مجدي حسين يكتب : هذه هي غزة التي يحضون على كراهية أهلها ؟! إذا كانت الشام هى بوابة مصر الشرقية التى جاء عبرها معظم الأعداء أو القوى الخارجية التى سعت إلى احتلال مصر والهيمنة عليها، فإن غزة هى مفتاح هذه البوابة من وإلى مصر؛ فلا بد للفاتحين من الخارج إلى مصر أو للفاتحين من مصر، أن يمروا عبرها؛ فهذا الطريق الساحلى كان شبه إجبارى للدخول أو الخروج من مصر؛ لذلك لفت انتباهى إعلان مسئولى الآثار منذ عدة أسابيع اكتشاف أكبر قلعة مصرية فى العهد الفرعونى فى رفح!، فى وقت يبيع فيه حكامنا رفح المصرية والفلسطينية بالكيلو، كالجهال الذين يبيعون الكتب الثمينة بالكيلو للحصول على قروش تسد جوعهم. وإن كان هؤلاء لهم عذرهم من الجهل أو الجوع، فإن حكام مصر لا ينطبق عليهم ذلك؛ فهم مجرمون فى حق الوطن بدون التباس، وإن كانوا جهلاء فجهلهم حجة عليهم؛ فليس للجهلة مكان فى دست الحكم. ورحم الله أياما كان الحكام فيها مثقفين ويقرضون الشعر ويناقشون العلماء. وجهلهم حجة علينا؛ فكيف تركناهم يتحكمون فى مصير جزء من خير أمة أخرجت للناس؟!
*****
مدينة غزة قديمة قدم التاريخ؛ فهى وليدة عصور متتالية وقرون طويلة، تركت بصماتها فيها، وتركت هى أيضا بصماتها على مدى السنين وتوالى الأيام. وكان من أقدم من سكن غزة القبائل الكنعانية، وسجل التاريخ أن الكنعانيين هم العرب الأوائل الذين يرجعون بأنسابهم إلى العمالقة. وجاءت هجرتهم مدا للموجات السامية التى أخذت طريقها إلى البلاد. ويذكر المؤرخون أن مدينة غزة يعود تاريخها إلى 4000 - 3500 سنة قبل الميلاد.
وقد سميت فلسطين فى ذلك الوقت «أراضى كنعان»، كانت غزة تمثل الحد الجنوبى من أرض كنعان التى امتدت إلى الشمال فى عكا وصيدا(1).
وعلى خلاف الشائع، فإن غزة ذكرت فى النص التوراتى المتداول لدى اليهود الآن، لكنها ذكرت بالسوء، فقالوا فى الإصحاح الثانى من سفر صفينا إن غزة تكون متروكة، وأشكلون للخراب؛ وذلك لشدة ما عانى العبريون من مقاومتهم وشدتهم فى القتال.
وأشكلون هى عسقلان القريبة جدا من غزة، التى تعد جزءا لا يتجزأ من منطقة غزة، لكنها الآن فى فلسطين المحتلة عام 1948 وتسقط عليها صواريخ المقاومة من غزة كل يوم الآن.
عندما مر سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببئر سبع مع هاجر وإسماعيل(2)، فلا بد أنه حف أو مر بغزة وهو داخل إلى مصر وخارج منها. وهناك رواية تقول إنه خلال عودته من فلسطين إلى مصر مر بجوار غزة؛ حيث التقى أبا مالك أمير غزة(3). ولعل سيدنا يعقوب ويوسف مرا أيضا من طريق غزة. والمرويات تتحدث عن أن سيدنا يعقوب كان يقيم مخيمه فى محيط بلدة نابلس(4) الواقعة الآن تحت الاحتلال، التى يركز الصهاينة الآن على اجتثاث المقاومة فيها بالتعاون مع أجهزة عباس العميلة؛ إذ وافقت إسرائيل على إدخال 50 مدرعة للأمن الفلسطينى. وهناك رواية أخرى تقول إنه كان يعيش فى محيط الخليل(5).
وولد عيسى بن مريم عليه السلام فى بيت لحم، وحملته أمه إلى مصر، ولا بد أنه مر أو حف بغزة. حتى الجيوش كانت لا تملك إلا أن تسلك الطريق الساحلى الذى يمر بغزة عندما تغزو مصر من فلسطين؛ فكيف لهذه الرحلة المدنية التى حملت رسول الله طفلا؟!
