بذور النقد السياسي في شعر الصعاليك
أ.د. يحيى جبر أ. عبير حمد
ملخص البحث
لا شك أن الأدب ينتمي إلى المجتمع، لأن الأديب ـ كما كل إنسان ـ كائن اجتماعي، وسواء أكان الأدب مرآة للمجتمع، أو العكس، وسواء أكان الأدب متفقا مع المجتمع أم مناقضا له، في كل الأحوال تبقى لدراسة الأدب قيمة كبيرة في دراسة المجتمع، لأن التاريخ ـ كما يقال ـ يكتبه المنتصرون، أما الأدب فهو الوثيقة الصادقة واللوحة الشفافة التي تظهر فيها تفاصيل الحياة والمجتمع.
يقال: لكل قاعدة شواذ، بل إن الشواذ يؤكدون القاعدة، وعلى هذا الأساس قررنا دراسة شعر الصعاليك في العصر الجاهلي، الذي طالما رسم له الباحثون والدارسون صورة نمطية واحدة، حين رصدوا خصائص الشعر في هذا العصر ومضامينه، وكأن الشعراء كلهم يصبون نتاجهم في قالب شعري واحد، ويستلهمون معانيهم من حقل معرفي واحد، ونسوا أنه مادام هناك سرب، فلا بد من وجود طيور مغردة خارج هذا السرب، وما دام هناك طوق، فلا بد من وجود بعض الشابين عن هذا الطوق.
وفي بحثنا هذا سنتناول البذور والتلميحات السياسية في شعر الصعاليك، وهذا الموضوع وإن نتاوله بعضهم بالدراسة؛ إلا أن له من الأهمية والأبعاد المتجددة ما يجعله جديرا بالدرس، وذلك لعدة أسباب منها؛ رد الاعتبار للشعراء الصعاليك وإنصافهم، والكشف عن وعي مبكر لدى الإنسان الجاهلي بأهمية الحرية والعدالة، إضافة إلى إضاءة زاوية من زوايا الجانب السياسي في العصر الجاهلي، لا سيما أن من الكتاب من ألبس اصطلاح الصعلكة وأدبها مفهوما سياسيا معاصرا، مع العلم أن السياسة في ذاك العصر كانت ذات مفهوم مختلف؛ ولذلك قلنا في العنوان: "بذور النقد السياسي" وليس النقد السياسي. كما أننا حددنا العصر الجاهلي عن عمد، لأن ظاهرة الصعلكة امتدت في العصور التالية للعصر الجاهلي، وربما تكون قد تغيرت ملامحها وملامح الحياة بشكل عام، شيئا قليلا أو كثيرا.وقد تناول البحث المحاور التالية:
· الخروج على صوت القبيلة وبروز الصوت الفردي.
· الثورة على التقسيم الطبقي للمجتمع القبلي الجاهلي.
· التنظير لمبادئ الحياة العادلة الكريمة والدعوة إليها والاستعداد للموت في سبيلها.
· الفخر والمدح والذم على أساس مذهبي لا قبلي.
· التحرر من المسلمات والخرافات.
· وصف حياة المنفى ومشاقها.
وقد اعتمد الباحثان بالدرجة الأولى على استقراء شعر الصعاليك في العصر الجاهلي، واستنباط بذور النقد السياسي منه، إضافة إلى بعض المصادر والمراجع ذات العلاقة.
1. الخروج على صوت القبيلة الجماعي وبروز الصوت الفردي.
