[size=16]الدكتور منصور أبوشريعة العبادي
جامعة
العلوم والتكنولوجيا الأردنية
لا يكاد يمر
يوم إلا ويكتشف العلماء في مختلف تخصصاتهم حقائق علمية عن تركيب مكونات
هذا الكون تثبت أنه يستحيل أن تكون هذه المكونات قد خلقت بالصدفة بل قد
خلقت من قبل صانع لا حدود لعلمه وقدرته وهو الله سبحانه وتعالى. وتأتي هذه
الاكتشافات لتحقق النبوءة القرآنية التي أكدت على أنه سيأتي اليوم الذي
سيتمكن علماء البشر فيه من كشف أسرار تركيب مكونات الكون وحينئذ سيوقنون
بأنه لا بد وأن يكون لهذا الكون خالقا بعد أن يوقنوا استحالة ظهورها
بالصدفة وذلك في قوله تعالى "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
(53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)" فصلت. وفي هذه المقالة سنشرح السر الذي
اكتشفه العلماء للطريقة التي تتكون بها الألوان العجيبة الموجودة على أجنحة
الفراشات وبعض أنواع الطيور والخنافس.
تتميز ألوان
أجنحة الفراشات عن ألوان أجسام بقية أنواع الكائنات الحية نباتاتها
وحيواناتها بعدة ميزات أولها العدد الهائل للألوان المختلفة التي تظهر على
أجنحة مختلف أنواع الفراشات بحيث يعجز البشر على إطلاق أسماء على هذه
الألوان. أما ثانيها فهي وجود عدد كبير من الألوان المختلفة على جناح
الفراشة الواحدة وهي مرسومة على شكل لوحات فنية عجيبة يعجز أعظم رسامي
البشر من تقليدها خاصة أنها مرسومة على لوحات بالغة الصغر إذا ما قورنت
بلوحات الرسامين. أما ثالثها فهي أن ألوان أجنحة معظم أنواع الفراشات تتغير
مع تغير زاوية نظر مشاهدها وأن لها بريق لا يوجد في ألوان الأشياء الأخرى.
أما الميزة الأخيرة وهي المسئولة عن الميزات السابقة فهي أن الطريقة التي
تتولد من خلالها ألوان الفراشات تختلف تماما عن تلك المستخدمة في بقية
أنواع الكائنات الحية وكذلك الجمادات. ففي هذه الطريقة يتم استخدام تقنيات
بالغة التعقيد تعتمد على ظواهر فيزيائية متعددة للحصول على هذا التنوع
الهائل في ألوان أجنحة الفراشات. إن هذه التقنيات تحتاج إلى تصاميم بالغة
الدقة لبنى هندسية تقاس أبعادها بوحدات النانومتر (النانومتر جزء من بليون
جزء من المتر) أو ما يسميه العلماء اليوم بتقنية النانو (Nanotechnology).
وقبل أن نبدأ
بشرح هذه الطريقة لا بد من مراجعة سريعة للطريقة التي يستخدمها الإنسان
وكذلك بعض أنواع الكائنات الحية للإحساس بألوان الأشياء حيث ستساعدنا هذه
المراجعة على فهم الطريقة المعنية. تتكون شبكية العين من نوعين من الخلايا
الحساسة للضوء وهي العصيات التي تستجيب لشدة الضوء فقط بغض النظر عن لونه
وهي شديدة الحساسية للضوء الخافت وكذلك لحركة الأجسام ويبلغ عددها مائة
وثلاثون مليون خلية تقريبا والمخاريط والتي تستجيب للضوء الشديد أي أنها
منخفضة الحساسية ولكنها في المقابل قادرة على تمييز الألوان حيث يوجد منها
ثلاثة أنواع تستجيب للألوان الرئيسية الثلاث وهي الأحمر والأخضر والأزرق
ويبلغ عددها سبعة ملايين خلية تقريبا موزعة بنسبة 64 % للحمراء % للخضراء و
4% للزرقاء. وتقوم العصي والمخاريط كخلايا حساسة للضوء بتحويل شدة الضوء
وكذلك لونه إلى إشارات كهربائية يتم إرسالها من خلال العصب البصري إلى
الدماغ ليقوم برسم صورة ملونة للشيء المرئي في خلاياه العصبية. وتستجيب
العصي للموجات الضوئية التي تمتد أطوالها من 0 إلى 740 نانومتر بينما
يستجيب كل نوع من المخاريط إلى طيف أضيق يفع ضمن طيف العصي يتمركز حول طول
موجي معين وهو 420 نانومتر للأزرق و انومتر للأخضر و 564 نانومتر للأحمر.
