الذكرى الـ43 لمذبحة بحر البقر
صلاح جاهين بكى30 طفلا بـ"الدرس انتهى.. لموا الكراريس".. طائرات إسرائيلية قصفتهم بـ 5 قنابل وصاروخين فى مدرستهم الابتدائية بالشرقية.. وإسرائيل تدعى: دمرنا أهدافا عسكريةصورة أرشيفيةكتب رحاب الدين الهوارى◄الدرس انتهى لموا الكراريس..
◄بالدم على ورقهم سال...
◄ فى قصر الأمم المتحدة..
◄مسابقة لرسوم الأطفال...ترنيمة أطلقها الراحل صلاح جاهين، لتتحول لبكائية تشدو بها شادية، صارخة فى وجه العالم علّها توقظ بعضًا من ضمير مات، مع ثلاثين طفلا تبعثرت أشلاؤهم بفعل عدو غاشم متخبط، صباح يوم الأربعاء، الثامن من أكتوبر عام 1970 بمدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بالشرقية..
◄ إيه رأيك فى البقع الحمرا..
◄ يا ضمير العالم يا عزيزى..
◄ دى لطفلة مصرية سمرا..
◄كانت من أشطر تلاميذى..والطفلة السمراء، استيقظت فى فجر يوم ربيعى، تصاحبها شمس أشرقت على الأرض الطيبة فى ريف الشرقية، فى بحر البقر، تلك القرية التى أنشأها عبد الناصر قبل ذلك بسنوات قليلة، أشرقت شمس الصباح لتلقى بدفئها السخى على رؤوس السمراء وزملائها الصغار، يحملون حقائبهم المدرسية المصنوعة من القماش والتيل، بينما تلونت "مرايلهم" المدرسية بلون الكريمة الفقير، فى عيونهم الأمل والحلم بغد أفضل، لم تمنعهم الصحراء الممتدة فى الأفق، ولا شظف الحياة عن الحلم واللهو والمرح.
هل كان يظن واحد منهم أنه لا صبح جديد سوف تشرق شمسه على وجهه الباسم.. أو أن أصوات ضحكاته وصوته الشجى يردد أغنية بسيطة لن تسمعها أمه مرة أخرى؟
دق الجرس فى يد العامل لتقف براعم صغيرة فى صفوف، لم تكمل 150 تلميذاً من البنين والبنات، تجمعهم عرى صداقة ونسب وأهل وقرابة، حيوا معلمهم الإلزامى الطيب لتنطلق حناجرهم الواهية مرددة النشيد المدرسى وتحيى العلم الذى يرفرف فى فناء المدرسة ذات الطابق الواحد والثلاثة فصول (تحيا الجمهورية العربية المتحدة/ تحيا مصر).
دخلوا فصولهم تباعاً، مسرعين إلى حقائبهم القماش يخرجون بضاعتهم التى لن ترد إليهم، قلم رصاص وكراسات صفراء باهتة لم تفلح براءتها ولا براءتهم أن تثنى عدوًا غاشمًا أن يؤد الحلم فى قلوبهم وفى صدور ذويهم وفى قلب الوطن.
كتب المعلم المهموم بوطنه، القادم من بلاد لا بلاد لها، على السبورة السوداء "حصة مطالعة"، أخرجوا الكتب، فى الركن هناك بوجهه البائس، بعيونه اليتيمة جلس الصغير، ابن العاشرة يكتب بخط منمق، يغزل خيوطًا تأبى الانكسار، وعلى النافذة المهترئة، تطل شجرة صفصاف وارفة تظلل جزءًا من الفصل المتهالك، تنتقل بين العيون الذابلة تودعها وتودع الأرض الطاهرة التى ستفارقها بعد قليل.
يمر الوقت هادئاً.. ثمة عصافير مغردة وحمامات تحط وتعلو فى الفناء الخالى من التلاميذ، لا حاجة هنا للزمن، قليلون هم من يملكون ساعة يد فى هذه البقعة النائية من حضن الوطن.
الزمن ـ رغم عدم اكتراثهم به ـ يتوقف فجأة، رغمًا عنهم.. رياح سوداء ظالمة وعاصفة هوجاء تعصف بصفحة السماء الزرقاء التى كانت صافية، غربان وبوم تحلق فوق رؤوس الصغار تحمل الموت بين مخالبها.. كانت الساعة هى تمام التاسعة صباحًا عندما قررت طائرات الفانتوم التابعة لسلاح الجو الإسرائيلى أن تحتل سماء المدرسة وتدكها دكاً، لتصب جام غضبها على الصغار الأبرياء.. خمس قنابل ضخمة متتالية، صاروخان عملاقان متتابعان جعلوا المدرسة أثرًا بعد عين، تكالب الأهالى وتدافعوا يبحثون عن جثث صغار العصافير التى أجهضت أحلامها وهى لم تزل فى الزغب، والأم الثكلى تبكى الطفلة السمراء، يسألونها عن ملامحها فتقول وهى تخضب وجهها بدماء لا تعرف أصحابها..
◄دمها راسم زهرة..
◄راسم راية..
◄راسم ثورة..
◄راسم وجه مؤامرة..ثلاثون حلمًا كانوا على وشك الخروج للنهار استشهدوا، خمسون آخرون أصيبوا بجراح، الصراخ والعويل والنحيب يملأ السماء الملبدة بالغيوم، بينما يفر الجناة فى وضح النهار تاركين جرحًا غائرًا فى قلب الوطن.. لن يندمل.
وضمت القائمة أسماء 19طفلا وطفلة هم: حسن محمد السيد الشرقاوى ـ محسن سالم عبد الجليل محمد ـ إيمان الشبراوى طاهر ـ بركات سلامة حماد ـ فاروق إبراهيم الدسوقى هلال ـ خالد محمد عبد العزيز ـ محمود محمد عطية عبد الله ـ جبر عبد المجيد فايد نايل ـ عوض محمد متولى الجوهرى ـ محمد أحمد محرم ـ نجاة محمد حسن خليل ـ صلاح محمد إمام قاسم ـ أحمد عبد العال السيد ـ محمد حسن محمد إمام ـ زينب السيد إبراهيم غوض ـ محمد السيد إبراهيم عوض ـ محمد صبرى محمد الباهى ـ عادل جودة رياض كراوية ـ ممدوح حسنى الصادق محمد.
أما باقى الضحايا فكانوا 10 فلاحين وثلاثة من شباب القرية حيث تعرضت الجمعية الزراعية المجاورة للمدرسة وورشة كبيرة للحدادة لثلاث قنابل كبيرة خلفت وراءها ضحايا ومصابين.
المدرسة والجمعية الزراعية والورشة كانت هى الأهداف العسكرية التى أعلن جيش الدفاع الإسرائيلى فى بجاحة منقطعة النظير أن سلاح الطيران قصفها ردًّا على عدوان الجيش المصرى عليهم.
43 عامًا مرت على حادثة بحر البقر، ولكن الظروف تتشابه والقتلى من الأطفال يتزايدون، والغصة فى الحلق بلغت مداها.. الموت والجرح والحزن يتشابهون ولكن فى كل مرة.. يختلف العدو. ويظل صوت جاهين يردد مهمومًا..
◄الدرس انتهى... لموا الكراريس