يقال إن الأدب مرآة المجتمع، ومهما حاول أنصار المذهب الرومنسي أن يجعلوا من الأدب نتاجا فرديا، فلا شك أنه يبقى على اتصال وثيق بالمجتمع، وذلك ببساطة، لأن هذا الفرد، يعيش في مجتمع، يتأثر به ويؤثر فيه. وإذا كان هذا الكلام يصح على المجتمعات وأدبائها بشكل عام في كل عصر ومصر ، فإنه ينطبق بشكل جلي على العصر الجاهلي ونتاج أدبائه، وذلك بحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة، في ذلك المكان والزمان. حيث لم يكن متيسرا للفرد أن يحصل على قوته إلا من خلال تعاونه مع قبيلته، ولا أن يشعر بالأمن إلا وهو في كنف قبيلته، وبالتالي، فقد شكلت القبيلة وحدة اجتماعية اقتصادية سياسية واحدة، مما حدا بأوليري إلى إطلاق اسم "دولة" على كل قبيلة.(1)
ولم يقتصر الاتحاد بين أفراد القبيلة ـ ومنهم الشعراء ـ على نواحي الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية فحسب، بل شمل أيضا النواحي الفنية والإبداعية، "فقد قام ـ نتيجة لذلك ـ " عقد فني" بين الشاعر وقبيلته، يفرض عليه أن يكون "المتحدث الرسمي" باسمها، وأن يجعل من لسانه لسانا لها يسجل الخطوط العامة لسياستها، ويعلن على الملأ أهدافها وغاياتها. وفي مقابل ذلك تمنحه القبيلة لقب "شاعرها". وكانت النتيجة الفنية لذلك أن ظهرت تلك الطوائف من الشعراء الذين أطلق عليهم "شعراء القبائل" والذين يشكلون الغالبية المطلقة من شعراء العصر الجاهلي. وقد طبع هؤلاء الشعراء شعر هذا العصر بطابع قبلي ميزه من الشعر العربي بعد ذلك في سائر عصوره ومختلف بيئاته." (2)، ولعلنا نذكر بيتا واحد يمثل هذا الاتجاه، وإن كان ليس موضوع بحثنا، ولكن على سبيل التمثيل وهو قول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فهذا الشاعر "القبلي" يتبع قومه وقبيلته حتى ولو كان مدركا أنها تسير في طريق الغواية والضلال.
ولكن ... ما دام هناك "قانون" فلا بد من وجود خارجين عليه، ومادام هناك نظام، فلا بد من وجود متمردين، ليس من باب "خالف تعرف" ولكن من باب حتمية الاختلاف والتمايز بين بني البشر، وقد كان ذلك فعلا، حيث مثل الصعاليك الصوت الفردي في العصر الجاهلي خير تمثيل؛ فقد مثلوا صوت "المعارضة" وثاروا على مبادئ مجتمعاتهم، ورفضوا الانضواء تحت راية القبيلة، فهذا الشنفرى يقول:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل(3)
فهو لا يقر بخلع قبيلته له، بل يعلن أنه هو الذي يرفضها وبل ويعلن أنه يفضل قوما آخرين على قومه. وبعد ذلك نجده يفصح عن قومه المختارين، وكأنه يباهي بهم قومه فيقول:
ولي دونكم أهلون سيد عملس وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
هم الأهل لا مستودع السر ذائع لديهم ولا الجاني بما جرّ يخذل
وإني كفاني فقد من ليس جازيا بحسنى، ولا في قربه متعلل
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع وأبيض إصليت وصفراء عيطل(4)
وقريب من ذلك قول قيس بن الحدادية:
وقد عرفت كلابهم ثيابي كأني منهم ونسيت أهلي(5)
فالشاعر يخرج من جلد قبيلته، أو يخرجها من جلده، ولا يقيم قدرا لعلاقة الدم والنسب، بل هو يقدر القوم الذين أجاروه ونصروه، ويتخذهم أهلا وعشيرة.
وهكذا نجد الشاعر يتحدث عن مجتمعه الجديد ويفخر به، فقد كان من الطبيعي أن تنقطع العلاقة الفنية بين الشاعر الصعلوك وقبيلته بعد أن انقطعت العلاقة الاجتماعية، ولكن هل يمكن لفرد أن يعيش وحيدا؟ سيما في تلك الصحراء المقفرة الموحشة، وفي ذلك المجتمع الجماعيّ؟ لقد أدرك الصعاليك أنهم جماعةً أقدر على تحقيق أهدافهم منهم أفرادا، فقامت بينهم رابطة من نوع مختلف، أساساها وحده المبدأ والهدف، لا وحدة الدم والنسب. ولذلك نجد "شخصية الشاعر الصعلوك شخصية جماعية، ولسنا نقصد بالجماعية فناء الشاعر الصعلوك في جماعته فناء يشبه فناء الشاعر القبلي في قبيلته، وإنما نقصد بها ذلك التشابه في الشخصيات بين أفراد جماعة الصعاليك" (6)
ومن أبرز الأمثلة على ذلك عروة بن الورد الذي كان يلقب ب"عروة الصعاليك" أو "أبو الصعاليك" وكذلك "أبو العيال" لقوله:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذرا أو يصيب رغيبة ومبلغ نفس عذرها مثل منجح(7)
حيث يروى أن الصعاليك "كانوا يجلسون أمام بيته كلما أصابتهم سنة شديدة، حتى إذا بصروا به صرخوا: يا أبا الصعاليك أغثنا، فيخرج بهم غازيا." ( وفي أخباره أنه "كان يساوي بينهم في تقسيم الغنائم وأنه لم يختص نفسه بنصيب أكبر من أي منهم."(9) وقد عدّ نفسه أباهم ومسؤولا عنهم وعن تأمين حاجاتهم والدفاع عنهم بروحه، يقول: فلا أترك الإخوان ما عشت للردى كما أنه لا يترك الماءَ شاربه (10)
وهذا الفضل وهذه الرعاية منه للصعاليك، لم تكن كرما عن فضل مال، ولا جودا عن كثرة خير، بل هي كرم أخلاق وتأصل مبادئ وإيمان بمذهب اتخذه نهجا في الحياة. فهو يقول:
أتهزأ مني أن سمنتً وأن ترى بجسمي شحوب الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد (11)
فهو يقدم رفاقه و عياله الصعاليك على نفسه ولو كان جائعا، ويكتفي بشرب الماء البارد ويعطيهم حصته من الطعام.
