العمل في الضرائب
السؤال: إلى الشيخِ الفاضلِ، إنِّي تحصَّلتُ على شهادةٍ في الجبايةِ (الضرائب)، وأنا أريد أن أوجِّهَ لك بعضَ الأسئلةِ عن حكمِ العملِ في مصالحِ الضرائبِ.
السؤال الأوَّل: هل يجوز لي العملُ في مصالحِ الضرائبِ؟ وهل يُعتبَر حلالاً شرعًا؟
السؤال الثاني: هل يجوز فرضُ الضرائبِ إلى جانبِ الزكاةِ في الدولةِ الإسلاميةِ؟
السؤال الثالث: إذا كان العملُ جائزًا في هذه المصالحِ كيف يمكن تفسيرُ أو تأويلُ حديثِ ذمِّ المكسِ والمكَّاسين والعشَّارين؟
أرجو أن تشفِيَ غليلي في هذه المسألةِ وجزاك اللهُ خيرًا، والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فينبغي -قبل الشروعِ في الإجابةِ- التفريقُ بين نوعين من الضرائبِ التي يُسمِّيها بعضُ الفقهاءِ من المالكيةِ ﺑ«الوظائف» أو ﺑ«الخراج»، وسمَّاها بعضُ الأحنافِ ﺑ«النوائب» أي: نيابة الفردِ عن السلطان، وعند بعضِ الحنابلةِ ﺑ: «الكُلَف السلطانية».
- ضرائبُ مأخوذةٌ بحقٍّ على سبيلِ العدلِ وبشرطِها.
- ضرائبُ تُؤْخَذُ على سبيلِ الظلمِ والتعدِّي.
فالضرائبُ التي يفرضها الحاكمُ المسلمُ لضرورةٍ قاضيةٍ أو لسدِّ حاجةٍ داعيةٍ أو لدرءِ خطرٍ داهمٍ أو متوقَّعٍ، ومصدرُ الخزينةِ العامَّةِ للدولةِ لا تفي بالحاجياتِ ولا تغطِّيها بالنفقاتِ، فإنَّ العلماءَ أفْتَوْا بتجويزِ فرْضِها على الأغنياءِ عملاً بالمصالحِ المرسلةِ وتأسيسًا لقاعدةِ: «تَفْوِيتِ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ تَحْصِيلاً لِأَعْلاَهُمَا» وقاعدةِ: «يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ»، وبه قال أبو حامدٍ الغزَّاليُّ في «المستصفى» والشاطبيُّ في «الاعتصام» حيث نصَّ على أنه إذا خلا بيتُ المالِ وزادتْ حاجةُ الجندِ فللإمامِ أن يُوَظِّفَ على الأغنياءِ ما يراه كافيًا لهم في الحالِ، ولا يخفى أنَّ الجهادَ بالمالِ مفروضٌ على المسلمين، وهو واجبٌ آخَرُ غيرُ فريضةِ الزكاةِ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥]، وقال تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ [التوبة: ٤١]، وقال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [الصفّ: ١١]، فيكون من حقِّ أولي أمرِ المسلمين أن يُحدِّدوا نصيبَ كلِّ فردٍ قادرٍ من عبءِ الجهادِ بالمالِ على ما قرَّره صاحبُ «غياث الأممِ»، ورجَّح النوويُّ وغيرُه من أئمَّةِ الشافعيةِ أنه يُلْزَمُ أغنياءُ المسلمين إعانتَهم من غيرِ مالِ الزكاةِ، ويدخل ضِمْنَ ما ذكرْنا سائرُ المرافقِ العامَّةِ العائدةِ على أفرادِ المجتمعِ كافَّةً سواء كانتْ مصلحةُ الجماعةِ وتأمينُها عسكريًّا واقتصاديًّا يحتاج إلى مالٍ لتحقيقِها ولم تكفِهِمُ الزكاةُ، بل وحتَّى إذا كانتِ الدعوةُ إلى اللهِ وتبليغُ رسالتِه يتطلَّب ذلك، إذ إنَّ تحقيقَها حتمٌ لازمٌ على ساسةِ المسلمين وفرضُ الزكاةِ لا يفي بما هو لازمٌ، وإنما يتمُّ الواجبُ بفرضِ مالِ ضريبةٍ غيرِ الزكاةِ، فيُقَرَّرُ الوجوبُ عندئذٍ بناءً على قاعدةِ: «مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ».