أما قصة شمشون فهى مروية فى التوراة، ولا يوجد لدينا فى القرآن إشارة إليه؛ لذلك نأخذها بتحفظ ونتعامل معها مروية تاريخية: شمشون كان أحد قادة بنى إسرائيل، حارب الفلسطينيين وأزعجهم، لكنهم أخيرا أسروه وقلعوا عينه وحبسوه حتى مات فى غزة، وقبره هناك معروف، تحول إلى جامع شرق المدينة ويقال له «أبو العزم شمشون الجبار». ويمكن مراجعة «سفر القضاة، ص 13»، وكانوا ينسبون سبب قوته إلى استرسال شعره؛ فإذا طال قوى، وإن قصر ضعف. ويقال إنه نزل يوما إلى أشكلون (عسقلان) وقتل ثلاثين فلسطينيا، وأخيرا أسره الفلسطينيون ومات فى غزة كما ذكرنا(6).
وتقول التوراة المحرفة إنه أحب امرأة فلسطينية عرفت منه سر قوته؛ أنها فى شعره، فاحتالت عليه وحلقته، فقبض عليه الفلسطينيون وسلسلوه ودعوه إلى حفل وكان شعره بدأ ينمو فعادت إليه قوته، فلمس عمد البيت فخر السقف على من فيه فقتل 3 آلاف من الرجال والنساء والأطفال، فكان من قتلهم فى موته أكثر ممن قتلهم فى حياته. ولا يهمنا الآن دراسة مدى صدق هذه الرواية، ومن هو الطرف الشرير فيها والطرف الخير، وقد يكون شمشون هو الطرف الخير، وإن كانت التوراة المحرفة قد نسبت إليه أمورا عديدة غير أخلاقية(7)، لكننا نركز الآن على محورية دور غزة فى تاريخ أمتنا. وعندما كنا صغارا نقرأ هذه القصة لم يذكر لنا أن أحداثها جرت فى فلسطين أو فى عسقلان وغزة بالتحديد.
ولأهمية غزة وموقعها الاستراتيجى -ولا أدرى إن كان الفلسطينيون أنفسهم يعلمون- فهى التى أعطت فلسطين اسمها!!.
فرغم أن الكنعانيين أقدم وجودا فى فلسطين، وهم من أصل سامى عربى على الأغلب، فإن شعوب البحر التى جاءت من الغرب من جزر البحر المتوسط ومحيط بحر إيجة أو غرب الأناضول -وهى منطقة واحدة ممتدة- هؤلاء الفلسطينيون الذين جاءوا غزاة ثم استوطنوا واندمجوا مع الكنعانيين، أقاموا مدنهم الأولى فى جنوب فلسطين؛ فعندما قاتلهم رمسيس وقهرهم أسكنهم الساحل بين يافا وغزة، وكانت لهم 5 ممالك أو مدن عظيمة: غزة، وعسقلان، وأسدود، وعقرون، وبيت دجن، وفى قول آخر: «جت».
وأول من أطلق على فلسطين اسمها هم اليونان والرومان نسبة إلى سكانها الفلسطينيين الأقدمين الذين لم يتوطنوا إلا الساحل ما بين يافا وغزة، وكانت «فلسطينا» لا تشمل سوى هذه البقعة الضيقة فقط. ولبقاعها الأخرى أسماء خاصة بها(
.
*****
فى عهد الدولة المصرية القديمة التى شهدت بناة الأهرام، كان الحكام الأقوياء والناجحون يهتمون أيما اهتمام بشبه جزيرة سيناء، ولإحكام ربطها بمصر الوادى والدلتا بخوض حملات متوالية على القبائل المتمردة، ولتأمين الطرق إلى الشام للفتح أو للتجارة، ولجعلها المصد الدفاعى الأول فى أى حالة عدوان. وبالإضافة إلى كل ذلك، لعمليات التعدين الواسعة فى أراضيها (لاحظ الفرق بين القدماء المصريين وحكام اليوم الذين لا يعرفون عن سيناء إلا أن تكون منتجعا سياحيا.. ولا مانع أن يكونوا من الأعداء المحاربين الإسرائيليين!!).
نحن لم نصل إلى غزة بعد، لكن سيناء أشبه بالقربة، وغزة هى فوهتها، وهى جزء لا يتجزأ منها كما أنها جزء لا يتجزأ من فلسطين من الناحية التاريخية البعيدة والجغرافية، وهى أشبه بنقطة انتقال بين مصر وفلسطين؛ ففيها من تكوين الطرفين نصيب مفروض بنسب مختلفة عبر التاريخ.