وهكذا أصبحت العصبية المذهبية ووحدة الهدف والمبدأ، هي القاسم المشترك بين الصعاليك لا العصبية القبلية ووحدة الدم والنسب.
2. الثورة على التقسيم الطبقي للمجتمع القبلي الجاهلي.
قلنا إن أساس وحدة القبيلة في الجاهلية هو وحدة الدم، "ويجمع الباحثون على أن المجتمع القبلي في العصر الجاهلي كان يتكون من ثلاث طبقات اجتماعية : أولاها طبقة الصرحاء الخلص، وهم أبناء القبيلة الذين يتنسبون إليها على جهتي الأب والأم،. والطبقة الثانية هي طبقة العبيد، وكان هؤلاء يتكونون من العرب وغير العرب من أسرى الحروب. والطبقة الثالثة هي طبقة الموالي، وكانت هذه أيضا تتكون من قسمين وهم العبيد المحررون والمستجيرون بالقبيلة.(12) وكانت الرياسة والشرف والعزة للصرحاء الخلص، فيما عانت الطبقتان الأخريان آلاما مادية ومعنوية شديدة، ولذلك فقد حملوا على من ظلموهم وعبروا عن سخطهم على هذا التقسيم غير العادل الذي يحمل الفرد إثم أن يكون أبوه مولى، أو أن تكون أمه غريبة كما في قول عروة بن الورد:
هم عيروني أن أمي غريبة وهل في كريم ماجد ما يعيّر (13)
وقد عانى عروة مثل كثيرين غيره آثار هذه العقدة النفسية وكان لها صدى عال في شعره حيث يقول أيضا:
ما بي من عار إخال علمته سوى أن أخوالي إذا نسبوا نهد
إذا ما أردت المجد قصّر مجدهم فأعيا عليّ أن يقاربني المجد
فياليتهم لم يضربوا فيّ ضربة وأني عبد فيهم وأبي عبد
ثعالب في الحرب العوان فإن تبخ وتنفرج الجلّى فإنهم الأسد (14)
فليس هناك ما يميز غيره من الأسياد والشرفاء سوى أنهم ينتسبون إلى القبيلة من جهتي أبيهم وأمهم، وهو يرى أن التمييز بين الأفراد يجب أن يكون على أساس أعمالهم وفعالهم، لا على أساس أنسابهم وأحسابهم.
هذا من الناحية الاجتماعية، وأما من الناحية الاقتصادية، فقد وجد في القبيلة طبقتان رئيستان كبيرتان، وهما طبقة الأثرياء وطبقة الفقراء المعوزين. أو طبقة "أرباب المخائض" كما يسميهم بعض الشعراء (15) وطبقة الصعاليك.