ثمَّ إنَّ الفردَ يغنم من تلك المرافقِ العامَّةِ الممهِّدةِ لفائدتِه والمهيَّأَةِ لمصلحتِه من قِبَلِ الدولةِ المسلمةِ، فإنه عليه بالمقابلِ أن يدفعَ ما هو داخلٌ في التزامِه عملاً بمبدأ: «الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ».
غيرَ أنَّ هذا التشريعَ مقيَّدٌ بجملةٍ من الشروطِ منها:
١- خلوُّ بيتِ المالِ وحاجةُ الدولةِ إليه حقيقيةٌ وانعدامُ المواردِ الماليةِ الأخرى لها.
٢- وجوبُ إنفاقِها في مصالحِ الأمَّةِ على سبيلِ العدلِ.
٣- التماسُ مشورةِ أهلِ الرأيِ ورجالِ الشورى في تقديرِ حاجاتِ الدولةِ إلى المالِ العاجلةِ، ومدى كفايةِ المواردِ من عجزِها، مع مراقبةِ جمعِها وتوزيعِها بالصورةِ المطلوبةِ شرعًا.
هذا النوعُ من الضرائبِ الذي يُقَسَّمُ بالعدلِ والقسطِ بحقٍّ فقدْ أقرَّه فقهاءُ المذاهبِ الأربعةِ تحت تسمياتٍ مختلفةٍ كما يؤيِّد ذلك فعلُ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أثناء خلافتِه: أنه كان يفرض على تجَّارِ أهلِ الحربِ العُشْرَ، ويأخذ من تجَّارِ أهلِ الذمَّةِ نصْفَ العُشْرِ، ومن تجَّارِ المسلمين رُبُعَ العُشْرِ.
أمَّا النوعُ الثاني من الضرائبِ المجحِفةِ والجائرةِ فليستْ سوى مصادرةٍ لجزءٍ من المالِ يُؤْخَذُ من أصحابِه قسرًا وجبرًا وكرهًا من غيرِ طيبِ نفسٍ منه، مخالِفين في ذلك المبدأَ الشرعيَّ العامَّ في الأموالِ، وهو أنَّ «الأَصْلَ فِيهَا التَّحْرِيمُ» استنادًا إلى نصوصٍ كثيرةٍ منها قولُه صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»(١)، وقولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»(٢) وقولُه: «أَلاَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ...»(٣)، الحديث.
وعليه، فإنَّ ما ورد ثابتًا أو غيرَ ثابتٍ من أحاديثِ ذمِّ المكَّاسِ والعشَّارِ واقترانُها بالوعيدِ الشديدِ إنما هي محمولةٌ على الجباياتِ والضرائبِ الجائرةِ والقاسطةِ التي تُؤْخَذُ بغيرِ حقٍّ وتُنْفَقُ في غيرِ حقٍّ ومن غيرِ توجيهٍ، بمعنى أنَّ الموظَّفَ العاملَ على جبايتِها يستخدمه الملوكُ والحكَّامُ وأتباعُهم لقضاءِ مصالحِهم وشهواتِهم على حسابِ فقراءِ ومظلومي مجتمعاتِهم من شعوبِهم، وضِمْنَ هذا المنظورِ والمحتوى يقول الذهبيُّ في «الكبائرِ»: «المكَّاسُ من أكبرِ أعوانِ الظَّلَمَةِ، بل هو من الظَّلَمَةِ أنْفُسِهم، فإنه يأخذ ما لا يستحقُّ ويعطيه لمن لا يَسْتحقُّ».
هذا هو حالُ التعاملِ الذي ساد العالمَ عند ظهورِ الإسلامِ ولا تزال هذه الضرائبُ المجحفةُ تفرضها الحكوماتُ اليومَ على أوساطِ الناسِ وفقرائِهم من مجتمعاتِهم وبالخصوصِ الشعوب الإسلامية، وتُرَدُّ على الرؤساءِ والأقوياءِ والأغنياءِ، وتُصْرَفُ غالبًا في شهواتِهم وملذَّاتِهم المتمثِّلةِ في البروتوكولاتِ الرسميةِ في استقبالِ الزائرين من ملوكٍ ورؤساءَ، وفي ولائمِهم ومهرجاناتِهم التي يأخذ فيها الفجورُ والخمورُ وإظهارُ الخصورِ نصيبَ الأسدِ فضلاً عن أنواعِ الموسيقى وألوانِ الرقصِ والدعاياتِ الباطلةِ وغيرِها من شتَّى المجالاتِ الأخرى المعلومةِ والمشاهدةِ عيانًا باهضةِ التكاليفِ الماليةِ فكانتْ هذه الضريبةُ فعلاً -كما عبَّر عنها بعضُ أهلِ العلمِ- بأنها: تُؤْخَذُ من فقرائِهم وتُرَدُّ على أغنيائِهم، خلافًا لمعنى الزكاةِ التي قال فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»(٤).
