَذِرًا لَهُ عَنْ زَلَّتِهِ (أَيْ: خَطَئِهِ): «اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِي — يا « أَبا جَعْدَةَ » وَتَجاوَزْ عَنْ خَطَئِي. اصْفَحْ عَنْ زَلَّتِي يا سَيِّدَ الذِّئَابِ، وَأَطْلِقْ سَرَاحِي فِي هذِهِ الْمَرَّةِ، فَلَنْ أَعُودَ إِلَى حَدِيْقَتِكَ بَعْدَ هذا الْيَوْمِ.»
وَظَلَّ الْأرَْنَبُ يَعْتَذِرُ لِلذِّئْبِ، وَيَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ ذَنْبَهُ، وَلَكِن الْذِّئْب أَصَرَّ عَلَى الانْتِقامِ مِنْهُ.
وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
( 8 ) حِيلَةُ الْأرَْنَبِ
فَلَمَّا رَأَى الْأرَْنَبُ إِصْرَارَ الذِّئْبِ عَلَى قَتْلِهِ لَجَأَ إِلَى الْحِيلَةِ. فَقَالَ لَهُ : «وَمَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ بِي، يَا سَيِّدَ الذِّئَابِ؟»
فَقالَ لَهُ الذِّئْبُ : « سَأَشْوِي لَحْمَكَ !»
فَلَمَّا سَمِعَ الْأرَْنَبُ تَهْدِيْدَ الذِّئْبِ (أَيْ: تَخْوِيفَهُ)، اشْتَدَّ رُعْبُهُ وَأَيْقَنَ بِالْهَلاكِ. وَلكِنَّهُ أَخْفَى قَلَقَهُ وَفَزَعَهُ (أَيْ: كَتَمَ اضْطِرَابَهُ وَجَزَعَهُ) وَلَمْ يُظْهِرِ الْخَوْفَ أَمامَ الذِّئْبِ، بَلْ قَالَ لَهُ ضَاحِكًا: « هَا هَا! أَنا لا أَخْشَى النَّارَ أَبَدًا، فَامْضِ بِرَبِّكَ فِيْ إِحْضَارِ الوَقُودِ، يَعْنِي: الْحَطَبَ وَالْخَشَبَ. وَأَشْعِلِ النَّارَ لِتَحْرِقَنيِ بِهَا، فَإِنَّنِي لا أرُِيدُ مِنْكَ غَيْرَ ذَلِكَ. هَاتِ الْوَقُودَ بِسُرْعَةٍ يَا سَيِّدِي، وَلَا تَتَوَانَ، يَعْنِي: لَا تُبْطِئْ وَلَا تَتَأَخَّرْ فِي تَنْفِيذِ وَعِيدِكَ، فَقَدْ كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تُلْقِيَنِي عَلَى الشَّوْكِ، فَإِنَّنِي لا أَخَافُ غَيْرَ الْشَّوْكِ »
فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ : «لَنْ أَحْرِقَكَ بِالنَّارِ، وَلَكِنَّنِي سَأَرْمِيكَ عَلَى الشَّوْكِ. أقُْسِمُ لَكَ: لَنْ أَرْمِيَكِ إِلَّا عَلَى الشَّوْكِ! ».
فَصاحَ الْأرَْنَبُ مُتَظَاهِرًا بِالْخَوْفِ وَالرُّعْبِ الشَدِيدَيْنِ: «آهٍ، ارْحَمْنِي يا سَيِّدَ الذِّئَابِ. أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ — يَا أَبَا جَعْدَةَ — أَلَّا تَرْمِينِي عَلَى الشَّوْكِ، فَإِنَّنِي لَا أَخْشَى إِلَّا الشَّوْك».
( 9 ) نَجاةُ الْأرَْنَبِ
فَانْخَدَعَ الذِّئْبُ بِحِيلَةِ الْأرَْنَبِ وَأَسْرَعَ إِلَيْهِ، فَانْتَزَعَهُ مِنَ التِّمثَالِ الَّذِي كَانَ مُلْتَصِقًا بِهِ،ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى الشَّوْكِ.
فَأَسْرَعَ الْأرَْنَبُ بِالْفِرَارِ، وَالْتَفَتَ إِلَى الذِّئْبِ — بَعْدَ أَنْ وَثِقَ بِنَجَاتِهِ مِنْهُ — وَقَالَ لَهُ سَاخِرًا : « أَشْكُرُكَ يَا سيِّدَ الذِّئَابِ، فَقَدْ أَنْقَذْتَنِي مِنَ الْهَلَاكِ. أَنا لا أَخشَى الشَّوْك — يا سيِّدِي — فَقَدْ وُلِدْتُ وَعِشْتُ طُولَ عُمْرِي بَيْنَ الأشَْوَاكِ! »
خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ
وَأَسْرَعَ الْأرَْنَبُ يَعْدُو (أَيْ: يَجْرِي مُسْرِعًا) إِلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ فَرْحَان بِنَجَاتِهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَعُدْ — بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ — إِلَى حَدِيقَةِ الذِّئْبِ، حَتَّى لا يُعَرِّض نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ مَرَّةً أخُْرَى.