وهناك ما يؤكد العلاقات التجارية مع الفنيقيين بحرا، ولكن لا ينفى وجود علاقات تجارية عبر البر. وقد عثر على قطع أثرية مصرية فى عمق الشام: سوريا ولبنان، لكن الفخاريات المصرية توجد على نطاق واسع فى النقب وجنوب فلسطين. بل هناك من الآثار ما يشير إلى أنها مستوحاة من مصر. ويبدو أن الآثار المصرية ترسم خط تأثير مقتصر على الطريق الساحلى بين شرق الدلتا ومنطقة غزة. والمسح الأثرى يؤكد وجود طريق مطروقة جيدا بين شرق الدلتا ومنطقة رفح وغزة خلال هذه الفترة المبكرة من التاريخ.
العهد الانتقالى 2181 - 2040 ق.م:
المعلومات شحيحة فى هذا العهد بسبب الفوضى والتفكك، لكن المؤكد أن أسيويين سيطروا على الدلتا، وهؤلاء جاءوا برا من سيناء ومن خلفها.
الدولة الوسطى:
منتو حتب وحد مصر من جديد عام 2000 ق.م، وطرد الأسيويين من الدلتا، واستأنف التجارة مع أسيا (الشام أساسا) برا وبحرا.
وفى عهد الأسرة الـ12 تجد رسوما تصور قبيلة كنعانية من 38 فردا يزورون أحد حكام الولايات المصرية. ويرى بعض المؤرخين أن هذه الصورة قد تكون لسيدنا إبراهيم؛ لأن الصورة تضم إناثا وذكورا، والرجال لحاهم مرسلة، غير أن مؤرخين آخرين يقدرون مقدم إبراهيم إلى مصر فى عهد آخر: عهد أمنمحعت الثانى(9).
وهناك وفرة من الأدلة تصور لنا عبور الرسل المصريين إلى بلاد المشرق جيئة وذهابا؛ فحين توصل المغترب سنوحى إلى مكانة شيخ كبير بين بدو فلسطين، استطاع أن يفاخر بأن «السعاة الذين يمضون شمالا أو جنوبا من وإلى المقر المصرى اعتادوا أن ينزلوا فى ديارى». ويبدو أن النظام المصرى فطن مبكرا إلى أهمية إنشاء جهاز مخابرات، وكانت مهنة الجاسوس معروفة جيدا لدرجة أن مخاطرها يمكن أن تكون محل نقد تهكمى: «الجاسوس الذى يمضى إلى بلد أجنبى وقد أوصى بأمواله وعبيده لأطفاله وعاش فى رعب مقيم من الأسود والأسيويين»(10) وكان لا بد لجهاز المخابرات المصرى أن تكون له -بتعبيرات العصر- محطة فى غزة.
وفى عهد مبارك كانت لنا محطة علنية للمخابرات المصرية، لكنه سحبها رغم تمسك حماس بها!!. أين أنت يا سنوسرت؟! انظر ماذا يفعل حاكم مصر بعدك بـ40 قرنا!.
وفى آثار هذا العهد، نجد أوانى بكميات كبيرة وجدت فى صعيد مصر تتسم بسمات الفن الإيجى والبابلى، وهو ما يؤكد التواصل مع أعماق أسيا برا.
وفى عهد سنوسرت الثانى 1897 ق.م نجد مسجلا على الجدران مجموعات من ممثلى القبائل الأسيوية، يتقدمهم ما يدعى حاكم البلاد الأجنبية، ويسلمون الجزية إلى الحاكم المصرى (ويتصور البعض أن هذه اللوحة تمثل دخول يعقوب وأبنائه إلى مصر وهذا ما يرفضه المؤرخون).
وكان الأسيويون يأتون إلى مصر بكثافة بحثا عن عمل (الآن يذهب المصريون بكثافة للبحث عن عمل فى الأردن وسوريا والعراق سابقا، بل توجهت أقلية شاذة للعمل فى إسرائيل).
نحن نعلم أن الظروف التاريخية مختلفة الآن، وسعينا إلى الوحدة العربية والإسلامية، وإيماننا بالأمة الواحدة يزيل كل الحساسيات، ولكننا نؤكد حسن العلاقة بالجيران الأشقاء باعتباره من بديهيات العمل الاستراتيجى السليم. وترجع أهمية ما نقوله عن الأسيويين إلى وجود الكيان الصهيونى، كما وجدت من قبل المستوطنات الصليبية وكما جاء الإعصار التتارى.
