كانت البداية زوجان أحبا المكان، قدما في نزهة، شغفا على إثرها بجمال الطبيعة، ففكرا في الاستقرار هناك، اشتريا قطعة أرض بنيا عليها منزلا في مطلع ستينيات القرن الماضي، على أمل أن تسمح لهما مسئوليات الحياة بالاستقرار حيث أرادا ذات يوم. إنهما الشاعر سيد حجاب، وزوجته الفنانة السويسرية المتخصصة في أعمال الخزف إيفلين بورية، وعلى يديهما اكتسبت قرية تونس، التابعة لمركز يوسف الصديق والواقعة على ضفاف بحيرة قارون بمحافظة الفيوم، شكلها وطابعها الحالي.
قرية تونس أو عزبة تونس، كما هو اسمها في الحقيقة، كانت في البداية مجرد مجموعة عشش يسكنها عدد محدود من العمال والفلاحين، وكانت تابعة للقرية المجاورة لها واسمها “أبعدية والي”، واستمر الحال على ما هو عليه حتى شيد الزوجان أول بيت بطريقة القباب والأبواب السائدة الآن في القرية والمشابهة لطراز البيوت التونسية، ونتيجة لهذه النشأة أصبحت القرية تضم تنوعا فريدا، ففيها يعيش الفلاحون بجوار الأجانب في تناغم وألفة حقيقية.
ويعد موقع القرية أهم ما يميزها، فهي مبنية فوق تلة، قبلها وبعدها الأرض مستوية في نفس مستوى بحيرة قارون، وبذلك هيأت الطبيعة للناظر من القرية رؤية واسعة للعالم المحيط بها، حيث ينظر من مكان عالي إلى المشهد المحيط، كما يشكل مزيج المياه والخضرة بالقرية مشهدا طبيعيا خلابا.
بدأ حجاب وإيفلين بعد ذلك يدعوان أصدقائهما من الكتاب والفنانين وأساتذة الجامعة والنقاد، فيأتي الواحد منهم ويعجب بالمكان، ومع الوقت حذا العديد من أصدقائهما حذوهما ملتزمين بنفس الطراز في البناء إلى أن أصبح لهم في تونس حاليا ثلاثمائة فيلا أبرزهم الروائي عبده جبير، أحد المقيمين في القرية ومؤسس فندق زاد المسافر، أحد أهم الفنادق البيئية في المحافظة، وأحمد الصاوي، صاحب ساقية الصاوي الشهيرة.
يقسِم جبير، المقيم في القرية منذ 23 عاما، سكان القرية الوافدين إلى أربعة أقسام، قسم مقيم فيها بشكل دائم، وهم لا يتعدون خمس عائلات، وقسم ثاني أغلبهم يعملون مترجمين أجانب وكذلك الرسامين، ويقيمون في القرية الشتاء بأكمله فيعملون، ومع بداية الصيف يعودون إلى بلادهم فيقدموا ما أنتجوه لدور النشر أو المعارض وغيرها، ويأتي القسم الثالث في الأجازات الأسبوعية والرسمية والأعياد، أما القسم الرابع، فهم الذين اشتروا بيوتا وفرشوها لكنهم لا يأتون إطلاقا، بعضهم شيدوا بيوتهم من 20 سنة ولم يأتوا القرية سوا مرتين من حينها، ومنهم الصاوي “الراجل بتاع الساقية.. جه زمان وبنى بيت لكن مرجعش تاني” كما قال جبير.
تونس والفخار..
عندما دخلنا مدرسة تعليم الفخار بالقرية، التقينا بأحمد، الذي يبلغ من العمر أربعة عشر عاما، وقد وقف يعمل وأمامه منضدة نُثرت عليها قطع من الفخار بها رسومات ملونة. بدأ أحمد عبد العال، الطالب في الصف الثالث الإعدادي، تعلم صناعة الفخار منذ أربع سنوات، وتُعرض منتجاته للبيع في معرض إيفلين ويحصل على نسبة من سعر ما يباع.
المكان معروف باسم “مدرسة الفخار”، إلا أن اسم المشروع الأصلي “جمعية بتاح لتدريب أولاد الحضر والريف على أعمال الخزف”، فبعد استقرار السيدة السويسرية في القرية عملت بصناعة الفخار، ثم فكرت أن تعلم أبناء القرية هذه الصناعة، فأنشأت المدرسة منذ حوالي 25 عاما.