وعندما
يسقط الضوء المنعكس عن الأجسام على الشبكية فإن أنواع المخاريط الثلاث
تقوم بتوليد إشارات تعتمد شدتها على طبيعة طيف الموجات الموجود في الضوء
الساقط على الشبكية. ومن خلال دمج هذه الإشارات في الدماغ فإنه يعطي
الإحساس بلون محدد يعتمد على قيم الإشارات الثلاث. وقد وجد العلماء أن
العين البشرية قادرة على تمييز عشرة ملايين درجة من درجات اللون رغم أن
البشر لا يمتلكون أسماء إلا لعدة عشرات من درجات اللون أغلبها أسماء
الأشياء التي تمتلك ذلك اللون كالبرتقالي والبنفسجي والوردي والمخملي وغير
ذلك. إن طبيعة الأجسام هي التي تحدد طيف الموجات المنعكسة عنها وبالتالي
لونها ففي المواد الطبيعية يعتمد الطيف المنعكس على نوع ذراتها وجزيئاتها
وكذلك تركيبها البلوري حيث تتفاعل موجات الضوء الساقط مع هذه المواد فتمتص
بعضها وتسمح لبعضها للنفاذ من خلالها وتعكس الباقي الذي يحدد لون الجسم.
أما في الكائنات الحية فإن لون أجسامها يتحدد إما كما في الأجسام الطبيعية
أو من خلال وجود بعض المواد الصبغية الموجودة في السطح الخارجي لأجسامها
حيث يحدد التركيب الذري أو البلوري لهذه الصبغيات طيف الموجات المنعكسة
عنها. ونأتي الآن على شرح الطريقة الفريدة المستخدمة في
تحديد ألوان أجنحة الفراشات وهي تختلف تماما عن الطرق المستخدمة في المواد
الطبيعية وبقية أنواع الكائنات الحية.
فالألوان في هذه الطريقة يتم
الحصول عليها من خلال عدة آليات يلزمها وجود بني هندسية معينة على سطح
الجناح بأشكال وأبعاد محددة وهذه البنى الهندسية ذات أبعاد بالغة الصغر
تقاس بالنانومتر. فالآلية الأولى تعتمد على وجود ما يسمى بالفلم الرقيق (Thin film) وهو عبارة عن طبقة رقيقة أو غشاء رقيق من
مادة شفافة للضوء يتم وضعها فوق قاعدة من مادة أخرى. وعندما يسقط الضوء على
هذا الفلم فإن بعضه ينعكس عند سطحه الخارجي وبعضه ينعكس عند الحد الفاصل
بينه وبين القاعدة وعند تداخل هاتين الموجتين المنعكستين فإنهما إما يقويان
بعضهما فتزداد شدة الضوء المنعكس (تداخل بناء) أو يضعفان بعضهما فتقل شدة
الضوء (تداخل هدام). إن طبيعة التداخل من حيث كونه بناءا أو هداما يعتمد
على طول موجة الضوء وسماكة الفلم وزاوية سقوط الضوء وعليه فإنه يمكن اختيار
سمك الفلم بحيث يعكس لونا محددا دون بقية الألوان. وعادة ما
يوجد في أجنحة الفراشات أكثر من طبقة فلمية للحصول على ألوان نقية ذات شدة
عالية للضوء المنعكس. وكذلك يتم استخدام سطوح محدبة أو مقعرة للحصول على ألوان مختلفة
لنفس سمك الفلم حيث أن اللون المنعكس يعتمد على زاوية السقوط.