يقول تأبط شرا:
فيوما على أهل المواشي وتارة لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل (16)
ويقول أيضا:
ولكن أرباب المخاض يَشُفهم إذا افتقروه واحدا أو مشيعا (17)
وبما أن الهوة كانت واسعة بين هاتين الطبقتين، فقد قاسى الفقراء آلام الجوع والفقر والهوان النفسي، حتى أن القرآن الكريم ليخبرنا أن بعض الأعراب كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر. (18) أو أنهم كانوا يبيعونهم ليستعينوا بثمنهم على تكاليف الحياة كما روي في خبر صعصعة بن ناجية الذي كان يشتري الموءودات من آبائهن (19) وهكذا فقد اجتمعت على العبيد والموالي الآلام المادية والمعنوية معا، في هذا المجتمع القاسي الذي لا يرحم ضعيفه ولا يشفق على فقيره. يقول عروة:
ذريني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير
وأدناهم وأهونهم عليهم، وإن أمسى له حسب وخِير
يباعده القريب وتزدريه حليلته ويقهره الصغير
ويُلقى ذو الغنى وله جلال يكاد فؤاد لاقيه يطير
قليل ذنبه والذنب جم ولكن للغنى رب غفور (20)
" وكانت النتيجة الطبيعية لهذا كله، أن فرّ هؤلاء الصعاليك من المجتمع النظامي، ليقيموا بأنفسهم "مجتمعا" فوضويا، شريعته "القوة"، ووسيلته "الغزو والإغارة"، وهدفه "السلب والنهب". ووجدوا في الصحراء الفسيحة الواسعة، التي لا تقيدها قيود، ولا تحد من حريتها حدود، ولا يستطيع قانون أن يخترق نطاقها ليفرض سلطانه عليها، مجالا لا حدود له يمارسون فيه نشاطهم الإرهابي، ويقيمون "دولتهم الفوضوية"، "دولة الصعاليك"، حيث يحيون حياة حرة متمردة، تسودها العدالة الاجتماعية، وتتكافأ فيها فرص العيش أمام الجميع" (21)
وكما نقول اليوم "في الحاجة تكمن الحرية" فقد كان طلبهم للمال والغنى ليس من أجل تكديسه بل من أجل توزيعه على الفقراء والمحتاجين، حيث يقول عروة:
ما بالثراء يسود كل مسود مثر ولكن بالفعال يسود (22)
ولئن كانت نبرته في المقطوعة السابقة نبرة تهكمية ساخرة على نحو غير مباشر، فإن خطابه في هذا البيت صريح ومباشر، فهو يعلن رفضه لأسس السيادة والشرف والحكم، التي كان يتبعها المجتمع القبلي الجاهلي. ولذلك، فقد قرر نفر من هؤلاء الصعاليك ممن يعرفون في أنفسهم القوة النفسية والجسدية أن يعاقبوا من تسببوا في جوعهم وحرمانهم وأن ينتقموا من الأغنياء سيما البخلاء منهم، يقول عروة:
لعل انطلاقي في البلاد ورحلتي وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوما إلى رب هجمة يدافع عنها بالعقوق وبالبخل (23)
" وهكذا تكون الصعلكة مذهبا ثوريا أذكته طبيعة الحياة الجاهلية التي أوجدت في المجتمع الجاهلي طائفتين من الناس؛ طائفة مترفة يتوفر لها كل ما تحتاج إليه في الحياة، وطائفة معوزة تعاني ذل الفقر والحرمان." (24)
3. التنظير لمبادئ الحياة العادلة والدعوة إليها والاستعداد للموت في سبيلها.
لقد رأينا كيف أن الصعلكة قد اتخذت طابع "الحركة" أو "الحزب" أو "الانتفاضة الشعبية" ـ وإن وجد من يخرج على مبادئها، من باب أن لكل قاعدة شواذ ـ فكان من الطبيعي أن يكون لها قادة وأنصار، وأن يضعوا الأسس والمبادئ العامة لها وأن يسعوا إلى الدعوة إلى مبادئهم العادلة ـ على الأقل من وجهة نظرهم ـ وكما قلنا فإن انتفاضة الصعاليك كانت ثورة على الظلم الذي يعانونه، وبالتالي فإنهم كانوا معنيين بالدرجة الأولى بتبرير حركتهم المعادية لأقوامهم، والمناقضة لنواميس مجتمعهم، ومن هذا المنطلق نجد عمرو بن براقة يقول:
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذا، يال همدان ظالم
فلا صلح حتى تقدع الخيل بالقنا وتضرب بالبيض الخفاف الجماجم (25)
فهو إنما يغزو ردا لشرفه وكرامته، كما فعل الشنفرى حين أقسم أن يقتل مئة من بني سلامان الذين أهانوه وعيروه بنسبه.كما عمد هؤلاء الصعاليك إلى وضع المبادئ والأسس التي تعيد لهم كرامتهم وتحفظ عليهم ماء وجوههم، حيث يقول عمرو بن براقة:
متى تجمع القلب الذكي وصارما وأنفا حميما، تجتنبك المظالم
متى تطلب المال الممنع بالقنا تعش ماجدا، أو تخترمك المخارم (26)