رأت السويسرية في الطبيعة المحيطة بالقرية مساعدا لأبنائها على أن يستوحوا رسوماتهم من الفطرة والمناظر المحيطة، فجمعت من كانوا أطفال القرية، وهم الآن شباب موهوبون، كانت تعلمهم الأساسيات وتوجههم إلى كيفية الرسم من وحي فطرتهم ثم تتركهم يخرجون ما لديهم، إلي أن أصبحت الآن تشارك في معارض دولية، لعرض منتجاتها ومنتجات أبناء المدرسة.
تقسيم العمل غير معترف به لدى صناع فخار قرية تونس، فكل صانع مسئول عما يصنعه من البداية وحتى يصير منتجا جاهزا للعرض.
حسين، أحد أهالي القرية، أكد أنه على الرغم من ممارسته الصناعة لاثني عشر عاما فانه لا يزال يتعلم علي يد خزافين فرنسيين يأتون للقرية للعمل معهم وتعليمهم، وأضاف “مراحل التصنيع تشمل الطين في صورته الأولية، ويتم العمل به وتشكيله بعد تنشيفه، ثم تأتي مرحلة التلوين، ثم البطانة، فمرحلة الرسم، ثم توضع عليها طبقة الجليز، وهو طبقة رفيعة من مادة زجاجية يطلى به الخزف بعد الحرق ليعطى الملمس الزجاجي، ومنه الشفاف والمعتم و اللامع والأبيض، ثم يوضع بالفرن علي درجة حرارة 1200 من 5 إلي 9 ساعات”، ويحاول أهل القرية إدخال الفرن الكهربي في التصنيع كبديل عن استخدام السولار.
وعمّا يتعلق ببيع المنتجات، يرى حسين أن حركة الشراء متوسطة “مش بطالة”، ويتولى تسويق منتجات المدرسة إيفلين وإبراهيم سمير، المسئول عن المدرسة حاليا، ويحصل الصانع على نسبة 33% من عائد البيع.
إيفلين..
استقرت الخزافة السويسرية البالغة من العمر 73 عاما في تونس منذ 45 عاما، تشربت إيفلين روح المكان واستوعب المكان روحها في المقابل، تصفها هدير، إحدى بنات مدرسة الفخار، “بتتكلم عربي أحسن مننا”. أحبها أهل القرية رغم حدة طباعها وافتقادها لحس المجاملة، الذي يمتاز به العديد من المصريين.
ليست من هواة الظهور الإعلامي، تمل من تكرار أسئلة الزوار بشكل عام، والصحفيين بشكل خاص، ولذلك لم ترد الحديث معنا طويلا، حيث كانت منهكة في صناعة شنطة من الفخار، ولكنها عبرت عن حبها وإعجابها بالمصريين بطريقتها “لو أنا مش عجبني المصريين كنت هقعد معاهم 50 سنة؟ طبعا بيعجبني المصريين”.
راندا، تلميذتها، التي بدأت تعلم الخزف عام 2006 منذ كانت في المرحلة الابتدائية، أشادت بمعاملة إيفلين لأبناء المدرسة والقرية عموما، مشيرة إلى أنهم يحبونها كثيرا ويعتبرونها واحدة منهم، ولا يأخذون عليها سوى حدتها في التعامل مع تساؤلات الوافدين.
توقفت ايفلين منذ فترة عن تعليم الفخار لكبر سنها، تاركة هذه المسئولية لتلاميذها الذين أصبحوا الآن معلمي المدرسة، وتكتفي بالمشاركة بأعمالها في المعارض المحلية والدولية.
تونس ومتحف الكاريكاتير..
في مبنى ذو قبة طينية مميزة، ووسط مساحة خضراء، تحيطها أشجار عالية، تصطف لوحات الكاريكاتير التي نشرت في مختلف الصحف والإصدارات الخاصة في مصر، لتشكل أول متحف للكاريكاتير في العالم العربي، والذي افتتح في مارس 2009 بحضور محبي ورسامي الكاريكاتير.
الفكرة كانت لرسام الكاريكاتير المصري محمد عبلة، الذي يرى أن الكاريكاتير فن “مهضوم حقه”، رغم أنه وثيقة تاريخية تقدم صورة حية ومعبرة عن كل لحظة من لحظات تاريخنا. دفعه ذلك الوضع إلى جمع أقدم وأفضل ما رسم فنانو الكاريكاتير المصريين منذ عام 1927 إلى الآن، ليؤسس أول متحف لفن الكاريكاتير، لإنقاذ كنوز الكاريكاتير التي تعرضت وتتعرض للضياع والاندثار، وبذلك حقق عبلة حلم زهدي العدوي، رائد الكاريكاتير في مصر والمتوفى عام 1977.
