مزاد الترشح لرئاسة مصر لايزال مفتوحا. إذ منذ أطلقت فى الفضاء «بالونة» ترشيح الفريق السيسى، وتردد أنه طلب وقف حملة الدعاية له، حدث أمران مهمان، الأول أن نفرا من الداعين لترشيحه تشبثوا بدعوتهم. وصاروا يصرِّحون بأن أمره ليس بيده وأنه هو من أعلن فى الثالث من يوليو أنه نفذ أمر الشعب، ومن ثم فعليه أن يظل ملتزما بما تعهد به. إذ ها هو الشعب يأمر بترشيحه وعليه أن يمتثل لقراره. وهو منطق يستثمر الالتباس الذى ساد مؤخرا فى مفهوم سلطة الشعب التى ما عادت تمارس من خلال احتشاد جمهرة من الناس كما كان يحدث فى التجربة اليونانية أى فى عصر ما قبل الديمقراطية، وإنما صارت تمارس تلك السلطة من خلال مؤسسات وآليات طورتها الخبرة الإنسانية لكى تصبح تعبيرا حقيقيا عن رأى الشعب.
الأمر الثانى اللافت للنظر أن الأسماء التى ترددت ضمّت جنرالات سابقين، جميعهم قادمون من خارج السياسة، رغم أن لهم سجلهم المعتبر فى مجالات عملهم. إلا أننى لا أكاد أرى مسوغا شجعهم على الترشح سوى أنهم من العسكر، إذ أغلب الظن أنهم وجدوا أن أسهم العسكريين ارتفعت فى الآونة الأخيرة (فى أعقاب الانقلاب الذى قاده الفريق السيسى)، بعدما كانت الجماهير قد هتفت ضدهم فى السابق وصار الجيش والشعب «يدا واحدة» كما يقال فى هتافات زماننا. من ثم فإنهم اعتبروا أن الأجواء صارت مواتية لتحقيق ذلك الطموح. وقد قرأنا أمس أن مستشار الرئيس للشئون السياسية الدكتور مصطفى حجازى أدلى بتصريحات لصحيفة ديلى تلجراف البريطانية عبر فيها عن حماسه للفريق السيسى كمرشح للرئاسة وقال إنه فى هذه الحالة سيصبح إيزنهاور مصر. وكان الرجل فى ذلك مجاملا أكثر من اللازم، وقد أقول مغالطا. لأن إيزنهاور انتخب رئيسا للولايات المتحدة (عام 1953) بعدما اعتبر أحد أبطال الحرب العالمية الثانية. إذ شغل منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء فى أوروبا المسئولة عن التخطيط والإشراف على وقف تمدد قوات هتلر فى أوروبا. ولم يكن الرجل صاحب إنجاز عسكرى تاريخى فحسب، ولكنه كان أيضا صاحب رؤية سياسية واجتماعية ثاقبة، سمحت له بأن يحقق إنجازات كبيرة بعد انتخابه.
لا أعرف من أين جاء الدكتور حجازى بالفكرة التى ساقها، فى حين لا أشك فى أنه يعلم جيدا أنه لا وجه للشبه بين الفريق السيسى وإيزنهاور، إذا استثنينا الخلفية العسكرية والتقارب النسبى فى السن (السيسى عمره 58 سنة وإيزنهاور كان عمره 61 سنة حين عين قائدا لقوات الحلفاء) إضافة إلى أن كلا منهما يجيد الانجليزية! ــ صحيح ان الاثنين لهما علاقة بالتاريخ، إلا أن أحدهما دخل إليه والثانى لايزال واقفا ببابه.
إضافة إلى ما سبق فأحسب أن الفراغ السياسى المخيم على مصر، وغياب أحزاب قوية وعدم وجود قيادات مدنية تتمتع بالإجماع بين المصريين، خصوصا بعد إقصاء الإخوان وإخراجهم من الساحة السياسية، هذه العوامل شجعت بعض الجنرالات على دخول الحلبة وتقديم أنفسهم بحسبانهم بدائل مناسبة لحكم مصر، استنادا إلى شرعيتهم العسكرية.
ليست لدينا استطلاعات للرأى موثوق بها تحدد لنا حظوظ الجنرالات أو غيرهم فيما لو رشحوا أنفسهم للرئاسة، إلا أننى لا أخفى استيائى من فكرة الثورة على نظام مبارك الذى قيل لنا إنه قائد الضربة الجوية، ثم انتخاب جنرال آخر يقود عملية ضربنا نحن. ناهيك عن اننى لا أخفى قلقا شديدا من الاستناد إلى الخلفية العسكرية فى اضفاء الشرعية على أى مرشح للرئاسة، لأن ذلك يعد مدخلا لوقوعنا فى براثن عسكرة النظام التى يتعذر الخروج منها.
لقد انتقدت من قبل فكرة التركيز على رأس الدولة وحاولت تفسير ظاهرة التعلق فى مصر بالفرد المخلِّص للمجتمع، التى تعد من أصداء نموذج الفرعون واهب الموت والحياة عند قدماء المصريين.
ومازلت عند رأيى فى التحفظ على الفكرة والتحذير من مخاطرها. لأننى أزعم أن عافية المجتمع لا تتحقق بمجرد اختيار رئيس من خلال انتخابات نزيهة، رغم أن تلك خطوة مهمة لا ريب. لكن العافية تتحقق إذا توافرت للمجتمع المؤسسات المنتخبة التى تمثله، وتكون قادرة على محاسبة الرئيس ووقف تغول السلطة واستبدادها. ذلك أن قوة المجتمع المتمثلة فى مؤسساته المنتخبة هى الضمان الحقيقى لنجاح الديمقراطية. ومن الكسل العقلى والوهن السياسى أن ينشغل الرأى العام بشخص الرئيس فى حين يغفل أو يؤجل مسألة تحصين المجتمع بالمؤسسات التى تمثله. ولا أتردد فى القول بأن إغفال ذلك الجانب يؤدى تلقائيا إلى إضعاف المجتمع على نحو يفتح الباب واسعا لتغول السلطة واستبدادها.
إن تسليط الأضواء على الرئيس وحده قد يكون مقبولا فى ثقافة القبيلة وتقاليدها، لكنه يصبح مغامرة خطرة حين يتعلق الأمر بالدول العصرية، خصوصا إذا كنا نتحدث عن بلد كبير مثل مصر.. لذا لزم التنويه
الشروق