جاع الفقراء لأعوام
وبكى الشعراء لأعوام
لو جاعت
كل عواصمنا
وبكت من ذل الجوع
عواصمنا
وتعرت تحت البرد
جميع عواصمنا
ما ضيعنا قدس الحرمين
(ص:39- 40)
فورود كلمات من مثل : جاع ، الفقراء ،بكى ، ذل ، الجوع ،تعرت ، البرد ، ضيعنا ....وبما لها من أبعاد رمزية تدل بكثافة على الواقع العربي المتردي الذي "لم يفض فيه النضال القومي ، ولا الصراع الطبقي ،ولا الكفاح الفردي ،إلى أي تحسين يمكن أن يدعي تقدما ، أو تغيير يمكن أن يكون نصرا (2) " وبالتالي غذت نهاية هذا الواقع العربي نهاية حزينة ،موجعة ،ممزوجة بقطرات دم أحمر
.
انظر في السقف المثقوب
أرى
خيطا
يتساقط في وجهي
نقطا
تتراقص كالأشباح
تصبغني
إذ تزحف نحوي
تصبغني...
بدم ...
أحــ...مــ...ر
(ص . 43-44)
وهذه الظاهرة شائعة في كثير من القصائد والدواوين المغربية الحديثة،وهي تنم عن ملمح واقعي صادق .غير أن شعرية (3) قصيدة "مارية" تتسم بملامح أخرى فنية ومعنوية ، يمكن إجمالها في ما يأتي :
1- بنية الفضاء :
يبدو أن الكتابة في قصيدة "مارية" تمارس حريتها في فضاء منفتح متحرر من كل أداء نمطي ،وغير خاضعة لأي قالب زمني ومكاني ، فالسطر الشعري في شكله ،وفي قصره أو طوله ، لا يخضع إلا للانسياب العاطفي ،ولدفقات الشعور
و المعاناة ،وللعلاقات التركيبية والدلالية ؛فأحيانا نجده يمتد ويطول ،وأحيانا أخرى نجده يتجسد مكانيا في كلمة واحدة أو كلمتين ،كما أن الجملة الشعرية قد تكتمل في سطر واحد ،وقد تتسع في عدة اسطر ...ففضاء القصيدة وهندستها يتميزان بالحرية والتنوع والحركية وتكسير المألوف الشعري زمنيا ومكانيا وبصريا، والتشكيل الفضائي في كثير من المقاطع يتواءم مع التشكيل الإيقاعي و الدلالي ،كما هو الشأن في المقطع التالي الذي صيغ على شكل نقط مصبوغة بلون الدم الأحمر
:
تصبغني
إذ تزحف نحوي
تصبغني...
بدم...
أحـ...مـ... ر
(ص:44)
وكذلك في المقطع التالي الذي يوحي شكله بالسقوط والتدرج نحو الأسفل :
إن الوطن المغروس بأضلعنا
يتوعدنا
يتعهدنا
ويضايقن-ا
(ص:22 )
2- بنية المعجم والتركيب:
تتميز اللغة الشعرية في قصيدة "ماريه"بطابعها الرمزي التشكيلي ،فهي تنزاح عن المعتاد في كل تمظهراتها ،وتتوزع معجميا على عدة حقول دلالية :الحقل الوجداني ،الحقل الحربي ،الحقل الديني ،الحقل التاريخي ،الحقل الجغرافي (أسماء الجبال ،السواحل ،المدن ،الأنهار ...) وتربط بين ألفاظها علاقات التكرار والترادف والترابط والتقابل ...مع الحضور المكثف للألفاظ والمصطلحات المنتمية للقاموس الوجداني : القلب ،الحب ،الصبوة ،الوجد ، الاكتئاب ،القلق ،الحزن ....والألفاظ والمصطلحات المنتمية للقاموس الحربي : نار، رصاص ، سيف ،الحرب ،القصف الجوي ، الطلقات ، المدافع الطائرة ...
أما على المستوى التركيبي فتهيمن الجمل الفعلية والخبرية القصيرة ،ويقل استعمال أفعال الماضي ،والجمل الإنشائية ،في حين تكثر أفعال المضارع الدالة على الحاضر والمسندة إلى ضمير المتكلم ( أغدو –أبدو-أشدو- أمد ,أحط ،أغني ، أطالع
–أبوح-أتهجى ....) غير أن ضمير المتكلم هنا لا يعني با لضرورة " الذاتية"أو حضور الذات وغياب الآخر ،لأن العلاقة هنا بين الذات / الشاعر، والآخر/ مارية ،بكل ما يمكن أن يرمزا إليه من أبعاد وفضاءات تقوم على التقابل والتضاد أحيانا وعلى التكامل والتماهي أحيانا . إن ضمير المتكلم هنا هو ضمير العصر ،ضمير الإنسان المعاصر بغربته وقلقه وطموحه ، وليس ضمير ذات محددة ،
كما تكثر أفعال الأمر المسندة إلى ياء المخاطبة (انتصبي –اقتربي-شدي-كفي ...) ،مع تكرار وترديد بعض صيغ الحال (مخمورا – مكسورا ) والنعت (المغروس-الأخرى-الباكي-الجوي-اليسرى ..) والاستفهام (هل من قله؟ هل تحملني قدمي ؟ من أفتى بين الناس ...) والنداء( يا سيدتي-يا أطلسنا –يا قمري-يا أيوب –يا سارية ..)
وكل هذه التراكيب جاءت في سياق تركيب بلاغي ينزاح عن المعتاد في التعبير النثري
3- البنية الإيقاعية :.