حيث يضعون لأنفسهم معيارا للتفاضل غير معيار النسب، ويرسمون لأنفسهم سبيلا يضمن لهم إما موتا كريما أو حياة كريمة. ويحذرون من يرضى بالهوان ويقصّر عن السعي في سبيل تحقيق كفايته، يقول عروة:
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلا وأوشكت صلات ذوي القربى له أن تنكرا (27)
" ومن الطبيعي أن تجد دعوته آذانا صاغية، وقلوبا مؤمنة، وأنصارا مخلصين بين أولئك الفقراء المستضعفين الذين أجهدهم الفقر وأهزلهم الجوع، وأذلتهم الأوضاع الاجتماعية، وسدت الحياة في وجوههم سبل العيش الكريم، فالتفت حوله طوائف من الصعاليك، يخرج بأقويائهم فيغير، ثم يوزع الغنائم على من أغار بهم، وعلى من تخلف عنه من المرضى والضعفاء أيضا، فربما عاد كل منهم إلى أهله وقد استغى" (28) ويؤكد عروة هذا المعنى في غير بيت له، حيث يقول:
فقلت له ألا احيَ وأنت حرّ ستشبع في حياتك أو تموت(29)
ويقول أيضا:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى تعش ذا يسار أو تموتَ فتعذرا (30)
وفي بيت ثالث يقول:
أقيموا بني أمي صدور ركابكم فإن منايا القوم خير من الهزل (31)
ولا أدري لم كل هذا السخط على الصعاليك وحركتهم، في حين أن قبائل كثيرة كانت تعتمد في معاشها على الغزو والسلب والإغارة " ولعل سلوكهم هذا كان استئناسا بعمل القبائل معا؛ إذ كانت حياتها قائمة إلى حد ما على الغزو والسلب، والفرق بين الصورتين، أن عمل القبائل جماعي منظم، وعمل الصعاليك فردي لا نظام له" (32)
ولعلنا نلاحظ من خلال الأبيات السابقة هذه الثنائية في الخيار الذي كان أمام الصعلوك الفقير، إما الحياة أو الموت، وقد أبدى الصعاليك استعدادا صادقا للموت في سبيل صون كرامتهم، ومن ذلك قول عروة:
ذريني أطوف في البلاد لعلني أخليك أو أغنيك عن سوء محضر
فإن فاز سهم للمنية لم أكن جزوعا وهل عن ذاك من مُتأخر
وإن فاز سهمي كفكم عن مقاعد لكم خلف أدبار البيوت ومنظر (33)
وشبيه بذلك قول أبي خراش الهذلي:
وإني لأثوي الجوع حتى يملني فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي
أرد شجاع البطن قد تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم
مخافة أن أحيا برغم وذلة وللموت خير من حياة على رغم (34)
وهكذا نرى أن "حركة الصعاليك" قد اجتمعت لها كل مقومات "الحزب" بالمصطلح المعاصر، فقد كان لديهم المبرر لما يفعلون، كما أن لهم أهدافا واضحة ومبادئ يدعون إليها حتى ولو أدى الأمر بهم إلى الهلاك. وماذا لدى الأحزاب المعاصرة أكثر من ذلك؟
4. الفخر والمدح والهجاء على أساس مذهبي لا قبلي.
جل دارسي شعر الصعاليك، لا يدرجون موضوعات الفخر والمدح والهجاء في مضامين شعرهم مع أنها موجودة، ولكن ربما كان ذلك من الدارسين، لأن الصعاليك قد اتخذوا أسسا مختلفة لهذه المضامين، عن الأسس التي كانت شائعة في ذلك العصر، فمن المعروف أن الحياة كلها كانت قائمة على أساس قبلي، ومن الطبيعي أن تكون هذه المضامين الثلاثة، قائمة على الأساس ذاته،
فإذا فخر الشاعر القبلي، فإنه غالبا ما يفخر بنسبه وحسبه، وكذلك إذا مدح أو هجا، ولكن في مجتمع الصعاليك حلت ـكما قلنا من قبل ـ "العصبية المذهبية" محل العصبية القبلية، ولذلك نجد الشعراء الصعاليك يفخرون بذواتهم وبإمكاناتهم الشخصية وصفاتهم الخلقية، لا بآبائهم وأجدادهم، وكأنهم سبقوا الشاعر الذي قال:
ليس الفتى من قال كان أبي إن الفتى من يقول ها أنا ذا
فهذا صاحب لامية العرب ونشيد الصحراء يقول:
وأستف ترب الأرض كي لا يرى له علي من الفضل امرؤ متطول
ولولا اجتناب الذأم لم يلف مشرب يعاش به إلا لدي ومأكل
ولكن نفسا مرة لا تقيم بي على الضيم إلا ريثما أتحول (35)
فالشاعر هنا يفخر بعزة نفسه وشدة تحمله وحفظه لكرامته مهما بلغت معاناته. ومثل ذلك قول السليك:
ألا عتبت علي فصارمتني وأعجبها ذوو اللمم الطوال
فإني يا بنة الأقوام أربى على فضل الوضيء من الرجال
فلا تصلي بصعلوك نئوم إذا امسى يعد من العيال
ولكن كل صعلوك ضروب بنصل السيف هامات الرجال (36)
فالشاعر هنا يفخر بنفسه على نحو غير مباشر، من خلال مقارنة نفسه بالصعلوك الخامل الكسول، فإذا به يطاوله بشجاعته وإقدامه.