فى عهد سنوسرت الثالث 1878 ق.م حدث أول اصطدام حربى واسع النطاق مع سكان أسيا (فلسطين)؛ فقد أرسل حملة إلى فلسطين وتقدم شمالا للقضاء على البدو الأسيويين، وبلغ مدينة «سكمم» -وكانت تقع فى قلب فلسطين- وقضى على أهل رتنو.
1789 ق.م:
فى آخر العهد الوسيط، يمكن أن نقول إن حاكم مصر ازداد نفوذه فى أسيا، وبلاط أمراء الشام أصبح مصريا، ومن المألوف العثور على المنتجات المصرية من هذه الحقبة فى المدن السورية.
المرحلة الانتقالية الثانية 1786 ق.م:
وهذه اتسمت -كالأولى- بسيطرة الأسيويين، وهذه المرة لهم اسم محدد: «الهكسوس» وقد غلبت سيطرتهم على الدلتا. ولأنهم جاءوا عبر سيناء ومن الطريق الساحلى الذى يمر بغزة، بل لقد كانت سيطرتهم على غزة هى الخطوة الأساسية للوثوب على مصر، ويعرفون أنها هى المدخل الرئيسى لمصر؛ أقاموا عاصمتهم المحصنة شرق النيل: «أفاريس» وهى «صان الحجر» حاليا بمركز فاقوس محافظة الشرقية، لمواجهة أى هجوم محتمل، وكانوا يخشون الآشوريين الدولة الأقوى فى العالم وقتئذ(11).
فيما ظلت «طيبة» عاصمة ما تبقى من مصر. ولعل هذه المخاطر البرية القادمة من الشمال الشرقى هى التى جعلت «طيبة» عاصمة آمنة ومناسبة بعيدا عن يد الغزاة. وكانت العاصمة تصعد أحيانا إلى الفيوم أو بنى سويف، وعند الشعور بالقوة إلى البدرشين، لكنها كانت غالبا بعيدة عن الدلتا؛ كى تبتعد عن مخاطر الغزو.
وخرج الهكسوس عبر سلسلة من المعارك كان آخرها لأحمس 1580 ق.م؛ فقد طارد الهكسوس وأخرجهم من عاصمتهم «أواريس» وتعقبهم فى انسحابهم حتى فلسطين فى بلدة تسمى «شاروهين» (على مقربة من غزة)، ولا ندرى هل كان الهكسوس يجمعون أنفسهم فى هذه النقطة للوثوب مجددا على مصر؟ لكن أحمس كان مصمما على ألا يدعهم يفعلون ذلك؛ فقد زحف عبر سيناء فى ثلاثة مواسم وهاجمهم فى معقلهم الساحلى الجديد جنوب غزة، واستولى فى نهاية المطاف على الحصن وحوّله إلى خراب، وكانت هذه نهاية مملكة الهكسوس، ثم عاد إلى «طيبة» وجعلها العاصمة من جديد(12).
وهكذا نرى أنه كان لغزة شأن مع المصريين القدماء والفراعنة؛ فقد عبرها كثير من ملوك مصر الفراعنة، إما لفتحها أو للانطلاق منها لفتح الشام، وكانت ذات أهمية خاصة لهم، وكانت فى عهد الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة المقر الرئيسى للجيش المصرى المخصص لفلسطين، واتخذها تحتمس قاعدة ثابتة للوثوب على المناطق الأسيوية(13).
ورأى النظام المصرى بعد فترة من التراخى تصاعد هجمات المغيرين الهائمين من البدو على هذا الطريق الاستراتيجى والتجارى الذى يمر بغزة وعسقلان، الذى يربط فلسطين بمصر، فانتهج سياسة تعزيز الطريق بسلسلة منتظمة من الحصون الصغيرة(14).
وفى عهد الأسرة التاسعة عشرة قاد «سيتى» جيشه وزحف على أسيا مبتدئا ببلدة تاروا (القنطرة حاليا) ومتبعا طريق سيناء - غزة الذى يبدو أنه أصلحه إبان ولايته للعهد فى زمن أبيه، تمهيدا لتحقيق هذا الغرض؛ لذلك فقد مر فى طريق ممهد وتوقف عند قلاعه وحصونه التى رممها على طول الطريق حتى بلغ جنوب فلسطين الذى كان معروفا باسم نجب (النقب)، ثم واصل حملته فى أعماق فلسطين وسوريا.