أول ما يلاحظ على مستوى البنية الإيقاعية هو توظيف الشاعر لمختلف التشكيلات الإيقاعية المتاحة في تفعيلة
(فعلن)، تارة (فعلن) بتسكين العين والنون ، وتارة (فعلن) بكسر العين وتسكين النون وتارة (فعلان) بالتذييل ،
وهذا نموذج للتشكيل الإيقاعي الموظف في القصيدة :
ولـمـا / ر يــة ل / مـهـجـه/
- - - 0 / - - - 0 / - 0 – 0
فــعـلـن / فـعـلـن / فـعـلـن
(.........)
و طـر يـ / ق خـلا ص
- - - 0 / - - - 00
فـعـلـن / فـعـلا ن
وهذه التفعيلة يسميها بعض المهتمين بعلم العروض ، تفعيلة " دق الناقوس " ، وهي تتسم في غالب الأحيان بالرتابة والتكرار والهمود ،وتلائم موضوع الحزن والمآسي . هذا إلى جانب توظيفه لبعض الترديدات الصوتية من قبيل :.
(مهجه/بهجة) (– خصاص /خلاص /رصاص )–( الواسع /الشاسع) (–سطحي /جرحي) (– أغدو /أبدو /أشدو)
( نبق /ألق /قلق )-(–الناشف /الخاطف / الزاحف)-( مواعيد /تجاعيد /عناقيد) ... وترداد بعض التقابلات التركيبية من مثل
إن الولد الحجري سعيد = إن الوطن الأثري عنيد)
( ولها أغدو = ولها أبدو = ولها أشدو)
( وبحر الحب ألق = وجمر القلب قلق)
( قمر يتملى مثل مواعيد = قدر يتجلى مثل تجاعيد = حجر يتدلى مثل عناقيد )
فضلا عما وفرته القوافي من إيقاعات رتيبة ومتكررة تنتهي بالهاء الساكنة أحيانا
مهجه / بهجة /دجله / مله / قله /
الضفة / خفه /عفه .... ) أوالنون الساكنة أحيانا أخرى : (الحرمين /زنبقتين / القدمين /النسرين /منطقتين ) أو الدال الساكنة : (سعيد / عنيد / مواعيد /تجاعيد /عناقيد /وليد ..)
لذلك فان الطابع الإيقاعي العام المسيطر على القصيدة يتسم بالتثاقل والهمود ،وقد ساعده في ذلك الحقل الصوتي الذي يتسم باللين والرخاوة والهمس من خلال تكرار أصوات حروف : الصا د / الحاء / السين / النون ...
4 – بنية الصورة الشعرية :
على مستوى التخييل والصورة ، تمثل قصيدة" مارية " شعرية الصورة والرمز بامتياز ، حيث الحضور المكثف للصورة بتمظهراتها المختلفة ؛ الجزئية القصيرة (صورة الوطن الباكي المخمور ،صورة الطفل الذي يجري تحت القصف باحثا عن يده اليسرى ، صورة العواصم العربية الجائعة الباكية العارية .....) و الكلية المهيمنة ( صورة الذات الشاعرة المتصدعة ،المتكسرة ،المسكونة بحزن رسائل الذات / الآخر ،الباحثة في رحلتها عن "ماريه" الحلم/الدفء /
الخلاص ) ، مع توظيف مكثف للصورة ذات الطابع الصوفي توظيفا وظيفيا وتفاعليا في إطار الرؤيا الحداثية المميزة للنص ، رؤيا الخلخلة والرفض ، ورؤيا الكشف والفضح .
يا سيدتي
لانجلس في المقهى
لا نشرب
لا نستمتع بالأشجار
وبالأزهار (ص :26)
(....)
لا أرز لنا
يا أطلسنا
لا ساحل للمتوسط (ص: 27)
فضلا عن الحضور المكثف للرمز بمختلف أشكاله :
- التراثي : أيوب ،يوسف ،موسى ،محمد ،أحد ،الأنصار ، يثرب ، الوادي ...
- القومي : دجلة ،عكا ،الضفة ،القدس ،الشرق ...
- الوطني : سبو ،الأطلس ،سبته ،المتوسط ،....
-اللغوي : البحر ،البر ، الصبح ، الليل ،البرق ، القمر ،الجبل ...
أما على مستوى التناص فيبدو أن مقاطع القصيدة تتفاعل خارجيا مع كثير من النصوص الثقافية القديمة ، خاصة النص القرآني :
اقرأ باسم الرب الأكرم
فتح
نصر
من سجيل ( ص :36)
( ...)
وترتل
إنا أعطيناك الكوثر (ص :43)
وكذلك النص التراثي الشعبي :
مالي يا ربي مالي
مالي من دون الناس
واحد في ملكو هاني
وانا ديما عساس ( ص :32)
خلاصة تركيبية :
إن قصيدة "ماريه" تتميز بطابعها التركيبي الذي يطبع شعريتها التي تجمع بين عدة عناصر ومكونات سردية حوارية وتصويرية رمزية ، وبفضائها الدلالي الذي تتداخل فيه أبعاد وطنية وقومية وإنسانية ، وتتفاعل فيه عدة نصوص ثقافية
وتراثية ،وعدة أحداث وشخصيات تاريخية من خلال عمليات التشكيل والتناص ، وهي بهذه الملامح الفنية تصنف ضمن النصوص الحداثية التي تحاول التخلص من الذاتية الحالمة والواقعية المبتذلة لتعانق قضايا محلية وقومية وإنسانية برؤيا شعرية جديدة .