قصة : أحمد الليثى الشرونى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
" المتعة الطازجة "
استيقظت مبكراً هذا الصباح على غير العادة ، فركت عينىَّ محاولاً إزاحة وخم النوم ، لملمت نفسى ، جلست برهة على حافة السرير ، تنبهت للألم الذى يسرى فى ساقى الأيسر من أعلاه حتى أسفله ويشتد عند أعلى القدم ، هواء المروحة يأتينى سريعاً من شدة دورانها ، نهضت متناسياً تلك الآلام ، ضغطت على زر المروحة حتى تتوقف ، فاجأتنى زوجتى بعد رد التحية الصباحية مندهشة :
- خير مش عادتك تصحى بدرى ؟
تجاهلت سؤالها ، وأمسكت بالريموت ، لدى شهوة لسماع بعض الأخبار ، بدأت أقلب القنوات بحثاً عن أية أخبار ، كلها أخبار قديمة ، توقفت أمام إحدى القنوات ، المذيعة الحسناء تتحدث عما يدور على الساحة من صراع بين كافة التيارات الفكرية والسياسية ، لفتت انتباهى تلك الصور التى تدور خلفها ، نفس الصور التى كنت أشاهدها فى الأيام الأولى للثورة ، توقفت أمام صورة هذا الشهيد صاحب العينين اللامعتين ، لم أستطع أن أحدق فيهما كثيراً ، خجلت من نفسى ، آلا م الساق تشتد ، تناولت بعض الحبوب المسكنة التى كتبها لى الطبيب ، بعد لحظات سكن الألم ، وما زالت صورة هذا الولد منقوشة على جدران ذاكرتى بكل تفاصيلها الصغيرة ، لم تربطنى أية قرابة بصاحبها سوى أنه يحب الحرية مثلى تماما ، أسئلة كثيرة تدور فى رأسى أهمها : من الذى قتل هذه البراءة ؟
ابنتى أسماء تشاكس شقيقها الأصغر عبد الرحمن ، تركت لهما التلفاز ليشاهدا أفلام الكرتون المحببة لهما ، أصوات متداخلة تأتينى من خارج البيت ، يبدو أنه سيناريو الصباح اليومى ، الاختلاف حول عملية توزيع الخبز والذى يصل إلى صراع ربما يصل إلى حد الاشتباك بالأيدى فى بعض الأحيان ، عقدنا اجتماعات كثيرة من قبل لتنظيم هذا الموضوع ، لكن دون جدوى ، أثناء خروجى من البيت لمحت الجمع الكبير الذى يطوق الأخ رمضان المسئول عن توزيع الخبز ، فى حينها تذكرت أمى عندما كانت تملأ لنا الماجور الفخارى بالعيش الشمسى كل أسبوع ، عندما أكشف الغطاء عن الماجور تلفحنى رائحة الخبز الطازج ، أرانى أحن إلى هذا الخبز ، ألف رحمة ونور تنزل على روحك يا أمى ، معظم البيوت الآن تخلو من الفرن الطينى .
نظرت إلى الساعة فى يدى ، بعدها هممت مسرعا لعبور شريط السكة الحديدية ، ياألله إنها هى نفس ملامحها التى أختزلها فى ذاكرتى إلا أنها ترتدى خماراً أبيض وثوباً أسود ، تحمل طفلة صغيرة فوق كتفها ، اختلست نظرة سريعة فى وجهها أثناء مرورها بجوارى خشية أن يلاحظ زوجها والذى يسير بجانبها ، الجرح مازال نازفاً بالرغم من مرور سنوات عديدة ، سامح الله أباها المتغطرس الذى فرق بيننا وجعل الجراح تنزف فى قلبينا ، أشعر أن الطريق مثقلاً ، لا أقوى على استكمال المسير ، أخرجت هاتفى المحمول وطلبت رقم هاتف الصبى الذى يعمل معى فى المكتبة وأخبرته أننى متعب اليوم ، عدت مرة أخرى إلى البيت وأنا مثخن الجراح ، قابلتنى زوجتى :
ــ خير ، شكلك تعبان ..
لم أرد عليها ، دخلت حجرتى ، تمددت على السرير بملابسى ، لا أقوى على شىء سوى التفتيش فى عينيها الدعجاوين ، أخرجت هاتفى المحمول ، أقلب محتوى الملفات فى ذاكرته ، رحت أستعيد قراءة القصائد التى كتبتها فى تلك العينين ذات يوم ، أشعار كثيرة تسكن روحى وتيقظ أشياء جميلة ورائعة فى داخلى ، شعرت أن همًّا ثقيلا يجثم فوق صدرى ، أغلقت الهاتف ، أسلمت روحى لعذاب ممزوج بحالة من المتعة الطازجة ، أخرجنى عبد الرحمن بخفة دمه وبراءته من الحالة ، أجبرنى على اللعب معه ومشاكسته ، أحضرت له قلماً وورقة ، تناول القلم بأصابعه الغضة وراح يرسم خطوطاً متعرجة وينطق ( صفور ) ، إنه عاشق للعصافير ، كثيرا ما أراه ينظر أعلى الشجرة الواقفة أمام بيتنا ، يتابع العصافير ويشير إليها فرحاً بها ، فجأة ألقى القلم على الورقة وخرج مسرعاً من الحجرة وتركنى لحالة العذاب الممتع .....