وبناءً على ما تقدَّم فإنه يجب على المسلمِ الحريصِ على دينِه أن يتجنَّبَ المحرَّماتِ والمعاصيَ وأن يبتعدَ عن كلِّ عملٍ يُلَوِّثه بالآثامِ والذنوبِ ويُنَجِّس أموالَه ويُقَذِّرها، كما ينبغي عليه أن لا يكونَ آلةَ ظلمٍ ووسيلةَ قهرٍ يستخدمه الظَّلَمَةُ سَوْطَ عذابٍ لإرهاقِ الناسِ بالتكاليفِ الماليةِ بل قد يكون من الظَّلَمَةِ أنفُسِهم، لأنه غالبًا ما يشارك الظالمين ظُلْمَهم ويُقاسِمهم الأموالَ المحرَّمةَ، على أنَّ الشرعَ «إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ»، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»(٥).
أمَّا فرضُ الضرائبِ إلى جانبِ الزكاةِ إذا لم يُوجَدِ الموردُ لسدِّ هذه الحاجةِ إلاَّ بالضرائبِ فيجوز أخْذُها، بل يجب أخْذُها عند خلوِّ بيتِ المالِ وإنفاقُها في حقِّها وتوزيعُ أعبائِها بالعدلِ والمساواةِ على ما تقدَّم في الضرائبِ العادلةِ وما تأيَّد به من فعلِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه.
هذا ما بدا لي في هذه المسألة، فإن أصبتُ فمِنَ اللهِ وإن أخطأتُ فمِنْ نفسي، واللهَ نسأل أن يسدِّدَ خُطانا ويُبْعِدَنا من الزللِ ويوفِّقَنا لما فيه خيرُ الدنيا والآخرةِ، ويجعلَنا عونًا في إصلاحِ العبادِ والبلادِ، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين؛ وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٢ جمادى الأول ١٤١٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٦ سبتمبر ١٩٩٦م
(١) أخرجه الدارقطني (٣٠٠)، وأحمد (٥/ ٧٢)، وأبو يعلى والبيهقي (٦/ ١٠٠)، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء» (٥/ ٢٧٩) رقم: (١٤٥٩) وفي «صحيح الجامع» (٧٥٣٩).
(٢) رواه البخاري في «المظالم» باب من قاتل دون ماله، ومسلم في «الإيمان» باب الدليل على أنَّ من قصد أخذ مال غيره بغير حقٍّ..، والترمذي في «الديات» باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، والنسائي في «تحريم الدم» باب من قتل دون بابه، وأحمد (٢/ ٣٤٨) رقم: (٦٤٨٦)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وأبو داود في «السنَّة» باب في قتال اللصوص، وابن ماجه في «الحدود» باب من قتل دون ماله فهو شهيد، من حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه.
(٣) رواه البخاري في «العلم» باب قول النبيِّ: «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»، ومسلم في «القسامة» باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال عن أبي بكرة، والترمذي في «الفتن» باب ما جاء: «دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»، وابن ماجه في «المناسك» باب الخطبة يوم النحر، وأحمد (٥/ ٤٤٣) رقم: (١٨٤٨٧) واللفظ له، من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه.
(٤) رواه البخاري في «الزكاة» باب وجوب الزكاة، ومسلم «الإيمان» باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، وأبو داود في «الزكاة» باب في زكاة السائمة، والترمذي في «الزكاة» باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة، والنسائي في «الزكاة» باب وجوب الزكاة، وابن ماجه في «الزكاة» باب فرض الزكاة، وأحمد (١/ ٣٨٦) رقم: (٢٠٧٢) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٥) رواه البخاري في «البيوع» باب بيع الميتة والأصنام، ومسلم في «المساقاة» باب تحريم الخمر والميتة والخنزير والأصنام، وأبو داود في «الإجارة» باب في ثمن الخمر والميتة، والترمذي في «البيوع» باب ما جاء في بيع جلود الميتة والأصنام، والنسائي في «الفرع والعتيرة» باب النهي عن الانتفاع بشحوم الميتة، وابن ماجه في «التجارات» باب ما لا يحِلُّ بيعُه، وأحمد (٤/ ٢٧٠) رقم: (١٤٠٦٣)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.