غزة- دنيا الوطن-اسامة الكحلوت
الوفاء من الشيم الإنسانية النبيلة، وهي أنبل ما تكون إذا سادت مناخ الصداقة وسيطرت على العلاقات بين الأصدقاء، فإذا بكل صديق يشعر بأجواء السعادة والطمأنينة التي تنعشها الابتسامات غير المصطنعة، والبشاشة النابعة من القلب والألفاظ التي تحمل معاني الصداقة الحق التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتقرب ولا تبعد.
إن الوفاء هو ترجمة حقيقية لمعنى الصداقة الحق في الحياة، ولا يعني ذلك تقديم ثمن للصداقة الحقيقية في الحياة، ولا يعني ذلك تقديم ثمن للصداقة بين الناس، بل يجيء الوفاء ثمرة لتلك الصداقة التي تحمل معاني التضحية والإيثار وتقديم مصلحة الصديق على مصلحته، وليس هذا السلوك ببعيد عن ثقافتنا وقيمنا.
فالصديق الوفي لا يقدر بثمن، لأنه لا يضع علاقتك معه في ميزان الأرقام والحسابات والتوازنات ولكنه على استعداد أن يذهب إلى آخر بلاد العالم بحثا عنك، وعلى استعداد أن يبيع أعز ما يملك من أجل أن يسدد لك ديونك، وعلى استعداد أن يعطيك إحدى كليتيه متبرعا بها من دون تردد أو خوف.
وليس للوفاء في الصداقة متسع من كثرة المديح ، ولكن هذه المرة احد اركان الوفاء في رحلة صداقة بين فلسطيني ومصري امتدت 30 عاما بحثا فيها عن بعضهما البعض .
عبد الرحيم مطلق زقوت " 58 " عاما من سكان مدينة غزة كان من المتفوقين في دراسته في الاعدادية والثانوية في مدارس غزة والتحق في الدبلوم الصناعي وبعدها سافر الى الكويت للحصول على فرصة عمل هناك عام 1966 .
عمل هناك في عدة مجالات في الكويت ، وكان زقوت محبا للغة العربية والشعر خاصة والاحاديث النبوية ، وفى احد المرات قرأ حديث للرسول صلى الله على الله وسليم يقول "اعمل المعروف في اهله وفى غير اهله ، فان كانوا اهله فهم اهله وان لم يكونوا اهله فانت اهله " وتذوق هذا الحديث طويلا وتأمل معناه وتفسيره ، وكان لهذا الحديث فيما بعد السبب الاول لقصة صداقة بينه وبين مصري في العراق .
وبابتسامة الماضي يستذكر زقوت بداية الصداقة مع صديقه المصري ويقول "كنت عائدا من عملي في الكويت متوجها لغزة بسيارتي ، ووضعت سيارتي في الاردن وتوجهت بعدها عبر الباصات الى غزة ، زرت اهلى وأقاربي ومن ثم عدت الى الاردن ، وتوجهت بعدها للعراق، وخلال وجودي على النقطة الحدودية بين الاردن والعراق لاختم أوراقي ، وجدت شاب مصري يقف قريبا من سيارتي بشكل يرثى له ، وحالته مزرية بملابس رثة وطلب منى اصطحابه للعراق بسيارتي فوافقت وكان ذلك في الشهر السابع من عام 1981 "
ويضيف " بعدها طلب منى بعض الضباط العراقيين ان اقلهم ايضا بسيارتي لبغداد فوافقت وركبوا جميعا برفقة المصري عبد الحميد الجناينى ، وتبادلنا اطراف الحديث في الطريق وعند وصولنا بغداد غادر الضباط العراقيين سيارتي ، وبقيت انا وعبد الحميد الجناينى فيها "
وسرد لهم عبد الحميد الجناينى مصري الجنسية وخريج حقوق خلال ركوبهم في سيارة زقوت عن تعرضه في نفس اليوم لحادث سير في طريق جبلية في الاردن خلال توجههم النقطة الحدودية بين الاردن للعراق ، حيث انقلب الباص وفيه 60 راكب حيث قتل منهم 20 شخص واصيب 18 شخص والبقية انسحبوا من المكان ومن ضمنهم الجناينى الذى لم يجد اوراقه او شنطه الخاصة نتيجة عملية السرقة في المكان لشنط القتلى والجرحى .
وغادر الجناينى مكان الحادث مشيا على الاقدام متجها نحو النقطة الحدودية بين الاردن والعراق والتي التقى فيها زقوت بدون اوراق ثبوتية او ملابس او أي مقتنيات خاصة نتيجة سرقتهم ، وكان يبحث عن أي بريق امل ينجده ويساعده في الوصول لبغداد .
وعندما سمع زقوت قصة صديقه المصري خلال الطريق قررا ان يبقى معه لعدة ايام قبل مغادرته العراق متجها للكويت لممارسة عمله ، وعندما حاولا المبيت في الفندق كان الفنادق مكتظة بالزبائن فقررا النوم في السيارة على احدى جنبات الطريق.
وفى صباح اليوم الثانى لصداقتهما اصطحب زقوت صديقه المصري للمطعم وتناولا الغذاء ومن ثم قاما بجولة في جميع شوارع العراق ومدنها ، وعاشا اجمل اللحظات في العراق متنقلين بين دجلة والفرات وجمال الطبيعة في العراق وشوارعها .
وفى نهاية اليوم الثالث ابلغ عبد الرحيم زقوت صديقه المصري الذى عاشا معا اجمل اللحظات في ثلاث ايام استمريت ذكرياتهم فيها 30 عاما انه لن يتمكن من البقاء لان اجازته في العمل انتهت وسيلتحق في عمله في الكويت.