وشبيه بذلك قول تأبط شرا:
حمّال ألوية شهاد أندية قوال مُحكَمة جواب آفاق
فذاك همي وغزوي أستغيث به إذا استغثت بضافي الرأس نغّاق (37)
فالشاعر هنا لا يستغيث ببني قومه على عادة العرب، ويكتفي بالاعتداد بنفسه. وكأنه يتمثل قول الشاعر، أو أن الشاعر تمثل قوله حين قال:
وكم رجل يعد بألف رجل وكم ألف رجل ذهبوا بلا عديدا
هذا عن الفخر، أما المدح فإن الشاعر الصعلوك قليلا ما يمدح، وإذا مدح فإنه إما أن يمتدح من أجاروه وحموه، ويثني عليهم ويشيد بهم ويشكرهم، أو أن يمتدح من يعجبه من الصعاليك أو ربما وحوش الصحراء حيث يتخذها مثلا وقدوة في الاعتماد على النفس وشدة التحمل.
ومن مدح المجيرين قول حاجز الأزدي:
جزى الله خيرا عن خليع مطرّد رجالا حموه آل عمرو بن خالد
وقد حدبت عمرو علي بعزها وأبنائها من كل أروع ماجد
أولئك إخواني وجل عشيرتي وثروتهم والنصر غير المحارد (38)
فالشاعر الصعلوك يعترف بالجميل ويشكره، فهو يصدّق قول الشاعر الذي قال:
ما أكثر الإخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
أو الشاعر القائل:
فإما أن تكون أخي بحق أعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدوا أتقيك وتتقيني
فالشاعر الصعلوك لا يؤمن بأخوة الدم والنسب، بل هو يؤاخي من ينصره وينصفه ويعترف بكرامته وإنسانيته.
وأما الهجاء، فقد كان الشاعر الصعلوك كريما مع قومه الذين خلعوه وتخلوا عنه، فقليلا ما نجد الشعراء الصعاليك يهجون أقوامهم، وإن هجوهم فإنهم يهجون هجاء "بناء" أي صادقا نابعا من إيمانهم بسلبيات أقوامهم وعيوب مجتمعاتهم. وهم مع ذلك فهم غير مسرفين ولا مبالغين في ذلك. وذلك مثل قول الشنفرى ـ على عجل ـ في لاميته:
وإني كفاني فقد من ليس جازيا بحسنى ولا في قربه متعلل
فالشاعر (لم ينشر غسيل قومه الوسخ على الملأ) بل اكتفى بهذه الإشارة السريعة، رغم شدة الأذى الذي لاقاه منهم. وهذا قيس بن الحدادية " يقاتل أعداءه الذين تكاثروا عليه حتى قُتل وهو يرتجز ذاكرا أول ما يذكر قصة خلعه وبغض أهله له فيقول:
أنا الذي تخلعه مواليه وكلهم بعد الصفا قاليه
وكلهم يقسم لا يباليه (39)
فهو يذكر بغضهم له وتخليهم عنه، دون أن يعيبهم أو يقبحهم ويذكر مساوئهم على نحو مباشر. أليس هذا كرما من نوع آخر. صدق المثل القائل: "كل صعلوك كريم" .