وفى عهد الأسرة التاسعة عشر قاد «سيتى» جيشه وزحف على آسيا مبتدئا من بلدة تاروا (القنطرة حاليا) ومتبعا طريق سيناء - غزة، الذى يبدو أنه أصلحه إبان ولايته للعهد فى زمن أبيه، تمهيدا لتحقيق هذا الغرض، ولذلك فقد مر فى طريق ممهد وتوقف عند قلاعه وحصونه التى رممها على طول الطريق حتى بلغ جنوب فلسطين الذى كان معروفا باسم نجب (النقب). ثم واصل حملته فى أعماق فلسطين وسوريا.
وخلال فترة هاتين الأسرتين (18-19) ورغم أن الطريق البحرى إلى الساحل اللبنانى كان معروفا ومطروقا جيدا, فقد ظل المصريون يعتبرون الطريق البرى من حدود الدلتا إلى غزة -بمسافة 160 كم- أهم معبر للانتقال إلى آسيا. وفى بداية عهد الأسرة الـ19 كان مزروعا بنحو 12 محطة طرق لتكون معاقل صغيرة محصنة متركزة بجوار آبار أو برك الماء العذب. وتصفها النصوص بأنها كانت تحت إشراف وكيل أو قادة كتائب إذا كانت مهمة استراتيجية. وقد تمت الإشارة إلى اثنتين من هذه المحطات؛ واحدة فى دير البلح قرب غزة, والأخرى هى بير العبد فى سيناء. واشتملت دير البلح على مبنى ذى طراز مصرى متقن، شيد خلال عهد العمارنة، وفى عهد سيتى الأول استبدل به حصن برجى من أربع عشرة حجرة. ويبدو أن الاعتبار الأساسى الذى يتحكم بسياسة توزيع الحاميات هو الاعتبار الاستراتيجى. ويبدو واضحا أيضا أن المدن الساحلية كانت لها الأهمية الأكبر؛ فقد وضعت حامية فى شاروحين فى أول عهد الأسرة الـ18، لكن غزة حلت محلها كونها موقع حامية بعد حكم تحتمس الثالث.
ولا أعتقد أننا نخرج عن موضوعنا عندما نقتبس هذه السطور من ضابط مصرى فى هذه الثغور لنوضح أن حماية أمن الوطن ليست نزهة، وليست الجلوس فى شاليهات أو فرصة للحصول على بدل خدمة فى الجبهة! إن الأمم العظيمة يصنعها ألم عظيم، فالجندى «يترك زوجته وأطفاله ويكون لباسه الجلود، وطعامه عشب الحقول مثله مثل أى بهيمة». ونوبة الخدمة الواحدة قد تستغرق 6 سنوات. وهذه رسالة أحد الضباط: (أقيم بدون مؤن وليس فى المنطقة قش ولا من يدعك الآجر. وما جئت به من زاد قد انتهى، أقضى النهار أراقب الطيور وأصطاد السمك طوال الوقت، وعينى على الطريق الذاهب إلى الدلتا، وقد أضنانى الحنين إلى الوطن. أقيل تحت أشجار لا تصلح أوراقها للأكل وثمارها قد انتهت.. البعوض الصغير يهاجم فى وضح النهار والكبير فى عز الظهيرة، وذبابة الرمل تلسع وكلها تمتص الدماء من الأوعية.. الحرارة هنا لا تحول ولا تزول (بردية أنستازى).
أما غزة فقد كانت أكبر من حامية، وسماها المصريون «المدينة التى تنتمى إلى كنعان»، المقر الرئيسى لمندوب سام، كانت له سلطات غير واضحة على الساحل والهضاب حتى سهل اسدراليون، وكان لهذا المفوض بيت ومعبد، وأمين سجل يساعد المندوب السامى المسئول عن كتابة التقارير عن مدن الفرعون، أى المدن الكنعانية.
لم يكن فى عهد الأسرتين الـ(18 و19) من يستطيع أن يعمل فى موقع رسول الملك -أى مبعوث دبلوماسى- إذ لم يكن يعرف أين تقع رفح؟! ونقرأ فى إحدى البرديات عن رسول الملك وهو يتعرض لهذه الأسئلة الحرجة: (أيها التابع أين رفح؟ ما شكل استحكماتها؟ كم إيتر للوصول إلى غزة؟ أين مجرى نتن«نهر الليطانى»... إلخ). (15).