بدموع الالم والحسرة بعد هذه اللحظات الجميلة يتقبل صديقه المصري القرار ويهز براسه مستدركا الايام التي سيعيشها بدون صديقه الفلسطينى وفى الغربة بدون معيل او أي اوراق ثبوتية او اموال.
ويسرد زقوت تفاصيل الوداع قائلا " بدموع الحزن قبلنا بعضنا بعد العصر ، وقبل ان اتركه فتحت شنطتى واعطيته ملابسي الخاصة وملابسي الداخلية واعطيته القليل من المال ليتمكن من التحرك والبحث عن عمل خلال سفري ، وأعطيته عنواني في الكويت وطلبت منه ان يرسل لي رسالة بعنوانه حينما يستقر بعمل لأقوم بإرسال الاموال له وقت احتياجه "
ويتابع "بعد شهر من وصولي الكويت وصلتني رسالة منه بعنوانه في العراق وانه تمكن من الحصول على عمل ، فأرسلت له رسالة كتبت فيها بيت الشعر ...قد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ان لا تلاقيا ،ولم يصلني بعدها أي رسالة منه ولم اتمكن من التواصل معه وغادرت العراق متجها لقطاع غزة ، بعد تجربتي الفاشلة في الكويت التي لم اغتنم منها أي مالا سوى عودتي بثقافة وعلم ورؤية "
عاد لغزة ودارت الايام وسارت بسرعة ، ومرت ظروف عديدة على قطاع غزة ، ولم ينسى صديقه المصري المعروف والوفاء الذى لمسه من خلال صداقته مع الفلسطيني زقوت خلال الثلاث ايام عام 1981 والتي ما زال ذكرياتها تمتد حتى بعد 30 عاما ، وبحث طويلا ليلا ونهارا عن طرف خيط يوصله لصديقه الفلسطيني ليقبل رأسه على مساعدته له في ايام حادثته الاليمة.
وجاءت الفرصة للصديق المصري عبد الحميد الجناينى ان يدخل غزة ضمن وفد مصري يجمل معه مساعدات طبية متوجها لمؤسسات طبية في القطاع.
وشارك الجناينى ضمن الوفد خصيصا ليتمكن من دخول غزة وتقبيل صديقه الفلسطيني ومشاهدته ، فكان اول لقاء له معه المؤسسات بغزة مع مؤسسة السلامة لرعاية الجرحى.
وخلال تواجده في الباص الخاص للمؤسسة ضمن الوفد المرافق للمساعدات ، كانت الصدفة الجميلة ان سائق الباص ايضا من عائلة زقوت ومن اقارب عبد الرحيم زقوت .
فخلال حديث الوفد مع السائق سأل الجناينى السائق عن عبد الرحيم زقوت وقال له ان امنيته خلال مجئيه لغزة هي لقاء هذا الرجل ، ولم يصدق نفسه حينما قال السائق له انه قريبه وانه يقوم الان بالاتصال به ليتحدث معه.
صدم المصري من هول الفرحة التي جمعته على الفور بصديقه فامسك بالهاتف من السائق وقله معاى عبد الرحيم زقوت اجابه صحيح؟ سأله هل عرفتني وكرر السؤال ولم يعرفه زقوت.
ثم قال له لازم تتذكر وخاصة سنة 1981 بغداد ، ومن هول الصدمة اجابه زقوت بكلمة مستحيل تكون انت عدة مرات ، وقال له مستحيل تكون انت بعد السنين جئت باحثا عنى .
خطف السائق الهاتف من المصري ولحسن الحظ انه خلال رحلتهم كانوا بالقرب من بيت زقوت وسط غزة ، فابلغهم السائق انهم بعد عشرة دقائق سيكونوا في بيته .
توجه الوفد لبيت زقوت والتقيا على باب منزله بدموع الفرحة وبقبلات الوفاء واحضان الاخوة بحضور الوفد ومسؤولي الجمعية والجيران واكتظ فجأة الشارع بالمواطنين الذين عرفوا بالقصة فيما بعد تم دعوتهم للقاء في جمعية السلامة لرعاية الجرحى ، وسرد عبد الرحيم زقوت بدموع الفرحة تفاصيل تعارفهم على بعض والظروف التي التقوا فيها وجلس ، ثم وقف المصري وقال " صديقي زقوت تحدث القليل مما حصل ولكنى سأكمل الحديث ، وصديقي هذا أعطاني ملابسه الداخلية والاموال وشعرت في صداقة الثلاثة ايام كأننا اصدقاء منذ عشرين سنة في العراق ، وقبل زفافي وزواجي تحدثت لزوجتي عنه وحدثت أبنائي عنه ونستذكر قصته معي في مصر في كل اسبوع مرتين او ثلاثة بين الاصدقاء. "
وأكد ان اصراره على المجيء لغزة ومقابله صديقه الفلسطيني هو بيت الشعر الذى كتبه خلال اول مراسلة له عندما كانا في العراق والكويت ، وان بيت الشعر في الرسالة كان كلمة السر ومفتاحه واصراره على البحث عن صديقه الفلسطيني .
وعمل اصدقائه خلال معرفتهم بالقصة جميعهم باحثين عن اسم عبد الرحيم زقوت باحثين عن أي طرف خيط يوصلهم اليه ، ليقدموه مفاجأة لصديقهم في مصر الا انهم لم يتمكنوا.
وبقيا معا عدة ايام خلال اقامة صديقه المصري في غزة ، ورفض زقوت تقبل أي هدايا او اموال من صديقه المصري كمقابل للخدمة التي اسداها اليه في العراق.
وما زال الصديقين تربطهم علاقة جيدة حيث يقيم زقوت وسط غزة ، ويقيم صديقه المصري في العريش ، حيث تقاعد من عمله في وزارة الداخلية بمصر