وأما الهجاء المفصل في شعر الصعاليك، فهو الذي يتناول ذم الصعاليك الكسالى ذوي النفوس الدنيئة والهمم القاصرة، الذين يرضون بالفتات وبالذل والهوان ويخشون الردى أو تحمل المشاق في سبيل حريتهم. يقول عروة بن الورد:
لحى الله صعلوكا إذا جن ليله مشى فى المشاش، آلفا كل مجزر
يعد الغنى من دهره كل ليلة أصاب قراها من صديق ميسر
قليل التماس الزاد إلا لنفسه إذا هو امسى كالعريش المجور
ينام عشاء ثم يضحي ناعسا ويمسي طليحا كالبعير المحسر
ولكن صعلوكا صفيحة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور
مطلا على أعدائه يزجرونه بساحتهم زجر المنيح المشهر
إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظّر
فذلك إن يلق المنية يلقها حميدا وإن يستغن يوما فأجدر (40)
فالشاعر هنا يذم الصعلوك الخامل الذي لا يطلب الطعام إلا ليسد جوعه هو ولا يبالي بمن وراءه، ولا يكتفي بذلك فحسب، بل نجده يرسم صورة مشرقة للصعلوك صاحب المبدأ والضمير، الذي يؤمن بمذهبه حتى الرمق الأخير. وذلك من أجل المقارنة بين حال هذا وذاك. لمعرفة قدر كل منهما ومنزلته.
وأخيرا نقول: قد يفخر شاعر القبيلة أو يمدح أو يهجو على أساس أخلاقي ولكن الشاعر الصعلوك لا يمكن أبدا أن يفخر أو يمدح أو يهجو على أساس قبلي.
5. التحرر من المسلمات والخرافات.
إن أولى خطوات التحرر، هي تحرير العقل من ربقة المسلمات والتقاليد التي تخنقه وتقيده وتمنعه من التفكير والإبداع، وقد تطرقنا في المحاور السابقة إلى طائفة من التقاليد والمسلمات القبيلة التي ثار عليها الصعاليك ورفضوها، ليس ذلك فحسب، بل اقترحوا البديل العقلاني العادل لها، ليس ذلك فحسب، بل ساروا عمليا في هذا الطريق الذي آمنوا به وارتضوه لأنفسهم غير مبالين بنقد الناقدين ولا لوم اللائمين، بل إنهم أخذوا يدعون الناس إلى ما آمنوا به.
ولن نكرر ما تطرقنا إليه فيما سبق، وسنكتفي بالإشارة إلى شاهد واحد على ما نقول وهو من سيرة عروة بن الورد حيث "يمكننا أن نقف على شاهد قوي الدلالة على ما تمتع به عروة من شخصية فذة سبقت عصرها بعصور.
ففي الوقت الذي كانت اليهود فيه تزعم أن من دخل خيبر، فعليه أن يزحف على يديه وبطنه، وأن ينهق عشر مرات كما ينهق الحمار، كيلا تصيبه حمّاها المشهورة فيموت. نجد أن عروة بن الورد بما كان له من عقل راجح لا يرى في هذا العمل إلا دجلا وفرية لجأت إليها اليهود، وزيفا أدخلوه على عقيدتهم، يقول:
وقالوا احبُ وانهق، لا تضيرك خيبر وذلك من دين اليهود ولوع
لعمري لئن عشَّرت من خشية الردى نهاق الحمير إنني لجزوع
فلا وألت تلك النفوس ولا أتت على روضة الأجداد وهي جميع
وهذا الرفض من عروة يدل على شخصية فذة واثقة بنفسها ولذلك فهو لا يرضى عن أباطيل اليهود وخرافاتهم، ويرفض أن بحبو حبوهم." (41)
أليس مثل هذا الفرد، بل مثل هذه الجماعة، جديرة بالتقدير والاحترام؟ أليست تشكل نواة ثورية تجديدية يمكن لها ـ لو وجدت التربة الصالحة ـ أن تثمر وتؤتي أكلها حرية وعدلا؟ سؤال يطرح نفسه.
6. وصف حياة المنفى.
قلنا إن أبناء العشيرة أو القبيلة، كانوا يعدون أنفسهم وحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية واحدة، وبذلك كانت لدى كل فرد في القبيلة روح المسؤولية، كما وُجد بين أفراد القبيلة عقد (حياتي) يشمل نواحي الحياة كافة. وخير ما يعبر عن ذلك المثل العربي القديم القائل: "في الجريرة تشترك العشيرة" (42)
"فإذا ارتكب شخص ذنبا أبت القبيلة تحمل مضاعفاته، وكذلك إذا أخطأ مع قبيلته نفسها، عوقب بطرده من القبيلة" (43) "وهنا يجد الخليع نفسه أما مشكلة خطيرة، وهي مشكلة الحياة أو الموت. لقد سحبت منه (الجنسية القبلية)، ورفعت القبيلة عنه حمايتها، وطردته من حماها، ولم يعد أمامه إلا أحد أمرين: إما أن يفر إلى الصحراء ليلاقي مصيره في البادية القاسية فقيرا مفردا، لا اعتماد له على أحد، ولا على شيء، وإما أن يلجأ إلى من يحميه ويعيش في جواره، ومن هنا كانت نشأة قانون آخر من قوانين المجتمع الجاهلي، وهو "قانون الجوار"." (44) وهو فيما نرى مشابه لما يُعرف اليوم "باللجوء السياسي".