وأما
الآلية الثانية فتعتمد على ما يسمى بمحززات الحيود (Diffraction Gratings) وهي عبارة عن نتوءات أو أخاديد
تعمل على سطح المادة على شكل حزوز متوازية وعندما يسقط الضوء عليها فإن
الضوء ينعكس بزوايا مختلفة وذلك حسب طول الموجات المكونة لهذا الضوء أي
أنها تعمل عمل المنشور الذي يقوم بتحليل الضوء الأبيض إلى ألوان الطيف
المختلفة. ولكي تعمل هذه المحززات بالشكل المطلوب فإنه يجب أن تكون المسافة
بين حزين متجاورين مساوية لنصف طول الموجة الضوئية المراد عكسها بشدة
عالية. وقد وجد العلماء أن أجنحة الفراشات تحتوي على محززات أحادية البعد
وكذلك ثنائية البعد أي أن التحزيز يتم في اتجاهين متعامدين مما يسبب في
انعكاس الألوان في الاتجاهات المختلفة. ومن خلال دمج الآليتين السابقتين في
تصنيع البنى الهندسية المسئولة عن توليد ألوان أجنحة الفراشات فإنه يمكن
الحصول على طيف واسع من الألوان وبخصائص فريدة كشدة لمعانها واعتماد اللون
على زاوية النظر. إن أهم ما يميز هذه الطريقة في توليد الألوان هو إمكانية
توليد أي لون من الألوان التي يمكن للعين البشرية أن تميزها والتي تبلغ
عشرة ملايين لون وذلك من خلال التحكم بسماكة الأغشية الرقيقة أو المسافة
بين الحزوز وهذا ما لا يمكن الحصول عليه باستخدام الصبغيات.
صورة مكبرة لجناح
الفراشة تظهر الحراشف الصغيرة على اليسار
يتكون جناح
الفراشة من مادة جلاتينية شفافة تستخدم كقاعدة لوضع البنى الهندسية التي
شرحناها آنفا وهي عبارة عن حراشف شفافة يبلغ طول الواحدة منها 200 ميكرومتر
وعرضها 70 ميكرومتر. ويتم تحديد اللون أو الألوان التي تعكسها هذه الحراشف
من خلال التحكم بسمكها وأبعاد الحزوز الموجودة عليها. وقد قام العلماء
باستخدام الميكروسكوبات الإلكترونية من دراسة تركيب أجنحة الفراشات وأظهرت
لهم الصور هذه البنى الهندسية الدقيقة الموجودة على حراشفها وقاموا بقياس
أبعاد هذه البنى وقد بينت حساباتهم أن لون الضوء المنعكس عنها يتطابق تماما
مع لون الضوء الفعلي.
صورة لفراشة على
غصن شجرة فتأمل قدرة الله
إن تحديد أبعاد البنى الموجودة
على أجنحة الفراشات يحتاج لصانع لا حدود لعلمه وقدرته فمعظم أنواع الفراشات
تحتوي أجنحتها على عدد كبير من الألوان ولذا يلزم تغيير الأبعاد عند كل
مكان يتغير فيه اللون. إن الأشكال الموجودة على أجنحة الفراشات ليست مرسومة
بطريقة عشوائية بل لتؤدي أغراض محددة كالتخفي عن الأعداء أو تخويفهم من
خلال أشكال العيون الموجودة عليها أو لأغراض جلب شركائها للتزاوج.
الشكل يوضح طريقة تموضع
الحراشف على جناح الفراشة
وعليه فإن تصميم أبعاد البنى
الهندسية الموجودة على الأجنحة عملية في غاية الصعوبة أعتقد جازما أن البشر
سيقفون عاجزين عن تقليدها مهما بلغ التطور في تقنيات تصنيع الإلكترونيات
وتقنيات النانو. إن عملية تصنيع أجنحة الفراشات وما عليها من بنى هندسية
تتم تحت سيطرة شيفرات الحامض النووي الموجود في خلايا الفراشة فكل حرشفة من
هذه الحراشف هي عبارة عن خلية حية واحدة يتم فردها على سطح الجناح وتتشكل
هذه الخلية لتنتج أشكال البنى المطلوبة. وفي السنوات الأخيرة بدأ العلماء
العمل على الاستفادة من التقنيات الضوئية المستخدمة في الفراشات في تطبيقات
لا حصر لها كالحصول على ألوان للسيارات بدون استخدام الطلاء وكاستخدامها
في مكونات الاتصالات الضوئية. ونعرض في ما يلي صورا لبعض أنواع الفراشات
ليتدبر للقارئ لوحات فنية في غاية الروعة أبدعها الخالق سبحانه وتعالى
وتتضاءل أمامها أجمل اللوحات الفنية التي رسمتها أيدي البشر وصدق الله
العظيم القائل "هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي
مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (11)" لقمان.