أسس عبلة أيضا بالقرية، مركز الفيوم للفنون، وجمع فيه أكبر وأهم الفنانين التشكيليين على مستوى العالم، محاولة منه تقديم صورة حية للتفاعل بين الفنانين المصرين والأجانب، وأيضا لتكوين كوادر شابة من الفنانين المصرين تكون لديهم القدرة على بناء مشاريع فنية كبيرة.
تونس والمعمار البيئي..
القرية قائمة على طراز المهندس حسن فتحي في عمارة الفقراء، واهتم سكان القرية الوافدين منذ البداية ببناء منازلهم على الطراز نفسه، ومكونات البيوت البيئية لها طبيعة خاصة توفر لسكانها عدم التأثر بدرجات الحرارة الخارجية، فهي تصنع من الحجارة والرمل والطين، وتزين جذوع النخل النوافذ وأسقف وأسطح المنازل علي هيئة قباب من الطوب اللبني، ويتميز البيت البيئي بتونس الفيوم بوجود سور خارجي به بوابة من الطوب اللبن تقودك إلي فناء مكشوف تحيط به غرف الدار من جميع الجهات.
يساهم طراز البيوت البيئية في حل مشكلة الغلاء في الخامات، وتوفير منزل ريفي بتكلفة اقتصادية منخفضة، سواء للأجانب أو أهالي الفيوم، تتوافر به عناصر الراحة والجمال والتميز. ليست بيوت القرية فقط هي المبنية على الطراز البيئي، بل تشتهر تونس أيضا بفنادقها البيئية مثل زاد المسافر، وسوبك، وظلال النخيل، ويعد زاد المسافر، الذي تأسس منذ تسع سنوات، أقدم فنادق القرية ويتكون من 24 غرفة.
وعن قصة المكان، حكي جبير، الذي تعرف على القرية في زيارة لحجاب وإيفلين أعجب على إثرها بالمكان، “بدأ أصحابي يعرفون أنني أقيم هنا، فأصبحوا يتوافدون لزيارتي أيام الخميس والجمعة مع أسرهم، فوجدت أنه يتجمع لدي الكثيرون في المنزل أطفال وقطط وكلاب، في هذا الوقت كان عدد الناس في القرية قد وصل إلى حوالي 320 بيت، جميعهم كتاب وفنانين وأساتذة جامعة ومترجمين من كل الجنسيات، انجليز، وفرنسيين، وألمان، وأمريكيين، وأسبان، وايطاليين وجنسيات أخرى كثيرة مختلفة، وكلنا أصحاب ونعرف بعض”.
وتابع راويا “كنت قد اشتريت هذه الأرض، التي عليها الفندق الآن، حتى لا يأتي أحد فيأخذها ويبني أمام بيتي، فاقترح عليّ أحد الأصدقاء بناء عدة عشش للكتاب والفنانين ليقيموا فيها عند زيارتهم للقرية، وجدتها فكرة لطيفة خاصة وأنه مع مرور الوقت تنامي عندنا الشعور بأنه ليس لدينا مكان عام نقعد فيه مع بعضنا، فأصبح زاد المسافر مكانا نجتمع فيه، نقيم احتفالاتنا فيه كأعياد الميلاد وغيرها”.
أيام الثورة الأولى كان زاد المسافر مكانا لتجمع أهل القرية للتداول بشأن ما ينبغي عمله، وتشكيل اللجان الشعبية، فيقول جبير إنهم من حموا قسم شرطة مركز يوسف الصديق، الذي يقع على بعد بحوالي 7 كم منهم، فعندما ذهب الشباب وجدوا رجال الشرطة يتركون السلاح ويفرون، وجلس المأمور في القسم بمفرده، وأخذ الشباب الأسلحة منه ووزعوها على البيوت، وكل واحد استلم سلاح مضى عليه.
شريف سمير، صاحب فندق سوبك، قال إن الفندق مبني منذ حوالي ثماني سنوات، ولديهم 10 شاليهات وأربع فيلات، وتعتمد فكرة الفندق على البساطة سواء في البناء أو المحتويات، حيث توضع المياه على سبيل المثال في “القلل”، والمجالس بسيطة تتكون من مجموعة “شلت” على الأرض، وهناك “الطبليات” لتناول وجبات الطعام. وتختلف طبيعة فندق ظلال النخيل عن فندقي سوبك وزاد المسافر، فهو أقرب إلى مجموعة من الشقق الفندقية.