ولكن هؤلاء الفارين المستجيرين لم ينعموا بالحياة الكريمة الآمنة في ظل من استجاروا بهم، فكثيرا ما كانت تغدر القبيلة المجيرة بالمستجير. " وحسب هؤلاء المستجيرين هوانا لنفوسهم أن ديتهم كانت نصف دية ابن القبيلة الصريح" (45) وبالتالي فلم يكن أمام الصعلوك إلا الصحراء الواسعة والفيافي المقفرة، وهو في الحقيقة لم يخترها عن سعة، بل ذهب إليها منفيا مجبرا، وعليه أن يحتمل ما لا يمكن تصوره من مشاق الصحراء وأخطارها في سبيل الحفاظ على حياته. بل عليه أن يتحول إلى وحش كي يستطيع العيش بين وحوشها وسباعها وضواريها، وهذا ما حدث فعلا، يقول تأبط شرا:
يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا
رأين فتى لا صيد وحش يهمه فلو صافحتْ إنسانا لصافحنه معا (46)
فالوحوش والضواري قد اطمأنت إليه وألفته لطول مكوثه معها حتى لتكاد تصافحه لو أمكنها أن تصافح إنسانا. وبما أن الشاعر يصف ما تراه عينه، فقد كان من الطبيعي أن يصف الشاعر الصعلوك حيوانات البرية التي يراها ليلي نهار، ويقول بعض الباحثين "حين نستعرض مجموعة من شعر الصعاليك التي بين أيدينا، نجد أنهم تعرضوا بالذكر لسبعة عشرين نوعا من هذه الفصائل" (47) ولضيق المقام نكتفي بذكر لوحة واحدة وهي لعروة حيث يصف الأسد يقول فيها:
تبغاني الأعداء إما إلى دم وإما عراض الساعدين مصدّرا
يظل الأباء ساقطا فوق متنه له العدوة الأولى إذا القرن أصحرا
كأن خوات الرعد رزّ زئيره من اللاء يسكنّ الغريف بعثّرا (48)
فهو يصف الأسد وصفا دقيقا لا يتسنى إلا لمن شاهدة عن كثب، بل لمن عايشه دهرا من الحقب، فهو عريض الساعدين عريض الصدر رابض فوق أجمة يتساقط قصبها فوق ظهره ولكن إذا بدت له فريسة، فما هي إلا وثبة واحدة حتى يقتنصها، أما زئيره فيشبه صوت الرعد.
وأما عن معاناتهم مع عدوهم الأصلي "الجوع"، فتبلغ أقصى حد لها في تلك الصحراء المقفرة، التي لا تكاد تجد حتى السباع والوحوش فيها ما تقتات عليه، فكيف ببني البشر! فيقول الشنفرى:
وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت خيوطة ماريّ تغار وتفتل
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا أزل تهاداه التنائف أطحل
غدا طاويا يعارض الريح هافيا يخوت بأذناب الشعاب ويعسل
فلما لواه القوت من حيث أمه دعا فأجابته نظائر نحل (49)
ما هذه الصورة المأساوية؟ وما هذه المعاناة التي تفوق كل خيال؟ هل نقرأ في أحد كتب القصص والروايات الخرافية؟ لا، بل إن الحياة أحيانا تكون أكثر جموحا في قسوتها من أي خيال.
وكما دأب شعراء القبائل على وصف الديار والأطلال، فقد عمد الشعراء الصعاليك إلى وصف أطلالهم والحديث عن ديارهم الجديدة، فهذا تأبط شرا يقول:
وشِعب كشَلّ الثوب شَكسٍ طريقه مَجامع صوحيه نطاق محاصر
به من سيول الصيف بيض أقرها جُبار، لصمّ الصخر فيه قراقر
تبطنته بالقوم لم يهدني له دليل ولم يثبت لي النعت خابر
به سَمَل