وفى عهد الأسرة الـ22 أعاد «شاشانق» حاكم مصر وقوى النفوذ المصرى فى آسيا, فسار فى الطريق نفسه بين مصر وفلسطين (القنطرة - رفح) ككل من سبقه من الفراعنة، ورحبت به القبائل على طريقه وساعدته، لأنها كانت تضمر العداء للعبرانيين. وكان خط سير الحملة على النحو التالى: كانت غزة هى المدينة الأولى التى وصل إليها شاشانق بجيشه, وهى المكان الوحيد الذى يقع على الساحل الفلسطينى الذى ذكر فى قائمة على جدران الكرنك. ومن غزة انطلق إلى حملته فى أعماق فلسطين وسوريا. والتى انتهت بخضوع أورشاليم لحكم مصر. ووصلت الحملة إلى شرق الأردن والجليل. وفى عودته مر كالمعتاد بغزة كونها نقطة لتجميع القوات، ثم رفح، ثم الطريق الساحلى حتى الدلتا. (16).
ونصل إلى المرحلة الآشورية، ففى ظل حاكمهم «تغلات بلاسر» اندفع الآشوريون جنوبا، لم يوجه زحفه ضد أية دولة فى الداخل، بل ضد فينيقيا وغزة وطريق سيناء المؤدى إلى مصر. وقد عيّن شيوخا محليين بوصفهم سادة تخوم لهم حق الإشراف العام على ممرات سيناء حتى الدلتا. وعندما وصل إلى غزة وواصل زحفه حتى وادى العريش ضمن عدة مكاسب. استفاد باحتلاله دولة «البلست» دون أن تتحرك الدويلات الأخرى لنصرتها للعداوة التاريخية، وقطع الطريق على النجدة المصرية للفلسطينيين. وحاصر فى الوقت ذاته باقى الدويلات الداخلية بعزلها عن البحر!.
كانت مصر تعى أهمية غزة التجارية والاستراتيجية, ومن هنا كانت مساعدتها إياها وتحريضها على أية ثورة تنشب فيها، ولما تمردت على الآشوريين وفشلت، هرب حاكمها «هانو» إلى مصر وبقى بها حتى وفاة «تغلات». ولما تولى «شلما نصر» الخامس عرش حكم الآشوريين ساعدت مصر «هانو» على العودة إلى غزة وخلع الوالى الآشورى وطرد الحامية الآشورية بمساعدة القائد المصرى «سيبو» ولكن الآشوريين عادوا وتغلبوا عليهم وتم أسر «هانو»، وتم تدمير رابيجو (رفح). (17).
وكان الآشوريون قد أسسوا مركزا تجاريا جنوب غزة، خطوةً أولى لتأسيس قواعد ضد مصر فى الجنوب، وتم زرع حاميات عسكرية فى مواقع بين رفح وبئر سبع، ولكن الغزو الآشورى الأول لمصر اندحر بعد أن سار كالمعتاد عبر رفح والعريش حتى الدلتا، وكان يسمى «طريق بلاد الفلسطينيين». وهكذا فإن العدو يكون متوقعا من هذا الطريق. ويشير المؤرخون إلى طريق آخر ويبدأ أيضا بالعريش باتجاه أبعد إلى الجنوب من وسط الصحراء والدخول إلى مصر عن طريق وادى الطميلات والبحيرات المرة، وهو ما يحتاج إلى إرشاد البدو، ولكنه نادرا ما استخدم من قبل جيش عرمرم حسن التجهيز. وهكذا انتقلت مصر إلى الهجوم وكانت قاعدة التمركز فى عسقلان وهى كما ذكرنا جزء لا يتجزأ من منطقة غزة. وحولت مصر عسقلان إلى قاعدة إسناد وإمداد وتموين. وكان قائد الآشوريين يدعو آلهته ويسألها: هل سيحاربه المصريون فى منطقة عسقلان؟ ولكنه فى النهاية تمكن من الوصول إلى رفح، ثم شمال شرق القنطرة، ثم مركز فاقوس واحتل الآشوريين الدلتا. (18). وظل القتال كرا وفرا عبر الطريق نفسه.. طريق الفلسطينيين.
ثم تكررت الكرة فى العهد البابلى حين حاصر «نبوخذ نصر» عسقلان واستولى عليها ودمرها تدميرا شاملا. وما حدث لعسقلان حدث لغزة، وكانت سياسة «نبوخذ نصر» تدمير هذه المعاقل وتفريغها من السكان لتصبح الطريق مشرعة أبوابها إلى مصر. هل يتعظ أحد بعد 27 قرنا؟!
وعندما انكسر البابليون فى الدلتا كان أول عمل تقوم به مصر هو الاستيلاء على غزة رغم حصونها المهدمة. (19).
فى عام 535 ق.م خضعت غزة لحكم الفرس فى عهد ملكهم «قنبيز»، واتخذوها موقعا حربيا ومنطلقا لتحركاتهم نحو مصر، ومنحت غزة إدارة مستقلة ضمن التشكيلات الإدارية التى أحدثتها الفرس على فلسطين.
طوال هذا التاريخ كانت غزة بموقعها عند التقاء إقليمين جغرافيين متباينين؛ إقليم البحر المتوسط بمناخه المعتدل وأراضيه الخصبة ومياهه العذبة، والإقليم الصحراوى الجاف، وأراضيه ذات الرمال المتحركة، وهى بهذا تحتل موقعا ذا أهمية كبيرة، فهى تقع على أبرز الطرق التجارية القديمة، حيث تتجمع فيها التجارة القادمة من الهند، وحضرموت واليمن ومكة، لتنتقل فيما بعد إلى دمشق وتدمر، وباقى مناطق الشام. (20).
*****
الآن نتوقف عند المرحلة الفرعونية ونواصل باقى المراحل حتى الآن, وستكون الرحلة مذهلة لمن لم ينتبه من قبل. فغزة أشبه بالقرص المدمج الذى يحوى تاريخ المنطقة وتاريخ العرب والمسلمين, فهى جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ, بل فى قلبه، وهى أشبه بالعينة الممثلة للحالة العامة أو عينة الدم التى تكشف عن حالة وصحة المريض. نعم هناك تاريخ خاص لغزة ضمن التاريخ الفلسطينى، وبالأخص فيما يتعلق بتاريخ مصر, ولا يمكن فصلهما عن بعضهما فى أية مرحلة من مراحل التاريخ. وستجد ونحن نروى التاريخ المختصر أو الوقائع والصور المتتابعة فى المنعطفات الأساسية للتاريخ (فهذه الكتابة ليست تاريخا أو تأريخا بالمعنى الأكاديمى للكلمة، ولكنها لقطات متتابعة مترابطة تريد أن تبرهن على فكرة واحدة). وكما رأيت فيما مضى فسترى فيما هو آت أن تاريخ غزة جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر بالتحديد. إن غزة معجونة بالترابَين المصرى والفلسطينى، وهى خير رسول بينهما فى إطار رابطة العروبة التى أصبحت تجمعنا جميعا من المحيط إلى الخليج إلى جنوب الصحراء.
إن مقاطعة مصر غزة هى عمل جنونى أشبه بإنسان يقطع يده أو يفقأ عينه ويقول لن أشغل نفسى بمشكلات يدى أو عينى. إن من يفعل ذلك ليس له إلا اسم واحد: إنه «معتوه» إلى حد ضرورة وضعه فى مستشفى الأمراض العقلية ووضعه تحت المراقبة المستمرة وتهدئته بالحقن المخدرة من حين لآخر لأنه مصاب بنوع خطير من الجنون, هو النوع الضار بالنفس قبل الإضرار بمن سواها. وهذا هو التشخيص العلمى لحالة نظام مبارك, ليس فى موضوع غزة فحسب, بل فى مختلف المجالات والموضوعات.
إن غزة هى جزء لا يتجزأ من لحمنا ودمنا بالمعنى الحرفى والمادى, وبالمعنى الوطنى والعقائدى والقومى. إن أى حاكم فى مصر يحاصر غزة مجنون وخائن يتعين الحجر عليه. إن فك الحصار المضروب على غزة دونه الموت, فأرواحنا فدا الأهل والوطن وفدا المجاهدين الذين رفعوا راية أمتنا عالية فى وقت نكّسها الحكام ولطخوها فى أوحال الخيانة. يا غزة دونك الموت.. دونك الموت.. دونك الموت.
( وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ )
جريدة الشعب